سفر أيوب – الإصحاح ٣٩
يستمر الله في استجواب أيوب
أولًا. فيما يتعلق بوعول الصخور والحمير الوحشية والثيران الوحشية
أ ) الآيات (١-٤): هل تعرف أو تتسلط على وُعُولِ الصُّخُورِ؟
١«أَتَعْرِفُ وَقْتَ وَلاَدَةِ وُعُولِ الصُّخُورِ، أَوْ تُلاَحِظُ مَخَاضَ الأَيَائِلِ؟ ٢أَتَحْسُبُ الشُّهُورَ الَّتِي تُكَمِّلُهَا، أَوْ تَعْلَمُ مِيقَاتَ وَلاَدَتِهِنَّ؟ ٣يَبْرُكْنَ وَيَضَعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ. يَدْفَعْنَ أَوْجَاعَهُنَّ. ٤تَبْلُغُ أَوْلاَدُهُنَّ. تَرْبُو فِي الْبَرِّيَّةِ. تَخْرُجُ وَلاَ تَعُودُ إِلَيْهِنَّ.
١. أَتَعْرِفُ وَقْتَ وَلاَدَةِ وُعُولِ الصُّخُورِ: هنا، استمر الله في النزول بمستوى المعرفة حتى يستوعب أيوب الأمر. إذ يمكنه، ربما، أن يعرف حقائق الطبيعة هذه من خلال الملاحظة البسيطة. ولكن، حتى هذا المستوى المنخفض نسبيًا من المعرفة كان يفوق مستوى أيوب.
• “إن وليد الإيّل (الوعل)، على عكس رضيع الإنسان الذي يحتاج إلى سنوات من الرعاية، يمكنه الوقوف في غضون دقائق من الولادة وسرعان ما ينطلق ليزدهر في البرية.” سميك (Smick)
• بالرغم من أن أيوب لم يكن يعرف مبادئ النظام الطبيعي هذه، إلا أنه في نفس الوقت كان عليه أن يعترف بأن النظام الطبيعي كله يعمل بشكل جميل جدًا. كل هذه الأسئلة وضعت أيوب أمام حقيقة أخرى: “أرى أن هذا العالم الذي صنعه الله يعمل بنظام وحكمة رائعين. هل يمكنني أن أنكر حكمته وسيطرته على كل الأشياء لمجرد وجود أشياء في حياتي لا أستطيع فهمها؟ أم هل يجب أن أثق ببساطة في هذا الإله الذي يفعل كل هذه الأشياء بشكل رائع؟
٢. يَبْرُكْنَ وَيَضَعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ: هنا، ذكَّر الله أيوب بترتيب النمو والنضج الذي صممه للنظام الطبيعي. هل صمم أيوب هذا، أو هل يعرف شيئًا عنه؟
ب) الآيات (٥-٨): هل تعرف أو تتسلط على الحمار الوحشي(الفرا)؟
٥«مَنْ سَرَّحَ الْفَرَاءَ حُرًّا، وَمَنْ فَكَّ رُبُطَ حِمَارِ الْوَحْشِ؟ ٦الَّذِي جَعَلْتُ الْبَرِّيَّةَ بَيْتَهُ وَالسِّبَاخَ مَسْكَنَهُ. ٧يَضْحَكُ عَلَى جُمْهُورِ الْقَرْيَةِ. لاَ يَسْمَعُ زَجْرَ السَّائِقِ. ٨دَائِرَةُ الْجِبَالِ مَرْعَاهُ، وَعَلَى كُلِّ خُضْرَةٍ يُفَتِّشُ.
١. مَنْ سَرَّحَ الْفَرَاءَ حُرًّا: لم يكن لدى أيوب أي معرفة بحقائق الطبيعة هذه؛ كان لديه سلطة أقل على الحيوانات. فهذه الأشياء تخص الله وليس أيوب.
• حِمَارِ الْوَحْشِ هو اسم آخر للحمار البري. “كان الحمار الوحشي أحد أكثر الحيوانات إثارة للإعجاب في عالم العهد القديم. لقد كان مدحًا ووعدًا بحرية يُحسد عليها عندما أعلن الملاك أن إسماعيل (تكوين ١٦: ١٢) ’يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا.‘ فقد كان هذا المخلوق محظيًا بحريته وبقدرته على العيش في ظل أقسى الظروف.” سميك (Smick)
٢. دَائِرَةُ الْجِبَالِ مَرْعَاهُ، وَعَلَى كُلِّ خُضْرَةٍ يُفَتِّشُ: عرف الله كيف عاش الحمار الوحشي وكيف يحصل على طعامه. من الواضح أن أيوب لا يعرف.
• “ما الذي يجعل مخلوقًا ضعيفًا وغير ضار مثل الحمار الوحشي غير قابل للترويض، في حين يتم ترويض الأسود والنمور الأكثر وحشية، وكيف يمكن أن يكون هناك فرق شاسع بين الحمار المروض والحمار الوحشي، بدون سبب واضح.” بوله (Poole)
ج) الآيات (٩-١٢): هل تعرف أو تتسلط على الثور الوحشي؟
٩«أَيَرْضَى الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ أَنْ يَخْدُمَكَ، أَمْ يَبِيتُ عِنْدَ مِعْلَفِكَ؟ ١٠أَتَرْبِطُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ بِرِبَاطِهِ فِي التَّلْمِ، أَمْ يُمَهِّدُ الأَوْدِيَةَ وَرَاءَكَ؟ ١١أَتَثِقُ بِهِ لأَنَّ قُوَّتَهُ عَظِيمَةٌ، أَوْ تَتْرُكُ لَهُ تَعَبَكَ؟ ١٢أَتَأْتَمِنُهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِزَرْعِكَ وَيُجْمَعُ إِلَى بَيْدَرِكَ؟
١. أَيَرْضَى الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ أَنْ يَخْدُمَكَ: لا أحد يشك في أن أيوب كان أذكى من الثَّوْرِ الْوَحْشِيّ؛ لكن الثور لا يَخْدمه. كان يفتقر إلى المعرفة والتسلط على العالم الطبيعي.
• الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ ليست ترجمة جيدة جدًا؛ ولا هي ترجمة نسخة الملك جيمس الكلاسيكية لـ ’وحيد القرن‘ (unicorn) هنا. وفي الواقع فإن هذا الحيوان هو حيوان مخيف، قوي، ومنقرض يعرف بإسم ثور الأُرْخُص (aurochs).
• “الوحش المعني هو الأُرْخُص، وليس ’وحيد القرن‘ الأسطوري. انقرض هذا الحيوان الضخم منذ عام ١٦٢٧، وقد كان أقوى الوحوش ذات الحوافر، ولم يتجاوز حجمه فرس النهر والفيل. ويُعَد الرمز القياسي للقوة في العهد القديم، حيث تم ذكره تسع مرات.” أندرسن (Andersen)
٢. أَتَرْبِطُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ بِرِبَاطِهِ فِي التَّلْمِ: بتفهم الطبيعة المخيفة لهذا الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ القديم (الأُرْخُص)، فالله هنا يُعطي صورة فكاهية لأيوب. ويمكن للمرء أن يتخيل بسهولة أيوب وهو يستخدم وحيد القرن (الأُرْخُص) لحرث حقله أو وضعه في حظيرته.
ثانيًا. بخصوص النعام والخيول والعقبان
أ ) الآيات (١٣-١٨): هل تفهم النعامة؟
١٣«جَنَاحُ النَّعَامَةِ يُرَفْرِفُ. أَفَهُوَ مَنْكِبٌ رَؤُوفٌ، أَمْ رِيشٌ؟ ١٤لأَنَّهَا تَتْرُكُ بَيْضَهَا وَتُحْمِيهِ فِي التُّرَابِ، ١٥وَتَنْسَى أَنَّ الرِّجْلَ تَضْغَطُهُ، أَوْ حَيَوَانَ الْبَرِّ يَدُوسُهُ. ١٦تَقْسُو عَلَى أَوْلاَدِهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا. بَاطِلٌ تَعَبُهَا بِلاَ أَسَفٍ. ١٧لأَنَّ اللهَ قَدْ أَنْسَاهَا الْحِكْمَةَ، وَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَهْمًا. ١٨عِنْدَمَا تُحْوِذُ نَفْسَهَا إِلَى الْعَلاَءِ، تَضْحَكُ عَلَى الْفَرَسِ وَعَلَى رَاكِبِهِ.
١. جَنَاحُ النَّعَامَةِ يُرَفْرِفُ (الترجمة الإنجليزية: جَنَاحُ النَّعَامَةِ يُرَفْرِفُ بفَخر): يتكلم الله هنا عن جَنَاحُ النَّعَامَةِ الذي يُرَفْرِفُ بكل فخر مع أنه لا يطير. ولعل أيوب يستطيع أن يشرح سبب وجود أجنحة لطائر لا يطير، أو مخلوق مُجَنَّح لا يقدر على الطيران.
• “هذا هو حاله، طائر سخيف، لأن الله جعله كذلك. لماذا؟ تشير الرواية الهزلية أنه وسط وفرة المخلوقات، صُنع بعضها ليكون مفيدًا للبشر، لكن البعض الآخر موجود فقط لاستمتاع الله وتمتُعنا.” أندرسن (Andersen)
• “هذا المقطع رائع لأنه يواصل الفكاهة الحقيقية الأولى والوحيدة في سفر أيوب. اترك الأمر لله ليقوم بحيلة كهذه، لاجبار أيوب على التبسم في وقت كان فيه صديقنا المسكين غارقًا جدًا في بؤسه.” ماسون (Mason)
٢. لأَنَّ اللهَ قَدْ أَنْسَاهَا الْحِكْمَةَ: ذكّر الله أيوب هنا، أنه هو موزع الحكمة؛ هو يُعطيها أو يَحْجبها كما يشاء.
• “القسوة الظاهرة نحو صغارها تتجلى عندما تترك تلك الصغار بحلول موسم التزاوج.” سميك (Smick)
• من خلال أمثلة رائعة وغريبة مثل النَّعَامَةِ علَّم الله أيوب ورفه عنه. “عليك أن تعتاد على دُعابتي، وتحيا بالإيمان بدلًا من العيان. كن مثل النَّعَامَةِ: مع أنك لا تستطيع الطيران، لا يزال بإمكانك رفرفة جناحيك بفرح!” ماسون (Mason)
ب) الآيات (١٩-٢٥):هل تفهم أو تتسلط على الْفَرَسَ؟
١٩«هَلْ أَنْتَ تُعْطِي الْفَرَسَ قُوَّتَهُ وَتَكْسُو عُنُقَهُ عُرْفًا؟ ٢٠أَتُوثِبُهُ كَجَرَادَةٍ؟ نَفْخُ مِنْخَرِهِ مُرْعِبٌ. ٢١يَبْحَثُ فِي الْوَادِي وَيَنْفِزُ بِبَأْسٍ. يَخْرُجُ لِلِقَاءِ الأَسْلِحَةِ. ٢٢يَضْحَكُ عَلَى الْخَوْفِ وَلاَ يَرْتَاعُ، وَلاَ يَرْجعُ عَنِ السَّيْفِ. ٢٣عَلَيْهِ تَصِلُّ السِّهَامُ وَسِنَانُ الرُّمْحِ وَالْمِزْرَاقِ. ٢٤فِي وَثْبِهِ وَرُجْزِهِ يَلْتَهِمُ الأَرْضَ، وَلاَ يُؤْمِنُ أَنَّهُ صَوْتُ الْبُوقِ. ٢٥عِنْدَ نَفْخِ الْبُوقِ يَقُولُ: هَهْ! وَمِنْ بَعِيدٍ يَسْتَرْوِحُ الْقِتَالَ صِيَاحَ الْقُوَّادِ وَالْهُتَافَ.
١. هَلْ أَنْتَ تُعْطِي الْفَرَسَ قُوَّتَهُ: مثل الكثيرين، يمكن أن ينبهر أيوب بالقوة المهيبة لِلْفَرَس. ولكنه لا يقدر أن يعطي الْفَرَسَ قُوَّتَهُ؛ فقوته جاءت من الله وليس من أيوب أو أي إنسان آخر.
• “هل يمكنك صنع مثل هذا الحيوان؟ هل يمكنك السيطرة عليه؟ حتى الفرس المروض والمدرب جيدًا قد يكسر القيود التي يفرضها عليه أكثر الفرسان مهارة، فحتى الحيوان الأليف المدرج في القائمة لا يكون خاضعًا تمامًا لسيطرة الإنسان.” أندرسن (Andersen)
٢. يَضْحَكُ عَلَى الْخَوْفِ وَلاَ يَرْتَاعُ، وَلاَ يَرْجعُ عَنِ السَّيْفِ: لم يستطع أيوب تقديم أي تفسير لطبيعة الفرس الحربية، والتي تعمل ضد منطق الفرس ومصلحته.
• “في هذا المخلوق لدينا مثال واضح على قوة الله وحكمته الرائعة. فإن كان الفرس قويًا ومحاربًا هكذا، فكيف يبدو القدير، رجل الحرب هذا؟” تراب (Trapp)
ج) الآيات (٢٦-٣٠): هل تفهم أو تتسلط على العقاب أو النسر؟
٢٦«أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ الْعُقَابُ وَيَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ نَحْوَ الْجَنُوبِ؟ ٢٧أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ النَّسْرُ وَيُعَلِّي وَكْرَهُ؟ ٢٨يَسْكُنُ الصَّخْرَ وَيَبِيتُ عَلَى سِنِّ الصَّخْرِ وَالْمَعْقَلِ. ٢٩مِنْ هُنَاكَ يَتَحَسَّسُ قُوتَهُ. تُبْصِرُهُ عَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ. ٣٠ فِرَاخُهُ تَحْسُو الدَّمَ، وَحَيْثُمَا تَكُنِ الْقَتْلَى فَهُنَاكَ هُوَ».
١. أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ الْعُقَابُ: بعد التفكير في العديد من الحيوانات البرية والحكمة والغموض المحيط بها، تحول الله الآن إلى طائر مهيب – الصَّقر (الْعُقَاب). لا يستطع أيوب أن يفسر، أو حتى أن يضع مبادئ آليات الطيران لهذا الطائر النبيل.
• “يكتب ج. ك. تشيسترسون (G.K. Chesterson) أن الطريقة التي يصف بها الله جميع مخلوقاته الرائعة ويستعرضها أمام أيوب، يجعل كل منها يبدو وكأنه وحش يتمشى تحت الشمس. الكل معًا يشكل تناغمًا أو ترنيمة تعبر عن الشعور بالدهشة. فصانع كل الأشياء مندهش من الأشياء التي صنعها بنفسه.” ماسون (Mason)
• أراد الله أيضًا أن يندهش أيوب من ضَرَاوة كل ذلك؛ وكذلك من حقيقة أن الله أعطى الإنسان أن يَتَسَلَّطَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْض (تكوين ١: ٢٦). وحتى مع هيمنة الإنسان على كل هذه المخلوقات، لم يصنع الإنسان هذه المخلوقات البرية العظيمة ولا يمكنه تدبير احتياجاتها. فإذا كان للبشرية سلطة قليلة جدًا على الطبيعة، فهل يتوقع أيوب أن يكون له سيطرة أكبر على الأحداث الغامضة في حياته؟
٢. أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ النَّسْرُ: كان أيوب عاجزًا بنفس القدر عن تفسير ما يخص النَّسْر وطرقه، فكيف بالأحرى أن يَأَمُرَه.
• قد يبدو أن الله كان قاسيًا مع أيوب؛ ولكن على المرء أن يقارن ما قاله الله لأيوب بما اعتقد متهمو أيوب أن الله يجب أن يقوله له. لم يأت الله إلى أيوب قاضيًا ولا حتى شرطيًا؛ لقد جاءه كمعلم – كمعلم محب، رائع، قوي، وبروح الدعابة. لكن علاقة الله بأيوب عادت لطبيعتها ثانية الآن، وكان ذلك كافيًا لأيوب.
• “ما لا تحتويه هذه الخطابات يكاد يكون بنفس أهمية ما تحتويه. في هذه الخطابات، لم يتراجع الله عن رأيه بأيوب الوارد في الافتتاحية. كان الشيطان مخطئًا في الطعن في دوافع أيوب لكونه بارًا، وكان الأصدقاء مخطئين بشأن سلوك أيوب الذي تسبب في معاناته… لم يحصل أيوب على مذكرة الإدانة أو على حكم البراءة الذي يريده. ولم يتعرض أيضًا للإذلال بقائمة من الخطايا التي ارتكبها والتي كان يعاقب عليها.” سميك (Smick)
• “إن وجدنا الأمر مستفز في أن الله لم يُعط أيوب أبدًا أية أسباب لعذابه الطويل في معاناته، يكون قد فاتنا تمامًا الهدف من هذه الإصحاحات الأخيرة. ومع أنه من الصحيح أن إجابة الرب على أيوب ليست منطقية ولا لاهوتية، إلا أن هذا ليس مثل القول بأنه لم يعطِ إجابة. الرب ُيعطي إجابة. وإجابته متمثله بحضوره.” ماسون (Mason)
• “فكرة واحدة، وواحدة فقط، يتم إبرازها في الطليعة. العالم مليء بالألغاز، ألغاز غريبة، يصعب الوصول إليه، والتي لا يمكن التغلب عليها أو قراءتها. لكن ثق، ثق في القدرة، وفي الحكمة، وفي الصلاح الذي له، ذلك القدير، الذي يحكمها.” برادلي (Bradley)