إشعياء ٢٩
العمى الروحي وعلاجه
أولًا. المحنة القادمة على أورشليم
أ ) الآيات (١- ٤): الرب يذل أورشليم المتكبّرة.
١وَيْلٌ لأَرِيئِيلَ، لأَرِيئِيلَ قَرْيَةٍ نَزَلَ عَلَيْهَا دَاوُدُ. زِيدُوا سَنَةً عَلَى سَنَةٍ. لِتَدُرِ الأَعْيَادُ. ٢وَأَنَا أُضَايِقُ أَرِيئِيلَ فَيَكُونُ نَوْحٌ وَحَزَنٌ، وَتَكُونُ لِي كَأَرِيئِيلَ. ٣وَأُحِيطُ بِكِ كَالدَّائِرَةِ، وَأُضَايِقُ عَلَيْكِ بِحِصْنٍ، وَأُقِيمُ عَلَيْكِ مَتَارِسَ. ٤فَتَتَّضِعِينَ وَتَتَكَلَّمِينَ مِنَ الأَرْضِ، وَيَنْخَفِضُ قَوْلُكِ مِنَ التُّرَابِ، وَيَكُونُ صَوْتُكِ كَخَيَال مِنَ الأَرْضِ، وَيُشَقْشَقُ قَوْلُكِ مِنَ التُّرَابِ.
١. وَيْلٌ لِأَرِيئِيلَ: يعني أَرِيئِيلَ ’أسد الله.‘ وهو يُستخدم هنا كإشارة رمزية إلى أورشليم التي سكنها داود (نَزَلَ عَلَيْهَا دَاوُدُ). وهذا هو الموضع الوحيد الذي يشار فيه إلى أورشليم بهذا الاسم. وتظهر هذه الكلمة مرة أخرى في العهد القديم كاسم لكاهن (عزرا ٨: ١٦).
• هنالك بعض الخلاف حول ما إذا كانت كلمة أَرِيئِيل تعني ’مذبحًا للحرق.‘ فهنالك كلمة مشابهة جدًّا لها بالعبرية (تُستخدم في نصوص مثل حزقيال ٤٣: ١٥-١٦). فإذا فُهمتْ على أنها مذبح للحرق، فإن الفكرة هي أن “القتال وسفك الدماء في أورشليم سيجعلها كمكان ضخم للذبائح.” وولف (Wolf). ولكن في ضوء السياق ككل، إنه أفضل لنا أن نأخذها بمعناها الحرفي، أسد الله.
• عندما نضع في اعتبارنا الطريقة التي تُستخدم بها كلمة أَرِيئِيل في هذه الآيات وفي السياق ككل، فإن الفكرة وراء تسمية أورشليم ’أسد الله‘ ربما تكون للسخرية. فتكرار الاسم (أربع مرات في آيتين) في سياق دينونة الله لأورشليم يوحي بفكرة أن أورشليم ظنت نفسها أسد الله، لكن الله نفسه لم يشاركها هذا الرأي. وربما اعتاد أهلها تسمية أنفسهم أسد الله تعبيرًا عن الثقة وتعزيزًا لها.
٢. زِيدُوا سَنَةً عَلَى سَنَةٍ. لِتَدُرِ ٱلْأَعْيَادُ: الشعور في إشعياء ٢٩: ١ هو أن أورشليم متكبرة (أَرِيئِيل)، مستندة إلى ميراثها الروحي بدلًا من واقعها الحالي (المدينة التي نزل فيها داود)، وأسلوب حياتها من أجل الملذات الحالية من دون الالتفات إلى الله.
٣. وَأَنَا أُضَايِقُ (سأبتلي) أَرِيئِيلَ: قد يكون لأورشليم هذا الرأي السامي في نفسها، لكنها ليست بعيدة عن دينونة الله. فبدلًا من روتين السنة والأعياد، سيرسل الله ثِقلًا وحزنًا. فإن كانت أورشليم ترى في نفسها أسدًا، فسيحاربها الله بنفس الغضب الذي سيواجهه إنسان ضد أسد (وَتَكُونُ لِي كَأَرِيئِيلَ).
٤. وَأُحِيطُ بِكِ… فَتَتَّضِعِينَ: يستخدم الله صورًا حربية كانت معتادة في ذلك الزمن، ويَعِد بأن يحارب أورشليم ويقهرها (فَتَتَّضِعِينَ).
٥. فَتَتَّضِعِينَ: في كل هذا، سيحط الرب من صورة أورشليم لنفسها. وبدلًا من أن تدعو نفسها أسد الله، أو المكان الذي سكن فيه داود، ستتحدث بذُلٍّ وكأن كلامها يأتي من التراب. وبدلًا من التباهي بصوت عالٍ، سيكون كلامها همسًا (تَتَكَلَّمِينَ مِنَ ٱلْأَرْضِ، وَيَنْخَفِضُ قَوْلُكِ مِنَ ٱلتُّرَابِ).
ب) الآيات (٥-٨): الرب يحمي وينقذ أورشليم المتواضعة.
٥وَيَصِيرُ جُمْهُورُ أَعْدَائِكِ كَالْغُبَارِ الدَّقِيقِ، وَجُمْهُورُ الْعُتَاةِ كَالْعُصَافَةِ الْمَارَّةِ. وَيَكُونُ ذلِكَ فِي لَحْظَةٍ بَغْتَةً، ٦مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْجُنُودِ تُفْتَقَدُ بِرَعْدٍ وَزَلْزَلَةٍ وَصَوْتٍ عَظِيمٍ، بِزَوْبَعَةٍ وَعَاصِفٍ وَلَهِيبِ نَارٍ آكِلَةٍ. ٧وَيَكُونُ كَحُلْمٍ، كَرُؤْيَا اللَّيْلِ جُمْهُورُ كُلِّ الأُمَمِ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَى أَرِيئِيلَ، كُلُّ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَيْهَا وَعَلَى قِلاَعِهَا وَالَّذِينَ يُضَايِقُونَهَا. ٨وَيَكُونُ كَمَا يَحْلُمُ الْجَائِعُ أَنَّهُ يَأْكُلُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَإِذَا نَفْسُهُ فَارِغَةٌ. وَكَمَا يَحْلُمُ الْعَطْشَانُ أَنَّهُ يَشْرَبُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ وَإِذَا هُوَ رَازِحٌ وَنَفْسُهُ مُشْتَهِيَةٌ. هكَذَا يَكُونُ جُمْهُورُ كُلِّ الأُمَمِ الْمُتَجَنِّدِينَ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ.
١. وَيَصِيرُ جُمْهُورُ أَعْدَائِكِ كَٱلْغُبَارِ ٱلدَّقِيقِ: كانت الصورة الختامية في الآيات السابقة هي لأورشليم وهي تتمرغ في التراب. والآن، يستخدم الرب صورة أخرى منبثقة من فكرة التراب، حيث سيتناثر أعداء أورشليم كالغبار. سيضع الله أورشليم في التراب. وبعد ذلك، سيشتت أعداءها كالغبار، وكَٱلْعُصَافَةِ ٱلْمَارَّةِ.
٢. تُفتقد (تعاقَب): يبدو أن هذا الكلام موجه للشعوب التي تأتي على إسرائيل. وسيسمح الرب لها بأن تهاجم إسرائيل وتذلها، لكنه سيعاقب تلك الشعوب التي هاجمت مدينته.
٣. وَيَكُونُ كَمَا يَحْلُمُ ٱلْجَائِعُ أَنَّهُ يَأْكُلُ: لأن الرب سيحمي أورشليم، فإن محاولات الشعوب ضدها ستُحبط في النهاية. وستكون مثل رجل يحلم بالطعام، لكنه يصحو جائعًا. إنهم يحلمون بالتحقيق، ولن يتم التحقيق.
ثانيًا. عمى أورشليم الروحي
أ ) الآيات (٩-١٠): سُبات أورشليم الروحي
٩تَوَانَوْا وَابْهَتُوا. تَلَذَّذُوا وَاعْمَوْا. قَدْ سَكِرُوا وَلَيْسَ مِنَ الْخَمْرِ. تَرَنَّحُوا وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْكِرِ. ١٠لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَكَبَ عَلَيْكُمْ رُوحَ سُبَاتٍ وَأَغْمَضَ عُيُونَكُمُ. الأَنْبِيَاءُ وَرُؤَسَاؤُكُمُ النَّاظِرُونَ غَطَّاهُمْ.
١. تَوَانَوْا وَٱبْهَتُوا. تَلَذَّذُوا وَٱعْمَوْا: أعمت إسرائيلَ كبرياؤها (كما عبّر عنها النص في إشعياء ٢٩: ١)، وجعلتها عمياء وسكرانة روحيًّا. ويطلب الرب منها أن تتوقف وتتعجب من هذا، حيث فعلتْ هذا بنفسها بسبب افتقارها إلى الوعي الذاتي لرؤية حالتها.
٢. قَدْ سَكِرُوا وَلَيْسَ مِنَ ٱلْخَمْرِ: لم تكن هذه بركة من روح الرب. بل كانت لعنة، سواء أكانت مِن صُنعها أم أنها مرسلة من الرب. ويرد هذا بقوة على الذين يروّجون خطأ اليوم لفكرة مباركة الله لشعبه “بالسُّكْر بالروح.” فليست هذه بركة.
٣. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَكَبَ عَلَيْكُمْ: اختارت إسرائيل العمى الروحي والسُّكر الروحي. ولهذا أرسل الله إليها شيئًا – سَكَبَ عَلَيْكُمْ رُوحَ سُبَاتٍ. وكما ينام السكارى، كذلك يرسل الله إلى أورشليم العمياء المتكبرة السكرانة حالة خمول وهشاشة نوم روحي. غير أنه يمكن للسكير أن يصحو ويصبح متزنًا بعد النوم. لكن بالنسبة لهؤلاء السكارى روحيًّا، فإن النوم يفاقم حالتهم.
• أثناء نومنا لا نفعل شيئًا منتجًا، بل نكون قابلين للجرح، وغير حساسين. وقد أرسل الله هذه الأمور إلى أورشليم العمياء المتكبرة السكرانة.
• لم تنتهِ مشكلة النوم الروحي مع أورشليم في زمن إشعياء. فقد كتب بولس رومية ١٣: ١١ إلى مؤمنين بالمسيح: “هَذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ ٱلْوَقْتَ، أَنَّهَا ٱلْآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ ٱلنَّوْمِ، فَإِنَّ خَلَاصَنَا ٱلْآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا.” يحتاج المؤمنون بالمسيح أن يستيقظوا لأنهم عارفين الوقت.
٢. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَكَبَ عَلَيْكُمْ: اختارت إسرائيل العمى والسُّكْر الروحيين، ولهذ أخذ الله منها شيئًا – أخذ عينيها الروحيتين، أي الأنبياء. وكما يعاني السكير من تشويش في الرؤية وضعف الإدراك، كذلك أغمض الله عيني الأُمّة الروحيتين، أي الأنبياء.
• صمت الأنبياء، وأُهملت كلمة الله، لأن الشعب أراد الأمر هكذا. وفي إسكات الأنبياء والرّائين، أعطى الله إسرائيل مُرادها.
• تحدَّث النبي عاموس عن الفكرة نفسها: “هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، أُرْسِلُ جُوعًا فِي ٱلْأَرْضِ، لَا جُوعًا لِلْخُبْزِ، وَلَا عَطَشًا لِلْمَاءِ، بَلْ لِٱسْتِمَاعِ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ. فَيَجُولُونَ مِنْ بَحْرٍ إِلَى بَحْرٍ، وَمِنَ ٱلشِّمَالِ إِلَى ٱلْمَشْرِقِ، يَتَطَوَّحُونَ لِيَطْلُبُوا كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ فَلَا يَجِدُونَهَا” (عاموس ٨: ١١-١٢).
ب) الآيات (١١-١٢): الأُمّيّة الروحية لأورشليم
١١وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا الْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ السِّفْرِ الْمَخْتُومِ الَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ الْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: «لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ». ١٢أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».
١. ٱلسِّفْرِ ٱلْمَخْتُومِ ٱلَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ ٱلْكِتَابَةِ: سبق أن شبه إشعياء قادة أورشليم وأهلها بالعمي والسُّكْر. وهو الآن يشبّههم بشخص أُمّيّ. لكن لم تكن هذه أُمّيّة حرفية، لأن الرجل عارف القراءة والكتابة تلقّى رؤيا من الله، لكنه كان بالنسبة له كتابًا مختومًا. وعندما أُحضِر كتاب الرؤيا إلى مَنْ لَا يَعْرِفُ ٱلْكِتَابَةَ، لم يُبْلِ بلاء أفضل من سابقه. (فَيَقُولُ: لَا أَعْرِفُ ٱلْكِتَابَةَ).
٢. ٱقْرَأْ هَذَا: يقرأ أو يتلقّى كثيرون كلمة الله كما يقرأ شخص أمّيّ الجريدة. إذ يستطيعون أن يلتقطوا كلمات هنا وهناك. ويستطيعون أن يشاهدوا الصور. ويمكنهم أن يجلسوا مع جريدة مفتوحة، ويتمتعون بوقتهم وهم يَظهرون وكأنهم يقرؤون. لكن لا تأثير للمضمون الحقيقي لما هو مكتوب فيهم.
ج) الآيات (١٣-١٦): يرسل الرب عمىً روحيًّا على إسرائيل.
١٣فَقَالَ السَّيِّدُ: «لأَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي، وَصَارَتْ مَخَافَتُهُمْ مِنِّي وَصِيَّةَ النَّاسِ مُعَلَّمَةً. ١٤لِذلِكَ هأَنَذَا أَعُودُ أَصْنَعُ بِهذَا الشَّعْبِ عَجَبًا وَعَجِيبًا، فَتَبِيدُ حِكْمَةُ حُكَمَائِهِ، وَيَخْتَفِي فَهْمُ فُهَمَائِهِ». ١٥وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَتَعَمَّقُونَ لِيَكْتُمُوا رَأْيَهُمْ عَنِ الرَّبِّ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُولُونَ: «مَنْ يُبْصِرُنَا وَمَنْ يَعْرِفُنَا؟». ١٦يَا لَتَحْرِيفِكُمْ! هَلْ يُحْسَبُ الْجَابِلُ كَالطِّينِ، حَتَّى يَقُولُ الْمَصْنُوعُ عَنْ صَانِعِهِ: «لَمْ يَصْنَعْنِي». أَوْ تَقُولُ الْجُبْلَةُ عَنْ جَابِلِهَا: «لَمْ يَفْهَمْ»؟
١. لِأَنَّ هَذَا ٱلشَّعْبَ قَدِ ٱقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي: عرف قادة أورشليم وأهلها كيف يتكلمون كلامًا روحيًّا، لكن قلوبهم كانت بعيدة عن الله. ولا يمكنك أن تميز قلب المرء مما يقوله أو حتى ما يفعله. فرغم أن الله يعرف القلب حقًّا، فإنّ أقرب ما يمكننا الوصول إليه هو من خلال النظر إلى حياتهم كلها، وليس فقط ما يقوله ويفعله، ولاسيما كيفية ردود فعلهم في الكنيسة بين المؤمنين.
• قال يسوع: “مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ” (متى ١٢: ٣٤). وهذا مبدأ صحيح، لكنه ليس مطلقًا، لأن الناس يقتربون إلى الله بأفواههم ويكرمونه بشفاههم، بينما تبقى قلوبهم بعيدة عنه. وبطبيعة الحال، فإن كلامهم يفضحهم في وقت أو آخر، لكن ربما لا يفضحهم في الكنيسة أبدًا.
• لم ينتهِ هذا الأسلوب، أسلوب الكلام من اللسان بعيدًا عن القلب في زمن إشعياء. فقد اقتبس يسوع هذا النص من إشعياء عندما وبّخ القادة الدينيين في يومه على ريائهم (متى ١٥: ٧-٩؛ مرقس ٧: ٦-٧). ولم ينتهِ هذا الأسلوب في زمن يسوع أيضًا.
• يخبرنا الله كيف أن قلوبهم ابتعدت عنه (وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي). فلم يبتعد الله عن شعبه، بل هم الذين أبعدوا قلبهم عنه.
٢. وَصَارَتْ مَخَافَتُهُمْ مِنِّي وَصِيَّةَ ٱلنَّاسِ مُعَلَّمَةً: لم يكن لدى أهل أورشليم أية مخافة تجاه الرب في أنفسهم. فكانوا يؤمَرون بأن يخافوه من آخرين. فلم تتجاوب قلوبهم مع الرب، لكن مع بشر مثلهم فقط.
٣. فَتَبِيدُ حِكْمَةُ حُكَمَائِهِ: لأن كبرياء أورشليم قادتها إلى العمى والنوم والسُّكْر والنفاق والأمية الروحية، فسيقضي الله على هؤلاء الحكماء. فقد روّج حكماؤهم للكبرياء التي أدت إلى هذه الشرور.
• يسمّي إشعياء هذا عَجَبًا وَعَجِيبًا… أن يرفض الله حكمة الإنسان ويُظهر حكمته. وقد ذُهل بولس لما يسمّى حكمة الإنسان وكيفية مقارنتها مع ما كان يُعتقَد أنه ’حماقة الله.‘ (١ كورنثوس ١: ٢١-٢٥).
٤. مَنْ يُبْصِرُنَا: اعتقد أهل أورشليم المتكبرون في حكمتهم الزائفة أنه بإمكانهم أن يخفوا أفكارهم وأعمالهم عن الرب (لِيَكْتُمُوا رَأْيَهُمْ عَنِ ٱلرَّبِّ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلظُّلْمَةِ).
٥. يَا لَتَحْرِيفِكُمْ (قلبتم الحقيقة): ظن أهل أورشليم أنه بإمكانهم أن يختبئوا من الرب، وأنهم فهموه تمامًا! فأخبرهم الله هنا أنهم قد قلبوا حقيقة الأمور. فالله هو الذي فهمهم تمامًا، وأنهم لا يعرفون الله على الإطلاق.
٦. هَلْ يُحْسَبُ ٱلْجَابِلُ كَٱلطِّينِ: ارتكب أهل أورشليم خطأ فادحًا في رفع أنفسهم وإنزال الله في نفس الوقت. فبالنسبة لهم، كان الإناء الخزفي (المصنوع) بنفس ذكاء الفخّاري وقوّته.
٧. حَتَّى يَقُولُ ٱلْمَصْنُوعُ عَنْ صَانِعِهِ: «لَمْ يَصْنَعْنِي»: وبالفعل، يقول الإنسان هذا الأمر بالضبط اليوم. فهو ينظر إلى الله، خالقنا ويقول: «لَمْ يَصْنَعْنِي». وهذا بالنسبة للرب وللنبي كلام سخيف، لكنه صار عِلْمًا عاليًا اليوم.
٨. أَوْ تَقُولُ ٱلْجُبْلَةُ عَنْ جَابِلِهَا: «لَمْ يَفْهَمْ»: وبالفعل، يقول الإنسان هذا الأمر بالضبط اليوم. فبدلًا من أن يرى الإنسان الحاجة إلى مصمم عاقل خلق كل شيء، يعتقد كثيرون أن الصدفة – الصدفة المحضة، والعمياء، والعشوائية، هي التي أوجدت كل الأشياء في هذا الكون.
• قد يقع بعض الأذكياء في هذا الوهم. كتب جاك مونود (Jacques Monod)، عالم الأحياء الحيوية: “الصدفة وحدها هي مصدر كل ابتكار وكل خليقة في المحيط الحيوي. الصدفة المحضة حرة تمامًا، لكنها عمياء، وهي في جذور هذا الصرح الهائل للتطور.”
• لكن نسبة هذه القوة إلى الصدفة أمر لا معنى له. فلا توجد للصدفة أية قوة. فعلى سبيل المثال، عندما تقذف عملة معدنية في الهواء، فإن سقوطها على أحد جانبيها، الصورة أو الكتابة، هو ٥٠%. غير أن الصدفة لا تجعل العملة المعدنية هذه تستقر على هذا الجانب المعيّن أو ذاك. إذ يعتمد سقوطها واستقرارها على أيٍّ من الجانبين على القوة التي تُقذَف بها، وعلى قوة التيارات الهوائية وضغط الهواء أثناء تحليقها، ومكان سقوطها ونوعية الأرضية التي تهبط عليها. فالصدفة لا تفعل شيئًا، بل تصف الاحتمال.
• قبل سنوات كثيرة، قدّم عالم اسمه كارل ساجان (Carl Sagan) التماسًا للحكومة الأمريكية للحصول على منحة لتمويل البحث عن حياة ذكية في الفضاء الخارجي. كان يأمل أن يجد أدلة على الحياة هناك باستخدام أداة فائقة الحساسية لالتقاط إشارات لاسلكية من الفضاء الخارجي. وعندما تلقّى إشارات، بحث عن نظام ونمط فيها يدلّان على أنها تُنقَل من كائنات عاقلة. وبنفس الطريقة، فإن نظام ونمط الكون كله يبرهن على أنه تم تشكيله من خلال حياة ذكية لا عن طريق الصدفة. ويتحرّى العلماء الصدفة في الإشارات اللاسلكية باستمرار (في شكل ثابت بلا نمط)، لكن هذا لا يخبرهم شيئًا.
• فعندما يقول أحدهم إن الكون، أو أن أي شيء آخر، جاء بالصدفة، فإنه ربما يقول إنه، رغم خبرته أو مهاراته في مجالات أخرى، فإنه جاهل في هذا الموضوع وأنه ميّال إلى الاعتقاد بالخرافات في تفسيره، أو أنه ببساطة يكرر نظرية مهترئة قُدِّمت ودُحِضت من قبل، ومع هذا تُقبَل من دون تفكير.
٩. لَمْ يَصْنَعْنِي: ينبغي أن نتذكر أن سياق الإصحاح كله هو كبرياء أورشليم العمياء. ولعل ذروة كبرياء الإنسان تتمثل في رفضه للرب كخالق له.
ثالثًا. وعد بالاسترداد
أ ) الآيات (١٧-٢١): بصر للعميان روحيًّا، وعدالة للأشرار
١٧أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَانًا، وَالْبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْرًا؟ ١٨وَيَسْمَعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ، ١٩وَيَزْدَادُ الْبَائِسُونَ فَرَحًا بِالرَّبِّ، وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ النَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ. ٢٠لأَنَّ الْعَاتِيَ قَدْ بَادَ، وَفَنِيَ الْمُسْتَهْزِئُ، وَانْقَطَعَ كُلُّ السَّاهِرِينَ عَلَى الإِثْمِ ٢١الَّذِينَ جَعَلُوا الإِنْسَانَ يُخْطِئُ بِكَلِمَةٍ، وَنَصَبُوا فَخًّا لِلْمُنْصِفِ فِي الْبَابِ، وَصَدُّوا الْبَارَّ بِالْبُطْلِ.
١. أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا: سيأتي استرداد الله. ومع أخذ كل الأمور في الاعتبار، فإنه سيأتي قريبًا جدًّا (فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا). قد يبدو لنا هذا في وسط الأزمة وقتًا طويلًا، لكن ما تقوله كلمة الله صحيح.
٢. يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَانًا، وَٱلْبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْرًا: لبنان معروف منذ القديم بغاباته العظيمة. وستُنزَل وتتحول بستانًا. ومن جهة أخرى، سيصبح البستان المثمر كغابة. ويقطع الله بستانًا ويقيم آخر.
• “كان هذا قولًا مأثورًا يعبّر عن أية ثورة عظيمة في الأمور. وفي ما يتعلق بموضوعين، فإنه يعبّر عن التغيير المتبادل الكامل بينهما.” كلارك (Clarke)
٣. وَيَسْمَعُ … ٱلصُّمُّ أَقْوَالَ ٱلسِّفْرِ، وَتَنْظُرُ … عُيُونُ ٱلْعُمْيِ: عندما يُسترَد شعب الله، لن توجد كبرياء لتمنعهم من الاستماع إلى كلمة الله أو رؤية عمله. فكما أن هذه معجزات في المجال الطبيعي، كذلك هي معجزات في المجال الروحي أيضًا. وينبغي أن نتواضع ونطلب من الله آذانًا لنسمع بها وعيونًا لنرى بها.
٤. وَيَزْدَادُ ٱلْبَائِسُونَ فَرَحًا بِٱلرَّبِّ: هذا الفرح هو مكافأة المتواضعين. وعندما نكون متواضعين، يكون لدينا تقدير دقيق لأنفسنا، ومنظور ملائم لأنفسنا في ما يتعلق بالله والآخرين. وستمتلئ حياتنا بأكبر قدر من الفرح.
• للمتواضعين والمساكين فرحهم في الرب، وهو مصدر فرحهم الثابت الذي لا يمكن أن يُنزَع منهم.
• الكبرياء عدو للفرح. يمكننا أن نكون متكبرين ونتمتع بوقتنا. ويمكننا أن نكون متكبرين ونتمتع بالنجاح. ويمكننا أن نكون متكبرين ونختبر الإثارة. ويمكننا أن نكون متكبرين ونكون سعيدين بسبب ظروف سعيدة. لكن لا يمكننا أن نكون متكبرين ونتمتع بفرح في الرب. ومهما كانت درجة كبريائنا، فإننا نفوّت فرح الرب. فلا يمكن للمتكبرين أن يفرحوا في الرب على الإطلاق إذا كانوا في ظروف متواضعة وسيئة.
٥. لِأَنَّ ٱلْعَاتِيَ قَدْ بَادَ: لا يتوقف عمل الرب في استرداد شعبه الذي قوّمه. بل يمتد إلى تحقيق العدالة بالنسبة للأشرار. وقد خصَّ النبيّ بالدينونة أولئك الذين ليس لديهم إحساس بالعدالة، وٱلَّذِينَ جَعَلُوا ٱلْإِنْسَانَ يُخْطِئُ بِكَلِمَةٍ، وَنَصَبُوا فَخًّا لِلْمُنْصِفِ فِي ٱلْبَابِ، وَصَدُّوا ٱلْبَارَّ بِٱلْبُطْلِ.
ب) الآيات (٢٢-٢٤): استرداد شعب الله
٢٢لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ الرَّبُّ الَّذِي فَدَى إِبْرَاهِيمَ: «لَيْسَ الآنَ يَخْجَلُ يَعْقُوبُ، وَلَيْسَ الآنَ يَصْفَارُّ وَجْهُهُ. ٢٣بَلْ عِنْدَ رُؤْيَةِ أَوْلاَدِهِ عَمَلِ يَدَيَّ فِي وَسَطِهِ يُقَدِّسُونَ اسْمِي، وَيُقَدِّسُونَ قُدُّوسَ يَعْقُوبَ، وَيَرْهَبُونَ إِلهَ إِسْرَائِيلَ. ٢٤وَيَعْرِفُ الضَّالُّو الأَرْوَاحِ فَهْمًا، وَيَتَعَلَّمُ الْمُتَمَرِّدُونَ تَعْلِيمًا.
١. لَيْسَ ٱلْآنَ يَخْجَلُ يَعْقُوبُ: إنه لأمر ذو دلالة أن الله يخاطب شعبه باسم يعقوب في وعد الاسترداد. ولا يمثل اسم يعقوب المعطى لأب الأسباط الإثني عشر مجاملة. بل يحمل فكرة ’الشخص المحتال‘ أو المخادع. إذ ينبغي لكل شخص مثل يعقوب أن يخجل من نفسه. لكن عندما يسترد الله شعبه، لن يخجل ’اليعاقبة‘ – كل شخص مثل يعقوب.
٢. بَلْ عِنْدَ رُؤْيَةِ أَوْلَادِهِ عَمَلِ يَدَيَّ فِي وَسَطِهِ يُقَدِّسُونَ ٱسْمِي: الفكرة هنا هي لصورة الأب يعقوب وهو ينظر إلى نسله غير خجِل بهم، لأنهم الآن يقدّسون الرب ويعرفون قداسته.
٣. وَيَعْرِفُ ٱلضَّالُّو ٱلْأَرْوَاحِ فَهْمًا، وَيَتَعَلَّمُ ٱلْمُتَمَرِّدُونَ تَعْلِيمًا: وأخيرًا، في يوم استرداد الله لشعبه، سيعلَّم الحق، ويعُرَف، ويعظَّم. أما الذين ضلّت أرواحهم، صار لديهم الآن فَهْم، والذين كانوا يتذمرون صاروا الآن يعرفون الحق.
• يقول هذا الإصحاح الكثير عن العمى الروحي.
الكبرياء هي سبب العمى الروحي.
العمى الروحي يذلنا.
يقود العمى الروحي إلى السُّكر الروحي.
يقود العمى الروحي إلى النوم الروحي.
يقود العمى الروحي إلى الأمّيّة الروحية.
يتسبب العمى الروحي في النفاق.
يجعل العمى الروحي الناس يعتقدون أن الله لا يعرف ما يفكرون فيه أو يفعلونه.
يجعل العمى الروحي الناس ينكرون الله كخالق.
يُشفى العمى الروحي بالتواضع.
لا يمكن شفاء العمى الروحي إلا من خلال استرداد الرب.