سِفر القُضاة – الإصحاح ٨
مُلَاحَقَة المِدْيَانِيِّين
أولًا. جدعون يحارب الملوك المديانيين والإسرائيليين المتنازعين
أ ) الآيات (١-٣): شكوى أفرايم وجواب جدعون.
١وَقَالَ لَهُ رِجَالُ أَفْرَايِمَ: «مَا هذَا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلْتَ بِنَا، إِذْ لَمْ تَدْعُنَا عِنْدَ ذِهَابِكَ لِمُحَارَبَةِ الْمِدْيَانِيِّينَ؟». وَخَاصَمُوهُ بِشِدَّةٍ. ٢فَقَالَ لَهُمْ: «مَاذَا فَعَلْتُ الآنَ نَظِيرَكُمْ؟ أَلَيْسَ خُصَاصَةُ أَفْرَايِمَ خَيْرًا مِنْ قِطَافِ أَبِيعَزَرَ؟ ٣لِيَدِكُمْ دَفَعَ اللهُ أَمِيرَيِ الْمِدْيَانِيِّينَ غُرَابًا وَذِئْبًا. وَمَاذَا قَدِرْتُ أَنْ أَعْمَلَ نَظِيرَكُمْ؟». حِينَئِذٍ ارْتَخَتْ رُوحُهُمْ عَنْهُ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ بِهذَا الْكَلاَمِ.
١. وَخَاصَمُوهُ بِشِدَّة: انضم رِجَالُ أَفْرَايِم إلى المعركة ضد مِدْيَان عندما دعاهم جدعون (قضاة ٧: ٢٤-٢٥)، ومع ذلك غضبوا منه لأنه لم يستدعهم قبل المعركة. كان أول من استدعاهم جدعون للمساعدة هم سِبط مَنَسَّى (وهو السِبط الذي ينتمي هو إليه)، وأَشِير وزَبُولُون ونَفْتَالِي (قضاة ٦: ٣٥).
• يبدو أن رِجَالُ أَفْرَايِم كانوا أكثر اهتمامًا بالتقدير من اهتمامهم بالصالح العام لإسرائيل. وبدلًا من غيرتهم من الآخرين بسبب التقدير الذي نالوه، كان عليهم أن يفرحوا لأن شعب الله تحرر ولأنهم ساهموا في تحقيق النصر. إن الغيرة غالبًا ما تعرقل عمل الله.
٢. مَاذَا فَعَلْتُ الآنَ نَظِيرَكُم: اختار جدعون عدم مواجهة كبريائهم، بل عالجه بإطرائه عليهم وإعطائهم التقدير الذي اتضح أنهم يتوقون إليه. والأهم من هذا أنه حثهم على المشاركة في عمل الرب الحالي. كانت استجابته نهجًا حكيمًا للتعامل مع الخلافات عندما يكون هناك عمل للرب يتعين القيام به.
• ومع ذلك، يبدو أن جدعون كان في صراع مستمر مع رجال أفرايم. وعمله لاحقًا للأفود (تمثال بثياب كهنوتية) (قضاة ٨: ٢٧) كان ضارًا بإسرائيل وربما كان مدفوعًا بروح تنافسية تجاه أفرايم.
ب) الآيات (٤-٩): خطايا سُكُّوت وفَنُوئِيل.
٤وَجَاءَ جِدْعُونُ إِلَى الأُرْدُنِّ وَعَبَرَ هُوَ وَالثَّلاَثُ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ مَعَهُ مُعْيِينَ وَمُطَارِدِينَ. ٥فَقَالَ لأَهْلِ سُكُّوتَ: «أَعْطُوا أَرْغِفَةَ خُبْزٍ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ مَعِي لأَنَّهُمْ مُعْيُونَ، وَأَنَا سَاعٍ وَرَاءَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ مَلِكَيْ مِدْيَانَ». ٦فَقَالَ رُؤَسَاءُ سُكُّوتَ: «هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ الآنَ حَتَّى نُعْطِيَ جُنْدَكَ خُبْزًا؟» ٧فَقَالَ جِدْعُونُ: «لِذلِكَ عِنْدَمَا يَدْفَعُ الرَّبُّ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِي أَدْرُسُ لَحْمَكُمْ مَعَ أَشْوَاكِ الْبَرِّيَّةِ بِالنَّوَارِجِ». ٨وَصَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى فَنُوئِيلَ وَكَلَّمَهُمْ هكَذَا. فَأَجَابَهُ أَهْلُ فَنُوئِيلَ كَمَا أَجَابَ أَهْلُ سُكُّوتَ، ٩فَكَلَّمَ أَيْضًا أَهْلَ فَنُوئِيلَ قَائِلاً: «عِنْدَ رُجُوعِي بِسَلاَمٍ أَهْدِمُ هذَا الْبُرْجَ».
١. وَعَبَرَ هُوَ وَالثَّلاَثُ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ مَعَهُ مُعْيِينَ وَمُطَارِدِين: يمكننا أن نتخيل مدى الإرهاق الذي شعروا به. لقد حاربوا بضراوة وطاردوا العدو لمسافة كبيرة.
• “أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إذا كرّستم أنفسكم بالكامل لعمل الله، فقد لا تتعبون منه أبدًا، ولكنكم ستجدون أنفسكم غالبًا متعبين جسديًا. إذا لم يختبر أحد أبدًا التعب بسبب العمل من أجل الله، فعليّ أن أتصور أنه لم يقم بعمل ذي أهمية حقيقية.” سبيرجن (Spurgeon)
• “دعونا نخدم الرب أيضًا حتى عندما نشعر بالوجع مع كل حركة، وعندما يصبح حتى التفكير هو أمرًا مُرهقًا. كان هؤلاء الرجال منهكين حقًا. هل تدرك معنى أن يكون الجندي منهكًا تمامًا؛ إنه ليس هذيان ولا تظاهر، بل إعياء بكل معنى الكلمة. ومع ذلك، أن تستمر في الجري بينما أنت على وشك الإغماء من التعب، وأن تواصل الطريق بينما تشعر بأنك على وشك الانهيار، فهذا عمل شاق للغاية؛ لكن دعونا نفعله، أيها الإخوة، بنعمة الله. يصلي البعض فقط عندما يشعرون بذلك، لكن علينا أن نصلي أكثر عندما نشعر بعدم قدرتنا على ذلك. إذا كنا نعظ فقط عندما نشعر بالرغبة في الوعظ، فالكثيرون منا نادرًا ما يعظون.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَعْطُوا أَرْغِفَةَ خُبْزٍ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ مَعِي: طلب جدعون من أهل سُكُّوت أن يدعموا أولئك الذين يخوضون المعركة. لم يكن مطلوبًا منهم المشاركة في المعركة بأنفسهم، بل طُلب منهم تقديم المساعدة لأولئك الموجودين على الخطوط الأمامية.
٣. هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ الآنَ حَتَّى نُعْطِيَ جُنْدَكَ خُبْزًا: وبدلًا من تقديم المساعدة، اختلق أهل سُكُّوت وفَنُوئِيل الأعذار. فلم يكونوا راغبين في دعم إسرائيل في حربهم ضد مِدْيَان قبل أن ينتصروا في المعركة.
• يمكننا أن نتخيل كم كان هذا محبطًا لجدعون وللذين قاتلوا معه. لقد طلبوا من أهل سُكُّوت وفَنُوئِيل تقديم الدعم فقط، ولم يطلبوا منهم القتال بأنفسهم. ومع ذلك، لم يكونوا راغبين في ذلك واختلقوا الأعذار. عندما نعمل في حقل الرب، غالبًا ما تكون المقاومة من أولئك الذين نعتبرهم أصدقاء هي الأكثر إحباطًا. يجب ألا ندع هذا يثنينا أو يعرقل جهودنا.
٤. عِنْدَمَا يَدْفَعُ الرَّبُّ… عِنْدَ رُجُوعِي بِسَلاَمٍ أَهْدِمُ هذَا الْبُرْج: بمساعدة أهل سُكُّوت وفَنُوئِيل أو بدونها، كان جدعون واثقًا من أنه سيفوز في المعركة (قائلًا عِنْدَمَا، وليس إذا). ومع ذلك، فقد تعهد بالانتقام من هاتين المدينتين لرفضهما دعم المعركة في هذه اللحظة الحاسمة.
• “قال البعض أن كلام جدعون هذا يُظهر قسوته واستيائه، ولكن من المعروف أن الإنسان الذي في حالة حرب، لن يقوم برش عدوه بماء الورد. فالحرب شر عظيم بطبيعته وغالبًا ما ينطوي على شرور كثيرة. يبدو لي أنه عندما كان جدعون يحاول تحرير شعبه سخروا هم منه ورفضوا أن يعطوا جنوده خبزًا في يوم جوعهم، مما جعلهم يستحقون عقابًا شديدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٠-١٢): انزعاج الملكين المديانيين وجيشهما.
١٠وَكَانَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ فِي قَرْقَرَ وَجَيْشُهُمَا مَعَهُمَا نَحْوُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، كُلُّ الْبَاقِينَ مِنْ جَمِيعِ جَيْشِ بَنِي الْمَشْرِقِ. وَالَّذِينَ سَقَطُوا مِئَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَجُل مُخْتَرِطِي السَّيْفِ. ١١وَصَعِدَ جِدْعُونُ فِي طَرِيقِ سَاكِنِي الْخِيَامِ شَرْقِيَّ نُوبَحَ وَيُجْبَهَةَ، وَضَرَبَ الْجَيْشَ وَكَانَ الْجَيْشُ مُطْمَئِنًّا. ١٢فَهَرَبَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ، فَتَبِعَهُمَا وَأَمْسَكَ مَلِكَيْ مِدْيَانَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ وَأَزْعَجَ كُلَّ الْجَيْشِ.
١. وَضَرَبَ الْجَيْشَ وَكَانَ الْجَيْشُ مُطْمَئِنًّا: جدعون، الذي كان يتقدم بقوة الرب، قاد هجومًا مُباغِتًا وشجاعًا. ورغم أن هذا لم يكن كهجوم الثلاثمائة رجل على الجيش الضخم الموصوف في قضاة ٧: ١٢، إلا أنه كان لا يزال جيشًا صغيرًا يواجه قوة أكبر بكثير.
• من المرجح أن جرأة جدعون كانت نابعة من اختباره السابق لعمل الله في ظل ظروف مماثلة. فعمل الله في الماضي شجعه على الثقة بأن الله سيحقق أشياء عظيمة مرة أخرى في الحاضر.
٢. فَتَبِعَهُمَا… وَأَزْعَجَ كُلَّ الْجَيْش: هذا يُظهر مثابرة جدعون. فقد قاتل بلا هوادة حتى انتصر في المعركة، واستمر في ملاحقة القادة المقاومين.
د ) الآيات (١٣-١٧): جدعون يُحاسِب سُكُّوت وفَنُوئِيل.
١٣وَرَجَعَ جِدْعُونُ بْنُ يُوآشَ مِنَ الْحَرْبِ مِنْ عِنْدِ عَقَبَةِ حَارَسَ. ١٤وَأَمْسَكَ غُلاَمًا مِنْ أَهْلِ سُكُّوتَ وَسَأَلَهُ، فَكَتَبَ لَهُ رُؤَسَاءَ سُكُّوتَ وَشُيُوخَهَا، سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلاً. ١٥وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِ سُكُّوتَ وَقَالَ: «هُوَذَا زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ اللَّذَانِ عَيَّرْتُمُونِي بِهِمَا قَائِلِينَ: هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ الآنَ حَتَّى نُعْطِي رِجَالَكَ الْمُعْيِينَ خُبْزًا؟» ١٦وَأَخَذَ شُيُوخَ الْمَدِينَةِ وَأَشْوَاكَ الْبَرِّيَّةِ وَالنَّوَارِجَ وَعَلَّمَ بِهَا أَهْلَ سُكُّوتَ. ١٧وَهَدَمَ بُرْجَ فَنُوئِيلَ وَقَتَلَ رِجَالَ الْمَدِينَةِ.
١. وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِ سُكُّوتَ وَقَال: لم يرغب رجال هذه المدينة في مساندة جدعون وجيشه قبل أن يكون النصر مؤكدًا. لقد رفضوا مساعدة جدعون بالإيمان، ونتيجة لذلك، كان سيعاقبهم جدعون كما وعد.
٢. وَأَخَذَ شُيُوخَ الْمَدِينَةِ وَأَشْوَاكَ الْبَرِّيَّةِ وَالنَّوَارِجَ وَعَلَّمَ بِهَا أَهْلَ سُكُّوت: يبدو أن جدعون ضرب شيوخ سُكُّوت علنًا مستخدمًا أَشْوَاك الْبَرِّيَّة وَالنَّوَارِج (نَبَات كَثِير الشَّوْك) كوسيلة للتوبيخ العلني.
٣. وَهَدَمَ بُرْجَ فَنُوئِيلَ وَقَتَلَ رِجَالَ الْمَدِينَة: النص لا يوضح الأمر بشكل صريح، ولكن نفترض أن هناك تبريرًا لهذه العقوبة الشديدة. ربما كان أهل فنوئيل من الداعمين الرئيسيين للمديانيين وتآمروا ضد إسرائيل.
هـ) الآيات (١٨-٢١): جدعون يُحاسب الملكين المديانيين.
١٨وَقَالَ لِزَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ: «كَيْفَ الرِّجَالُ الَّذِينَ قَتَلْتُمَاهُمْ فِي تَابُورَ؟» فَقَالاَ: «مَثَلُهُمْ مَثَلُكَ. كُلُّ وَاحِدٍ كَصُورَةِ أَوْلاَدِ مَلِكٍ». ١٩فَقَالَ: «هُمْ إِخْوَتِي بَنُو أُمِّي. حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ لَوِ اسْتَحْيَيْتُمَاهُمْ لَمَا قَتَلْتُكُمَا!». ٢٠وَقَالَ لِيَثَرَ بِكْرِهِ: «قُمِ اقْتُلْهُمَا». فَلَمْ يَخْتَرِطِ الْغُلاَمُ سَيْفَهُ، لأَنَّهُ خَافَ، بِمَا أَنَّهُ فَتًى بَعْدُ. ٢١فَقَالَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ: «قُمْ أَنْتَ وَقَعْ عَلَيْنَا، لأَنَّهُ مِثْلُ الرَّجُلِ بَطْشُهُ». فَقَامَ جِدْعُونُ وَقَتَلَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ، وَأَخَذَ الأَهِلَّةَ الَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمَا.
١. هُمْ إِخْوَتِي بَنُو أُمِّي: يبدو أن هذين الملكين المديانيين كانا مسئولين عن موت إِخْوَة جدعون. أراد جدعون أن يعترفا بالأمر علنًا قبل أن يقوم بإعدامهما.
٢. قُمْ أَنْتَ وَقَعْ عَلَيْنَا: زَبَح وَصَلْمُنَّاع عرفا أنهما يستحقان الموت، بل إنهما شجعا مُنفذ الأمر على تتميم مهمته.
ثانيًا. إسرائيل في عهد جدعون كقاضي
أ ) الآيات (٢٢-٢٣): جدعون يرفض أن يُنصَّب ملكًا.
٢٢وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِجِدْعُونَ: «تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنُ ابْنِكَ، لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ». ٢٣فَقَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: «لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ابْنِي عَلَيْكُمُ. اَلرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ».
١. تَسَلَّطْ عَلَيْنَا: إن الرغبة في وجود ملك بشري على إسرائيل بدأت في وقت مبكر من تاريخ الأمة. ومنح الله إسرائيل الملك الذي كانوا يطلبونه بعد مئات السنين (في أيام صموئيل النبي والقاضي).
• “لقد وجدوا الراحة في القُضَاة الذين أقامهم الله، ولكنهم سرعان ما بدأوا يتوقون إلى حَاكِم مرئي من وسط شعبهم. وكانوا يعتقدون أن وجود مثل هذا القائد سيحميهم من تكرار هذه المشاكل.” مورجان (Morgan)
٢. لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُم: كان رد جدعون لائقًا جدًا، فقد أدرك أنه ليس من حقه تولي العرش على إسرائيل، لأن الرب الإله هو ملك إسرائيل الوحيد.
• “إن هذا يعكس التوجّه الحقيقي لأولئك الذين عيّنهم الله لقيادة شعبه. يجب أن تظل قيادتهم دائمًا محدودة، وألا تصل أبدًا إلى نقطة السلطة المطلقة. ودورهم ليس استبدال أو تجاوز حكم الله السيادي، بل توضيحه، وتوجيه الناس نحو الاعتراف به والخضوع له. وهذا المبدأ لا ينطبق على الملوك فحسب، بل ينطبق أيضًا على الكهنة والأنبياء والوعاظ.” مورجان (Morgan)
• قدّم جدعون بلا شك الإجابة الصحيحة عندما قال إنه لا يرغب في أن يكون ملكًا؛ ومع ذلك، تصرف في بقية الإصحاح كما لو كان ملكًا. ومع أن كلماته كانت تتسم بالتواضع، إلا أن سلوكه لم يكن كذلك. غالبًا ما يكون الحديث عن التواضع وخدمة الله أسهل من عيشهما حقًا.
ب) الآيات (٢٤-٢٦): جدعون يجمع ثروة.
٢٤ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: «أَطْلُبُ مِنْكُمْ طِلْبَةً: أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ». لأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَقْرَاطُ ذَهَبٍ لأَنَّهُمْ إِسْمَاعِيلِيُّونَ. ٢٥فَقَالُوا: «إِنَّنَا نُعْطِي». وَفَرَشُوا رِدَاءً وَطَرَحُوا عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. ٢٦وَكَانَ وَزْنُ أَقْرَاطِ الذَّهَبِ الَّتِي طَلَبَ أَلْفًا وَسَبْعَ مِئَةِ شَاقِل ذَهَبًا، مَا عَدَا الأَهِلَّةَ وَالْحَلَقَ وَأَثْوَابَ الأُرْجُوَانِ الَّتِي عَلَى مُلُوكِ مِدْيَانَ، وَمَا عَدَا الْقَلاَئِدَ الَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمْ.
١. أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِه: لم يبدُ هذا الطلب مبالغًا فيه في البداية، ولكن عندما تم جمع الأقراط، بلغ إجمالي قيمتها أكثر من ٥٠ رطلًا (٢٢ كيلوغرامًا) من الذهب – وهي ثروة ضخمة جدًا.
٢. إِنَّنَا نُعْطِي: قدّم الشعب هذه الثروة الضخمة بكل سرور، ومن الصعب أن نجادل بأن جدعون لم يستحقها. ومع ذلك، كانت هذه الثروة غير مناسبة لأنها رفعته إلى مستوى أعلى بكثير من مستوى أولئك الذين كانوا تحت إمرته، وكان ذلك على حسابهم.
• يوجد قاعدة عامة وهي أن القادة في الكنيسة الذين تدعمهم مواهب شعب الله يجب أن يعيشوا على نفس مستوى أولئك الذين يخدمونهم – لا أقل ولا أعلى منهم.
ج) الآية (٢٧): جدعون، مستخدمًا الثروة التي حصل عليها، يتولى دورًا غير مناسب في القيادة الدينية ويقود إسرائيل إلى عبادة الأوثان.
٢٧فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُودًا وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ، فَكَانَ ذلِكَ لِجِدْعُونَ وَبَيْتِهِ فَخًّا.
١. فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُودًا وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِه: إن الأَفُود هو ثوب كهنوتي موصوف في سفر الخروج ٢٨. كان هذا خطأً واضحًا، وليس من المعلوم فورًا لماذا قام جدعون بذلك. من المحتمل أن جدعون أقام هذا المكان المنافس للعبادة لتقويض نفوذ وهيبة سِبط أفرايم. ففي ذلك الوقت، كان الْمَسْكَن، الذي هو مركز العبادة لإسرائيل، في شِيلُوه، أي أنه يقع في أراضي أفرايم. فربما سعى جدعون إلى التنافس مع أفرايم، الذي أزعجه أثناء صراعه مع مِدْيَان.
• “ورغم أن تصرفات جدعون كانت على الأرجح نابعة من فشل الشعب الديني، إلا أن العاقبة كانت وخيمة وأدت إلى تدهور حالة جدعون.” مورجان (Morgan)
• “إنه لم يصنع تمثالًا، بل أَفُودًا (أي رداءً)، على شاكلة الحُلّة المقدسة التي يرتديها رئيس الكهنة. ربما صنعه من الذهب الخالص، لا ليُلبس، بل ليُنظر إليه، وفقط لتذكير الشعب بعبادة الله، وليس ليُعبد. ولكن آه، أيها الأصدقاء الأعزاء، ترون هنا أنه حتى الانحراف البسيط عما توصي به كلمة الله سيعرضنا للمتاعب!” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاك: لقد استمتع شعب إسرائيل بعبادتهم لهذا الوثن. فأصبح الأَفُود الجميل الثمين فَخًّا لجدعون وعائلته وكل إسرائيل.
• إن الجمال الفني غالبًا ما يثير إعجابنا ويثير فينا شعورًا بالهَيبَة، ولكنها ليست بالضرورة هَيبَة إلهية. فكثيرًا ما تنجح في أن تُحوِّل تركيزنا بعيدًا عن الرب. وعلى النقيض من هذا الأَفُود، أمر الله أن تكون مذابحه مصنوعة من حِجَارَةٍ غَيْر مَنْحُوتَة (خروج ٢٠: ٢٥)، مما يضمن بقاء الاهتمام على عبادة الله وليس على مهارة عمل النَحَّات.
• لقد أظهر جدعون طاعة وإيمانًا استثنائيين خلال اللحظات العصيبة في المعركة. ومع ذلك، بدا أن روتين الحياة اليومية كان بمثابة اختبار أعظم لشخصيته. وهذا ينطبق غالبًا على الكثيرين منا، حيث يمكن أن تكون تحديات الحياة اليومية أكثر صعوبة من اللحظات العصيبة.
• “ربما يكون إكرام الله من خلال عمل شجاع في ظل أزمة وطنية أسهل من تكريمه في الحياة اليومية العادية، الأمر الذي يتطلب نوعًا مختلفًا من الشجاعة.” كوندال (Cundall)
د ) الآيات (٢٨-٣٠): جدعون يتخذ نِسَاء كَثِيرَات.
٢٨وَذَلَّ مِدْيَانُ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَعُودُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَيَّامِ جِدْعُونَ. ٢٩وَذَهَبَ يَرُبَّعْلُ بْنُ يُوآشَ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ. ٣٠وَكَانَ لِجِدْعُونَ سَبْعُونَ وَلَدًا خَارِجُونَ مِنْ صُلْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ.
١. وَذَلَّ مِدْيَان: من جهة أمن الأمة، كان حُكم جدعون كقاضي لإسرائيل ناجحًا. إلا أنه كان فاشلًا روحيًا في كثير من النواحي.
٢. لأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نِسَاءٌ كَثِيرَات: لم يعكس هذا العدد الهائل من النساء عدم قدرة الرجل على التحكم في شهواته الجنسية فحسب، بل كنّ أيضًا وسيلة للتباهي بثروته، وكأنه يقول: “انظروا إلى كل الزوجات والأولاد الذين يمكنني إعالتهم.”
• لا يدين العهد القديم صراحة تعدد الزوجات (رُغم أن العهد الجديد يتناوله في متى ٤:١٩-٦ و١ تيموثاوس ٢:٣). ومع ذلك، تكشف روايات العهد القديم عن العواقب السلبية لتعدد الزوجات. فغالبًا ما تتسم قصص الأسر المتعددة الزوجات، مثل قصة يعقوب أو داود، بالصراعات والأزمات.
هـ) الآيات (٣١-٣٢): جدعون يفترض – أو يأمل – في حُكم وِرَاثِيّ.
٣١وَسُرِّيَّتُهُ الَّتِي فِي شَكِيمَ وَلَدَتْ لَهُ هِيَ أَيْضًا ابْنًا فَسَمَّاهُ أَبِيمَالِكَ. ٣٢وَمَاتَ جِدْعُونُ بْنُ يُوآشَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ، وَدُفِنَ فِي قَبْرِ يُوآشَ أَبِيهِ فِي عَفْرَةِ أَبِيعَزَرَ.
١. فَسَمَّاهُ أَبِيمَالِك: يعني اسم أَبِيمَالِك ’أَبِي مَلِك.‘ وهو اسم يرتبط عادة بالملوك. ويبدو أن جدعون كان ينوي أن يصبح ابنه قائدًا لإسرائيل بعد موته.
٢. وَمَاتَ جِدْعُونُ بْنُ يُوآشَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَة: تعكس مسيرة جدعون كقاضي انحدارًا من أعلى قمة في الإيمان إلى التمرد الصريح على الله. ويمكننا القول إن جدعون كان أفضل في التعامل مع المصاعب من التعامل مع النجاح. فالنجاح والثروة والشهرة كانت سببًا في انهياره.
• لا يكفي أن نبدأ بداية طيبة مع الله، بل علينا أن نحافظ على ذلك طوال مسيرتنا الروحية. في سنواته الأخيرة، كان على جدعون أن ينظر إلى الوراء ليرى ما أنجزه للرب. كل تلك الإنجازات كانت في الماضي.
و) الآيات (٣٣-٣٥): بعد موت جدعون، تمرُد الشعب وأقام عهدًا مع بَعَل.
٣٣وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ جِدْعُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا وَزَنَوْا وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ بَعَلَ بَرِيثَ إِلهًا. ٣٤وَلَمْ يَذْكُرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّبَّ إِلهَهُمُ الَّذِي أَنْقَذَهُمْ مِنْ يَدِ جَمِيعِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ حَوْلِهِمْ. ٣٥وَلَمْ يَعْمَلُوا مَعْرُوفًا مَعَ بَيْتِ يَرُبَّعْلَ، جِدْعُونَ، نَظِيرَ كُلِّ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلَ مَعَ إِسْرَائِيلَ.
١. وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ جِدْعُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا وَزَنَوْا وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ: وبطريقة ما، كرمت إسرائيل ذكرى جدعون، وخاصة النسخة التي قدمها في سنواته الأخيرة. وكأنهم، برجوعهم إلى عبادة البَعْلِيم، يقولون: “ما يهم حقًا هو الثروة والنجاح.” وهو ما يعكس المثال الذي وضعه جدعون نحو نهاية حياته.
٢. وَجَعَلُوا لَهُمْ بَعَلَ بَرِيثَ إِلهًا: إن اسم بَعَل بَرِيث يعني ’بَعَل الْعَهْد.‘ من المؤسف أن بني إسرائيل اعتبروا البَعَل هو إله عهدهم.