سفر التكوين – الإصحاح ٤
قايين وهابيل
أولًا. جريمة قتل قايين لهابيل
أ ) الآية (١): ولادة قايين.
١وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ ٱمْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ».
- وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ ٱمْرَأَتَهُ: هذا هو أوَّل ذكرٍ مُحدَّد للجنس في الكتاب المقدَّس. فالكلمة عَرَفَ أو ‘يعرف’ هي تبسيطٌ لطيف ولائق للممارسة الجنسيَّة، وتُستخدَم غالبًا في الكتاب المقدَّس بهذا المعنى (تكوين ١٧:٤، ٢٥:٤، ٢٦:٣٨؛ قضاة ٣٩:١١؛ ١ صموئيل ١٩:١).
- إنَّها طريقةٌ قويَّة لوصف الجنس. إنَّها تُظهر المصطلحات السامية بين الأشخاص التي يرى الكتاب المقدس من خلالها العلاقة الجنسيَّة. معظم المصطلحات والعبارات التي يستخدمها الناس للجنس اليوم هي إمَّا خشنة أو عنيفة، لكنَّ الكتاب المقدَّس يرى الجنس كوسيلةٍ لمعرفة بعضنا البعض ضمن علاقة مُلتزمة. كلمة عَرَفَ تُشير إلى فعلٍ يُساهم في رباط الوحدة وتقوية علاقة الجسد الواحد.
- ليس لدينا سبب للاعتقاد بأنَّ آدم وحوَّاء لم يمارسا الجنس قبل هذا. كان آدم وحوَّاء بالتأكيد قادِرَين على إقامة علاقات جنسيَّة قبل السقوط، لأنَّه لا يوجد شيء نجس أو غير طاهر بطبيعته في الجنس نفسه، فقط في إساءة استخدامه.
- فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ: إنَّ اسم قَايِينَ يعني في الأساس، لقد حصلت عليه أو ها هو. من المحتمَل أنَّ حوَّاء اعتقدت أنَّ قايين هو النسل الَّذي وعد به الله، المنقذ الَّذي سيأتي منها (تكوين ١٥:٣). هناك منطقٌ فيما قالته حوَّاء، ‘ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ.’
- في ظلِّ الظروف العاديَّة، يريد الآباء أمورًا صالحة لأبنائهم. يتساءلون ما إذا كان أولادهم مُقدَّرًا لهم الرفعة والعظمة. كان لدى آدم، وخاصَّة حوَّاء، هذه التَّوقُّعات بالنسبة إلى قايين، لكنَّها ذهبت إلى أبعد من آمال الوالدَين العاديَّين وتوقُّعاتهما. توقَّع آدم وحوَّاء أن يكون قايين هو المسيَّا الَّذي وعد به الله.
- ظنَّت حوَّاء أنَّها حملت بين ذراعيها المسيح مُخلِّص العالم كلِّه، لكنَّها حملت حقًّا بين ذراعيها قاتلًا.
- ٱقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ: كانت حوَّاء تؤمن بأنَّ الطفل الصغير الَّذي تحمله سيصبح رجلًا. ما من طفلٍ ولِدَ قبلًا أبدًا. من المحتمل أنَّ آدم وحوَّاء تساءلا عمَّا إذا كان نسلهما سيخرج ناضجًا تمامًا، كما حصل معَهُما.
ب) الآيات (٢-٥): ولادة هابيل وتقدمتَا قايين وهابيل.
٢ ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي ٱلْأَرْضِ.٣ وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ ٱلْأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، ٤ وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، ٥ وَلَكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَٱغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ.
- وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي ٱلْأَرْضِ: كانت الزراعة وتدجين الحيوانات تُمارَس بين البشر الأوائل. لم يقضِ آدم ونسله عشرات الآلاف من السنين في العيش كصيَّادين في الكهوف.
- وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ ٱلْأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ: يمكننا أن نستنتج أنَّ قايين جاء بقربانه إلى شجرة الحياة لأنَّ الكروبيم كان يحرس الطريق إلى شجرة الحياة (تكوين ٣: ٢٤)، والكروبيم كملائكة هُم دائمًا مرتبطون بمكان الاجتماع بالله (خروج ٢٥: ١٠-٢٢). من الممكن أن يكون قايين وهابيل وآخرون لاحقًا قد التقوا بالله حيث شجرة الحياة موجودة، والكروبيم يحرسون الوصول إلى الشجرة ويمنعون أيًّا كان من أكل ثمرها.
- فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلَكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ: قدَّم هابيل تقدمة دمٍ (بكر ماشيته) وقايين قدَّم تقدمةً نباتيَّة (من أثمار الأرض). يفترض الكثيرون أن هذا هو الفرق بين تقدماتهم، فتقدمة الحبوب كانت مقبولة أمام الله (كما نرى في لاويِّين ٢)، وإن لم تكن كفَّارة عن الخطيَّة.
- “إنَّ الكلمة للتقدمة، minchah، تُستخدَم بمعنًى عريض، لتغطية أيَّ نوعٍ من الهديَّة يمكن أن يُقدِّمها الإنسان … لم يتمَّ تقديم أيَّةٍ من الذبيحتَين خصِّيصًا للخطيَّة. لا شيء في السجلِّ يشير إلى هذا الاتِّجاه” ليوبولد (Leupold)
- إنَّ الكاتب إلى العبرانيِّين شرح بوضوحٍ لماذا كانت تقدمة هابيل مقبولة وتقدمة قايين مرفوضة: بِٱلْإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ. فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ (عبرانيِّين ١١: ٤). كانت تقدمة قايين نتاج جهدِ ديانةٍ ميِّتة، بينما كانت تقدمة هابيل مبنيَّة على الإيمان، وذلك الشوق الرَّامي لعبادة الله بالروح وبالحقِّ.
- وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا: هذا يدلُّ على أنَّ تقدمة هابيل كانت جدًّا مُميَّزة. تمَّ تقدير دهن أو شحم الحيوان على أنه ‘فخمٌ’ وكان يجب أن يُعطى لله عند التضحية بالحيوان بالذبيحة (لاويِّين ٣: ١٦-١٧ و٧: ٢٣-٢٥). إنَّ حرق الدهون في الذبيحة أمام الله يُعتبَر كرائحة سرور … وَيُوقِدُ ٱلشَّحْمَ لِرَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ (لاويِّين ١٧: ٦).
- كانت تقدمة قايين بلا شكٍّ أكثر إمتاعًا من الناحية الجماليَّة؛ كانت تقدمة هابيل في حالة من الفوضى الدمويَّة. لكنَّ الله كان مُهتمًّا بالإيمان القلبيّ أكثر من اهتمامه بالجمال الفنيّ.
- هنا، كان يوجد حملٌ واحدٌ لرجلٍ واحد. فيما بعد، في عيد الفصح، سيكون هناك حملٌ من أجل العائلة. ثمَّ، في يوم التَّكفير، سيكون هناك حملٌ لأجل مجتمعٍ بأكمله. أخيرًا، مع يسوع، كان هناك حملٌ يرفع خطايا كلِّ العالَم (يوحنَّا ١: ٢٩).
- فَنَظَرَ … لَمْ يَنْظُرْ: نحن لا نعرف على وجه التَّحديد كيف عرف قايين وهابيل أنَّ تضحيَتَيهما كانتا مقبولتَين أو غير مقبولتَين. على ما يبدو، كان هناك بعض الأدلَّة الخارجيَّة التي توضِّح ذلك.
- توجد أمثلة كتابيَّة على ذبيحة مقبولة التهمتها نارٌ من الله (قضاة ٦: ٢١؛ ١ ملوك ١٨: ٣٨؛ ١ أخبار الأيَّام ٢١: ٢٦؛ ٢ أخبار الأيَّام ٧: ١). ربَّما إذا كانت الذبيحة مقبولة، مُقدَّمة إلى الكروبيم حارسيّ شجرة الحياة، تُلتهَم بالنار الآتية من السَّماء أو من سيف الكروبيم الملتهب (تكوين ٣: ٢٤).
- فَٱغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ: كان غضب قايين بلا شكٍّ متجِّذرًا في الكبرياء. لم يستطِع احتمال أنَّ تقدمة أخيه كانت مقبولة أمام الله أمَّا هو فلا. من الممكن أيضًا أنَّ هذا كان معروفًا لدى العامَّة أنَّه إذا التهمت نار الله التقدمة أو الذبيحة فهذا يعني قبولها.
- سرعان ما أصبح وباء الخطيَّة سيِّئًا. لقد ارتكب قايين الآن خطايا نسبيًّا معقَّدة كالكبرياء الروحيّ والمرائيات.
ج) الآيات (٦-٧): تحذير الله لقايين.
٦ فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا ٱغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ ٧ إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلَا رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ ٱلْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ ٱشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا».
- لِمَاذَا ٱغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟: تعامل الله مع قايين بلُغَّة المواجهة المحِبَّة بدلًا من التَّأكيد التّلقائيّ. أوضح الله أنَّ قايين سيُقبَل إذا أحسن صنيعًا.
- بالطبع، عرف الله الأجوبة عن الأسئلة التي سألها، لكنَّه أراد أن يعرف قايين ويقاوم الانجذاب نحو العنف والغضب الداخليّ.
- وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ ٱلْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ: حذَّر الله قايين من قوَّة الخطيَّة المدمِّرة. يمكن لقايين أن يقاوم الخطيَّة ويجد البركة، أو يمكن أن يستسلم للخطيَّة ويُلتَهَم.
- وَإِلَيْكَ ٱشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا: نحن نستطيع أن نمنع الخطيَّة من السيطرة علينا بسماحنا لله أن يُسيطر عليها أوَّلًا. بدون الله سيِّدنا، سنكون عبيدًا للخطيَّة.
د ) الآية (٨): قايين يقتل هابيل.
٨ وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي ٱلْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ.
- وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ: المعنى هو أنَّ قايين خطَّط للإيقاع بأخيه هابيل فجائيًّا وتهدئتهِ بمحادثة مُمتعة. هذا يدلُّ على أنَّ قايين اقترف جريمةً عن سابق تصوُّرٍ وتصميم، وبذلك تجاهل بوضوح طريق الله للهروب.
- قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ: لم يمُت أو يُقتَل أيُّ إنسان من قبل، لكنَّ قايين رأى كيف تُقتل الحيوانات من أجل التقدمات والذبائح. لقد أزهقَ وأطفأ حياة هابيل بنفس الطريقة.
- إنَّ المنحى الإنحداريّ للخطيَّة في وسط الجنس البشريّ اليانع تقدَّم بشكلٍ سريع. الآن، فالمخلِّص المرجوّ وُجِد قاتلًا، وكان الابن الثَّاني ضحيَّة القتل العمد. لم تتوقَّف الخطيَّة من جذورها أو تحسَّنت الحالة الأخلاقيَّة للإنسان بسرعة. لا يمكن احتواء الخطيَّة.
ثانيًا. الله يواجه قايين
أ ) الآية (٩): الله يُسائل قايين.
٩ فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لَا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟».
- أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟: علم الله الجواب عن هذا السؤال. سأل قايين لأنَّه أراد أن يمنحه الفرصة للاعتراف بخطيَّته والبدء في فعل الصواب بعد ارتكاب الخطأ.
- كم كان من العبث أن يكذب قايين على الله! كان من الجنون أن يعتقد أنَّ الله لا يعرف مكان هابيل، أو أنَّه يستطيع إخفاء خطيَّته عن الله.
- أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟: إنَّ ردَّ قايين مشهور. في حقيقة الأمر إنَّه كان من المفترَض أن يكون حارسًا لأخيه، لكنَّه كان بدلًا من ذلك قاتل أخيه، وقتله لأتفه الأسباب. هابيل لم يجرح أو يؤذِ قايين بأيِّ شكلٍ من الأشكال. كان غضب قايين القاتل مُستوحًى بحتةً من الغيرة الروحيَّة.
- صُدم سبيرجن (Spurgeon) من الطريقة التي ردَّ بها قايين على الله: “إنَّ وقاحة قايين الباردة هي مؤشِّر على حالة القلب التي قادته إلى قتل أخيه؛ وكانت أيضًا جزءًا من نتيجة ارتكابه لتلك الجريمة الفظيعة. لم يكن ليشرع في العمل القاسي المتمثل في إراقة الدماء إذا لم يتخلَّص أوَّلًا من مخافة الله وكان مُستعدًّا لتحدِّي خالقه.”
- يُحذِّر يهوذا ١١ من طريق قايين، الَّذي هو عدم الإيمان والديانة الباطلة المؤدِّية إلى الغيرة واضطهاد أولئك الأتقياء بالحقِّ والغضب القاتل.
- لا توجد لعنة على الأرض أعظم من الديانة الفارغة والباطلة؛ أولئك الَّذين لَهُمْ صُورَةُ ٱلتَّقْوَى، وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا (٢ تيموثاوس ٥:٣). يخشى الكثيرون من النزعة الإنسانيَّة العلمانيَّة أو الإلحاد، أمَّا الديانة الميِّتة فسترسل الكثيرين من الناس إلى الجحيم أكثر من أيِّ شيءٍ آخَر.
ب) الآيات (١٠-١٢): لعنة الله على قايين.
١٠ فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلْأَرْضِ .١١ فَٱلْآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. ١٢ مَتَى عَمِلْتَ ٱلْأَرْضَ لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي ٱلْأَرْضِ».
- صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلْأَرْضِ: تكرَّرت لاحقًا فكرة صراخ الدم إلى الله من الأرض في الكتاب المقدَّس. يشرح عدد ٢٩:٣٥-٣٤ كيف أنَّ دم القتلة غير المعاقَبين يُنجِّس الأرض.
- تكلَّم دم هابيل وتكلَّم عن الدينونة. كذلك أيضًا دم يسوع يتكلَّم لكن عن أمورٍ أفضل، عن النعمة وعن دينونة الخطيَّة (عبرانيِّين ٢٤:١٢).
- فَٱلْآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ ٱلْأَرْضِ: كانت اللَّعنة على قايين أنَّ لعنة آدم ستُلقى عليه مضاعفةً. فإذا كان العمل في الأرض لإنتاج الطَّعام شاقًّا بالنسبة إلى آدم (تكوين ١٧:٣-١٨)، فسيكون هذا مستحيلًا لقايين (الَّذي كان مزارعًا). إذا طُرِد آدم من جنَّة عدن (تكوين٢٤:٣)، فلَن يجد قايين مكانًا للراحة في كلِّ الأرض (تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي ٱلْأَرْضِ).
ج) الآيات (١٣-١٥): يتذمَّر قايين على قساوة دينونة الله.
١٣ فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ.١٤ إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي ٱلْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي ٱلْأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي».١٥ فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: «لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ.
- ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ: لم يشعر قايين بالسوء حيال خطيَّته بل فقط حيال عقوبته. هذا الموقف لم ينتهِ مع قايين؛ فكثيرون من الناس مثلَهُ يشعرون بالسوء حيال عقابهم، وليس خطيَّتهم.
- “من أوضح علامات الخطيَّة رغبتنا الفطريَّة في إعفاء أنفسنا والتَّذمُّر إذا حُكِم علينا بأيِّ شكلٍ من الأشكال” بويس (Boice)
- “واحدةٌ من عواقب الخطيَّة أنَّها تجعل الخاطئ يُشفِق على نفسه بدل أن تدفعه إلى العودة إلى الله. من أولى علامات الحياة الجديدة أنَّ الفرد يقف إلى جانب الله ضدَّ نفسه” بارنهاوس (Barnhouse)
- لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ: بقدر أهميَّة دينونة الله على قايين، لم يكن الله يريد أن يُقتَل قايين على يد الآخرين. ذلك ربَّما بسبب أنَّ عدد السكَّان في الأرض كان ما زال مُنخفضًا وغير مستقرٍّ في كلِّ الأحوال.
- وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً: لذلك، وضع الله لقايين علامة تعريفٍ وحماية. على الرغم من تكهُّنات البعض، لا أحد يعرف حقًا ماهيَّة هذه العلامة على قايين.
ثالثًا. قايين ونسله
أ ) الآيات (١٦-١٧): قايين يبتعد ويتزوَّج.
١٦ فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ ٱلرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ. ١٧ وَعَرَفَ قَايِينُ ٱمْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ كَٱسْمِ ٱبْنِهِ حَنُوكَ.
- وَعَرَفَ قَايِينُ ٱمْرَأَتَهُ: يقول تكوين ٤:٥ أنَّه كان لآدم بنون وبنات آخرون. من الواضح أنَّ قايين تزَّوج بأُخته. على الرغم من أنَّ الزواج من الأخت كان مخالفًا لقانون الله بحسب لاويِّين ٩:١٨، ١١:١٨، ١٧:٢٠، وتثنية ٢٢:٢٧ (الَّذي يمنع حتَّى الزواج من أُختٍ غير شقيقة)، كان هذا قبل أن تكلَّم الله مع موسى والعالَم بوقتٍ طويل.
- هنا، حتَّمت الضَّرورة بأن يتزوَّج أبناء آدم من أخواتهم. وعند هذه النقطة، كانت مجموعة الجينات البشريَّة نقيَّة بما يكفي للسماح بالزواج الوثيق دون الضرر النَّاتج عن زواج القربى. ولكن كما أنَّ الجدول الَّذي ينساب بعيدًا عن المصدَر معرَّضٌ للتَّلوُّث كلَّما ابتعد، هكذا أيضًا أتى وقتٌ نهى فيه الله عن الزواج بين الأقارب بسبب خطر هذا الضرر بالذات.
- حتَّى إبراهيم تزوَّج بأخته غير الشقيقة سارة (تكوين ١٢:٢٠). لم يمنع الله مثل هذه الزيجات حتَّى عهد موسى (لاويِّين ٩:١٨). لم يكن زواج الأخ أو الأخت ممنوعًا حتَّى منعه الله.
- وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً: هنا نرى بداية الصناعة والتحضُّر. منذ هذه البداية، كان هذا يتمحور حول الإنسان بقوَّة (فَدَعَا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ كَٱسْمِ ٱبْنِهِ)، وليس حول الله. استمرَّ سقوط الجنس البشريّ بل وحتَّى ازداد.
ب) الآيات (١٨-٢٢): الأجيال بعد قايين.
١٨وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ. وَعِيرَادُ وَلَدَ مَحُويَائِيلَ. وَمَحُويَائِيلُ وَلَدَ مَتُوشَائِيلَ. وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لَامَكَ .١٩ وَٱتَّخَذَ لَامَكُ لِنَفْسِهِ ٱمْرَأَتَيْنِ: ٱسْمُ ٱلْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَٱسْمُ ٱلْأُخْرَى صِلَّةُ .٢٠ فَوَلَدَتْ عَادَةُ يَابَالَ ٱلَّذِي كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي ٱلْخِيَامِ وَرُعَاةِ ٱلْمَوَاشِي .٢١ وَٱسْمُ أَخِيهِ يُوبَالُ ٱلَّذِي كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِٱلْعُودِ وَٱلْمِزْمَارِ. ٢٢ وَصِلَّةُ أَيْضًا وَلَدَتْ تُوبَالَ قَايِينَ ٱلضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ. وَأُخْتُ تُوبَالَ قَايِينَ نَعْمَةُ.
- وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ: هذه الصورة توحي بتطوُّرٍ سريع. فالأجيال المتلاحقة بدأت سريعًا بالتَّقدُّم في مجالاتٍ مثل بناء مدينة (تكوين ١٧:٤) وبناء البيوت (أَبًا لِسَاكِنِي ٱلْخِيَامِ) وامتهان الموسيقى والفنون (أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِٱلْعُودِ وَٱلْمِزْمَارِ) والحدادة (ٱلضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ).
- إنَّ فكرة البشريَّة التي تطوَّرت فعلًا بسرعة تتحدَّى النظريَّات المعاصرة، لكنَّ علم الآثار لا يمكنه التَّقييم إلَّا على أساس ما تمَّ حفظهُ، من أجل ذلك هو تخمينيٌّ بعض الشيء.
- وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لَامَكَ: إنَّ اسمَ لَامَكَ قد يعني، الغالِب أو الفاتح أو الظَّافر. كان السَّابع من آدم من جهَّة قايين. كبرياء لَامَكَ (تكوين ٢٣:٤-٢٤) هو مناقضٌ لأخنوخ، السَّابع من آدم من جهَّة شيث (يهوذا ١٤).
- وَٱتَّخَذَ لَامَكُ لِنَفْسِهِ ٱمْرَأَتَيْنِ: كان لَامَكَ أوَّل مضارٍ في التَّاريخ (رجلٌ متزوِّج من امرأتين)، في تحدٍّ لخطَّة الله الأصليَّة لرجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدة يصبحان جسدًا واحدًا (تكوين٢٤:٢؛ متَّى ٤:١٩-٨). تُظهِر أسماء زوجاته وابنته توجُّهات قلبه: عَادَةُ تعني، ‘المتعة أو الزخرفة أو الجمال.’ صِلَّةُ تعني، ‘الظل’ ربَّما في إشارةٍ إلى غطاءٍ فاخر للشعر. كان اسم ابنته الأخرى نَعْمَةُ، التي تعني، ‘سحر المحبَّة.’ كانت ثقافة لامك مُلتزمة بالجمال الجسديّ والخارجيّ.
ج) الآيات (٢٣-٢٤): تفاخر لَامَكَ المتكبر.
٢٣ وَقَالَ لَامَكُ لِٱمْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: «ٱسْمَعَا قَوْلِي يَا ٱمْرَأَتَيْ لَامَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلَامِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي .٢٤ إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلَامَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ».
- فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا لِجُرْحِي: إنَّ الطريقة التي تفاخر فيها لامك بقتله شخصًا آخر، والطريقة التي كان يَعتقِد أنَّه يمكن أن يُعِدَّ بواسطتها عقابًا أعظم من الله، يُظهر الانحطاط التدريجيّ بين البشريَّة. سرعان ما ساءت الأمور مع الجنس البشريّ، إنَّه تقويضٌ حقيقيّ.
- إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلَامَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ: هذا كلُّه تمثيلٌ للإنسانيَّة، منظورٌ محوره الإنسان. كانت المدينة مدينة قايين؛ كان تركيز لامك على زوجاته الجميلات ونظرته لقوَّته الذَّاتيَّة. لكن بالرغم من كلِّ هذا التَّفاخر، لا هو ولا ذريَّته يُسمع عنهم أبدًا مرَّةً أُخرى في الكتاب المقدَّس. أصبحوا لا شيء.
د ) الآيات (٢٥-٢٦): ولِد شيت لآدم وحوَّاء.
٢٥ وَعَرَفَ آدَمُ ٱمْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ٱبْنًا وَدَعَتِ ٱسْمَهُ شِيثًا، قَائِلَةً: «لِأَنَّ ٱللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلًا آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ». لِأَنَّ قَايِينَ كَانَ قَدْ قَتَلَهُ. ٢٦ وَلِشِيثَ أَيْضًا وُلِدَ ٱبْنٌ فَدَعَا ٱسْمَهُ أَنُوشَ. حِينَئِذٍ ٱبْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ.
- وَعَرَفَ آدَمُ ٱمْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ٱبْنًا: كان لآدم وحواء العديد من الأولاد الَّذين لم يتمّ ذكر أسمائهم على وجه التَّحديد في سجل الكتاب المقدَّس، لكن شيث كان يستحقُّ الذكر لأنَّه حلَّ مكان هابيل بمعنًى ما وكان له الوعد بالمنقذ الآتي من نسل المرأة (تكوين ١٥:٣).
- حِينَئِذٍ ٱبْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ: حتَّى في تلك الأيَّام الشرِّيرة، كانت عبادة الله معروفة. أسمى البعض تكوين ٢٦:٤ النهضة الأولى، ذلك لأنَّها كانت الإشارة الأولى لانبعاثٍ روحيّ بعد تهاوٍ واضح.