إشعياء ٥٣
آلام المسيّا الكفارية وانتصاره
“يتنبّا هذا الإصحاح بآلام المسيّا، والغاية التي سيموت من أجلها، والفوائد الناتجة عن هذا الحدث الشهير للجنس البشري. ويتضمن هذا الإصحاح أكثر العقائد المسيحية فرادة وتميُّزًا.” آدم كلارك (Adam Clarke)
أولًا. الآلام الكفارية لعبد الرب
أ ) الآيات (١-٣): كيف نظر الإنسان إلى آلام المسيّا.
١مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ ٢نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. ٣مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ.
١. مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا: من الناحية النبوية، يتوقع إشعياء أمرين على الأقل هنا. أولًا، يتوقع مدى الغرابة والتناقض الذي سيبدو عليه المسيّا المتألّم الذي تَشَوَّه منظره أكثر من أي إنسان، والذي هو في الوقت نفسه خلاص وتطهير للأمم. ثانيًا، يتوقع رفض المسيّا حتى أن كثيرين لن يصدّقوا خبرنا.
٢. وَلِمَنِ ٱسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ ٱلرَّبِّ؟ في هذا السياق من آلام المسيّا وعذابه، يبدو أن هذا الخط ليس كما ينبغي أو أنه ليس في مكانه. وذراع الرب صورة لقدرته وقوته وجبروته. غير أننا سنرى مسيًّا ضعيفًا متألمًا. لكن هذا سيعبّر عن قدرة الله وقوته وجبروته في وسط آلام المسيا بادي الضعف.
٣. نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ: عندما ترعرع يسوع “كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللهِ وَٱلنَّاسِ” (لوقا ٢: ٥٢). لكن طوال هذا الوقت، كان نبتة طرية (كفرخ) بادية الضعف وعدم الأهمية، لا كشجرة جبّارة.
• النبتة الطرية (الفرخ) ضعيفة وقابلة للجرح ما لم تكن قدّامه، أي قدام الرب. ففي حضرة الله، فإن ما يبدو ضعيفًا قوي. فإن كانت النبتة الطرية قدامه، فلا يهم إن كانت الأرض يابسة. إذ سيدعمها ويغذّيها بحضوره.
٤. وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ: نشأ يسوع في منطقة الجليل في فلسطين المحتلة من الرومان. وفي ما يتعلق بالأمور الروحية والسياسية ومستوى المعيشة، كانت أرضًا يابسة بالفعل. ويستطيع الله أن يخرج أروع الأشياء من الأرض اليابسة.
• “لا تقل: ’لا فائدة من الكرازة هناك، أو من إرسال مرسلين إلى ذلك البلد غير المتحضّر.‘ فكيف تعرف؟ هل هي أرض يابسة جدًّا؟ إنها أرض مفعمة بالأمل. فالمسيح ’فرخُ من أرض يابسة.‘ وكلما كان هنالك ما يدعو إلى إحباطك، ينبغي أن تتشجع. انظر إلى المسألة من زاوية أخرى. هل هو مكان مظلم؟ عندئذٍ يكون ملائمًا لعرض فخم للنور. فالنور لا يكون أكثر سطوعًا إلا عندما يكون الظلام شديدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ: من ناحية نبوية، يعطى إشعياء وصفًا أقوى ليسوع مما نجده في روايات الإنجيل. لم يكن يسوع رجلًا ذا جمال لافت للنظر أو جاذبية جسمية غير عادية. ولا يعني هذا أنه كان بشعًا. لكن هذا يعني أنه لم تكن لديه ميزة الوسامة الخارقة.
• يعني هذا أنه عندما نريد أن نجذب الناس إلى يسوع من خلال الوسامة أو الجمال الخارجي، فإننا نستخدم أساليب تتعارض مع طبيعة يسوع. “يَظهر في هذه الأيام أنه لا بد لنا أن نجمّل رسالة الإنجيل لجعلها جذابة، فنضطر إلى استخدام أساليب ذكية، وحسنة العرض، ومقْنِعة. فلا بد أن يكون هنالك شيء حول تقديم رسالة الإنجيل يجذب الناس، ويقنع ’العقل الحديث.‘ وأتساءل إن كنا نتوقف لنفكر في أن جهودنا جعل رسالة الإنجيل ’جذابة‘ قد تضع ستارة على وجه يسوع في إذلاله. فالشخص الوحيد الذي يمكن أن يجعلها جذابة هو الروح القدس.” ريدباث (Redpath)
٦. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ: لم يكن يسوع رجلًا ’يبث الحياة والمرح في الحفلات.‘ وسيكون من الخطأ أن ننظر إليه أيضًا كشخص حزين طوال الوقت. ففي واقع الأمر، أظهر فرحًا عظيمًا (كما في لوقا ١٠: ٢١). غير أنه عرف الحزن والأسى عن قُرب لدرجة أنه دُعي رَجُلَ أَوْجَاعٍ. وقد جعله هذا، من بين أسباب أخرى، محتقرًا ومرفوضًا من الناس.
• معظم حزننا في واقع الأمر مجرد شفقة على الذات. إنه شعور بالأسف على نفوسنا. ولم يحس يسوع يومًا بالشفقة على نفسه. فكان حزنه من أجل الآخرين، والساقطين، وحالة البشر اليائسة.
• “كان رجل أوجاع (أحزان) أيضًا، بسبب تنوع مصائبه. لم يكن رجل حزن فقط، بل رجل أحزان أيضًا. إذ كانت آلام الجسد والنفس كلها معروفة له. إنها أحزان الرجل الذي يجاهد بنشاط ليطيع. إنها أحزان الرجل الذي يجلس ساكنًا ويحتمل بشكل سلبي. إنها أحزان الإنسان الرفيع الذي عرفه، لأنه كان ملك إسرائيل. وكانت أحزان الرجل المسكين الذي عرفه لأنه ’لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.‘ إنها أحزان نسبية، وأحزان شخصية، وأحزان فكرية، وأحزان روحية. لقد هاجمته أحزان من كل نوع ودرجة. وأفرغت المحن جعبتها عليه، جاعلة قلبه هدفًا لكل الويلات التي يمكن تصوُّرها.” سبيرجن (Spurgeon)
• أحد متطلبات القادة في الكنيسة، حسب ١ تيموثاوس، أن يكون صاحين أو يقظي الفكر. ويعني هذا أن مثل هذا القائد قادر على التفكير بوضوح وسلاسة. فهو لا يمزح دائمًا، بل يعرف كيف يتعامل مع الموضوعات الجادة بطريقة جادة. ولا يعني هذا أن يكون كئيبًا أو نكدًا، بل أن يكون جادًّا بشكل ملائم.
٧. وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ: نظرًا لأنه لم يكن هنالك شيء جميل أو جذاب جدًّا ظاهريًّا حول المسيح، كان رد فعل الناس هو الانسحاب منه، واحتقاره، والتقدير المتدني له. ويبيّن هذا أن البشر يثمنون الجمال والجاذبية الخارجية أكثر مما يفعل الله. وعندما لا نفهم ذلك، فإننا يمكن أن نرفض ما يقبله الله.
ب) الآيات (٤-٦): عبد الرب يحمل خطيتنا.
٤لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. ٥وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. ٦كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا.
١. لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا: عند هذه النقطة، لا يفكر النبيّ في الطريقة التي حمل بها المسيا ذنبنا وغضب الله عليه. فهو يرى كيف أن المسيا حمل إثمنا على نفسه، فجعل أسانا أساه وأحزاننا كأنها أحزانه. والصورة هي أنه رفعها وحملها على ظهره لئلا نضطر إلى حملها بأنفسنا.
• كم شخص يحمل يسوع الأوجاع والحزن عنه! لقد أخذها عنا. لكن لكي يعود هذا علينا بالفائدة، يتوجب علينا أن نتركها له.
٢. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ ٱللهِ وَمَذْلُولًا: من الغريب أن هذا الحسبان أو التقدير دقيق. فمن المؤكد أنه ضُرب من الله، وأنه ابتُلي. لم تكن المشكلة تكمن في رؤية هذه الأشياء، بل في رؤية هذه الأشياء فقط. فقد رأى الإنسان معاناة يسوع، لكنه لم يفهم السبب وراءها.
٣. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ: نعم، لقد أصيب المسيّا، وضُرب من الله، وابتُلي. لكن النبي يشرح الآن السبب. لقد كان من أجل معاصينا وآثامنا. فقد تألم المسيّا من أجلنا.
• كلمة ’مَجْرُوح‘ هنا هي حرفيًّا ’مثقوب.‘
٤. وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا: هنا يرى النبي عبر القرون أن المسيّا سيُضرَب جلدات كثيرة (مرقس ١٥: ١٥). وأكثر من ذلك، يعلن النبي أن التدبير للعلاج موجود في آلام يسوع (وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا).
• يدور جدل كثير حول ما إذا كان إشعياء يفكر في الشفاء الجسدي أم الروحي. وعندما يُقتبس هذا النص في العهد الجديد، نرى المزيد عن هذه الفكرة. ويبدو أن متى ٨: ١٦-١٧ تضع في اعتبارها الشفاء الجسدي، بينما نرى في ١ بطرس ٢: ٢٤-٢٥ أن الرسول يضع في اعتباره الشفاء الروحي. ويمكننا أن نقول بأمان إن الله يضع في اعتباره جانبي الشفاء. إذ يتم شفاؤنا الجسدي والروحي من خلال آلام يسوع.
• غير أن بعضهم رأى أن هذا يعني أن لكل مؤمن الحق – الوعد – بالتمتع بصحة مثالية في الوقت الحالي، وإذا كان لديه افتقار إلى الإيمان، فإن هذا يعني أنه لم يطالب بهذا الوعد بإيمان. ويرتكز هذا التفكير على الفعل الماضي في ’بجلدته شُفينا.‘ والفكرة هي أنها نظرًا لأن الفعل جاء في صيغة الماضي، فإن الصحة الكاملة هي وعد وتدبير لكل مؤمن في هذه اللحظة، كما أن لدى المؤمن الوعد بالغفران الكامل والخلاص في هذه اللحظة.
• تكمن المشكلة في هذا الرأي – بعيدًا عن أنه يتعارض بشكل كبير مع خبرات القديسين الشخصية في الكتاب المقدس وعبر التاريخ – في أنه يسيء فهم صيغة الماضي لكل من الخلاص والشفاء. ويمكننا القول من دون أي تحفظ أن الشفاء الكامل والتام والكلي هو وعد الله لكل مؤمن بيسوع المسيح، حيث دُفع ثمنه بجلدات يسوع وكل عمله من أجلنا. لكن يتوجب علينا أن نقول أيضًا إنه ليس وعدًا لكل مؤمن الآن، كما أننا لم نوعَد بكلية خلاصنا الآن. إذ يقول الكتاب المقدّس إننا خُلِّصنا (أفسس ٢: ٨)، وأننا في طور الخلاص، أي أننا نُخَلَّص الآن (١ كورنثوس ١: ٨)، وأننا سنخّلَّص (١ كورنثوس ٣: ١٥). ومع ذلك، فإن هنالك معنى بموجبه أننا شُفينا، وأننا نُشفى، وأننا سنُشفى. ويُدعى شفاء الله النهائي ’القيامة.‘ وهو وعد مجيد لكل مؤمن. ويتوقع كل شفاء ’ترقيعي‘ أو جزئي في هذا الدهر الحالي الشفاء النهائي الآتي.
• ما لا يتوجب على المؤمنين أن يفعلوه هو أن ’يدّعوا‘ الشفاء بحماقة رغم وجود أعراض تقول عكس ذلك، معتقدين أنهم يرتكزون في ذلك على وعد إشعياء ٥٣: ٥. وما يتوجب عليهم أن يفعلوه هو أن يصلّوا بجسارة متكلين على صلاح الله ورحمته في إعطاء هبات الشفاء الآن، قبل الشفاء النهائي في القيامة.
• “’بحُبُره (بجلداته) شفينا.‘ هل لاحظتم هذه الحقيقة؟ لا يكمن شفاء الخاطئ في نفسه، أو في هويته، أو في ما يشعر به، أو في ما يفعله، أو في ما ينذره أو يعِد به. ليس في نفسه على الإطلاق. لكن هنالك في ’جبّاثا،‘ حيث الرصيف ملطخ بدم ابن الله. وهناك، في الجلجثة، حيث يشهد مكان الجماجم عذابات المسيح. إنه يكمن في جلداته (حُبُره). أتوسل إليك ألّا تجلد نفسك، لأنه ’بحُبُره شفينا.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٥. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ: يصف النبي هنا احتياجنا إلى عمل المسيح الكفاري. فالأغنام غبية وعنيدة. ونحن قد ضللنا مثلها. لقد انقلبنا على طريق الله، واختار كل واحد طريقه الخاص.
• لدى كل واحد طريق للخطية. والتجربة المستمرة إدانة لطريقك للخطية وتبرير لطريقي للخطية. لكن كل طريق هي طريقنا الخاص بدلًا من أن تكون طريق الرب. وهي طريقة آثمة، ومدمرة، وملعونة.
٦. وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا: نرى هنا الشراكة بين الآب والابن في العمل على الصليب. فإن كان المسيا قد جُرِح من أجل معاصينا، فإن الرب هو الذي وضع عليه إثمنا جميعًا. لقد دان الله إثمنا عندما وُضِع على الابن.
ج) الآيات (٧-٩): آلام عبد الرب وموته.
٧ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. ٨مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ ٩وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ.
١. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ: رغم آلام المسيح ومعاناته، إلا أنه لم يفتح فمه للدفاع عن نفسه. إذ كان صامتًا أمام متّهِميه (مرقس ١٥: ٢-٥). فكان كل ما قاله إنما قاله ليمجد الله.
٢. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ: يكرر النبي الفكرة السابقة أن المسيّا سيعاني من دون أن يشكو أو أن يتحدث دفاعًا عن نفسه. وعندما يستخدم إشعياء هذه العبارة، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، لا ينبغي أن نأخذ هذا على أن يسوع كان ضحية عاجزة للظروف، أو أنه كان بلا حول ولا قوة مثل شاة. بل على نقيض ذلك، كان يسوع مسيطرًا على الأمور حتى في آلامه وموته (يوحنا ١٠: ١٨؛ ١٩: ١١، ٣٠). فالفكرة التي أراد إشعياء إيصالها هي أن يسوع كان صامتًا، لا عاجزًا.
• “لو كان لي أن أموت من أجل أي واحد منكم، فماذا سيعني هذا إلا أني دفعت دين الطبيعة في وقت أقرب قليلًا مما كان عليّ أن أدفعه في نهاية الأمر؟ لأنه لا بد لنا جميعًا أن نموت. لكن المسيح لم يكن مضطرًّا إلى الموت على الإطلاق في ما يتعلق الأمر به شخصيًّا. فلم يكن هنالك سبب في نفسه أوجب عليه أن يذهب إلى الصليب ليضحي بنفسه. لقد سلّم نفسه ذبيحة طوعية عن خطايانا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ (الحبس) وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ (يعلن): لا يشير هذا إلى حبس المسيح قبل صلبه فحسب، لكنه يتحدث أيضًا عن حقيقة أن المسيّا مات بلا ذرية، فلم يكن هنالك شخص يعلن جيله.
٤. قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي: هذه أول إشارة في النص أن عبد الرب، أي المسيّا، سيموت. فحتى هذه النقطة، ربما ظننا أنه تعرّض لضرب مبرّح فحسب. لكن لا مجال للخطأ في فهم هذه النقطة لأنه قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأَحْيَاءِ.
• “يشير تعبير ’قُطِع‘ بقوة لا إلى موت عنيف مبكر فحسب، لكن إلى دينونة الله العادلة أيضًا، لا مجرد حُكْم تعسفي من البشر.” جروجان (Grogan)
• مرة أخرى، يبيّن هذا، من بين جوانب كثيرة من هذه النبوة، أن إشعياء لا يتكلم عن إسرائيل بصفتها العبد المتألم. فبقدر ما عانت إسرائيل عبر القرون، فإنها لم تُقطع من أرض الأحياء. لقد بقيت موجودة، تمامًا كما وعد الله إبراهيم.
• يؤكد النبي هذه النقطة مرارًا وتكرارًا. فعبد الرب، المسيّا، يتألم لا من أجل نفسه، بل من أجل معاصي شعبه.
٥. وَجُعِلَ مَعَ ٱلْأَشْرَارِ قَبْرُهُ: مات يسوع في صحبة أشرار (لوقا ٢٣: ٣٢ – ٣٣). وكان قصد المشرفين على إعدامه أن يلقوا به في قبر جماعي مع الأشرار.
٦. وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ: رغم أن آخرين نووا أن يجعلوا قبره مع الأشرار، إلا أن الله سمح للمسيح بأن يموت مع غني في موته. فدُفن في قبر يوسف الرامي الثري (لوقا ٢٣: ٥٠-٥٦؛ متى ٢٧: ٥٧-٦٠).
• القول إنه ’لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ‘ مهم. إذ يُظهر هذا أنه حتى في موته، عندما أخذ معاصي شعب الله على نفسه، فإنه لم يخطئ قط. لقد بقي القدوس رغم كل الألم والمعاناة. وإقرارًا بذلك، دُفن مع غني في موته. ومن المؤكد أنه سيقام.
ثانيًا. انتصار عبد الرب
أ ) الآيات (١٠-١١): اكتفاء المسيّا.
١٠أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. ١١مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا.
١. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحَزَنِ: يقول النبي بشكل مجيد وقاطع أن آلام عبد الرب كانت قضاء من الرب، بل كانت مسِرّة للرب.
• كان هذا عمل الله! لقد قضى أن يتألم ويحزن. فلم يكن يسوع ضحية للظروف أو تحت رحمة القوى السياسية أو العسكرية. إذ كان هذا عمل الرب الإله المخطط له والمرسوم الذي تنبّأ به إشعياء قبل مئات السنوات من حدوثه. فكان هذا انتصار الله، لا انتصار إبليس أو إنسان.
• وكما قال بولس في ٢ كورنثوس ٥: ١٩ “إِنَّ ٱللهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحًا ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ.” لقد عمل الآب والابن معًا على الصليب. رغم أن يسوع عومل كعدو لله، إلا أنه لم يكن كذلك. فحتى عندما عوقب يسوع كما لو أنه كان خاطئًا، كان يقدم أقدس خدمة لله على الإطلاق. ولهذا كان بمقدور إشعياء أن يقول: “أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحَزَنِ” (إشعياء ٥٣: ١٠.) لم تكن آلام الابن في حد ذاتها مُسِرّة للآب. لكن عندما أنجزت هذه الآلام عملية مصالحة العالم لنفسه، كانت مُسِرّة تمامًا لله الآب.
٢. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ: يتحدث النص العبري عن ذبيحة خطية محددة كما هو موصوف في سفر اللاويين ٥. ولا يمكن أن تُذكر فكرة الكفارة البديلية من أجل الخطية بوضوح أكبر من هذا.
• خشي يسوع صيرورته ذبيحة خطية أكثر من كل الآلام الجسمية التي سيتحملها. “تألّم ربي كما تتألم أنت، لكن بشدة أكبر، لأنه لم يجرح جسده أو نفسه بأي عمل متطرف لينزع حدّة حساسيته. لقد سكب نفسه في كل مراحل المعاناة التي يمكن أن تمر بها النفوس الكاملة. أحس برعب الخطية بطريقة لا يمكن لنا نحن الذين أخطأنا أن نحس بها. وأحس برعب الشر الذي ابتُلي به بقوة أكبر بكثير مما يمكن أن يحس به الأكثر نقاء بيننا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ: لا تنتهي القصة بتقديم ذبيحة المسيا وموته ودفنه. فهو ما زال حيًّا! فهو حي ليرى نسلًا، أبناءه الروحيين. وستطول أيامه، ولن يكون تحت لعنة الموت. والحياة التي يحياها بعد موته ودفنه مجيدة. إذ سيحيا حياته في ازدهار في مسرّة الرب.
٤. يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ: سينظر المسيّا إلى عمله – برؤية كاملة لمخاض نفسه – وفي النهاية سيرضى (يشبع). لن يندم على شيء. إذ سيكون كل جزء من آلامه وعذاباته يستحق العناء، وسيجلب نتيجة مُرْضية.
• كما قال مالتيبي بابكوك (Maltbie Babcock) في آخر بيتين من ترنيمته: “هذا عالم أبي. لم تنته المعركة بعد. وسيرضى (يشبع) يسوع. وستكون الأرض والسماء واحدة.
٥. وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا: “إن ما يجعلنا مبررين أمام الله هو معرفتنا بالمسيح في كل من هويته (وطبيعته) وما فعله.
ب) الآية (١٢): عمل المسيح ومكافأته.
١٢لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلْأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ.
١. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلْأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً: سيكافأ عمل المسيّا المجيد. ومع صورة تقسيم الغنيمة بعد معركة مظفَّرة، نرى أن المسيا ينتصر في نهاية الأمر.
• وصف بولس هذا الانتصار النهائي في فيلبي ٢: ١٠-١١ كالتالي: “لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلْآبِ.” وهذه مكافأة مجيدة.
• “إنها حقيقة غريبة سأصرّح بها. ولا تجعلها غرابتها أقل صدقًا. فحسب نصّنا، فإن أمجاد المسيح الرائعة كمخلّص قد اكتُسِبت جميعها من خلال ارتباطه بالخطية البشرية. لقد حصل على أعظم تألُّق له، وأكثر جواهره لمعانًا، وتيجانه الإلهية روعة بسبب ملامسته لهذا الجنس الساقط البائس.” سبيرجن (Spurgeon)
• وفي النهاية، فإن آلام يسوع وإذلاله تجلب له مزيدًا من المجد والجلالة! “أرى أن المسيح جلب ماسة المجد هذه من خلال خلاصنا من مكبّ الخطية هذا. فلو لم يكن هنالك خطاة، لما كان هنالك مخلّص. ولو لم تكن هنالك خطية، لما كان هنالك سكْب للنفس حتى الموت. ولو لم يكن هنالك سكب للنفس حتى الموت، لما كان هنالك اقتسام للغنيمة مع العظماء. ولو لم يكن هنالك أي ذنب، لما كان هنالك عمل تكفيري. وفي العمل الكفاري العجيب الذي قام بها بديلنا العظيم، تُعلن الذات الإلهية بشكل أمجد مما هي عليه في كل الخلائق والتدابير والرعاية والقوة والحكمة الإلهية.” سبيرجن (Spurgeon)
• مع من يقسم المسيّا غنيمة؟ مع الأقوياء، أولئك الأقوياء فيه. ويمكننا أن نشارك في غنيمة انتصار يسوع. “فَإِنْ كُنَّا أَوْلَادًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ ٱللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ” (رومية ٨: ١٧).
٢. مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ (حتى الموت) نَفْسَهُ: يتحدث هذا عن كلية ذبيحة يسوع على الصليب. ويعني ’سَكَبَ‘ أنه أعطى كل ما في نفسه. فلم يتبقَّ شيء، فلم يعد لديه ما يمكن أن يقدّمه.
• “’سَكَبَ لِلْمَوْتِ (حتى الموت) نَفْسَهُ.‘ لن أقول المزيد عن هذا باستثناء أنك ترى مدى اكتماله. لقد أعطى يسوع الخطاة المساكين كل شيء. أعطى كل ما في نفسه لهم، حتى آخر قطعة قماش تم تجريده منه على الصليب. لم يمنع أي جزء من جسده أو روحه من أن يكون ذبيحة. وكما سبق أن قلتُ، فإن آخر قطرة سُكبتْ إلى أن جفت الكأس. لم يحتفظ بأي احتياطي. لم يمنع أعمق أعماق نفسه. إذ سَكَبَ لِلْمَوْتِ (حتى الموت) نَفْسَهُ.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ: ما كان يمكن ليسوع أن يصبح خاطئًا، أو عاصيًا، أو آثمًا. لكنه طوعًا، وبدافع من محبته، أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. هل هنالك سجل تَفَقُّد يحتوى أسماء الأثمة؟ قال يسوع: “ضعوا اسمي بينهم.” سنصاب بالصدمة إذا نظرت امرأة تقية إلى قائمة البغايا وقالت: “ضعوا اسمي بينهن.” أو إذا نظر رجل تقي إلى قائمة القتلة وقال: “أُحصوني بينهم.” لكن هذا هو ما فعله يسوع من أجلنا، لكن بدرجة أكبر.
٤. وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ: يكرر النبي هذه النقطة مرارًا وتكرارًا. فعبد الرب، المسيا، يتألم من أجل الخطاة المذنبين وبدلًا عنهم.
٥. وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ: نعلم أن لدى يسوع في الوقت الحالي خدمة التشفع (عبرانيين ٧: ٢٥). لكن هذه الآية تتحدث عن التشفع في القديسين. وربما يشير هذا النص إلى صلاة يسوع على الصليب نفسه.
• يعني هذا أن عمل المسيّا صار متاحًا للأثمة. فعندما نرى أنفسنا أثمة، يمكننا أن نتطلع إليه ونقبل خلاصه.