خروج ٣٣
طريقُ إسرائيل في استعادة شركة العلاقة
أولًا. توبةُ إسرائيل واستعادتِه روحيًّا.
أ ) الآيات (١-٣): يكتشِف الشَّعب قلبَ الله تجاه الخطيَّة.
١ وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «ٱذْهَبِ ٱصْعَدْ مِنْ هُنَا أَنْتَ وَٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي حَلَفْتُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا .٢ وَأَنَا أُرْسِلُ أَمَامَكَ مَلَاكًا، وَأَطْرُدُ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْأَمُورِيِّينَ وَٱلْحِثِّيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ وَٱلْحِوِّيِّينَ وَٱلْيَبُوسِيِّينَ .٣ إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. فَإِنِّي لَا أَصْعَدُ فِي وَسَطِكَ لِأَنَّكَ شَعْبٌ صُلْبُ ٱلرَّقَبَةِ، لِئَلَّا أُفْنِيَكَ فِي ٱلطَّرِيقِ».
١. ٱذْهَبِ ٱصْعَدْ مِنْ هُنَا… إِلَى ٱلْأَرْضِ … لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا: بعد خطيَّة العجل الذَّهبيّ، لَم يحرِم الله بَني إسرائيل من أرض الموعِد. فقد قال بأنَّهُ يُمكِنهم امتلاك ما وعدَهُم به، وأيضًا كما وعد إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
٢. وَأَنَا أُرْسِلُ أَمَامَكَ مَلَاكًا، وَأَطْرُدُ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ: بعد خطيَّة العجل الذَّهبيّ، لَم يحرِم الله بَني إسرائيل من حمايتهِ. لقد وعدَ بأنَّه سيكون معهم بطريقةٍ ما (هُوَذَا مَلَاكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ)، وبأنَّه سَيُحارِب عنهم في أرضِ الموعِد.
يتطلَّع سفر إشعياء ٩:٦٣ إلى الوراء، إلى سفر الخروج، ويقول: فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلَاكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ ٱلْأَيَّامِ ٱلْقَدِيمَةِ. يصِفُ مَلَاكُ حَضْرَتِهِ حضورَ الله مع إسرائيل في سفر الخروج ٢٠:٢٣-٢٣، ذلك الملاك الَّذي كان اسمُ الله فيه. أمَّا الملاك الموصوف هُنا في خروج ٢:٣٣، لَهُوَ ببساطة كائنٌ ملائكيٌّ، وليس الرَّبُّ نفسَه.
٣. فَإِنِّي لَا أَصْعَدُ فِي وَسَطِكَ: لقد قالَ الله بأنَّه سيحرِم إسرائيل حضورَهُ، أو على الأقلِّ حضورَهُ بالمعنى التَّقريبيّ. يُمكِن القَول بأنَّ الله قال: “لَن أبقى قريبًا جدًّا منك، وذلك لأنَّني قد أدينك في الطَّريق – لكن، اذهَب وخُذ أرضَ الموعِد.”
لقد كان هذا تحدِّيًا لِمُوسى والأُمَّة كَكُل. فقد قال الله بأنَّه يُمكِنُهم أخذ أرض الموعِد، لكنَّه لَن يبقى معهم بطريقةٍ قريبة وشخصيَّة. فإذا ارتضَوا بهذا التَّرتيب، فَهُم يُبرهِنون بأنَّهم يُحبُّون بركات الله، وليس الله نفسَه. وإذا تحدَّوا الله – مُتضرِّعين معه من أجلِ حضورِهِ، وليس بركاتهِ فقط – فسَيُظهِر ذلك قلبًا حقيقيًّا أصيلًا لله نفسِه. لقد كانت هذه الخُطوةَ الأُولَى في اتِّجاه الإستعادَة الرُّوحيَّة والإنتعاش في إسرائيل.
“لَو أُعطيتَ كُلُّ بركةٍ أُخرى، فَلَن تكون بذي قيمة إذا لَم يكُن الله معك. ما هي قيمة كنعان؟ ما هي قيمة الحليب والعسَل؟ ما قيمة أن يكون لك مُمتلكات، إذا كان الله ليس معك؟ لقد رأوا بأنَّ واقعَ حضورِ الله، ولهم هذه الشَّركة والعِشرَة، كان أهمَّ من أيِّ شيءٍ آخَر بما لا يُقاس.” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
ب) الآيات (٤-٦): الشَّعبُ يتوبُ وينوح.
٤ فَلَمَّا سَمِعَ ٱلشَّعْبُ هَذَا ٱلْكَلَامَ ٱلسُّوءَ نَاحُوا وَلَمْ يَضَعْ أَحَدٌ زِينَتَهُ عَلَيْهِ .٥ وَكَانَ ٱلرَّبُّ قَدْ قَالَ لِمُوسَى: «قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ شَعْبٌ صُلْبُ ٱلرَّقَبَةِ. إِنْ صَعِدْتُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي وَسَطِكُمْ أَفْنَيْتُكُمْ. وَلَكِنِ ٱلْآنَ ٱخْلَعْ زِينَتَكَ عَنْكَ فَأَعْلَمَ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَ» .٦ فَنَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ زِينَتَهُمْ مِنْ جَبَلِ حُورِيبَ.
١. نَاحُوا وَلَمْ يَضَعْ أَحَدٌ زِينَتَهُ عَلَيْهِ: لقد كان هذا رَدَّ فعلٍ جيِّد من قِبَل إسرائيل. بالنِّسبةِ إليهم، لقد كان هذا خَبَرًا سيِّئًا. لقد ناحوا بسبب احتمالِ خسارة حضورِ الله القريب. فَهُم كانوا مُهتمِّين بعلاقتهم مع الرَّبِّ، وليس فقط بِما يُمكِنه أن يُعطِيَهُم.
“من الواضحِ بمكانٍ ما، بأنَّ النَّاس شعروا بأنَّ الوعد بإرسالِ ملاكٍ أمامهم كان تخفيضًا للإمتياز.” مورجان (Morgan)
لقد كانت هذه قضيَّةً مُهمَّة بالنِّسبة إلى إسرائيل، ذلك لأنَّه كان بإمكانهم رؤيةُ حضورِ الرَّبِّ في عمود السَّحاب نهارًا والنَّار ليلًا. إذا سحبَ الله حضورَهُ، فسَيُرى ذلك بوضوح.
نَاحُوا هُنا لأنَّهم مع العجل الذَّهبيّ، لَن يتمكَّنوا من المرح بروحِ الطَّاعة والمسؤوليَّة. لقد كان خيرًا لهم بأن يحزنوا إلى حين.
٢. أَنْتُمْ شَعْبٌ صُلْبُ ٱلرَّقَبَةِ: لقد كُرِّرَت هذه العبارة مرَّةً أُخرى. إنَّ الفكرة لا تتعلَّقُ فقط بعنادهم، بل بمقاومتهم لله بِعِناد. إنَّ الصُّورة لَهِيَ لِثَورٍ أو حمارٍ يُقاوِمُ الـمُزارِع ويجعل رقَبَتَهُ صُلبَة.
٣. فَنَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ زِينَتَهُمْ مِنْ جَبَلِ حُورِيبَ: أظهر الشَّعبُ توبَتَهُم ونَوحَهم بِنَزعِ زِينَتَهِمْ. فقد عرفوا أنَّ الوقت لَم يكُن مُؤاتيًا للتَّزيُّن من الخارج، لكنَّ الوقت سانحٌ لِيأتوا بقلبٍ صحيح إلى الله. كانت هذه الخُطوة الثَّانية في اتِّجاه الإستعادَة الرُّوحيَّة والإنتعاش في إسرائيل.
“إن النَّاس الحريصين على الإنتعاش، بمعنًى حقيقيّ، لا يأتون فقط من أجل القليل من الإثارة أو الإهتمام أو من أجلِ بعض السَّعادة أو أيَّةِ ظاهرة أو مجيءِ موقفٍ يتعلَّقُ ’بشيءٍ رائع سوف يحصَل وسنقضي وقتًا مُمتعًا؛‘ بل يأتون بهدف الشَّركة الرُّوحيَّة مع الله. وإذا كُنتم، أعزَّاءي الأصدقاء، ببساطةٍ تُفكِّرون هكذا عن الإجتماعات والإثارة وأيِّ شيءٍ رائع بأنَّها للتَّسلية فقط، فأنتم لم تبدأوا بعد بفَهمِ هذه القضيَّة.” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
يَصِف سفر الخروج ٣٥: ٢٢ كيف أنَّ هذه الزِّينة قد ذهبت لِبِناء خيمة الإجتماع. “إنَّ تلك الزِّينة عينها التي من الـمُمكِن أن تُستخدَمَ في صُنعِ عجلٍ ذهبيّ، يُمكِن الآن تكريسها لله باستخدامها في قُدسهِ.” كُول (Cole)
ج) الآية (٧): يجعل موسى خيمتَهُ خيمةَ الإجتماع.
٧ وَأَخَذَ مُوسَى ٱلْخَيْمَةَ وَنَصَبَهَا لَهُ خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ، بَعِيدًا عَنِ ٱلْمَحَلَّةِ، وَدَعَاهَا «خَيْمَةَ ٱلِٱجْتِمَاعِ». فَكَانَ كُلُّ مَنْ يَطْلُبُ ٱلرَّبَّ يَخْرُجُ إِلَى خَيْمَةِ ٱلِٱجْتِمَاعِ ٱلَّتِي خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ.
١. وَأَخَذَ مُوسَى ٱلْخَيْمَةَ وَنَصَبَهَا لَهُ خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ، بَعِيدًا عَنِ ٱلْمَحَلَّةِ، وَدَعَاهَا خَيْمَةَ ٱلِٱجْتِمَاعِ: بعدما تحوَّل قلبُ إسرائيل إلى الله، وبعد أن تواضعت أنفسهم بِنَزعهم لِزِينتهم، خطا موسى الخُطوة التَّالية في اتِّجاه الإنتعاش واستعادَة العلاقة الرُّوحيَّة. فهو بدأ مجهودًا حازِمًا للبحث عن الله، جاعِلًا خيمتَهُ خَيْمَةَ ٱلِٱجْتِمَاعِ.
طلبَ الله من موسى بأن يصنعَ خيمة الإجتماع عندما كان على جبل سيناء (خروج ٢٥-٢٨). لكنَّ المسكَن، أي خيمةَ الإجتماع، لَم يكُن قد بُنِيَ بعد. لَن يُوقِفَ هذا الأمرُ موسى عن أخذِ إجراءاتٍ غير اعتياديَّة في بحثه عن الله. فقد صمَّم على جَعلِ خيمتهِ الخاصَّة خَيْمَةَ ٱلِٱجْتِمَاعِ.
لقد كان هذا الأمرُ مُنظَّمًا أو مُخطَّطًا أو مُطوَّرًا من قِبَلِ موسى. لقد طلبَ وجهَ الله، بشكلٍ راديكاليّ وعفويّ. وعندما قام موسى بذلك، لَمَسَ الله قلوب الشَّعب.
خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ: “كانت الملاجئُ أو المقادِس أو الخِيَم عادةً تُبنى على مسافةٍ قصيرة من الـمُدُن في العالَم القديم؛ لقد خَسِرَ الإسرائيليُّون من ثمَّ فرَادَتهُم، كأُمَّةٍ يسكنُ الله في وسطها.” كُول (Cole)
٢. فَكَانَ كُلُّ مَنْ يَطْلُبُ ٱلرَّبَّ يَخْرُجُ إِلَى خَيْمَةِ ٱلِٱجْتِمَاعِ ٱلَّتِي خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ: بِجَعلِ مكان العبادة خارج المحلَّة، رسم موسى خطًّا لِيَرى مَن بالفعلِ يُريد أن يقترِبَ إلى الرَّبِّ.
عندما قامَ موسى بِوَضعِ خَيْمَةِ ٱلِٱجْتِمَاعِ … خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ، فقد عنى ذلك بأنَّ كلَّ واحِدٍ أراد أن يطلُبَ الرَّبَّ، توجَّب عليه الإنفصال. يُمكِنُنا التَّخمين بأن ليس كُلُّ واحِدٍ منهم أراد القيامَ بذلك.
“عندما يبدأ الرُّوح القدس بالتَّعامُلِ مع أيِّ واحِدٍ منَّا، فَلَسوفَ يحدثُ ذلك الإنفصال حتمًا. لَن يكون استعرَاضًا، ولَن يكون موقِفًا فرِّيسيًّا: ’أنا أقدَس من هذا.‘ كلَّا، متى بدأ الإنسان بالتثَقُّلِ من أجلِ مجدِ الله وحالَة الكنيسة، يشعرُ للتَّوِّ بالدَّعوة إلى القداسة، فيذهب ’خارجًا،‘ إن جازَ التَّعبير.” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
د ) الآيات (٨-١٠): يظهرُ حضورُ الله في خيمة موسى.
٨ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذَا خَرَجَ مُوسَى إِلَى ٱلْخَيْمَةِ يَقُومُونَ وَيَقِفُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَابِ خَيْمَتِهِ وَيَنْظُرُونَ وَرَاءَ مُوسَى حَتَّى يَدْخُلَ ٱلْخَيْمَةَ .٩ وَكَانَ عَمُودُ ٱلسَّحَابِ إِذَا دَخَلَ مُوسَى ٱلْخَيْمَةَ، يَنْزِلُ وَيَقِفُ عِنْدَ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ. وَيَتَكَلَّمُ ٱلرَّبُّ مَعَ مُوسَى .١٠ فَيَرَى جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ عَمُودَ ٱلسَّحَابِ، وَاقِفًا عِنْدَ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ، وَيَقُومُ كُلُّ ٱلشَّعْبِ وَيَسْجُدُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَابِ خَيْمَتِهِ.
١. وَكَانَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذَا خَرَجَ مُوسَى إِلَى ٱلْخَيْمَةِ يَقُومُونَ: راقبَ ولاحظ النَّاس أوقات العبادة عند موسى. فعندما كان يعبُد، كانوا هُم أيضًا يعبدون. لقد حثَّ موسى الشَّعب لكي يقتربوا إلى الله مُتمثِّلين به.
٢. وَكَانَ عَمُودُ ٱلسَّحَابِ إِذَا دَخَلَ مُوسَى ٱلْخَيْمَةَ، يَنْزِلُ وَيَقِفُ عِنْدَ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ: لَم تَصِر خيمة موسى خيمة الإجتماع لأنَّه أسماها هكذا. لقد أصبحت كذلك بسببِ أنَّ الله جاءَ إلى هُناك لكي يجتمعَ إلى موسى، ظاهِرًا بِعَمود السَّحاب.
أصبح عَمُودُ ٱلسَّحَابِ كَعَلَمٍ ملَكيّ أو كأميرالٍ يُشيرُ إلى وجودهم. لذلك أشار عمودُ السَّحابِ (الَّذي يصِفُهُ كُول حرفيًّا، بكونهِ ’شيئًا واقِفًا‘) إلى حضورِ الله.
لقد رأى كلُّ واحِدٍ عَمُودَ ٱلسَّحَابِ يأتي إلى خيمة موسى، فقد كانوا جميعهم يعلمون بأنَّ موسى كان يعبد ويلتقي بالله هُناك. لقد كان هذا تعزيةً كبيرة للشَّعب، أن يعلَموا بأنَّ قائدَهُم يجتمعُ بالفعل مع الله ويسمعُ منه.
٣. وَيَتَكَلَّمُ ٱلرَّبُّ مَعَ مُوسَى: نقرأ الكثير عن الله وهو يتكلَّم مع موسى، ولكنَّنا لا نعرف القَدَر الكافي عن الَّذي قالَه الله. من الـمُحتمَل وجودُ أكثر بكثير ممَّا هو مُدوَّن في سفر الخروج أصحاح ٣٣. ولَرُبَّما الكثير منهُ كان ذا طبيعةٍ شخصيَّة ومُشجِّعة لِمُوسى.
٤. وَيَقُومُ كُلُّ ٱلشَّعْبِ وَيَسْجُدُونَ: لقد كان هذا جوابهم الطَّبيعيّ. هُناكَ شيءٌ يتعلَّق بموسى وبعلاقتهِ بالله، جعلَ الآخَرين يُريدون أيضًا أن يعبدوا الله.
هـ) الآية (١١): يتكلَّم الله مع موسى عند خيمتهِ، خيمة الإجتماع.
١١ وَيُكَلِّمُ ٱلرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ ٱلرَّجُلُ صَاحِبَهُ. وَإِذَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ كَانَ خَادِمُهُ يَشُوعُ بْنُ نُونَ ٱلْغُلَامُ، لَا يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ ٱلْخَيْمَةِ.
١. وَيُكَلِّمُ ٱلرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ ٱلرَّجُلُ صَاحِبَهُ: يُوضِّح سفر
العدد ٨:١٢ معنى هذه الكلِمات. فَهُناك يُقارِن الله كيفيَّةَ حديثِهِ مع موسى وكيفيَّةِ حديثِهِ مع الأنبياء الآخَرين؛ لقد سَمِعَ موسى بوضوحٍ وصراحةٍ صوتَ الله، بينما أنبياءٌ آخَرين سمعوا بالأحلام وبالرُّؤى.
من الـمُحتمَلِ أيضًا أن يكون الله قد ظهرَ لِمُوسى في شكلٍ بشَريّ، كما ظهر لإبراهيم في تكوين ١٨. على الأغلَب، إنَّ العبارَة وَجْهًا لِوَجْهٍ لَهِيَ ببساطة تعبيرٌ مجازيّ، يعني شركةً حُرَّة ومفتوحة.
لَم يرَ موسى – ولا يُمكِنُه أن يرى – الوجهَ الفعليّ للهِ الآب في مجدهِ. لَم يرَ أحدٌ وجه الله الآب في مجدهِ، لأجلِ هذا السَّبب كتب يوحنَّا: ٱللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ. إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَٱللهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا (١ يوحنَّا ١٢:٤).
٢. يَشُوعُ بْنُ نُونَ ٱلْغُلَامُ، لَا يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ ٱلْخَيْمَةِ: لقد كان الإنتعاش الشخصيّ في حياة موسى مثلًا للأُمَّةِ بأجمعها، لكنَّهُ كان مثلًا خاصًّا لِخَادمهِ يشوع. عندما اقترب موسى إلى الله، اقتربَ يشوعُ أيضًا إلى الله، إلى درجةِ أنَّ يشوع لَا يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ ٱلْخَيْمَةِ.
ثانيًا. يُصلِّي موسى ويقترِب إلى الله.
أ ) الآيات (١٢-١٣): يُصلِّي موسى من أجل الشَّعب.
١٢ وَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «ٱنْظُرْ. أَنْتَ قَائِلٌ لِي: أَصْعِدْ هَذَا ٱلشَّعْبَ، وَأَنْتَ لَمْ تُعَرِّفْنِي مَنْ تُرْسِلُ مَعِي. وَأَنْتَ قَدْ قُلْتَ: عَرَفْتُكَ بِٱسْمِكَ، وَوَجَدْتَ أَيْضًا نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ .١٣ فَٱلْآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ لِكَيْ أَجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ. وَٱنْظُرْ أَنَّ هَذِهِ ٱلْأُمَّةَ شَعْبُكَ».
١. وَأَنْتَ لَمْ تُعَرِّفْنِي مَنْ تُرْسِلُ مَعِي: بالنِّسبةِ إلى موسى، لَم يكُن كافيًا أن يعرِف بأنَّه وإسرائيل سيصِلان إلى أرضِ الموعِد. فبحسبِ تقديرهِ، إنَّ أرضَ الموعِد لَم تكُن مكانًا مُميَّزًا من دون حضورِ الرَّبِّ الـمُميَّز. لقد وعدَ الله سابِقًا بإرسالِ ملاكٍ مع إسرائيل (خروج ٢:٣٣). لقد ضغطَ موسى على الله في هذه النُّقطة، وهو الَّذي أرادَ أن يعرِف بالتَّمام مَن سَيُرسِل الله.
“موسى قَلِقٌ الآن! يُريد أن يحصلَ على ضمانٍ لهذا الحضور من أجلِ شعبه. وأيضًا على فرَح الإختبار هذا عن قُربٍ لِنفسهِ.” كُول (Cole)
لقد كان هذا اقترابًا صُلبًا – تقريبًا فظًّا – إلى الله. لقد كان موسى مُصمِّمًا على الإستحواذ على حضورِ الله مع إسرائيل عن قُربِ قدَرَ الإمكان. كانت هذه الخُطوة التَّالية باتِّجاه الإنتعاش واستعادَة إسرائيل لعلاقتهِ مع الله.
٢. إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ: كان موسى صُلبًا في اقترابهِ إلى الله، لكنَّهُ أسَّسَ هذه الصَّلابة على نِعْمَةِ الله التي أظهرها له بالفعل. إنَّ هذا لَأَساسٌ صالِح للإقتراب.
٣. فِي عَيْنَيْكَ … طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ لِكَيْ أَجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ. … شَعْبُكَ: كان موسى مهووسًا بالله تقريبًا. كان لا يزالُ على الأرض، لكنَّه ربط كلَّ شيءٍ بالله في السَّماء.
موضوعٌ قويٌّ آخَر في هذا القسم هو لِيعرِف. بشكلٍ ما، قد استُخدِمَت هذه الكلِمة بتكرار في هذه الأعداد. فَبِمعنى العلاقة، لقد عرف الله إسرائيل وموسى، وأرادَ موسى بأن يعرف الله.
ب) الآيات (١٤-١٧): يستجيبُ الله لصلاة موسى، مُعطِيًا إيَّاهُ وعدَ حضورِهِ.
١٤ فَقَالَ: «وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ» .١٥ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ لَمْ يَسِرْ وَجْهُكَ فَلَا تُصْعِدْنَا مِنْ هَهُنَا، ١٦ فَإِنَّهُ بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعَنَا؟ فَنَمْتَازَ أَنَا وَشَعْبُكَ عَنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلْأَرْضِ» .١٧ فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «هَذَا ٱلْأَمْرُ أَيْضًا ٱلَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لِأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِٱسْمِكَ».
١. وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ: يبدو وكأنَّ الله قد استجابَ لصلاة موسى، لكنَّ موسى لَم يركُن إلى الرَّاحة. فقد استمرَّ بالضَّغط على الله من أجلِ تأكيد الوعد. يُظهِرُ هذا كَم كان موسى صُلبًا في بحثِهِ عن الله. وذلك من أجل علاقته بهِ و من أجلِ صالِحِ الأُمَّة.
وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ لَهِيَ حرفيًّا، ’وجهي سيسيرُ معكَ.‘ يُساعدُ هذا على فهمِنا للمقولةِ بأنَّ موسى كان يلتقي بالله وجهًا لِوَجه (خروج ١١:٣٢). وهي تحمِلُ معنًى، ’في الحضرة الـمُباشِرة لله.‘
“يعني هذا بأنَّ ’الـمُرسَل‘ السَّماويّ الَّذي سَيُرسَل معهم سيكون الآن ’ملاكُ حضرتهِ‘ (إشعياء ٩:٦٣)، أي الإظهار الكامِل لله كما في خروج ٢٠:٢٣.” كُول (Cole)
فَأُرِيحُكَ: حضورُ الله يعني: الرَّاحةَ والسَّلام في الحياة. لقد كانت هذه عطيَّةً مُهمَّة وضروريَّة من الله إلى موسى وإسرائيل.
٢. إِنْ لَمْ يَسِرْ وَجْهُكَ فَلَا تُصْعِدْنَا مِنْ هَهُنَا: استمرَّ موسى في طريقه الصُّلب بكلامهِ مع الله. لقد وعدَهُ الله للتَّو بحضورهِ؛ وهو بدورِه تجاوبَ مع تحذير وتنبيه الله إلى التَّبعات الـمُترتِّبة على عدم حفظِ وعدِهِ.
٣. فَإِنَّهُ بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعَنَا: عرفَ موسى بأنَّ ما من شيءٍ يُمكن أن يمنحه الرَّبُّ لهم، يجعلهم مُختلفين حقًّا عن الأُمم. فقط حضورُ الرَّبِّ القويّ يُمكِنهُ أن يفعل ذلك.
أرادَ موسى شيئًا لإسرائيل يُظهِرُهم مُختلفين عن باقي الأُمَم. وهذا الشَّيء يُمكِنه فقط بأن يكونَ بحضورِ الله الفريد والقويّ. إنَّ علاقة إسرائيل بِيَهوه – وهيَ مثَلٌ فريدٌ من الوحدانيَّة الأخلاقيَّة في العالَم القديم – جعلتهم بالفعلِ مُختلِفين عن باقي الأُمَم القديمة. الله في وسطهم جعلَهُم مُختلِفين. لقد كان مُهمًّا بالنِّسبة لإسرائيل بأن يعرِفَ هذا عن نَفسِه؛ وأيضا كان مُهمًا للأُمَم الأُخرى بأن يعرفوه.
“توجَّه موسى الى الله بالقول: “الآن، أنا أسألك شيئًا إضافيًّا، لأنَّني قلِقٌ. نحنُ هُنا شعبُكَ. كيف يُمكِن لكلِّ الأُمَم الآخَرين بأن يعرفوا بأنَّنا حقًّا شعبُكَ؟ فهُم يتطلَّعون إلينا بنظرات الإستهزاء، ويضحكون علينا متهكِّمين، ومُستعدِّين لِسَحقِنا. الآن، أنا أسألُكَ من أجلِ أمرٍ ما،” تابع موسى: ’فهذا يجعل الصورة واضحةً بالكامِل بأنَّنا لسنا فقط كإحدى هذه الأُمَم في العالَم، بل أنَّنا شعبُكَ، ونحن مُنفصِلون وفريدون وجميعنا مُنعزِلون.‘” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
٤. هَذَا ٱلْأَمْرُ أَيْضًا ٱلَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لِأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِٱسْمِكَ: أكرَمَ الله موسى إذ سمع تضرُّعَه، ووعدَهُ باسترداد علاقتهِ مع إسرائيل.
ج) الآية (١٨): شوقُ موسى للإقتراب.
١٨ فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ».
١. أَرِنِي مَجْدَكَ: لقد رَبِحَ موسى جواب ’النَّعَم‘ من الله عندما سأل من أجلِ الحضور الخاص لله لكي يبقى مع إسرائيل في طريقهم إلى أرضِ الموعِد (خروج ١٢:٣٣-١٧). وربِحَ أيضًا تأكيدًا للوعدِ من الله وتأكيدًا للعلاقة الحميمة. مع ذلك، لَم يكُن مُكتفِيًا. لقد أراد المزيد في علاقتهِ الشَّخصيَّة مع الله.
- اعتقدَ سبيرجن (Spurgeon) بأنَّ موسى لَرُبَّما، عندما سأل عن ذلك، كان إلى حدٍّ ما مثل بطرس على جبل التَّجلِّي عندما سأل عن شيءٍ ما، غير فاهِمٍ بالفعل الَّذي قالَهُ. لقد كان هذا طلَبًا صُلبًا وشُجاعًا يتخطَّى موسى في اختباره بالفعل؛ مع ذلك، لَم يزَل الله مُغتبِطًا بموسى وتَوقِهِ لأن يعرف الرَّبَّ بطُرُقٍ أعظم وأعمق.
إنَّ هذا الجوع إلى المزيد من الله – لاختبارٍ أكثر معه – لَهُوَ علامةٌ للإنتعاش وللإحياء الحقيقيّ واستعادة العلاقة. أيًّا يكُن الَّذي اختبَرَهُ مع الله، فهوَ الآن يُريد المزيد. “كُلَّما عرفَ الإنسان الله أكثر، كُلَّما ازدادَ شوقًا لِمَعرفته.” ترَاب (Trapp)
“من الـمُمكِن بأن نكون مسيحيِّين لسنواتٍ طويلة، لكنَّنا لَم نتُقْ أبدًا إلى معرفةٍ واختبارٍ شخصيَّيَن مع الله. يا هذا، أنا أعلَم، أنَّنا نُصلِّي من أجل الأسباب الـمُوجِبَة، ومن أجل الكنيسة، ومن أجل الإرساليَّات، ونُصلِّي من أجلِ المساعي التي نُنظِّمها. نعم، لكنَّني لست قلِقًا بشأن هذا الأمر. جميعنا نسأل من أجل بركاتٍ شخصيَّة، لكن كَم نعرِف عن مدى هذا الشَّوق إلى الله نفسِه؟ هذا هو الأمر الَّذي سألَ موسى من أجله: ’أرِني مجدَك. قرِّبني خُطوةً إليك” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
٢. أَرِنِي مَجْدَكَ: لقد كان هذا طلَبًا مُثيرًا للإعجاب. فقد رأى موسى بالفعل شيئًا من مجدِ الله (خروج ١٠:١٦ و١٦:٢٤-١٧)، وبالرغم من ذلك، فهو أراد المزيد. لقد شعرَ بأنَّه لَم يرَ شيئًا بعد.
“إنَّ صلاة موسى الآن هي أن يرى kabod، أي المجدَ الظَّاهر (حرفيًّا ’ثقلَ‘) لِيَهوه.” كُول (Cole)
’’بكلماتٍ أُخرى، لا نعني بالإنتعاش أنَّ الكنيسة تتبارَك من الله وأنَّها واعية لِحُضورهِ ومُمكَّنة للقيام بعملهِ. موسى، بمعنًى ما، كان بالفعل مُدرِكًا لكُلِّ هذه الأُمور … لكنَّه لَم يكُن مُكتفيًا. والإنتعاش، أُكرِّر، لا يعني أنَّ الكنيسة تتبارَك من الله وأنَّها واعية لِحُضورهِ ومُمكَّنة للقيام بعملهِ. يتخطَّى الإنتعاشُ كلَّ هذا‘‘ لويد-جونز (Lloyd-Jones)
د ) الآيات (١٩-٢٠): يُعلِم الله موسى بماذا سَيُريه.
١٩ فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ» .٢٠ وَقَالَ: «لَا تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لِأَنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ».
١. أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ: سألَ موسى لأن يرى مجدَ الله (خروج ١٨:٣٣)، ووعد الله بأن يُري موسى جُودَتَهُ. يتمحوَرُ مجدُ الله حولَ جُودَتِهِ. فعندما رأى موسى مجدَ الله، فَلِأوَّلِ وهلةٍ فَهِمَ بأنَّ الله صالِح. إذا كُنَّا لا نعرف بأنَّ الله صالِح، فنحن لا نعرف الكثير عنه أبدًا.
لَم يُظهِر الله عدالَتَهُ لِمُوسى، ولا قوَّتَهُ، ولا غضبَهُ ضدَّ الخطيَّة. فكُلُّ هذه لَهِيَ جوانب حقيقيَّة عن طبيعة الله، لكن عندما أظهرَ ذاتَهُ لِمُوسى، فقد أظهرَ جُودَتَهُ.
يعتقد النَّاس في بعض الأحيان بأنَّه يجب عليهم قياس ’توازُن‘ الله، ظانِّين بوجودِ شيءٍ من قبيل علامة ’اليين واليانغ‘ في عِلم الكَون، بمعنى الأبيض والأسود، والخير والشر. لكنَّ الله نفسَه لَهُوَ غير ’مُتوازِن‘ بهذا المعنى. فهو صالِحٌ بالكامِل. حتَّى عدالتُهُ وقوَّتُهُ وغضبُهُ يجب أن تُفهَم جميعها كجوانبَ لِـ جُودَتِهِ.
٢. وَأُنَادِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ قُدَّامَكَ: بحسب ذهنيَّة العبرانيِّين القدماء (وأيضًا في ثقافاتٍ قديمة أُخرى)، إنَّ الإسمَ يُمثِّلُ شخصيَّة الإنسان وطبيعته. لقد وعدَ الله بإظهار شخصيَّتهِ لِمُوسى، وليس مُجرَّد عُنوان.
يُقدِّم لويد-جونز (Lloyd-Jones) فكرةً عن الَّذي قالَه الله لِمُوسى: “سأنحني إلى ضعفِكَ. سأجعلُكَ ترى شيئًا. لكن، الأهمُّ من ذلك، سَأُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. سأُعطيكَ رؤيةً وفهمًا عميقَين، عن نفسي وعن شخصيَّتي ومَن أكون. وهذا بالفعل كُلُّ ما تريد أن تعرِفَهُ.”
٣. لَا تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لِأَنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ: لا يُظهِر الله – ولا يقدِر بأن يُظهِرَ – وجههُ حرفيًّا لِمُوسى. هذا يُساعدنا على فَهمِ المغزى من خروج ١١:٣٣ عندما قالَ: وَيُكَلِّمُ ٱلرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ ٱلرَّجُلُ صَاحِبَهُ.
“لكن في نفس الوقت، يُؤكِّد له بأنَّه لا يقدِر أن يرى وجهَهُ – ملءُ كمالاتهِ وعظمةُ تكويناتهِ، ويَعيشُ، لأنَّه لا يوجَد إنسان يُمكِنهُ أن يتحمَّل، في وضعهِ الحاليّ، هذا الإكتشاف الكامِل. لكنَّه يُضيفُ، سَتَنْظُرُ وَرَائِي.” كلارك (Clarke)
هـ) الآيات (٢١-٢٣): كيف سيحمي الله موسى عندما يمرُّ أمامَهُ؟
٢١ وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ .٢٢ وَيَكُونُ مَتَى ٱجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. ٢٣ ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى».
١. هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ: لقد كان الله على وشَكِ بأن يُظهِرَ ذاتَهُ لِمُوسى بطريقةٍ فريدة. لقد أعدَّ الله الحَدَثَ بعنايةٍ شديدة، مُعطِيًا موسى مكانًا خاصًّا للوقوف علَيه.
لاحِقًا، التقى إيليَّا مع الله فيما يُمكِن أن يكون نفس المكان (١ ملوك ٨:١٩-١٨).
٢. وَيَكُونُ مَتَى ٱجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ: لا يُمكِن لِمَجدِ الله بأن يبقى أمامَ موسى، يجب أن يجتازَ إزاءَهُ. حتَّى مع ذلك، كان يجبُ حماية موسى بِـ يَدِ الله وتلك النُّقْرَةُ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ عندما يمرُّ مجدُ الله أمامَهُ.
إنَّ هذه لَصُورةٌ زاهية ومُحبَّبَة: كان موسى مَحميًّا بِـ يَدِ الله ومُخبَّأ ًبتلك ٱلصَّخْرَةِ التي تُشكِّلُ ملاذًا يُؤمِّنُهُ. فذلك الملاذ في النُّقْرَةِ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ أعطى صورةً للـمُرنِّم أوغسطس توبلايدي (Augustus Toplady) في ترنيمتهِ الشَّهيرة صخرُ الدُّهور: صخرُ الدُّهور، النُّقرةُ من أجلي؛ دَعني أختبِئ فيك.
مَحميًّا من الله، سيتمكَّن موسى من تحمُّل مجدِ الله العابِرِ أمامَهُ. استطاع النبيُّ إشعياء بأن يستحوِذَ على لَمحةٍ من مجدِ الله، الأمر الَّذي حرَّكَهُ لِيَنوحَ على خطيَّتهِ وعدم استحقاقِهِ (إشعياء ٦). اختبَرَ يوحنَّا بعضًا من مجدِ الله فسقط عند قدَمي يسوع كميِّتٍ (رؤيا ١٧:١). اختبَرَ بولس مجدَ الله على طريق دمشق، وأيضًا في الإختبار الموصوف في ٢ كورنثوس ١٢. لقد كان اختبارًا رائعًا لِدَرجة أنَّه استطاع بالكاد أن يَصِفَهُ.
آخَرون، خارجَ أوقات الأحداث المذكورة في الكتاب المقدَّس، اختبروا أيضًا ومضاتٍ من هذا المجد. ذكَرَ لويد-جونز (Lloyd-Jones) بعضًا منها:
ü يَصِف جوناثان إدوارد (Jonathan Edwards) وقتًا من الصَّلاة في الغابة، وهو راكِعٌ لِمُدَّة ساعةٍ بدت وكأنَّها لحظاتٌ قليلة بسببِ الشُّعور القويّ لِمَجدِ الله وحُضورِهِ.
ü داود براينر (David Brainerd)، المرسَلُ العظيم إلى الأمريكيِّين الأصليِّين من العصر الإستعماريّ، ركَع على الثَّلج وصلَّى لساعاتٍ – حرفيًّا، مُتعرِّقًا في جسمهِ بالرغم من البَرد القارِص في الهواء. لقد كان التَّعرُّقُ علامةً جسديَّة على كثافة الإختبار الرُّوحيّ.
ü سألَ د. ل. مودي (D.L. Moody) الله من أجلِ هذا الإختبار، وعندما أعطاهُ الله مُبتغاه، كان علَيهِ أن يطلُب من الله بأن يكُفَّ يدَهُ، إذ أنَّه شعر بأَّنها تَقتُلُه.
ما يتحدَّث عنه الكثيرون من النَّاس اليوم على أنَّه حضورُ ومجدُ الله، يبدو تافهًا جدًّا مُقارنةً بما اختبره موسى وهؤلاء الآخرون. فلا وجودَ لِـ kabod – لا ثِقلَ لاختبارهم المجد.
يجب أن يكون لنا أيضًا شوقٌ صادِقٌ لاختبار الله بعمق. لقد وضَّح بولس بأنَّه لا يُمكِنُنا أن نرى مجدَ الله – لكنَّنا نراهُ كما نرى قطعةً من مَعدَنٍ مصقول، خافِت (١ كورنثوس ١٢:١٣) – ولكنَّنا نرى شيئًا منه. لَم يقُل بولس بأنَّنا لَن نرى شيئًا من مجدِ الله، فقط بأنَّنا لا نقدِر أن نراهُ بالكامِل أو نستوعِبَهُ.
٣. ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى: يُمكِن لِمُوسى بأن يرى ورَاءَ الله (كلِمة فريدة لا تُستخدَمُ غالِبًا في عِلم التَّشريح). إنَّ الفكرة هُنا تُشير إلى أنَّ موسى يُمكِنُهُ أن يرى وراءَ الله، أي ما خلفَهُ، وليس الله نفسَه.
“إنَّ الكلِمة … يمكن تقديمها بشكلٍ جيِّدٍ وأكثرِ دقَّة كَـ ’الآثار اللَّاحقة‘ لِمَجدِهِ البهيّ، الَّذي قد مرَّ للتَّو.” كايزر (Kaiser)
يَصِفها بوول على الشَّكل التَّالي: “يُمكِنُكَ أن ترى ظلًّا أو تصويرًا غامضًا لِمَجدي، بقدر ما تستطيع أن تتحمَّل، وإن لم يكُن بقدر ما تريد.”
“تحدُث هذه الأُمور الأربعة في نفس الوقت كُلَّما اقتربَ الله نحو شعبِهِ – الإظهار والكِتمان والبركة والحماية، جميعها تحدث مُجتمعةً في نفس الوقت. لا يُمكنك فصلُ هذه الأشياء.” لويد-جونز (Lloyd-Jones)
بهذه الحمايات الخاصَّة، كافأ الله رغبة موسى في رؤية مجدهِ قدر الإمكان. يوضِّح هذا بأنَّ الله يُكافئ القلب الَّذي يبحث عنه. وبقدر ما كانت هذه التَّجربة رائعة بالنِّسبة إلى موسى، فإنَّ مُقارنتها بِإعلان الله الَّذي قدَّمه لنا في يسوع المسيح لا تزال غير مُمكِنَة.