سِفر القُضاة – الإصحاح ٣
أول ثلاثة قضاة
أولًا. الأمم المتبقية في أرض إسرائيل
أ ) الآيات (١-٢): لماذا سمح الله ببقاء هذه الأمم في الأرض.
١فَهؤُلاَءِ هُمُ الأُمَمُ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الرَّبُّ لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ، كُلَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا جَمِيعَ حُرُوبِ كَنْعَانَ ٢إِنَّمَا لِمَعْرِفَةِ أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعْلِيمِهِمْ الْحَرْبَ. الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهَا قَبْلُ فَقَطْ.
١. فَهؤُلاَءِ هُمُ الأُمَمُ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الرَّبّ: ترك الله هذه الأمم الكنعانية في الأرض، لأن إسرائيل لم يكونوا أمناء في طردهم بشكل كامل. وبإمكان المرء أن يقول بحق أن ذلك كان مزيجًا من اختيارهم الخاص ومشيئة الله.
٢. لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيل: كان في مقدور الله أن يقضي تمامًا على الأمم بدون معونة إسرائيل. لكنه سمح ببقاء تلك الأمم المُضَايِقة لتحقيق غرض ما. كلمة ’يَمْتَحِنَ‘ هنا تعني ’اخْتبار.‘ لقد سمح الله لهذه الأمم بالبقاء لكي يختبر أمانة إسرائيل له، ويزيد من ثقتهم فيه.
• إن الله لا يغيّر، على الفور، كل جانب من جوانب حياة المؤمن ليمتحن علاقته به، وليُنمّيها، فيتمكّن بذلك أن يعيش في شراكة حقيقية معه.
٣. إِنَّمَا لِمَعْرِفَةِ أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعْلِيمِهِمْ الْحَرْب: وكان هذا سببًا آخر لسماح الله ببقاء الكنعانيين في الأرض حيث لم يطردهم إسرائيل بالكامل. لقد أراد أن يكون شعبه محاربًا، ووجود هؤلاء الجيران الخطرين من شأنه أن يضمن معرفة أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ القادمة بكيفية الْحَرْب.
• “كان من المُقدّر لإسرائيل أن تعيش في بيئة مُعادية معظم تاريخها. ففي البداية كان ذلك بسبب الضغوط من الممالك الصغيرة المحيطة بها، وفي وقت لاحق بسبب موقعها الاستراتيجي بين القوى العظمى أَشُّور وبَابِل وفَارِس والْيُونَان مِن ناحية، ومِصْرَ من ناحية أخرى. فمن منظور إنساني، كان وجود القوة العسكرية أمر ضروري لبقاء إسرائيل.” كوندال (Cundall)
• لا أحد يحب الصراع مع الخطية، لكن المعركة مفيدة لنا. إن رمز المسيحية هو الصليب، وليس سريرًا مصنوعًا من رِيش النعام.
ب) الآيات (٣-٤): قائمة بأسماء الأمم.
٣أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْخَمْسَةُ، وَجَمِيعُ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالصِّيْدُونِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ سُكَّانِ جَبَلِ لُبْنَانَ، مِنْ جَبَلِ بَعْلِ حَرْمُونَ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاةَ. ٤كَانُوا لامْتِحَانِ إِسْرَائِيلَ بِهِمْ، لِكَيْ يُعْلَمَ هَلْ يَسْمَعُونَ وَصَايَا الرَّبِّ الَّتِي أَوْصَى بِهَا آبَاءَهُمْ عَنْ يَدِ مُوسَى.
١. هؤُلاَءِ هُم: أطلق الله على الأُمَم، الذين رفضوا الخروج من الأرض بعناد، أسماءً محددة. وعلى نفس المنوال، يستطيع البعض اليوم أن يكتبوا قائمة ’بمناطق تسيطر عليها الأمم الوثنية‘ في حياة المؤمن. وقد تكون هذه القائمة مفيدة بالفعل لأنها تساعد المرء على تحديد عدوه.
٢. كَانُوا لامْتِحَانِ إِسْرَائِيلَ بِهِمْ، لِكَيْ يُعْلَمَ هَلْ يَسْمَعُون: يُوضّح هذا النص مرة أخرى السبب من وراء عدم قضاء الله على هذه الأمم. كان ذلك لامتحان مدى تمسّك إسرائيل بالله وبكلمته. فإذا كانوا مطيعين لكلمة الله، فلن تُشكّل هذه الأمم عائقًا، وستصبح إسرائيل قوية بما يكفي لطردهم بالكامل.
ثانيًا. القاضي الأول: عُثْنِيئِيل
أ ) الآيات (٥-٧): ارتداد إسرائيل في أيام عُثْنِيئِيل.
٥فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، ٦وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ. ٧فَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَنَسُوا الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالسَّوَارِيَ.
١. وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً، وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِم: أحد جوانب تكيُّف إسرائيل مع الأمم الوثنية المحيطة انطوى على ارتكاب خطية التزاوج المختلط مع تلك الأمم.
٢. وَنَسُوا الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالسَّوَارِي: قادتهم علاقاتهم غير المقدسة إلى عبادة الآلهة الوثنية بَعْل وَعَشْتَارُوث.
• أخبرنا يسوع أنه يتطلب من اتّباعه التخلّي عن أمور نحبها كثيرًا (مرقس ٢٩:١٠-٣٠). وغالبًا ما تقع العلاقات غير المقدسة والشريرة ضمن هذه الفئة تمامًا.
ب) الآية (٨): عبودية إسرائيل لملك بلاد ما بين النهرين.
٨فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَبَاعَهُمْ بِيَدِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ النَّهْرَيْنِ. فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ.
١. فَبَاعَهُمْ بِيَدِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ النَّهْرَيْن: لقد أعطى الله إسرائيل ما أرادوه تمامًا. لم يريدوا أن يخدموا الله، لذلك سمح لهم بأن يكونوا عبيدًا لملك وثني. لقد حصد الشعب ما زرعوه.
• “إن اِسم كُوشَان رِشَعْتَايِم محلّ شك أيضًا، لأنه يُقرأ حرفيًا ’كُوشَان الشر المزدوج،‘ من غير المُرجح أن يكون اسم شخص، ويبدو أن المؤرخ قام بتشويه مُتعمد للسخرية من هذا المضطهد الظالم.” كوندال (Cundall)
• “إنها تسمية غريبة إلى حد ما، ولكن ربما كان المقصود منها التخويف. يمكن أن يكون أيضًا صورة هزلية للاسم الفعلي.” والف (Wolf)
• “يستمتع الطغاة بالأسماء والألقاب التي تقشعر لها الأبدان، مثل أتيلا الهوني، الذي أصر على أن يطلق عليه (Ira Dei et orbis vastitas)، أي غضب الله ومُخرِّب العالم.” تراب (Trapp)
• في تلك العصور القديمة، كانت كلمة بلاد النَّهْرَيْن تصف المنطقة الخصبة الغنيّة بالماء والتي أصبحت اليوم شرق سوريا وشمال العراق.
٢. ثَمَانِيَ سِنِين: مرت سنوات عديدة من العبودية قبل أن يصرخ بنو إسرائيل إلى الرب.
ج) الآيات (٩-١١): خلاص الله بواسطة عُثْنِيئِيل.
٩وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ الرَّبُّ مُخَلِّصًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَلَّصَهُمْ، عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ أَخَا كَالِبَ الأَصْغَرَ. ١٠فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ. وَخَرَجَ لِلْحَرْبِ فَدَفَعَ الرَّبُّ لِيَدِهِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكَ أَرَامَ، وَاعْتَزَّتْ يَدُهُ عَلَى كُوشَانِ رِشَعْتَايِمَ. ١١وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَمَاتَ عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ.
١. وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبّ: أخيرًا، وبعد ثماني سنوات من العبودية، صرخ بنو إسرائيل مُعلنين اتكالهم الكامل على الرب. وعلى نحو مُماثل، غالبًا ما يستغرق الأمر سنوات من القيود والمعاناة قبل أن يحوّل الإنسان نظره من نفسه إلى الله.
٢. فَأَقَامَ الرَّبُّ مُخَلِّصًا… عُثْنِيئِيل: كان عُثْنِيئِيل صِهر البطل العظيم كَالَب (قضاة ١: ١٢-١٣) وكانت زوجته أيضًا امرأة إيمان (قضاة ١: ١٣-١٥).
• في مجموعته بعنوان: ’أساطير اليهود‘ والمكونة من الأساطير والتقاليد اليهودية، يضيف لويس جينزبيرج إضافتين خياليتين إلى قصة عُثْنِيئِيل:
“من بين القضاة، يُصوَّر عُثْنِيئِيل باعتباره مُمثلًا للطبقة المثقفة. وقد مكّنه ذكاؤه ومهارته في التفكير الجدلي من استعادة ألف وسبعمائة تقليد من التقاليد التي علَّمها موسى للشعب، والتي نُسيت أثناء فترة الحداد على موسى.”
“كان عُثْنِيئِيل بلا لوم فيما يتعلق بالأسباب التي أدت إلى قصاص الشعب، حتى أن الله أعطاه حياة أبدية؛ وهو من القلائل الذين دخلوا الفردوس أحياء.”
٣. فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبّ: نحن لا نعرف الكثير عن عُثْنِيئِيل، ولكن ما نعرفه عنه كان كافيًا، وهو أن الروح القدس منحه القوة للقيام بالمهمة الموكلة إليه.
• عاش عُثْنِيئِيل وفقًا لمبدأ زكريا ٦:٤ “لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.” لقد خلّص عُثْنِيئِيل إسرائيل بقوة رُوح الرَّبّ.
• “منذ يوم الخمسين (أعمال الرسل ٢) أصبحت عطية الروح القدس العامة والدائمة هي من حق كل تلميذ.” كوندال (Cundall)
ثالثًا. القاضي الثاني: إِهُود
أ ) الآيات (١٢-١٤): وتستمر الدَورَة: إسرائيل تخطئ وتُباع للعبودية.
١٢وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَشَدَّدَ الرَّبُّ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. ١٣فَجَمَعَ إِلَيْهِ بَنِي عَمُّونَ وَعَمَالِيقَ، وَسَارَ وَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ، وَامْتَلَكُوا مَدِينَةَ النَّخْلِ. ١٤فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
١. وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبّ: بعد أن حقّق الله الخلاص بواسطة عُثْنِيئِيل، تخلّى الشعب في النهاية، عن اتكاله وطاعته للرب. لم يكن لانتصارهم أن يدوم من تلقاء نفسه لأجل غير مسمى. لقد كان لا بد من الحفاظ عليه.
• يصف كوندال (Cundall) بفعالية الشعوب الثلاثة المذكورة هنا باعتبارها تضطهد إسرائيل:
“مُوآب، التي تقع شرقي البحر الميت بين نهري أَرْنُون وزَارَد، استقرت كمملكة قبل حوالي خمسين سنة من دخول إسرائيل للأرض.”
عَمُّون، التي تقع في الناحية الشمالية الشرقية من مُوآب، تأسست كمملكة في نفس الوقت تقريبًا الذي استقرت فيه إسرائيل في الأرض، أي في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
العَمَالِيق، الذين كانوا أقرباء للأدوميين، وقد كانوا عرقًا من البدو الذين احتلوا منطقة كبيرة جنوب يهوذا، وربما كانوا ألد أعداء إسرائيل (خروج ١٧: ٨-١٦؛ راجع ١ صموئيل ١٥: ٢-٣).
٢. فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُون: أدت الخطية مرة أخرى إلى استعبادهم. فقد عاش الشعب تحت العبودية لمدة ثماني سنوات قبل أن يصرخوا إلى الرب في أيام عُثْنِيئِيل. وبعد ذلك، تحمّلوا ثمانية عشر عامًا إضافية من العبودية قبل أن يصرخوا إلى الرب مرة أخرى.
• العبودية تتبع الخطية دائمًا، وإن كانت تأتي بصورة خادعة. فكما لا تفكر السمكة في أن تصبح عبدة للصنارة عندما تطارد الطُعم، فإن الشيطان يغري الناس بجعل الطُعم جذابًا بينما يخفي الصنارة.
• “لقد كانت لبعض الشخصيات البارزة أسماء تبدو سخيفة للغاية عند ترجمتها نحويًا: على سبيل المثال، يعني اسم عِجْلُون ’عجل صغير!‘” كلارك (Clarke) وفي حالة عِجْلُون هنا، كان عجلًا مسمنًا معدًا للذبح.
ب) الآية (١٥): يقيم الله مُخَلِّصًا لإسرائيل: إِهُود.
١٥وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبَنْيَامِينِيَّ، رَجُلاً أَعْسَرَ. فَأَرْسَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِيَدِهِ هَدِيَّةً لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ.
١. وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا: هذا يسلط الضوء على رحمة الله. كان لله كل الحق في رفض الشعب بالكامل بسبب ابتعادهم المتكرر عنه. ومع ذلك، فقد تجاوب معهم عندما طلبوا منه أن يخلّصهم أخيرًا.
٢. إِهُود… رَجُلاً أَعْسَر: في العالم القديم غالبًا ما كان الأشخاص الذين يستخدمون أيديهم اليسرى يُجبرون على استخدام أيديهم اليمنى. وكون إِهُود رَجُلاً أَعْسَر فهذا كان أمرًا استثنائيًا غير مألوفًا.
• “وُصِف بأنه رجل أَعْسَر، وهذا يعني حرفيًا: ’مُقَيَّد من جهة استخدام يده اليمنى.‘ وفي نظر الإسرائيلي، يُعَد هذا عيبًا جسديًا، ويظهر غالبًا في الحديث عن البنيامينيين، دون التقليل من مهارتهم في القتال (راجع قضاة ٢٠: ١٦).” كوندال (Cundall)
ج) الآيات (١٦-٢٦): اغتيال إِهُود الجريء لعِجْلُون.
١٦فَعَمِلَ إِهُودُ لِنَفْسِهِ سَيْفًا، ذَا حَدَّيْنِ طُولُهُ ذِرَاعٌ، وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى. ١٧وَقَدَمَّ الْهَدِيَّةَ لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. وَكَانَ عِجْلُونُ رَجُلاً سَمِينًا جِدًّا. ١٨وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى مِنْ تَقْدِيمِ الْهَدِيَّةِ، صَرَفَ الْقَوْمَ حَامِلِي الْهَدِيَّةِ، ١٩وَأَمَّا هُوَ فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ الْمَنْحُوتَاتِ الَّتِي لَدَى الْجِلْجَالِ وَقَالَ: «لِي كَلاَمُ سِرّ إِلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ». فَقَالَ: «صَهْ». وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَمِيعُ الْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ. ٢٠فَدَخَلَ إِلَيْهِ إِهُودُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي عُلِّيَّةِ بُرُودٍ كَانَتْ لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ إِهُودُ: «عِنْدِي كَلاَمُ اللهِ إِلَيْكَ». فَقَامَ عَنِ الْكُرْسِيِّ. ٢١فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ الْيُسْرَى وَأَخَذَ السَّيْفَ عَنْ فَخْذِهِ الْيُمْنَى وَضَرَبَهُ فِي بَطْنِهِ. ٢٢فَدَخَلَ الْقَائِمُ أَيْضًا وَرَاءَ النَّصْلِ، وَطَبَقَ الشَّحْمُ وَرَاءَ النَّصْلِ لأَنَّهُ لَمْ يَجْذُبِ السَّيْفَ مِنْ بَطْنِهِ. وَخَرَجَ مِنَ الْحِتَارِ. ٢٣فَخَرَجَ إِهُودُ مِنَ الرِّوَاقِ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ وَرَاءَهُ وَأَقْفَلَهَا. ٢٤وَلَمَّا خَرَجَ، جَاءَ عَبِيدُهُ وَنَظَرُوا وَإِذَا أَبْوَابُ الْعِلِّيَّةِ مُقْفَلَةٌ، فَقَالُوا: «إِنَّهُ مُغَطّ رِجْلَيْهِ فِي مُخْدَعِ الْبُرُودِ». ٢٥فَلَبِثُوا حَتَّى خَجِلُوا وَإِذَا هُوَ لاَ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ. فَأَخَذُوا الْمِفْتَاحَ وَفَتَحُوا وَإِذَا سَيِّدُهُمْ سَاقِطٌ عَلَى الأَرْضِ مَيْتًا. ٢٦وَأَمَّا إِهُودُ فَنَجَا، إِذْ هُمْ مَبْهُوتُونَ، وَعَبَرَ الْمَنْحُوتَاتِ وَنَجَا إِلَى سِعِيرَةَ.
١. وَقَدَمَّ الْهَدِيَّةَ لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآب: كان على بني إسرائيل أن يدفعوا هذه الْهَدِيَّةَ (أي الجِزية) لأنهم كانوا خاضعين لحُكم مَلِكِ مُوآب. جاء إِهُود إلى عِجْلُون كرسول أو ساعِي.
• “بما أن الْهَدِيَّةَ قد حملها عدة رجال، فقد تكون طعامًا أو صوفًا.” والف (Wolf)
• “في البلدان الشرقية، كانت الهدايا والجزية وأمور أخرى، تُقدم باحتفالات كبيرة. ولإضافة المزيد من الاستعراض، يتم تكليف العديد من الأفراد، غالبًا من العبيد، يرتدون ملابس فاخرة لحمل ما لا يشكل عبئًا حتى على شخص واحد. ويبدو أن هذه كانت الممارسة المُتّبعة في ذلك الوضع أيضًا.” كلارك (Clarke)
٢. عِنْدِي كَلاَمُ اللهِ إِلَيْك: كان إِهُود صادقًا عندما قال هذا. وكانت الرسالة: “من يضطهد شعب الله يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ، وسوف يخضع للدينونة.”
• قدم ف. ب. ماير (F.B. Meyer) بعض الأفكار من قضاة ٢٠:٣، من رسالة إِهُود لعِجْلُون: عِنْدِي كَلاَمُ اللهِ إِلَيْك.
رسائل الله غالبًا ما تكون سرية.
رسائل الله يجب أن يتم تسلّمها بكل احترام.
رسائل الله تأتي من أماكن غير متوقعة.
رسائل الله حَادَّة كسيفٍ ذِي حَدَّين، وتُسَبب الموت.
• “إن كلمة الله تعمل كسيف ذي حدين، وهي تخترق النفس والروح في أعماق كيان الإنسان، وتُميّز أفكار القلب ونواياه. وعندما يتلقى ’عِجْلُون‘ الذي يمثّل الذات، ضربته القاتلة، عندئذ يُبوق بوق الحرية المُبهج عاليًا من التلال.” ماير (Meyer)
• يستخدم الله رُسُلًا كثيرين ليتحدثوا إلينا، بما في ذلك الموت. “قال إِهُود: ’أحْمِلُ إلَيْكَ رِسَالَةً مِنَ اللهِ.‘ وكانت الرسالة خنجرًا وجد طريقه إلى قلب عِجْلُون، فسقط ميتًا. هكذا ينقل الموت رسالته إليك. سيقول لك: ’أحْمِلُ إلَيْكَ رِسَالَةً مِنَ اللهِ،‘ ولكن قبل أن تتمكن من الرد، سوف تدرك أن الرسالة هي: ’استعد للقاء إلهك يا إسرائيل؛ هكذا يقول الرب، اقطعوه؛ لماذا يجب أن يشغل مساحة على الأرض؟ رتب أمور بيتك، لأنك موتًا تموت ولن تعيش.‘ أتمنى أن تصغوا جيدًا إلى رُسل الله قبل أن يُرسل هذا الأخير، الأقوى على الإطلاق، والذي لا يمكنكم الهروب منه.” سبيرجن (Spurgeon)
• يجب على الواعظ أن ينقل كلمة الله وهو متيقن تمامًا من أنه يحمل رسالة مباشرة من الله. “أخشى أن بعض الخُدام يفشلون في فهم حقيقة أن الإنجيل موجه ليصل بشكل شخصي إلى الناس. إنهم يعظون، كما قرأت عن أحدهم ذات يوم، الذي قال إنه عندما كان يكرز للخطاة كان يتجنب النظر إلى وجوههم خوفًا من أن يعتقدوا أنه كان يقصدهم شخصيًا. لذا كان يتكلم موجهًا كلامه إلى مروحة السقف، لتفادي تبادل النظرات. إن الخوف من الإنسان كان سببًا في تدمير العديد من الخُدام. ولم يجرؤوا قط على توجيه رسالتهم للشعب مباشرة.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ الْيُسْرَى: لأن معظم الرجال كانوا يقاتلون بيدهم اليمنى، لم يكن من المتوقع أن يستخدم الرجل يده اليسرى في حمل الخنجر أو السيف. وهذا يبين مدى دهاء إِهُود وكم كانت الضربة غير متوقعة بالنسبة لعِجْلُون.
• وَطَبَقَ الشَّحْمُ وَرَاءَ النَّصْلِ لأَنَّهُ لَمْ يَجْذُبِ السَّيْفَ مِنْ بَطْنِهِ. وَخَرَجَ مِنَ الْحِتَارِ: “يمكن فهم ذلك بطرق مختلفة: إما أن الأمعاء خرجت عبر الجرح، أو أنه أفرغ فضلاته بشكل طبيعي بسبب الخوف والألم.” كلارك (Clarke)
• إن عبارة ’وَخَرَجَ مِنَ الْحِتَارِ‘ (أي خرجت أمعائه مِن جسمه) طرحت بعض التحديات أمام المترجمين، لأنه لا وجود لهذه الكلمات في أي مكان آخر في العهد القديم. “إن التفسير الأكثر ترجيحًا، وإن كان مروعًا، هو أن ضربة الخنجر كانت قوية للغاية، بحيث شق بطن الملك بالكامل وخرج من فتحة الشرج (راجع النسخة المُنقّحة، خرج من الخلف). غالبًا ما تترك مثل هذه التفاصيل الدرامية انطباعًا دائمًا في ذاكرة الإنسان.” كوندال (Cundall)
• إن البعض منزعج من عملية الاغتيال هذه؛ ولا ينبغي أن نعتبرها تأييدًا عامًا أو تفويضًا لأولئك الذين يريدون اغتيال الحُكام الذين يضطهدون شعب الله. ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأعمال لم تُقترح مطلقًا أو تُطرح حتى كقضية أثناء فترة اضطهادات الكنيسة المبكرة. “لم يوافق الله بالضرورة على الطريقة التي استخدمها إِهُود. ومن المهم أن نلاحظ أيضًا أن روح الرب لم ينزل على إِهُود، ولم يُوصَف أبدًا بأنه كان قاضي إسرائيل.” والف (Wolf)
• ومع ذلك، يسجّل الكتاب المقدس هذه الحادثة دون إعطاء موافقة محددة على عملية الاغتيال هذه. “إن التفاصيل العرضية مثل طول السلاح المُستخدم في عملية القتل وحقيقة سُمنة عِجْلُون (ذُكرت فقط لأن الخنجر كان مدفونًا بالكامل في جسده) تشهد على صحّة الوقائع التاريخية للحدث.” كوندال (Cundall)
٤. إِنَّهُ مُغَطّ رِجْلَيْهِ فِي مُخْدَعِ الْبُرُود (لَا بُدَّ أنَّهُ يَقْضي حَاجَتَهُ فِي حَمَّامِهِ الخَاصِّ-الترجمة العربية المبسطة): من دون أن نكون فَظّين، يمكننا أن نرى مدى واقعية الكتاب المقدس. فهو يصف الوظائف اليومية العادية، ولكن بطريقة محترمة.
• مُغَطّ رِجْلَيْهِ: هذه الكلمات تحمل تلطيف لغوي يتعلق بتصريف الفضلات. وقد جاءت أيضًا في ١ صموئيل ٣:٢٤. يفسر البعض هذه الآية بتردّد شديد: “لقد استلقى على أريكته لكي ينام؛ استعدادًا للنوم، كانوا يخلعون نعالهم ويرفعون أرجلهم ويغطّونها بثيابهم الطويلة الفضفاضة. لكن يبدو أن ترجمات عديدة فهمت أن الأمر كان يشير إلى فعل طبيعي معين.” كلارك (Clarke)
• الْمَنْحُوتَات المذكورة في قضاة ١٩:٣ و٢٦:٣ كانت على الأرجح “الحجارة التي نصبها يشوع تذكارًا لعبورهم نهر الأردن المعجزي (يشوع ١٩:٤-٢٤) وقد كانت بذلك معلمًا معروفًا.” كوندال (Cundall)
د ) الآيات (٢٧-٣٠): إِهُود يقود بني إسرائيل في المعركة ضد الموآبيين.
٢٧وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْبُوقِ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَنَزَلَ مَعْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْجَبَلِ وَهُوَ قُدَّامَهُمْ. ٢٨وَقَالَ لَهُمُ: «اتْبَعُونِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ الْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ». فَنَزَلُوا وَرَاءَهُ وَأَخَذُوا مَخَاوِضَ الأُرْدُنِّ إِلَى مُوآبَ، وَلَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يَعْبُرُ. ٢٩فَضَرَبُوا مِنْ مُوآبَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلاَفِ رَجُل، كُلَّ نَشِيطٍ، وَكُلَّ ذِي بَأْسٍ، وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ. ٣٠فَذَلَّ الْمُوآبِيُّونَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ يَدِ إِسْرَائِيلَ. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَةً.
١. وَهُوَ قُدَّامَهُمْ: على الرغم من دهاء وشجاعة إِهُود، إلا أنه لم يتمكن من القيام بالعمل بنفسه. كان من الضروري أن يلتف الرجال الشجعان والأمناء حوله. لقد قاد إِهُود، ولكن كان لا بد من أن يكون له أتباع.
• وبنفس الطريقة، يُعين الله القادة في الكنيسة، لكنهم لا يستطيعون القيام بالعمل بمفردهم. يحتاج الجسد إلى كل الأعضاء للعمل معًا.
٢. اتْبَعُونِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَع: طلب إِهُود من بني إسرائيل أن يتبعوه لأنه كان القائد، ولكنه شجعهم أيضًا على النظر بإيمان إلى الرب (لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ الْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ).
• ومثل أي قائد حقيقي، قال إِهُود ’اتْبَعُونِي.‘ لا يمكن للقائد أن يتوقع من أتباعه أن يذهبوا إلى حيث لن يذهب أو لم يذهب. “يشبه هذا كلام القائد. لم يطلب قيصر من جنوده أن يتقدموا بدونه، بل قال لهم: تعالوا معي، وسأقودكم، لن تذهبوا إلى أبعد من المكان الذي سأقودكم إليه. كان هانيبال من أوائل من يخوضون القتال وآخر من يغادر ساحة المعركة.” تراب (Trapp)
٣. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَة: إن ذكاء إِهُود وشجاعته، إلى جانب دعم إسرائيل الثابت لقائدها، جلبا أطول فترة من الحرية لإسرائيل خلال عصر القضاة التي دامت ٤٠٠ عام. يعتبر إِهُود مثالاً قويًا على كيف يمكن لرجل واحد أن يُحدث فرقًا في الرب، وكيف يدعو الله آخرين للعمل مع ذلك الرجل.
رابعًا. القاضي الثالث: شَمْجَر
أ ) الآية (٣١أ): قصة شَمْجَر المختصرة.
٣١وَكَانَ بَعْدَهُ شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ…
١. شَمْجَرُ بْنُ عَنَاة: شَمْجَر هو أحد الأفراد الستة الذين نسميهم ’القُضاة الصِغار،‘ لأنه لم يُكتب الكثير عنهم. ومع ذلك، فإن العمل الذي قاموا به من أجل الله كان بنفس أهمية عمل أي شخص آخر في أيامهم.
ب) الآية (٣١ب): إنجاز شَمْجَر العظيم.
٣١… فَضَرَبَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ سِتَّ مِئَةِ رَجُل بِمِنْسَاسِ الْبَقَرِ. وَهُوَ أَيْضًا خَلَّصَ إِسْرَائِيلَ.
١. فَضَرَبَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ سِتَّ مِئَةِ رَجُل: كان شَمْجَر رجلًا ذا إنجازات عظيمة، ولكن هناك آية واحدة فقط تصف عمله. من المحتمل أنه لم يُقال الكثير عن شَمْجَر لأن قصته كانت معروفة جيدًا.
• “إن شُح المعلومات الواضح قد يشير إلى وجود شيء غير عادي في شَمْجَر؛ ربما لم يكن قاضيًا وفقًا للنمط المعتاد، بل مجرد محارب نفّذ ضربة شجاعة واحدة ضد أمة أصبحت فيما بعد المضطهِد الرئيسي لإسرائيل.” كوندال (Cundall)
٢. بِمِنْسَاسِ الْبَقَر: إن شَمْجَر مثال ممتاز لخدمة الله. لقد استخدم بكل بساطة ما وضعه الله في يده، وفي حالته هذه استخدم مِنْسَاسِ (مِنْخَسِ) البَقَر.
• كان مِنْسَاسِ (مِنْخَسِ) البَقَر عبارة عن عصا يبلغ طولها حوالي ٨ أقدام (حوالي ٢.٥ متر)، وحوالي ٦ بوصات في نهايتها. كان أحد طرفي منخس البقر مدببًا (لنَكَز أو دَفع البقر)، وكان الطرف الآخر مثل الإزميل (لكشط المحراث وتنظيفه من الأوساخ).
• “لابد أن تكون هذه الأداة، في يد رجل قوي ماهر، أكثر خطورة وأكثر فتكًا من أي سيف.” كلارك (Clarke)
٣. وَهُوَ أَيْضًا خَلَّصَ إِسْرَائِيل: لم يكن هناك شيء مذهل في مِنْسَاسِ البَقَر. لكن الله يستطيع أن يستخدم، ويريد أن يستخدم، كل ما هو في أيدينا. كان شَمْجَر مجرد عامل يؤدي دوره؛ ولكنه استخدم ما في يده بأمر الله وخلص شعب الله من أعدائهم.
• كان شَمْجَر مِثل موسى وعصاه أو داود ومقلاعه. يستخدم الله أشياء بسيطة لإنجاز أشياء عظيمة.