إشعياء ٥٥
دعوة لقبول مجد استرداد الرب
أولًا. دعوة لقبول البركة
أ ) الآيات (١-٢): دعوة للتغذية بغنى.
١أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْرًا وَلَبَنًا. ٢لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟ اسْتَمِعُوا لِي اسْتِمَاعًا وَكُلُوا الطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ.
١. أَيُّهَا: ينادي النبي بصوت عالٍ وواضح على كل من يستطيع أن يسمعه. وهذا إعلان مهم، ولهذا يتم استهلاله بهذه الدعوة الفريدة.
• “هذه نغمة رسالة الإنجيل. هذه مناشدة قصيرة مهمة تحثك على أن تكون حكيمًا بما يكفي لتلبية اهتماماتك الخاصة. يا لَتنازُل الله، فكأنه يصبح متسولًا أمام خليقته وينحني من عظمة مجده لينادي ’أَيُّهَا‘ على أشخاص حمقى جاحدين.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَيُّهَا ٱلْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى ٱلْمِيَاهِ: إنها دعوة للجميع، وبالأخص أولئك العِطاش. فالعطاش هم الذين سيأتون إلى المياه. فإذا لم تكن عطشانًا لن يستطيع الرب أن يعطيك إياه، ولن تذهب إلى مياهه.
• ربما كان هذا النص من إشعياء في ذهن يسوع عندما نادى: “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ” (يوحنا ٧: ٣٧).
٣. وَٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا ٱشْتَرُوا وَكُلُوا: لا يحتاج العطاش الذين يلبّون دعوة الرب إلى أن يجلبوا مالًا معهم. فلن يفيدهم هذا في شيء. ويمكنهم أن يجلبوا ثقتهم وإيمانهم لينالوا ما لدى الرب ليعطيهم إياه.
٤. مياه… خمر… لبن: كل هذا بالمجّان. ليس الأمر أن دخول الحياة الأبدية هو بالمجّان، وبعد ذلك يتوجب علينا أن ندفع شيئًا مقابل التقدم في الحياة الأبدية. فكل هذا مجاني. فالنمو هبة نعمة، شأنه شأن الخلاص.
• “ليس مسموحًا لك أن تشرب ماء مجّانًا، ثم تشتري الخمر. ولست مدعوًّا لأن تأتي وتأكل الطيّبات، ثم تنفق تعبك على ما هو دسم. إن أغنى أصناف الطعام في بيت الله مجاني مثل الخبز الذي يعطيه للنفوس الجائعة.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟: في دعوة الله لشعبه، طلب منهم أن يسألوا أنفسهم: لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟ وهذا سؤال ذو صلة بشكل ملحوظ في ضوء كل الأشياء التي يمكننا أن نبذل وقتنا ومالنا وجهدنا – أشياء لا تُشبع بالطريقة التي يمكن للرب أن يُشبعنا بها.
٦. ٱسْتَمِعُوا لِي ٱسْتِمَاعًا وَكُلُوا ٱلطَّيِّبَ (ما هو حسن)، وَلْتَتَلَذَّذْ بِٱلدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ: الدعوة واضحة، والعرض مقدَّم، وتدبير الاحتياجات موفَّر، وكل شيء متاح – لكن يتوجب علينا أن نفعل بعض الأشياء.
• أولًا. يتوجب علينا أن نصغي باهتمام (ٱسْتَمِعُوا لِي ٱسْتِمَاعًا). سيفوّت أولئك الذين لا يستمعون والذين لا يصغون باهتمام الشبع الذي يَعِد به الله. ويستغرق الإصغاء وقتًا واهتمامًا وجهدًا. وبعضهم غير مستعد لهذا.
• ثانيًا. يتوجب علينا أن نأكل ما هو جيد (وَكُلُوا ٱلطَّيِّبَ). ويتطلب هذا بعض التمييز. إذ يتوجب أن نختار ما هو جيد، ثم نأكله. ويأكل كثيرون أية وجبة روحية معروضة أمامهم من دون التأكد من أنها جيدة فعلًا.
• ثالثًا. يتوجب أن نتمتع به كثيرًا (وَلْتَتَلَذَّذْ بِٱلدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ). فحتى عندما نصغي باهتمام، وحتى عندما نأكل ما هو جيد، ما زال يتعيّن علينا أن نترك نفوسنا تتلذذ بغنىً. إذ يمكنك أن تجلس لتتناول وجبة روحية عظيمة، لكنك لا تدع نفسك تتلذذ بها بسبب نظرة سيئة أو عنيدة.
ب) الآيات (٣-٥): دعوة إلى التغذّي بوفرة.
٣أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا، مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. ٤هُوَذَا قَدْ جَعَلْتُهُ شَارِعًا لِلشُّعُوبِ، رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ. ٥هَا أُمَّةٌ لاَ تَعْرِفُهَا تَدْعُوهَا، وَأُمَّةٌ لَمْ تَعْرِفْكَ تَرْكُضُ إِلَيْكَ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ إِلهِكَ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكَ».
١. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ: تنطلق هذه الفكرة من السماح للنفس بالتلذذ بغِنى. إذ يتوجب على كل من يريد أن يتغذى على الكلمة أن يميل أذنه بوعي إلى ما سيقوله الله. ويفسر هذا لماذا يستمع شخصان إلى نفس الرسالة فيستفيد أحدهما من دون الآخر. فغالبًا ما يكون أن الذي لم يستفد لم يُمِل أذنه إلى الرب.
٢. ٱسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ: إن الإفادة من إمالة الأذن مثيرة للإعجاب. فعندما نميل آذاننا، فإننا نحصل على حياة لنفوسنا.
٣. وَأَقْطَعَ (وسأقطع) لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا، مَرَاحِمَ دَاوُدَ ٱلصَّادِقَةَ: يَعِد الله بعهد لمن هو مستعد للإصغاء. ومن منظور إشعياء، فإن هذا العهد هو في المستقبل (وسأقطع). وسيتسم العهد بمراحم داود الصادقة.
• أظهر الله رحمته العظيمة لداود لا بالعفو عن حياته عندما أذنب في ارتكابه للزنا والقتل فحسب، لكن بإعطائه بركات ورعاية وحفظًا وإرشادًا في كل يوم من أيام حياته. فإنْ وعدَنا الله بنفس الرحمة التي أظهرها لداود، فإننا مباركون كثيرًا.
• وفضلًا عن ذلك، فإن مراحم داود أكيدة. إنها يقينية. فالله لم ييأس من داود، ولم يتوقف عن إظهار رحمته له. ويمكننا الاعتماد على الله عندما يَعِدنا برحمة داود الأكيدة.
٤. جَعَلْتُهُ شَارِعًا لِلشُّعُوبِ، رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ: وعد الله ببركة القيادة الصالحة كجزء من رحمته الأكيدة لداود. فقد أعطاه الله قيادته الملهمة كهبة لإسرائيل. وهنا يَعِد الله بأن يستمر في تقديم هذه الهبة لنا وفقًا لنمط داود هذا.
• جَعَلْتُهُ شَارِعًا (شاهدًا) لِلشُّعُوبِ: كان داود شاهدًا بمعنى أنه كانت لدية علاقة حقيقية، واختبار حقيقي بالله. فكان بمقدوره أن يتحدث إلى إسرائيل كشاهد على ما رآه وسمعه في تلك العلاقة بالله. لاحظْ أن داود كان شاهدًا للشعب، لا من الشعب. فلم يتقدم داود في استطلاعات الشعبية، ولم يكن يعطي الناس ما يريدونه. بل شهد شيئًا عن الله، وشهد به للشعب.
• رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ: كان داود قائدًا لإسرائيل، وقد قادها روحيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. وقاد بمثاله التقي وقلب الراعي الذي فيه. لاحظْ أن داود كان قائدًا وآمرًا من أجل الشعب، لا عليهم. لقد قاد بقلب راعٍ أراد بصدق أفضل ما لدى الله للشعب.
• من الغريب أن يُستخدم داود هنا كنموذج إلهي للقائد. وهذا أمر غريب من عدة نواحٍ. إذ يمكن أن يوصف حكم داود بأنه مضطرب تمامًا. فقد جاء إلى عرش إسرائيل من خلال جهاد وصعوبة كبيرين. وتورط في فضيحة من الزنا والقتل. وحدث بين أبنائه: سفاح قربى واغتصاب وقتل. وشابت حُكمه حرب أهلية كاد فيها ابنه أن يطيحه عن العرش. غير أن داود يُرفع هنا كقائد رائع لشعب الله. ويدل هذا على أن كون داود رجلًا حسب قلب الله أكثر من مجرد نجاح خارجي وتعزية وراحة. ويبيّن هذا أيضًا أن أفضل قادة الله وأكثرهم فاعلية لا ينجحون بسهولة.
• كان داود قائدًا لإسرائيل. وحتى مع قلب الراعي الحنون الذي كان يتمتع به، كانت قيادته جريئة وصريحة. ولأنه كان لديه إحساس بقلب الله، كونه رجلًا حسب قلب الله (١ صموئيل ١٣: ١٤)، استطاع أن يقود شعب الله بجسارة.
• تتحقق هذه النبوات روحيًّا عندما يعطي الله قادة رائعين شبيهين بداود. وستتحقق في نهاية الأمر عندما يحكم المسيّا، يسوع المسيح (ابن داود) على إسرائيل في الحكم الألفي على هذه الأرض.
تقول إرميا ٣٠: ٩ عن ذلك الوقت: “بَلْ يَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ إِلَهَهُمْ وَدَاوُدَ مَلِكَهُمُ ٱلَّذِي أُقِيمُهُ لَهُمْ.”
ويقول الرب في حزقيال ٣٤: ٢٣ – ٢٤: “وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رَاعِيًا وَاحِدًا فَيَرْعَاهَا عَبْدِي دَاوُدُ، هُوَ يَرْعَاهَا وَهُوَ يَكُونُ لَهَا رَاعِيًا. وَأَنَا ٱلرَّبُّ أَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا، وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيسًا فِي وَسْطِهِمْ. أَنَا ٱلرَّبُّ تَكَلَّمْتُ.”
وتواصل حزقيال ٣٧: ٢٥: “وَيَسْكُنُونَ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي أَعْطَيْتُ عَبْدِي يَعْقُوبَ إِيَّاهَا، ٱلَّتِي سَكَنَهَا آبَاؤُكُمْ، وَيَسْكُنُونَ فِيهَا هُمْ وَبَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ، وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيسٌ عَلَيْهِمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ.”
• لدينا دلائل على أنه عندما يحكم شعب الله الأرض مع يسوع في الألفية، سيُعهد إلى أشخاص بمناطق جغرافية حسب أمانتهم (لوقا ١٩: ١٢-١٩). ويبدو أن نصيب داود المجيد هو أن يملك على إسرائيل.
٥. هَا أُمَّةٌ لَا تَعْرِفُهَا تَدْعُوهَا، وَأُمَّةٌ لَمْ تَعْرِفْكَ تَرْكُضُ إِلَيْكَ: هل كان هذا موجهًا إلى إسرائيل أم إلى داود كقائد وآمر لشعب الله؟ ربما إليهما معًا. ومن المؤكد أن تحقيقه سيكون في الألفية عندما تتقاطر الشعوب على إسرائيل (إشعياء ٦٠: ٥، ٩).
٦. مِنْ أَجْلِ ٱلرَّبِّ إِلَهِكَ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكَ: لماذا تتقاطر الشعوب على داود و/إسرائيل؟ لأن الرب رفعهما حسب بركات الاسترداد.
ج) الآيات (٦-٧): دعوة إلى الغفران.
٦اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ. ٧لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ.
١. اُطْلُبُوا ٱلرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ: يريد النبي أن يؤكد الإحساس بالإلحاح لشعب الله. وكأنه يقول: “هذا هو الوقت. يمكنكم أن تجدوا الله الآن. فاطلبوه الآن.” وليس الأمر أن الله مخفي ولا يوجد إلا الآن. فالأمر هو أنه لا يمكن أن يوجد إلا عندما تكون قلوبنا ميّالة إلى البحث عنه وطلبه. وهذا الميل هبة من الله! ويتوجب علينا أن نقبل الهبة ونستفيد منها إلى أقصى حد وهي متاحة لنا. وأما عدم طلب الله وعدم دعوته وهو قريب، فإنه يعني أننا لن نتلقى البركات الموعودة منه.
٢. لِيَتْرُكِ ٱلشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ: يريد النبي أن يؤكد الإحساس بالحاجة إلى التوبة بين شعب الله. والتوبة ببساطة هي الاستدارة في طريقنا – بعيدًا عن طريقنا الخاص متجهين نحو الله في طريقه. ويعني هذا ببساطة العودة إلى الله. ولا يمكننا أبدًا البدء في السير في طريق الله إلى أن نتخلى عن طريقنا الخاص. ويعمل استرداد الله المجيد في توبتنا ومن خلالها.
• أوضح إشعياء نقطة عندما كتب “وَرَجُلُ ٱلْإِثْمِ أَفْكَارَهُ.” قد يظهر الشر من خلال أفعالنا وتصرفاتنا (طريقنا)، لكن الشر يمكن أن يوجد في أفكارنا ذاتها. وغالبًا ما توجد ساحة المعركة للسلوك البار مع الله في أذهاننا وأفكارنا.
• عرف الرسول بولس هذا عن ضرورة أسْر كل فكرة لطاعة المسيح (٢ كورنثوس ١٠: ٥)، وكيف أنه لا ينبغي لنا أن نشاكل العالم، بل أن نتحول بتجديد أذهاننا (رومية ١٢: ٢).
٣. فَيَرْحَمَهُ: يا له من وعد مجيد! فعندما نعود إلى الرب، فإنه يرحمنا! بل سيُكثّر الغفران! فلا تكمن المشكلة في أن الرب يرفضنا عندما نلجأ إليه، بل تكمن في أننا لا نرجع إليه.
ثانيًا. طرق الرب المجيدة
أ ) الآيات (٨-٩): تذكير بالفرق والمسافة بين الله والإنسان.
٨«لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. ٩لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ.
١. لِأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ: لا يفكر الله بالطريقة التي نفكر بها. ونحن نتورط في مشاكل كثيرة عندما نتوقع أنه يفكر كما نفكر. ولأننا مخلوقون على صورته، يمكننا أن نفهم أفكاره، لكن لا نستطيع التمكن منها.
٢. وَلَا طُرُقُكُمْ طُرُقِي: لا يتصرف الله بالطريقة التي نتصرف بها. فهو يفعل الأشياء حسب طريقته. وغالبًا ما لا تكون طرقه طرقنا. ونحن نتورط كثيرًا عندما نتوقع أن يتصرف الله بالطريقة التي نتصرف بها.
٣. كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلْأَرْضِ: كم تبعد أفكار الله عن أفكارنا؟ وكم تبعد طرقه عن طرقنا؟ إن المسافة بينها كبيرة مثل المسافة بين السماوات والأرض.
• إنه لأمر مجيد أن السماوات، في شخص يسوع المسيح، جاءت إلى الأرض. ويمكننا أن نجعل أفكارنا وطرقنا حتى تشبه أفكاره وطرقه. وهذا هو ما يعنيه أن نكون مشابهين لصورة ابنه (رومية ٨: ٢٩). ولن يتم أبدًا إلغاء المسافة هذه. إذ سيبقى الله هو الله، وسنظل دائمًا بشرًا. لكن عندما يكتمل خلاصنا، ونتحد مع الرب في المجد، ستكون المسافة أقرب ما تكون عليه.
• يُعلَن هنا الفرق والمسافة بين الله والإنسان، لا ليثبّطنا عن طلبه، بل ليبقينا متواضعين ونحن نطلبه. “ربما نستنتج أنه ليس مقصودًا أن نفهم اللانهائي، لأنه قيل لك إن أفكاره فوق أفكارك بكثير. لكنْ مطلوبٌ منك أن تطلبه ما دام يوجد، وأن تدعوه وهو قريب.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٠-١١): العمل العجيب لكلمة الله.
١٠لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ، ١١هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ.
١. كَمَا يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ: يستخدم الرب صورة دورة الماء ليوضح المبدأ الأساسي أن كلمته لَا تَرْجِعُ إِلَيه فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرَّ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلَها لَهُ. إذ يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ وَٱلثَّلْجُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَلَا يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، ويجعلان الأرض تَلِدُ وَتُنْبِتُ. ويعود المطر والثلج في نهاية المطاف إلى السماء، لكن ليس قبل أن ينجزا قصديهما على الأرض. ويصح هذا على كلمة الله. فعندما يرسلها الله من السماء، فإنها لَا تَرْجِعُ إِلَيه فَارِغَةً، بل تحقق دائمًا قصده على الأرض.
• يعني هذا أن الله لا “يتحدث” فحسب. فعندما يتكلم الله، فإن كلماته تحقق قصدها المنشود. إذ تمتلك كلمة الرب قوة، ولا تفشل أبدًا في قصدها المنشود.
• “إنها كلمة لا رجوع عنها. قد يندم الإنسان أحيانًا على ما يقوله، ويتراجع عنه. فهو يود أن يؤدي عملًا التزم به، لكنه لا يستطيع، لا لأنه غير مخْلِص، بل لأنه عاجز. لكن هذا لا يصح على الله على الإطلاق. فكلمته لا ترجع إليه فارغة أبدًا. اذهب وابحث عن رقاقات الثلج وهي تشق طريقها راجعة إلى السماء مثل الحمائم البيض! واذهب وابحث عن قطرات المطر وهي تتصاعد مثل حبّات الماس التي تقذف بها يد رجل جبّار لتجد مكانًا للإقامة في السحابة التي سقطت منها! فإلى أن يعود الثلج والمطر إلى السماء ساخرين من الأرض التي وعدهما بأن يباركاها، لن ترجع كلمة الله فارغة أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلْآكِلِ: تبيّن هذه الصورة المقدمة لتوضيح طريقة عمل كلمة الله أنها تؤتي أُكُلَها. وهي تبيّن أن للثمار تطبيقات كثيرة متنوعة. فنفس الحبوب التي تعطي زَرْعًا لِلزَّارِعِ تعطي أيضًا خُبْزًا لِلْآكِلِ.
٣. بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ: لدى كلمة الله شيء لتنجزه. فالله لا يتكلم ليسمع نفسه وهو يتكلم. وليست كلمته فارغة أو مفتقرة إلى القوة. ويعني هذا أن لكلمة الله قصدًا. فهو لم يتكلم في ألغاز لا يمكن فهمها لمجرد تحيير عقولنا، وإرباكنا، أو ترك الأمور لأي تفسير محتمل. فعندما يتكلم، فإنه يفعل هذا ليحقق قصدًا معيًّنًا.
٤. وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ: لا تنجز كلمة الله مهمتها بشقّ الأنفس. بل تنجح في القصد التي أُرسلت من أجلها. فهي غنية وممتلئة بالحياة. وهي تنجح دائمًا وهي تحقق دائمًا قصد الله.
• لا يعني هذا أنه لا يهم كيف تقدَّم كلمة الله. فأحيانًا ما تبرَّر عظة سيئة للغاية بالقول إنه “لا ترجع كلمة الله فارغة.” والمبدأ واضح وصحيح من هذا النص في إشعياء. لكن بسبب التحضير السيئ أو الوعظ السيئ، لا يقدَّم إلا القليل من كلمة الله أمام الناس. فقد يتجاهل الواعظ كلمة الله، أو يميّعها، أو يضبّبها بحيث لا يخرج منها إلا القليل. لكن كم هو أفضل بكثير أن يَخرج أكثر من مشورة الله الكاملة لتنجح.
ج) الآيات (١٢-١٣): فرح الاسترداد وبركته.
١٢لأَنَّكُمْ بِفَرَحٍ تَخْرُجُونَ وَبِسَلاَمٍ تُحْضَرُونَ. الْجِبَالُ وَالآكَامُ تُشِيدُ أَمَامَكُمْ تَرَنُّمًا، وَكُلُّ شَجَرِ الْحَقْلِ تُصَفِّقُ بِالأَيَادِي. ١٣عِوَضًا عَنِ الشَّوْكِ يَنْبُتُ سَرْوٌ، وَعِوَضًا عَنِ الْقَرِيسِ يَطْلَعُ آسٌ. وَيَكُونُ لِلرَّبِّ اسْمًا، عَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تَنْقَطِعُ».
١. لِأَنَّكُمْ بِفَرَحٍ تَخْرُجُونَ وَبِسَلَامٍ تُحْضَرُونَ: عندما يعود شعب الله إليه، ويصغون إليه، وتعمل كلمته فيهم، سيكون الفرح والسلام النتيجة على الدوام. وسيكون الفرح عظيمًا حتى أن الجبال، والآكام، وكل شجر الحقل ستنضم إلى الشعب في الترنيم.
٢. عِوَضًا عَنِ ٱلشَّوْكِ يَنْبُتُ سَرْوٌ: حيثما كان هنالك عقم وتذكير باللعنة (الشوك)، ستكون الآن أشجار جميلة ومفيدة. والصورة واضحة. ففي عمل الله الاستردادي المجيد، فإنه ينزع ما هو عقيم وملعون، ويجلب الجمال والثمار.
٣. وَيَكُونُ لِلرَّبِّ ٱسْمًا، عَلَامَةً أَبَدِيَّةً لَا تَنْقَطِعُ: وعندما يقوم الله بالاسترداد، يتم العمل باسمه، ومن أجل مجده. وعندما يقوم الله بالاسترداد، سيكون عمله آمِنًا. إنها علامة أبدية لا تنقطع.