سفر الخروج – الإصحاح ٢
وِلادةُ موسى ومسارُ مهنَتِهِ الباكِر
أولًا. وِلادةُ موسى وطفولَتِهِ
أ ) الآيات (١-٢): وُلِدَ موسى – صبيٌّ حسَنُ المنظَر من سبطِ لاوي.
١وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لَاوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لَاوِي، ٢فَحَبِلَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ٱبْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ.
- فَحَبِلَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ٱبْنًا: لقد فتح الطِّفلُ موسى عينيهِ على عالَمٍ غير ودِّي. فقد وُلِدَ في أُمَّةٍ قويَّة، لكنَّه كان من جنسٍ غريبٍ ومُضطهَد، وذلك خلال فترةٍ كان الأطفالُ فيها تحت رحمةِ حُكمٍ ملَكيٍّ بالموت. ومع ذلك، كان لِمُوسى شيءٌ ما خاصٌ: لقد وُلِدَ لِوَالِدَين مُؤمِنَين.
- لَم يكُن موسى الإبن البكر في عائلتهِ. فقد كان له على الأقلِّ أخًا أكبرَ منه (هارون) وأُختًا أكبرَ منه أيضًا (مريَم).
- وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لَاوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لَاوِي: يُخبِرُنا سفر الخروج ٢٠:٦ باسمَي والِدَي موسى: عَمْرَام و يُوكَابَدَ. تقول الأساطير اليهوديَّة الخياليَّة بأنَّ وِلادَةَ موسى كانت خالية من الألَم بالنِّسبة إلى أُمِّهِ، وأنَّ وجهَهُ عند وِلادتهِ كان جميلًا لدرجةِ أنَّ الغرفة امتلأت بنورٍ يوازي نورَي الشمس والقمر مُجتمِعَين، وأنَّه مشى وتكلَّم عندما كان عُمره يومًا واحِدًا، وأنَّه رفض الرِّضاعة مُعتمِدًا على أكل الغذاء الجامِد القويّ منذ وِلادته.
- خَبَّأَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ: لَم يَقُم والِدا موسى بفعل ذلك بناءً على الغريزة الأبويَّة الطَّبيعيَّة، بل أيضًا بناءً على إيمانهم بالله. يصِف عبرانيِّين ٢٣:١١ إيمان أبوَي موسى: “بِٱلْإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُمَا رَأَيَا ٱلصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ ٱلْمَلِكِ.”
ب) الآيات (٣-٦): تجِدُ ابنةُ فرعون موسى.
٣وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ، أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ ٱلْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِٱلْحُمَرِ وَٱلزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ ٱلْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ ٱلْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ ٱلنَّهْرِ. ٤وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. ٥فَنَزَلَتِ ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ٱلنَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ ٱلنَّهْرِ. فَرَأَتِ ٱلسَّفَطَ بَيْنَ ٱلْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. ٦وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ ٱلْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هَذَا مِنْ أَوْلَادِ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ».
- وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ ٱلْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ ٱلنَّهْرِ: بمعنًى حرفيٍّ ما، لقد التزمت أُمُّ موسى القيامَ بما أمرَ بهِ فرعون بالضبط: أن تضعَ ابنَها في النَّهر (خروج ٢٢:١). وبالرغم من ذلك، فقد حرِصَت بأن تضعهُ في سَفَطٍ أو سلَّةٍ مُقاوِمَة للماء ووضعتهُ بشكلٍ استراتيجيّ كي يطفوَ في النهر.
- “استُخدِمَت كلِماتُ ’سَفَطًا مِنَ ٱلْبَرْدِيِّ‘ فقط هُنا وفي المقطع الَّذي تكلَّم فيه عن فُلكِ نوح.” (كايزر). “من الأفضل ترجمة العبريَّة إلى ’سَفَطًا مِنَ ٱلْبَرْدِيِّ‘؛ فقد استُخدِمَت هذه الكلِمات فقط في الإشارة إلى فُلْكِ نوح.” كُول (Cole)
- بل أكثر من ذلك، كان هذا أُنموذجًا في تسليم خَيرِ ومُستقبَلِ الولَد لله وحدَهُ. عندما تركت أُمُّ موسى السَّفطَ المصنوع من ٱلْبَرْدِيِّ بأن يطفوَ بعيدًا، فقد تخلَّت عن شيءٍ ثمينٍ واثِقةً بأنَّ الله سيَعتني به ولَرُبَّما يُرجِعُهُ إليها.
- وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ: لقد وجدَت ابنةُ فرعون الصبيّ بإرشادِ الله. فهيَ قد تعلَّمت من ثقافتها وتربيتها بأن ترفُضَ العبرانيِّين، لكنَّ بُكاء الطِّفل موسى أذابَ قلبَها.
- لقد خطَّطَ الله بدقَّةٍ جميلة من أجلِ تحريرِ كُلًّا من موسى وشعبِ إسرائيل، في نهاية المطاف. فقد أرشَدَ بِحِرَفيَّةٍ والِدَي موسى وتيَّاراتِ نهر النِّيل وقلبِ ابنةِ فرعون من أجلِ تتميمِ خُطَّتهِ وقصدِهِ.
ج) الآيات (٧-١٠): تهتمُّ ابنةُ فرعون بموسى وبِتَربيَتهِ.
٧فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ ٱمْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ ٱلْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ ٱلْوَلَدَ؟» ٨فَقَالَتْ لَهَا ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ: «ٱذْهَبِي». فَذَهَبَتِ ٱلْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ ٱلْوَلَدِ. ٩فَقَالَتْ لَهَا ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ: «ٱذْهَبِي بِهَذَا ٱلْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ.١٠ وَلَمَّا كَبِرَ ٱلْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ٱبْنًا، وَدَعَتِ ٱسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي ٱنْتَشَلْتُهُ مِنَ ٱلْمَاءِ».
- ٱذْهَبِي بِهَذَا ٱلْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ: باستخدامهِ الـمُبادرَة الذَّكيَّة لعائلةِ موسى وحاجةِ ابنةِ فرعون، فقد دبَّرَ الله طريقًا لِأُمِّ موسى لأن تُربِّيهِ في سنواتِ حياتهِ الأُولَى وتأخُذَ أجرَهَا.
- فَصَارَ لَهَا ٱبْنًا: كَونُهُ ابنًا لابنَةِ فرعون بالتَّبنِّي، أصبح موسى جزءًا من العائلة الـمَلَكيَّة. كتب الـمُؤرِّخ اليهوديُّ القديم، يوسيفوس، بأنَّ موسى كان وريثًا لِعَرشِ مصرَ وفي صِغَرِهِ قاد جيشًا من المصريِّين إلى معركةٍ غالِبَة ضدَّ الأثيوبيِّين.
- بكلِّ تأكيدٍ، لقد هُذِّبَ ورُبِّيَ موسى بكلِّ علومِ وحكمة مصر. يُشير سفر أعمال الرُّسُل ٢٢:٧ إلى الفكر العلميّ التَّالي: “فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِرًا فِي ٱلْأَقْوَالِ وَٱلْأَعْمَالِ.” كانت مصرُ واحِدةً من أكثر المجتمعات عِلمًا وثقافةً بين القدماء. فَمِن المنطقيّ الإعتقاد بأنَّ موسى قد تعلَّم موادًا في الجغرافيا والتَّاريخ واللُّغَّة والأدَب والفلسفة والموسيقى.
- بما أنَّ موسى كان في العائلة الـمَلَكيَّة، فنحن نتوقَّع بأنَّه عند تَجوالِهِ كان يركَبُ مركبةً أميريَّة وحُرَّاسُهُ يُنادون: “لِتَنحَنِ الرُّكَب.” فلَو طفى على وجه مياه النِّيل، لَفَعلَ ذلك في سفينةٍ مَهيبة ورائعة مع مُرافقَة موسيقيَّة؛ لقد عاشَ حياةً مُلوكيَّة. ونحن نعلَمُ أيضًا بأنَّ أُمَّ موسى العبرانيَّة كان لها تأثيرًا بَيِّنًا في حياتهِ، لذلك يُمكِن القَول بأنَّهُ قد تربَّى في كَنَفِ إرثِ والدتهِ العبريّ.
- كان لِكَاتبٍ مسيحيٍّ قديم اسمَهُ أُوريغون طريقةً مجازيَّة خياليَّة في ترجمة الكُتُب المقدَّسة، وما قامَ بفعلِهِ بتلك المقاطع الـمُتعلِّقة بموسى وابنةِ فرعون كان مثلًا صالِحًا لِخَطر الإستعارة الزَّائدة للكُتُب. فقد كان فكرُ أُوريغون بالنِّسبة إلى هذا المقطع مُعبَّرًا عنه على الشكل التالي:
- يُمثِّلُ فرعون الشَّيطان.
- يُمثِّل كُلًّا من الأطفال العبرانيِّين الذُّكور والإناث الحيوان والجوانِب العقلانيَّة للرُّوح، على التَّوالي.
- يُريد الشَّيطان بأن يقتُلَ الشخصيَّة العقلانيَّة للإنسان ويَستحِيي الطَّبيعة الحيوانيَّة.
- تُمثِّل القابِلَتان العهدَين القديم والجديد.
- يُريدُ فرعون إفسادَ القابِلَتَين وذلك من أجلِ تدمير طبيعة الإنسان العقلانيَّة.
- بما أنَّ القابِلَتان كانتا أمينتَين، فقد بنى الله بيوتًا للصَّلاةِ في كلِّ الأرضِ.
- تُمثِّلُ ابنةُ فرعون الكنيسة، فهيَ تُعطي موسى ملاذًا آمِنًا، وهو مَن يُمثِّلُ النَّاموس.
- تُمثِّلُ مياهَ النِّيلِ مياه المعموديَّة.
- عندما نمرُّ في اختبارِ مياهِ المعموديَّة ونأخُذُ النَّاموس في قلوبنا، – تلك القصور الـمَلَكيَّة – عندها ينمو النَّاموس إلى نضوجٍ روحيٍّ.
- يقول كلارك (Clarke) بحقٍّ عن هذا التَّفسير التَّالي: “إنَّ كلَّ فقَرَةٍ وحقيقة يُمكِنُ اعتبارها بأنَّها توحي بشيء و بأيِّ شيءٍ و بكلِّ شيءٍ، أو لا شيء، وذلك بحسبِ هَوَى العقيدة أو النَّزوَة الغريبة لِلـمُفسِّر.”
ثانيًا. هروبُ موسى من مصر
أ ) الآية (١١): يَكبُرُ موسى ويستحوِذُ على تَعاطُفِ إخوتهِ الإسرائيليِّين.
١١وَحَدَثَ فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلًا مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلًا عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ.
- لَمَّا كَبِرَ مُوسَى: يقول سفر أعمال الرُّسُل ٢٣:٧ بأنَّ هذا قد حدثَ عندما كان موسى في الأربعين من عُمرِه. وحتَّى ذلك الحين، فقد تدرَّب موسى وتهيَّأَ لِيَصيرَ فرعون مصر القادِم (بحسب يوسيفوس)، وهذا كلَّهُ وهو عالِمٌ بأُصولِهِ الحقيقيَّة بسبب أُمِّه.
- لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ: “تعني هذه العبارَة أكثر من ’ينظرَ.‘ فهيَ تعني ’أن ينظُرَ بِعَطفٍ،‘ إمَّا باكتفاءٍ (تكوين ١٦:٩) أو، كما هُنا، بِحُزنٍ (تكوين ١٦:٢١). لقد كان موسى رجُلًا يتشارَكُ مع قلبِ الله.” كُول (Cole)
- يُخبِرُنا سفرُ العبرانيِّين ٢٤:١١-٢٦ بما اختلَج في قلبِ وعقلِ موسى لـمَّا نَظَرَ فِي أَثْقَالِهِمْ. يقول أنَّه بالإيمان قرَّر موسى وبِتَعمُّدٍ بأن يعترِفَ بشعبهِ إسرائيل بدلَ الإعتبار والمقام المصريَّيَن. “بِٱلْإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلًا بِٱلْأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ ٱللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِٱلْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ ٱلْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمُجَازَاةِ.” (عبرانيِّين ٢٤:١١-٢٦).لقد عرفَ موسى مَن يكون. بالرغم من كُلِّ هذا الإغراء وهذه الرَّاحة في حياة المصريِّ، فقد عَلِمَ بأنَّ هذا “لا يُشبِهُهُ.” فقد ساهم إيمانُهُ بالله في معرفة مَن يكون.
- فَرَأَى رَجُلًا مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلًا عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ: لأنَّه كان لِموسى قلبًا مليئًا بالعطفِ والأُخوَّة (مِنْ إِخْوَتِهِ) تجاه شعبِهِ، لم يستطِع الوقوف على الحياد عندما كان يُعايِنُ أخًا إسرائيليًّا يتحمَّلُ الضَّرب.
ب) الآية (١٢): يقتُلُ موسى رجُلًا مصريًّا.
١٢فَٱلْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ ٱلْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي ٱلرَّمْلِ.
- فَٱلْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ: هذه هي أفعالُ رَجُلٍ كان يعلَم بأنَّه على وشَكِ الإقدام على القيام بأمرٍ خاطئ. كان لِمُوسى أسبابٌ عديدة للقيام بذلك، لكنَّ قلَقَهُ بأن يُخفِيَ فعلَتَهُ يُظهِرُ ضميرًا مُتعَبًا.
- فَقَتَلَ ٱلْمِصْرِيَّ: يشرَح الكتاب الـمُقدَّس بنفسِهِ بعضًا من طريقة تفكير موسى وراء هذا الفعل. فَسِفرُ أعمال الرُّسُل ٢٣:٧-٢٥ يشرَح بأنَّ موسى قام بذلك للدِّفاع عن، بل والإنتقامِ للإسرائيليّ، الـمَضروب، لكنَّه كان يتوقَّعُ أيضًا بأنَّ رفقاءَهُ الإسرائيليِّين سيَعتبِرونَهُ مُحرِّرًا لهُم.
- “وَلَمَّا كَمِلَتْ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، خَطَرَ عَلَى بَالِهِ أَنْ يَفْتَقِدَ إِخْوَتَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ .وَإِذْ رَأَى وَاحِدًا مَظْلُومًا حَامَى عَنْهُ، وَأَنْصَفَ ٱلْمَغْلُوبَ، إِذْ قَتَلَ ٱلْمِصْرِيَّ .فَظَنَّ أَنَّ إِخْوَتَهُ يَفْهَمُونَ أَنَّ ٱللهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا” (أعمال الرُّسُل ٢٣:٧-٢٥).
- كَيسوع تمامًا، لَم يكُن في استطاعةِ موسى أن يُحرِّرَ شعبَهُ بينما كان عائشًا في قصورِ المجد. لقد كان عليهِ أن ينزِلَ عن العرش، بعيدًا عن القصر، ويأتيَ إلى مكانٍ وضيعٍ كَيما يستطيع بأن يُحرِّرَ شعبَهُ.
ج) الآيات (١٣-١٤): يُرفَض موسى من شعبِهِ الخاص.
١٣ثُمَّ خَرَجَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي وَإِذَا رَجُلَانِ عِبْرَانِيَّانِ يَتَخَاصَمَانِ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: «لِمَاذَا تَضْرِبُ صَاحِبَكَ؟» ١٤فَقَالَ: «مَنْ جَعَلَكَ رَئِيسًا وَقَاضِيًا عَلَيْنَا؟ أَمُفْتَكِرٌ أَنْتَ بِقَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ ٱلْمِصْرِيَّ؟». فَخَافَ مُوسَى وَقَالَ: «حَقًّا قَدْ عُرِفَ ٱلْأَمْرُ».
- لِمَاذَا تَضْرِبُ صَاحِبَكَ؟: كان يعتقِدُ موسى بوجود سببٍ يجعلهُ يظنُّ بأنَّ عِلمَهُ وخلفيَّتَهُ الـمَلَكيَّة ونجاحَهُ وعطفَهُ الكبير تجاه شعبهِ إسرائيل جميعها سَتُعطيهِ المصداقيَّة لديهم. لقد حاولَ هُنا بأن يتدخَّلَ في نزاعٍ عنيف بين رَجُلَين عبرانيَّيَن.
- يُمكِننا القَول بأنَّ موسى كان قاتلًا في البداية، ثُمَّ مُتدخِّلًا بعدَها.
- مَنْ جَعَلَكَ رَئِيسًا وَقَاضِيًا عَلَيْنَا؟: بدا موسى وكأنَّه يتصرَّف كأميرٍ نظَرًا لِخَلفيَّتهِ الـمَلَكيَّة. لقد تصرَّف كقاضٍ نظَرًا لِكَونه حازِمًا في تحديد مَن كان مُخطِئًا. فقد بدا وكأنَّه الأمير والقاضي المثاليَّين لإسرائيل، لكنَّهم رفَضُوه.
- للأميرِ الحقُّ في الحُكمِ وهو يتوقَّع الإنصياع. للقاضي الحقُّ في تحديد ما يجب عليك أن تقومَ به، وأن يُعاقِبَك في حالة عدَم الإنصياع. ففي رَفضِهِم لِـمُوسى، قالوا له: “لا نُريدك أن تحكُمَ علينا أو أن تقولَ لنا ماذا ينبغي أن نفعَل.” ترفُض النَّاس يسوع بذات العقليَّة، وكما موسى تمامًا، لقد تمَّ رَفضُ يسوع في مجيئهِ الأوَّل.
- كان موسى ويسوع:
- مُفضَّلَين لدى الله منذ ولادتهما.
- حُفِظَا بشكلٍ عجائبيّ في طفولتهما.
- مُقتدِرَين في الكلام والأفعال.
- مُقدِّمَين تحريرًا لإسرائيل.
- مَرفوضَين بحِقدٍ وضغينة.
- مَرفوضَين أو مَحرومَين من حقِّهما بأن يكونا أميرَين وقاضيَين على إسرائيل.
- كما كان يسوعُ بعدَهُ، لَم يستطِع موسى بأن يُحرِّر عندما كان ساكِنًا في قصورِ المجد. لقد كان عليهِ أن ينزِلَ عن العرش، بعيدًا عن القصر، ويأتيَ إلى مكانٍ وضيعٍ كَيما يستطيع بأن يُحرِّرَ شعبَهُ.
- لقد خطَّطَ موسى لِتَحريرِ إسرائيل بأُسلوبٍ بشريٍّ، كما يفعل أيُّ إنسان، واعتبر نفسَه بشكلٍ منطقيٍّ بأنَّه الرَّجُل الأساسيّ، وذلك يعودُ إلى عِلمِهِ وخلفيَّتهِ الـمَلَكيَّة ونجاحِهِ وعطفِهِ الكبير تجاه شعبهِ.
- كان لِمُوسى خُطَطُهُ، وهي منطقيَّة بِنَظَرِهِ. بالرغم من ذلك، لقد كانت خُطَّةُ الله مُختلِفة بشكلٍ جذريٍّ. وبعد أربعينَ سنةً، قاد الله موسى وأخاهُ هارون إلى فرعون ومعهما عصًا تحوَّلت إلى ثُعبان. طلبَ موسى من فرعون بأن يُطلِقَ الإسرائيليِّين للعودةِ إلى كنعان؛ أجاب فرعون بالنَّفي، لذلك جلب الله ضربات الدَّمِ والضَّفادع والبَعوض والذُّبَّان وطاعون الماشية والدَّمامِل والبَرَد والجراد والظُّلمَة. وفي الختام، دان الله فرعون العنيد ومصرَ بضَربة الأبكار، بينما سارع الإسرائيليُّون إلى الهروب عبرَ البحر الأحمَر. ولـمَّا عادت مياه البحر الأحمَر إلى مجاريها، أبادَت وقتلت الجيش المصريّ، بينما عبر الإسرائيليُّون إلى البريَّة وأتوا إلى كنعان. فهذه الخُطَّة غير الإعتيادية وغير المعقولَة لا يُمكِن أن تَنتُجَ عن بشرٍ.
د ) الآيات (١٥-١٩): يهربُ موسى باتِّجاه مديان.
١٥فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا ٱلْأَمْرَ، فَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى. فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ وَسَكَنَ فِي أَرْضِ مِدْيَانَ، وَجَلَسَ عِنْدَ ٱلْبِئْرِ. ١٦وَكَانَ لِكَاهِنِ مِدْيَانَ سَبْعُ بَنَاتٍ، فَأَتَيْنَ وَٱسْتَقَيْنَ وَمَلَأْنَ ٱلْأَجْرَانَ لِيَسْقِينَ غَنَمَ أَبِيهِنَّ. ١٧فَأَتَى ٱلرُّعَاةُ وَطَرَدُوهُنَّ. فَنَهَضَ مُوسَى وَأَنْجَدَهُنَّ وَسَقَى غَنَمَهُنَّ. ١٨فَلَمَّا أَتَيْنَ إِلَى رَعُوئِيلَ أَبِيهِنَّ قَالَ: «مَا بَالُكُنَّ أَسْرَعْتُنَّ فِي ٱلْمَجِيءِ ٱلْيَوْمَ؟» ١٩فَقُلْنَ: «رَجُلٌ مِصْرِيٌّ أَنْقَذَنَا مِنْ أَيْدِي ٱلرُّعَاةِ، وَإِنَّهُ ٱسْتَقَى لَنَا أَيْضًا وَسَقَى ٱلْغَنَمَ».
- فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ: لَرُبَّما شَعَر موسى وهو هارِبٌ لنجاة نفسِهِ بأنَّه قد تمَّت الإطاحةُ الكامِلَة بِخُطَّة الله الـمُتعلِّقة بحياتهِ. ولَرُبَّما اعتقدَ أيضًا بأنَّ أيَّة فُرصةٍ لتحرير شعبه قد انتفَت الآن ولا يوجد أيُّ شيءٍ يُمكِنهُ أن يقوم به. ففي هذه اللَّحظة بالذَّات، كان موسى في المكان الَّذي أرادَه الله بأن يكونَ فيه.
- لَم يكُن موسى يمتلِكُ أدنى فكرةٍ عن هذا الموضوع في ذلك الوقت، فقد كان كبيرًا جدًّا لإمكانِ استخدامهِ من قِبَل الله. وبعد أربعين سنةً من التَّحضير المثاليّ، بحسب الظَّاهِر، كان لله فترةٌ أُخرى من التَّحضير لكلٍّ من موسى وشعبِ إسرائيل، وذلك من أجل استعدادهم لِقَبول موسى.
- وَسَكَنَ فِي أَرْضِ مِدْيَانَ: لَو قرَّ الأمرُ بأن يذهبَ موسى باتِّجاه أراضي كنعان وسوريَّة، لَمَا وجدَ هُناك أيَّ ملجأ – فقد كان هُناك مُعاهدَة بين رعمسيس الثَّاني وملِك الحثِّيِّين تُعنَى بإلقاءِ القَبْضِ على الفارِّين من وجهِ العدالَة على طول الطَّريق الشماليَّة الـمُؤدِّية إلى سوريَّة وترحيلهم. لذا توجَّه موسى جنوبًا بدلًا من ذلك، أي باتِّجاه مِدْيَان.
- كانت مِدْيَان في تلك الأيَّام تُشير إلى تلك البقعة على الجهَّتَين الغربيَّة والشَّرقيَّة للبحر الأحمَر، أي في أيَّامنا هذه تلك الأرض الـمُشار إليها بالعربيَّة السُّعوديَّة (على الجهَّة الشَّرقيَّة للبحر الأحمَر) ومصر (على شبه جزيرة سيناء، على الجهَّة الغربيَّة للبحر الأحمَر).
- وَكَانَ لِكَاهِنِ مِدْيَانَ سَبْعُ بَنَاتٍ: أخيرًا، جاءَ موسى إلى مديان والتقى بِبَناتِ كَاهِنِ مِدْيَان – مُتحَدِرٌ مُحتَمَلٌ من أحدِ أبناءِ إبراهيم من امرأتهِ قَطُورَة اسمُهُ مديان (تكوين ١:٢٥-٢).
- بسببِ هذه العلاقة مع إبراهيم، لدينا سببٌ وجيه للاعتقاد بأنَّه (أي مديان) كان كاهِنًا حقيقيًّا ويعبدُ الله الحيّ الحقيقيّ. لقد قادَ الله موسى إلى هذه العائلة خصِّيصًا في هذا الوقت الـمُحدَّد.
- يقول الـمُفسِّر ترَاب (Trapp) عن هذه العبارة، فَأَتَيْنَ وَٱسْتَقَيْنَ وَمَلَأْنَ ٱلْأَجْرَانَ لِيَسْقِينَ غَنَمَ أَبِيهِنَّ، التَّالي: “لَم يكُنَّ قد تربَّيَنَ بدقةٍ كما السيِّدات الجميلات في أيَّامنا الحاليَّة، لكنَّهُنَّ استحقَقْنَ أجرهُنَّ.”
- فَنَهَضَ مُوسَى وَأَنْجَدَهُنَّ وَسَقَى غَنَمَهُنَّ: كان يتمتَّع موسى بحياةِ شخصٍ ينتمي إلى عائلةٍ مَلَكيَّة في مصرَ، وكان يُخدَمُ في جميع حاجاتهِ بشكلٍ مُستدام. أمَّا في هذه الصَّحراء البعيدَة في مديان، استطاع موسى أخيرًا بأنَّ يتمتَّع بفرصةِ أن يكونَ خادِمًا، وقد أبلى بلاءً حسنًا بالفعل عندما ساعد على سَقي غنم بنات رَعُوئِيل.
- “بما أنَّ موسى كان لا يزالُ يعتَمِر الثِّياب المصريَّة، فقد اعتقدوهُ بأنَّهُ رجلٌ مصريٌ في جنسيَّتِهِ.” كايزر (Kaiser)
هـ) الآيات (٢٠-٢٢): ينضَمُّ موسى إلى عائلة كاهنِ مديان.
٢٠فَقَالَ لِبَنَاتِهِ: «وَأَيْنَ هُوَ؟ لِمَاذَا تَرَكْتُنَّ ٱلرَّجُلَ؟ ٱدْعُونَهُ لِيَأْكُلَ طَعَامًا». ٢١فَٱرْتَضَى مُوسَى أَنْ يَسْكُنَ مَعَ ٱلرَّجُلِ، فَأَعْطَى مُوسَى صَفُّورَةَ ٱبْنَتَهُ. ٢٢فَوَلَدَتِ ٱبْنًا فَدَعَا ٱسْمَهُ «جَرْشُومَ»، لِأَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ نَزِيلًا فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ».
- فَٱرْتَضَى مُوسَى أَنْ يَسْكُنَ مَعَ ٱلرَّجُلِ: يبدو أنَّ موسى بزواجهِ من امرأة وإنجابهِ لابنٍ أظهر تخلِّيَهُ عن مصر وعن ذلك الأمل بتحرير إسرائيل. كان موسى مُكتَفِيًا بذلك المكان حيث وضعه الله، بالرغم من أنَّ مديان كانت مُختَلِفة كثيرًا عن مصر.
- صَفُّورَةَ: “يُمكِن ترجمتها ’مُطرِبَة/شادِية‘ أو أقلُّ لُطفًا، ’مُثَرثِرة/مَصفُورة‘؛ فهذا الإسم هو لِطائرٍ صغير.” كُول (Cole)
- فَدَعَا ٱسْمَهُ جَرْشُومَ: كان هذا الإسمُ – الَّذي يعني ’غريبٌ‘ – دليلًا على نوعٍ ما من الوِحدَة، أي العيش مُنفصِلًا عن أحدِ هذَين الأمرَين: المصريُّون أو العبرانيُّون.
- نُخطِئ عندما نفتكِر بأنَّ السِّنين التي أمضاها في مديان كانت فترة ’انتظارٍ‘ بالنِّسبة إلى موسى. كانت هذه السِّنين، بدلًا من ذلك، سنينَ عمليَّة؛ لم يعمَل بهذا الكَدِّ والجَدِّ في حياته! لقد درَّبَهُ الله مُحوِّلًا إيَّاهُ من أجل دعوتهِ الـمُستقبليَّة، لكنَّ موسى لَم يكُن حتمًا ’في حالة انتظار.‘
- لقد تعلَّم موسى في مصر بأن يكون بارِزًا. أمَّا في مديان، فقد تعلَّم الإختفاء. “لقد تعلَّم قِسطًا لا بأس به في مصرَ، لكنَّه تعلَّم الكثير في مديان.” ترَاب (Trapp)
و ) الآيات (٢٣-٢٥): يتذكَّر الله إسرائيل ويُركِّز اهتمامَه نحوَهُم.
٢٣وَحَدَثَ فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ ٱلْكَثِيرَةِ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ مَاتَ. وَتَنَهَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا، فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إِلَى ٱللهِ مِنْ أَجْلِ ٱلْعُبُودِيَّةِ. ٢٤فَسَمِعَ ٱللهُ أَنِينَهُمْ، فَتَذَكَّرَ ٱللهُ مِيثَاقَهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. ٢٥ وَنَظَرَ ٱللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلِمَ ٱللهُ.
- فَسَمِعَ ٱللهُ أَنِينَهُمْ، فَتَذَكَّرَ ٱللهُ: إذا كان مُمكِنًا لأن ’ينسى‘ موسى إسرائيل في مصرَ (بمعنى تحويل انتباهَهُ الحيويّ عنهُم)، فالله لَن ينسى. لقد تَذَكَّرَ ٱللهُ (وأيضًا، بمعنى تحويل انتباهَهُ الحيويّ نحوَهُم) إسرائيل وكَربَهُم ومِحنَتَهُم.
- عندما تَنَهَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا، يُمكِن القَول: “لقد سُمِع صوتُ البُؤسِ.” كايزر (Kaiser)
- فَتَذَكَّرَ ٱللهُ مِيثَاقَهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ: لَم يُعِر الله اهتمامًا بالإسرائيليِّين لأنَّهم شعبٌ صالِحٌ، بل بسبب عهدِهِ وميثاقِه الَّذي قطعَهُ معهم. فهو يُعطينا محبَّتهُ واهتمامَهُ على نفس الأساس – علاقةُ العهدِ التي لنا مع الله في يسوع المسيح.