سِفر القُضاة – الإصحاح ١١
يَفْتَاح والْعَمُّونِيِّين
أولًا. يَفْتَاح يتفاوض مع بَنِي عَمُّون
أ ) الآيات (١-٣): خلفية يَفْتَاح قبل توليه السلطة.
١وَكَانَ يَفْتَاحُ الْجِلْعَادِيُّ جَبَّارَ بَأْسٍ، وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ. وَجِلْعَادُ وَلَدَ يَفْتَاحَ. ٢ثُمَّ وَلَدَتِ امْرَأَةُ جِلْعَادَ لَهُ بَنِينَ. فَلَمَّا كَبِرَ بَنُو الْمَرْأَةِ طَرَدُوا يَفْتَاحَ، وَقَالُوا لَهُ: «لاَ تَرِثْ فِي بَيْتِ أَبِينَا لأَنَّكَ أَنْتَ ابْنُ امْرَأَةٍ أُخْرَى». ٣فَهَرَبَ يَفْتَاحُ مِنْ وَجْهِ إِخْوَتِهِ وَأَقَامَ فِي أَرْضِ طُوبٍ. فَاجْتَمَعَ إِلَى يَفْتَاحَ رِجَالٌ بَطَّالُونَ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ.
١. وَكَانَ يَفْتَاحُ الْجِلْعَادِيُّ جَبَّارَ بَأْسٍ: كان لهذا الرجل الشجاع والمرموق في إسرائيل نسب غامض. كانت وَالِدته زَانِيَة وثنية.
• تقع منطقة جِلْعَاد شرق نهر الأردن وتضم أراضي رأوبين وجاد ونصف سبط منسى. وبمحض الصدفة، كان وَالِد يَفْتَاح يُدعى جِلْعَاد أيضًا.
٢. فَهَرَبَ يَفْتَاحُ مِنْ وَجْهِ إِخْوَتِهِ وَأَقَامَ فِي أَرْضِ طُوب: بعد أن رفضته عائلته بسبب أصله غير الشرعي، نشأ يَفْتَاح في هذه المنطقة التي تُعرف اليوم بسوريا.
• على الرغم من رفض عائلته له، بارك الله يَفْتَاح واستخدمه. “في الواقع، اختاره الله ليكون مخلصًا لشعبه وقد سجلّه بين أبطال آخرين، معروفين بإيمانهم، في عبرانيين ١١. وهذا بمثابة عزاء لأولئك المتروكين والمنبوذين إن آمنوا وولدوا من الله (يوحنا ١: ١٢-١٣).” تراب (Trapp)
• “الشيء الوحيد الذي نؤكده هو أن الله لم ير الأخطاء التي لم يكن مسؤولًا عنها كسبب لعدم أهليته. بل أقامه وأعطاه روحه واستخدمه لينقذ شعبه من الضيق.” مورجان (Morgan)
• “تم تحديد ’طُوب‘ مبدئيًا على أنها ’طيبة‘ الحديثة، التي تقع على بعد حوالي ٢٤ كم شرقًا إلى الشمال الشرقي من رَامُوت جِلْعَاد، في المنطقة القاحلة خارج الحدود الشرقية لإسرائيل وبالقرب من الحدود الشمالية لعَمُّون.” كوندال (Cundall)
٣. فَاجْتَمَعَ إِلَى يَفْتَاحَ رِجَالٌ بَطَّالُونَ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَه: لم يكن يَفْتَاح بالضرورة زعيم عصابة. ويوضح آدم كلارك (Adam Clarke) أن مصطلح ’رِجَالٌ بَطَّالُون‘ لا يعني بالضرورة قطّاع طُرُق أو لصوص: “ومع ذلك، قد تعني الكلمة هنا فقراء، أي ليس لديهم ممتلكات أو عمل.”
• “ربما كان هو وفرقته يعملون بنفس الطريقة التي عمل بها داود وفرقته بعد سنوات، حيث قاموا بحماية المدن والمستوطنات من اللصوص.” وود (Wood) لقد فعل داود هذا خلال الفترة التي تم وصف تفاصيلها في صموئيل الأول ٤:٢٥-٨، حيث كان يتلقى أجرًا من أولئك الذين ساعدوهم. ومن المحتمل أيضًا أنهم استهدفوا فقط قرى الشعوب المعادية، مثل الْعَمُّونِيِّين.
ب) الآيات (٤-٨): شيوخ جلعاد يناشدون قيادة يَفْتَاح.
٤وَكَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّ بَنِي عَمُّونَ حَارَبُوا إِسْرَائِيلَ. ٥وَلَمَّا حَارَبَ بَنُو عَمُّونَ إِسْرَائِيلَ ذَهَبَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَأْتُوا بِيَفْتَاحَ مِنْ أَرْضِ طُوبٍ. ٦وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: «تَعَالَ وَكُنْ لَنَا قَائِدًا فَنُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ». ٧فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: «أَمَا أَبْغَضْتُمُونِي أَنْتُمْ وَطَرَدْتُمُونِي مِنْ بَيْتِ أَبِي؟ فَلِمَاذَا أَتَيْتُمْ إِلَيَّ الآنَ إِذْ تَضَايَقْتُمْ؟» ٨فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: «لِذلِكَ قَدْ رَجَعْنَا الآنَ إِلَيْكَ لِتَذْهَبَ مَعَنَا وَتُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ، وَتَكُونَ لَنَا رَأْسًا لِكُلِّ سُكَّانِ جِلْعَادَ».
١. بَنِي عَمُّونَ حَارَبُوا إِسْرَائِيل: عَاش بَنِي عَمُّون، أو الْعَمُّونِيُّون، في جنوب أراضي إسرائيل. كانوا يشبهون البدو الرُحل، وهم من نسل لوط، ابن أخي إبراهيم.
• فَلِمَاذَا أَتَيْتُمْ إِلَيَّ الآنَ إِذْ تَضَايَقْتُمْ: “أليس من العدل أن يقول الله هذا لمعظمنا؟ فنحن نادرًا ما نلتمس وجه الله إلا في الضرورة القصوى.” تراب (Trapp)
٢. تَعَالَ وَكُنْ لَنَا قَائِدًا فَنُحَارِبَ بَنِي عَمُّون: وبسبب أزمة العمونيين، كان شيوخ جلعاد في أمس الحاجة لقائد قدير، فلجأوا إلى يَفْتَاح. وكانوا على استعداد لمنحه السلطة على جِلْعَاد (وَتَكُونَ لَنَا رَأْسًا لِكُلِّ سُكَّانِ جِلْعَادَ).
ج) الآيات (٩-١١): رَدّ يَفْتَاح عَلى شُيُوخ جِلْعَاد.
٩فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: «إِذَا أَرْجَعْتُمُونِي لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ أَمَامِي فَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ رَأْسًا». ١٠فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: «الرَّبُّ يَكُونُ سَامِعًا بَيْنَنَا إِنْ كُنَّا لاَ نَفْعَلُ هكَذَا حَسَبَ كَلاَمِكَ». ١١فَذَهَبَ يَفْتَاحُ مَعَ شُيُوخِ جِلْعَادَ، وَجَعَلَهُ الشَّعْبُ عَلَيْهِمْ رَأْسًا وَقَائِدًا. فَتَكَلَّمَ يَفْتَاحُ بِجَمِيعِ كَلاَمِهِ أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْمِصْفَاةِ.
١. إِذَا أَرْجَعْتُمُونِي لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ أَمَامِي فَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ رَأْسًا: وافق يَفْتَاح على تولي القيادة أثناء الأزمة بشرط بقائه في السلطة بعد ذلك. لم يكن يريد أن يُرفض ثانية ويُعامل كشخص بدون قيمة.
٢. أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْمِصْفَاة: كان هذا هو نفس المكان الذي تم فيه الاتفاق الشهير بين لاَبَان ويَعْقُوب (تكوين ٤٣:٣١-٥٠). إن الفكرة وراء كلمة ’مِصْفَاة‘ (رَصَد) هي أنه “إذا أخطأت وفقًا لهذا الوعد، سيرى الله هذا الخطأ وربما يعاقبك.”
د ) الآيات (١٢-١٣): يَفْتَاح يتفاوض مع مَلِكِ بَنِي عَمُّون.
١٢فَأَرْسَلَ يَفْتَاحُ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلَكَ أَنَّكَ أَتَيْتَ إِلَيَّ لِلْمُحَارَبَةِ فِي أَرْضِي؟» ١٣فَقَالَ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِرُسُلِ يَفْتَاحَ: «لأَنَّ إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخَذَ أَرْضِي عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ، مِنْ أَرْنُونَ إِلَى الْيَبُّوقِ وَإِلَى الأُرْدُنِّ. فَالآنَ رُدَّهَا بِسَلاَمٍ».
١. مَا لِي وَلَكَ أَنَّكَ أَتَيْتَ إِلَيَّ لِلْمُحَارَبَةِ فِي أَرْضِي: طرح يَفْتَاح سؤالًا بسيطًا: لماذا أنت في أرض إسرائيل؟ ربما كان من الممكن حل النزاع برمته عن طريق المفاوضات والحلول الدبلوماسية بدلًا من الحرب.
٢. لأَنَّ إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخَذَ أَرْضِي عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْر: أجاب ملك عمون بكل بساطة، أنهم أتو إلى أرض إسرائيل لأن الأرض كانت ملكًا لهم، وأن إسرائيل أخذها ظلمًا.
هـ) الآيات (١٤-٢٨): رَدّ يَفْتَاح عَلى مَلِكِ بَنِي عَمُّون.
١٤وَعَادَ أَيْضًا يَفْتَاحُ وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ ١٥وَقَالَ لَهُ: «هكَذَا يَقُولُ يَفْتَاحُ: لَمْ يَأْخُذْ إِسْرَائِيلُ أَرْضَ مُوآبَ وَلاَ أَرْضَ بَنِي عَمُّونَ، ١٦لأَنَّهُ عِنْدَ صُعُودِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ سَارَ فِي الْقَفْرِ إِلَى بَحْرِ سُوفٍ وَأَتَى إِلَى قَادَشَ. ١٧وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ أَدُومَ قَائِلاً: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ. فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ أَدُومَ. فَأَرْسَلَ أَيْضًا إِلَى مَلِكِ مُوآبَ فَلَمْ يَرْضَ. فَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي قَادَشَ. ١٨وَسَارَ فِي الْقَفْرِ وَدَارَ بِأَرْضِ أَدُومَ وَأَرْضِ مُوآبَ وَأَتَى مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى أَرْضِ مُوآبَ وَنَزَلَ فِي عَبْرِ أَرْنُونَ، وَلَمْ يَأْتُوا إِلَى تُخْمِ مُوآبَ لأَنَّ أَرْنُونَ تُخْمُ مُوآبَ. ١٩ثُمَّ أَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ، مَلِكِ حَشْبُونَ، وَقَالَ لَهُ إِسْرَائِيلُ: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ إِلَى مَكَانِي. ٢٠وَلَمْ يَأْمَنْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْبُرَ فِي تُخْمِهِ، بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ كُلَّ شَعْبِهِ وَنَزَلُوا فِي يَاهَصَ وَحَارَبُوا إِسْرَائِيلَ. ٢١فَدَفَعَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ سِيحُونَ وَكُلَّ شَعْبِهِ لِيَدِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوهُمْ، وَامْتَلَكَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ سُكَّانِ تِلْكَ الأَرْضِ. ٢٢فَامْتَلَكُوا كُلَّ تُخْمِ الأَمُورِيِّينَ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى الْيَبُّوقِ وَمِنَ الْقَفْرِ إِلَى الأُرْدُنِّ. ٢٣وَالآنَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ الأَمُورِيِّينَ مِنْ أَمَامِ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُهُ؟ ٢٤أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ. ٢٥وَالآنَ فَهَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ بَالاَقَ بْنِ صِفُّورَ مَلِكِ مُوآبَ؟ فَهَلْ خَاصَمَ إِسْرَائِيلَ أَوْ حَارَبَهُمْ مُحَارَبَةً ٢٦حِينَ أَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي حَشْبُونَ وَقُرَاهَا، وَعَرُوعِيرَ وَقُرَاهَا وَكُلِّ الْمُدُنِ الَّتِي عَلَى جَانِبِ أَرْنُونَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَسْتَرِدَّهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؟ ٢٧فَأَنَا لَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ بِي شَرًّا بِمُحَارَبَتِي. لِيَقْضِ الرَّبُّ الْقَاضِي الْيَوْمَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي عَمُّونَ». ٢٨فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِكَلاَمِ يَفْتَاحَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ.
١. لَمْ يَأْخُذْ إِسْرَائِيلُ أَرْضَ مُوآبَ وَلاَ أَرْضَ بَنِي عَمُّون: لقد أوضح رد يَفْتَاح المكتوب لملك بَنِي عَمُّون بدقة لماذا كانت الأرض التي كانوا يطالبون بها من حق إسرائيل.
٢. وَامْتَلَكَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ سُكَّانِ تِلْكَ الأَرْضِ: ذكّر يَفْتَاح ملك بَنِي عَمُّون بأن الأَمُورِيِّين هزموا الْعَمُّونِيِّين واستولوا على أرضهم. وعندما هزمت إسرائيل الأَمُورِيِّين في المعركة، استولوا بعدل على أرض الأَمُورِيِّين – التي كانت في السابق أرضًا للْعَمُّونِيِّين. فكانت حرب إسرائيل ضد الأَمُورِيِّين مبررة، لأنها كانت ردًا على الأعمال العدوانية التي قاموا بها ضد المدنيين الإسرائيليين.
٣. وَالآنَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ الأَمُورِيِّينَ مِنْ أَمَامِ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُه: جادل يَفْتَاح بأنه بما أن الله أعطى هذه الأرض لإسرائيل، فلا يحق لبَنِي عَمُّون أن يطالبوا بها.
٤. أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِك: جادل يَفْتَاح بأن إله العمونيين كَمُوش يجب أن يُظهر نفسه جديرًا بغزو أرض إسرائيل. وحقيقة أن إسرائيل امتلكت الأرض لمدة ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَة أظهرت أن كَمُوش لم يكن أعظم من إله إسرائيل.
• “إن الثلاثمائة سنة المذكورة تتطابق تقريبًا مع مجموع فترات قيادة القضاة المختلفين وفترات الظلم المُسجّلة حتى هذه اللحظة، حيث يبلغ المجموع الدقيق ٣١٩ عامًا.” كوندال (Cundall)
• لقد كان هذا تحديًا كامنًا: “إذا كان إلهك قويًا بما يكفي ليعطيك الأرض، فدعه يثبت ذلك. دعونا نرى من هو الأقوى – يَهْوَه أم كَمُوش.”
• لم ينظر يَفْتَاح إلى هذا الصراع على أنه مجرد صراع بين جيشين، بل باعتباره صراعًا بين إله إسرائيل وإله عمون المزيف. وكانت حكمته واضحة في إدراكه أن هذه معركة روحية قبل كل شيء.
• كَمُوش إِلهُك: كان كَمُوش تقليديًا هو إله الْمُوآبِيِّين، وليس الْعَمُّونِيِّين. ومع ذلك، فمن المحتمل أن الأمتين كانتا تعبدان آلهة بعضهما البعض، أو أنهما نظرتا إلى كَمُوش وَمَلْكُوم باعتبارهما اسمين مختلفين لنفس الإله.
٥. فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِكَلاَمِ يَفْتَاحَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْه: إن رَدّ يَفْتَاح المنطقي لم يكن له أي تأثير على مَلِك عَمُّون. ولذلك كانت الحرب حتمية.
ثانيًا. اِنتِصار ونَذَر
أ ) الآية (٢٩): يَفْتَاح يجمع جيشه ويتقدم بشجاعة نحو عَمُّون.
٢٩فَكَانَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ، فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ، وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ.
١. فَكَانَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاح: لقد كان هذا هو مصدر شجاعة يَفْتَاح ويُمكن أن يكون هو أيضًا مصدر شجاعة للمؤمنين اليوم. فعندما تُحاصر المخاوف والقلق حياة المؤمنين، ولهذا السبب، عليهم أن يملؤوا حياتهم بيسوع وأن يمتلئوا بالروح القدس.
٢. عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّون: إن الامتلاء الروح يدفع شعب الله للأمام، سواء على مستوى النمو الروحي أو في مواجهة أعداء الله.
ب) الآيات (٣٠-٣١): ينذر يَفْتَاح نذرًا متسرعًا، معتقدًا أنه سيساعده في قضيته أمام الله.
٣٠وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلاً: «إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي، ٣١فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ، وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً».
١. وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبّ: ورغم حُسن نيته، إلا أنه كان في النهاية نذرًا أحمق متهور. فمثل هذه النذور قد تكون محاولات للتلاعب بالله أو فرض شروطنا عليه. فمن الأهم بكثير أن تكون في صف الله بدلًا من أن تحاول إقناعه بأن يكون هو في صفك.
• حتى الشخص الممتلئ بالروح القدس يمكنه أن يتخذ قرارات غير حكيمة. الروح القدس لا يطغى علينا أو يتحكم بنا بل يرشدنا، ويمكن مقاومة هذا الإرشاد أو تجاهله في أمور صغيرة أو كبيرة.
• “لا داعي لمحاولة رشوة الله ليمنحنا العناية عن طريق تقديم وعود متهورة، كما فعل يَفْتَاح. فمجانًا وبكل سرور سيقدم الله بقلبه المُحب كل ما نحتاجه من مساعدة وخلاص، طالما أن طريقنا مستقيمًا أمامه.” ماير (Meyer)
٢. فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي… أُصْعِدُهُ مُحْرَقَة: لم ينو يَفْتَاح تقديم محرقة بشرية. وهذا ما تقترحه قواعد اللغة العبرية القديمة: “يمكن ترجمة صيغة المُذَكَّر إلى ’ما يخرج‘ أو من يخرج‘ و’أنا أُصْعِدُهُ مُحْرَقَة‘ (أي أكرسه أو أنذره للرب).‘” والف (Wolf)
• اتّفق المفسر آدم كلارك (Adam Clarke) مع أدق عُلماء اللغة العبرية، على أن أفضل ترجمة لهذه الآية هي: سأكرسه للرب أو سأقدمه كمُحْرَقَة. وكتب أيضًا: “إن كان ما يخرج يصلح أن يكون مُحْرَقَة (أي حيوان)، فسيكون كذلك؛ وإن كان يصلح أن يكون لخدمة الله (أي إنسان)، فسيكون نذير للرب أو سأكرسه له.”
• حَظَرَ ناموس موسى صراحة من تقديم محرقة بشرية كما هو مذكور في لاويين ١٨: ٢١ وتثنية ١٢: ٣١. ومن المؤكد تقريبًا أن يَفْتَاح كان على علم بهذه النصوص، حيث أظهر فهمًا قويًا لكلمة الله أثناء مفاوضاته مع العمونيين.
ج) الآيات (٣٢-٣٣): الله يمنح إسرائيل النصرة على العمونيين.
٣٢ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِهِ. ٣٣فَضَرَبَهُمْ مِنْ عَرُوعِيرَ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى مِنِّيتَ، عِشْرِينَ مَدِينَةً، وَإِلَى آبَلِ الْكُرُومِ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا. فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
١. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِه: حقق الله نصرًا عظيمًا ومهمًّا لإسرائيل من خلال يَفْتَاح. تخطى الله المرارة والرفض الذي شعر به يَفْتَاح ليسدد به احتياج عظيم. ورغم ماضيه الصعب، ظل الله يستخدمه بطرق رائعة.
٢. فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيل: كان هذا انتصارًا آخر لإسرائيل تحت قيادة قاضٍ مملوء بالروح.
د ) الآيات (٣٤-٣٥): نَذر صعب التحقق.
٣٤ثُمَّ أَتَى يَفْتَاحُ إِلَى الْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِذَا بِابْنَتِهِ خَارِجَةً لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وَهِيَ وَحِيدَةٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلاَ ابْنَةٌ غَيْرَهَا. ٣٥وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «آهِ يَا بِنْتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْنًا وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ، لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوعُ».
١. وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَزَّقَ ثِيَابَه: لقد قطع يَفْتَاح نذره المتسرع بحسن نية، وكان مستعدًا لتحقيقه بالكامل. ومع ذلك، لم يفكر بعناية في العواقب المحتملة، وشعر بحزن عميق عندما كانت ابنته أول من استقبله عند عودته إلى المنزل.
٢. لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوع: إن قَسَم يَفْتَاح كان قسم أحمق متهور، ولم يكن عليه أن يفي به. ولم يكن لديه أي مبرر لإيذاء ابنته أو تحميلها ذنب النذر الذي قطعه أمام الله بأي حال من الأحوال.
• كان من السهل أن يفي يَفْتَاح بالنذر عندما اعتقد أن بقرة أو خروف سيخرج من البيت عند وصوله. ولكن عندما ظهرت ابنته، كان يجب أن يقول: “كان النذر الذي قطعته متسرع وغير حكيم على الإطلاق، وسيكون خطية أكبر أمام الرب أن أفي به بدلًا من أن أكسره. لذا سأتوب أمام الله عن هذا النذر المتهور الغبي.”
• “لقد نذر نذرًا طائشًا، ومن الأفضل كثيرًا أن ينقض المرء مثل هذه النذور من أن يفي بها. فإذا أقسم شخص ما على ارتكاب جريمة، فإن النذر أو القَسم نفسه يكون إثمًا، والوفاء به يكون أكثر إثمًا. فإذا كان النذر يلزم الشخص بتنفيذه بغض النظر عن طبيعته، فالقوانين الأخلاقية بأكملها قد تتعطل بمجرد أن يقطع أحدهم نذرًا. وبالتالي، يمكن للمرء أن يقسم (أو يقطع نذرًا) على السرقة أو الزنا أو القتل، ثم يدعي أن هذه الأفعال مبررة بسبب قسمه. هذه الفكرة سخيفة تمامًا، وقبول مثل هذا المبدأ من شأنه أن يدمر كل المعايير الأخلاقية.” سبيرجن (Spurgeon)
• يُسلط سِفر الجامعة ٥: ١-٢ و٥: ٤-٦ الضوء على مخاطر قطع النذور غير المدروسة والمتسرعة، ويؤكد هذا النص على أنه من الأفضل تجنب قطع النذور بدلًا من قطعها بتهور. وهذا لا يعني أن النذور سيئة بطبيعتها – فقد تكون إيجابية وذات مغزى. بل إنه يؤكد على الحاجة إلى التعامل مع النذور بجدية. يجب على المؤمنين أن يتعاملوا بجدية مع خطية النذور المكسورة. فعندما ندرك وجودها يجب إما أن نتوب ونفي بها، أو نتوب عن الحماقة في القيام بالنذر من الأساس، ونطلب إلى الله أن يعفينا من هذا النذر.
٣. لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوع: وفي الوقت نفسه، ومن حيث المبدأ، كان عزم يَفْتَاح على الوفاء بنذره حتى لو كلفه ذلك شيئًا ثمينًا، أمر مثير للإعجاب. ورغم أن النذر الذي قطعه كان متسرعًا ولم يكن ينبغي أن يحفظه، فإن الالتزام الثابت الذي انعكس في تصريحه: “لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوع” أمر يستحق الثناء ويجب أن يكون مبدأ واضح في حياة كل شخص يتبع يسوع المسيح.
• ولأننا تلاميذ يسوع المسيح، فإن تصريح يَفْتَاح يُذكّرنا بما فعلناه: لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّب.
لقد اعترفنا بإيماننا بيسوع المسيح.
لقد أعلنّا أنفسنا كأتباع وتلاميذ ليسوع المسيح.
لقد سبحنا الله بترانيمنا وكلماتنا.
لقد أعلنّا وحدتنا ودورنا مع شعب الله.
• ولأننا تلاميذ يسوع المسيح، فإن تصريح يَفْتَاح يُذكّرنا بما لا ينبغي فعله: وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوع.
لا يمكننا التراجع بسبب الاضطهاد.
لا يمكننا التراجع بسبب سخرية الآخرين.
لا يمكننا التراجع حتى ولو خطوة واحدة.
قد يُظهِر تراجعنا أن إيماننا كان زائفًا.
قد يُهين تراجعنا عمل يسوع على الصليب.
قد يعني تراجعنا أننا تخلينا عن المكافآت السماوية.
لن يكون لتراجعنا أي معنى.
هـ) الآيات (٣٦-٤٠): يَفْتَاح يتمم نذره لله.
٣٦فَقَالَتْ لَهُ: «يَا أَبِي، هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى الرَّبِّ؟ فَافْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ، بِمَا أَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي عَمُّونَ». ٣٧ثُمَّ قَالَتْ لأَبِيهَا: «فَلْيُفْعَلْ لِي هذَا الأَمْرُ: اتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ فَأَذْهَبَ وَأَنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَأَبْكِيَ عَذْرَاوِيَّتِي أَنَا وَصَاحِبَاتِي». ٣٨فَقَالَ: «اذْهَبِي». وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى الْجِبَالِ. ٣٩وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ الشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَ. وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلاً. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ ٤٠أَنَّ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ يَذْهَبْنَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَنُحْنَ عَلَى بِنْتِ يَفْتَاحَ الْجِلْعَادِيِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ.
١. فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَر: يعتقد البعض أن يَفْتَاح قدم ابنته محرقة بالفعل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يمثل غيرة لله مُضَلِّلة، لأن الله لم يطلب منه قط أن يقطع مثل هذا النذر المتهور أو أن يفي به بهذه الطريقة الحمقاء.
• في وقت لاحق من تاريخهم، بدأ شعب إسرائيل يسيرون وراء إله يدعى مُولَك، الذي كان يُسترضى بتقديم الأطفال كذبائح بأبشع طريقة يمكن تخيلها. لم يطلب الله قط أن يُعبد بهذه الطريقة الرهيبة، وبالتالي لا يمكن إلقاء اللوم على الله.
٢. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا… وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلًا: من المرجح أن هذا يشير إلى أن يَفْتَاح كرّس ابنته للخدمة في الْمَسْكَن، وفقًا للمبدأ المذكور في سِفر اللاويين ٢٧: ٢-٤، حيث لم يكن مطلوبًا تقديم النذير كذبيحة (كما تقدم الحيوانات) بل يتم تعيينه للخدمة في الْمَسْكَن بالمقابل.
• نعلم من الكتاب المقدس أنه كان هناك نساء مفرزات لخدمة الْمَسْكَن، وكان يشار إليهن باسم ’الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاع (خروج ٣٨: ٨؛ ١ صموئيل ٢: ٢٢). ومن المحتمل أن ابنة يَفْتَاح أصبحت واحدة من المتجندات للخدمة في الْمَسْكَن.
• لقد حزنت ابنته وصديقاتها بحق لأنها كُرِّست للخدمة قبل أن تتاح لها الفرصة للزواج. ومن الجائز أن معظم الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاع كن أرامل كبيرات في السن.
• من خلال تكريس ابنته الوحيدة غير المتزوجة لخدمة الرب مدى الحياة، أظهر هذا مدى جدية يَفْتَاح وابنته في التعامل مع وعده لله.
• يعترض العديد من المفسرين ولا يرون خيارًا آخر سوى القول بأن يَفْتَاح قد أوفى بنذره بشكل مأساوي من خلال تقديم ابنته كذبيحة. ” إن الجهود المبذولة لاستبدال عقوبة الإعدام بالعذرية الدائمة لا يمكن تبريرها.” كوندال (Cundall)
• ومع ذلك، فإن التفسير القائل بأنها صارت واحدة من الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاع يظل التفسير الأكثر ترجيحًا لأن يَفْتَاح مُدرج كواحد من أبطال الإيمان (عبرانيين ١١: ٣٢). ومن الصعب التوفيق بين فكرة تقديم يَفْتَاح لابنته كذبيحة دموية والاعتراف به كرجل إيمان في عبرانيين ١١.