تفسير سفر المزامير – مزمور ١٣٦
رحمة الله التي لا نهاية لها
هذا مزمور مميز، حيث تكرر كل آية من آياته الست والعشرين عبارة ’لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.‘ وقد أكد المزمور ١١٨ هذه الفكرة خمس مرات. وعلى مدى الكتاب المقدس العبري، تحمل هذه العبارة معنى طقسيًّا إلى حد ما، كم لو أن شعب إسرائيل المجتمعين كانوا يرددون أو يرنمون هذه العبارة استجابة لتوجيه اللاويين الذين كانوا يقودون العبادة والترنيم. وتشير سفر عزرا ٣: ١١ إلى أن هذا التشجيع كان جزءًا من ترنيم تجاوبيٍّ بين شعب الله: “وَغَنَّوْا بِٱلتَّسْبِيحِ وَٱلْحَمْدِ لِلرَّبِّ، لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ عَلَى إِسْرَائِيلَ. وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ هَتَفُوا هُتَافًا عَظِيمًا بِٱلتَّسْبِيحِ لِلرَّبِّ لِأَجْلِ تَأْسِيسِ بَيْتِ ٱلرَّبِّ.”
وتُستخدم هذه العبارة عدة مرات أخرى في العهد القديم، حيث كان السياق في كل مرة هو التسبيح العام أو الإعلان العام: لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.· في مزمور داود المدوّن في ١ أخبار ١٦: ٧ (١٦: ٣٤)
· في مهمات الكهنة في زمن داود (١ أخبار ١٦: ٤١)
· في تسبيح إسرائيل عند تدشين هيكل سليمان (٢ أخبار ٥: ١٣؛ ٧: ٣؛ ٧: ٦)
· في سجل انتصار الرب على العمونيين (٢ أخبار ٢٠: ٢١)
· في تسبيح إسرائيل بعد الدمار التي عانت منه في الغزو البابلي (إرميا ٣٣: ٩-١٠)
· في تدشين هيكل عزرا (عزرا ٣: ١١)
نحن نتصور حشدًا عظيمًا من الناس مجتمعين في ساحات الهيكل. ويعلن كاهن أو لاوي سببًا لإعطاء الشكر لله، فيستجيب الشعب قائلين: لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
“يدعى المزمور ١٣٦ في التقليد اليهودي ’الهّلِّل العظيم‘ (أو مزمور التسبيح العظيم). وهو لا يستخدم تعبير هللويا، لكنه يُدعى ’الهّلِّل العظيم‘ بسبب الطريقة التي يعرض فيها صلاح الله تجاه شعبه ويشجعهم على تسبيحه على مراحمه ومحبته الثابتة.” بويس (Boice)
أولًا. رحمة الله الدائمة منذ بداية الزمن
أ ) الآيات (١-٤): رحمة الله الدائمة في طبيعته الجوهرية وكينونته.
١اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لِأَنَّهُ صَالِحٌ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ٱحْمَدُوا إِلَهَ ٱلْآلِهَةِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمتَهُ. ٣ٱحْمَدُوا رَبَّ ٱلْأَرْبَابِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٤ٱلصَّانِعَ ٱلْعَجَائِبَ ٱلْعِظَامَ وَحْدَهُ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لِأَنَّهُ صَالِحٌ: كما في المزمور السابق، يقدم المزمور ١٣٦ الحمد والتسبيح لله على صلاحه. وإن حقيقة كون الله صالحًا أمر أساسي لكل طبيعته وجوهره وكل ما يفعله. ونحن نعرف أن الله محبة (١ يوحنا ٤: ٨؛ ٤: ١٦)، وأن هذه المحبة تعبير عن صلاحه. وهذا سبب رائع لإعطاء الرب الحمد.
· “ليس إعطاء الشكر هو كل ما تتضمنه الكلمة هذه من معنى. ولهذا يدعونا عبادة متروية وممتنّة فنوضح ما نعرفه أو ما اكتشفناه عن الله وأعماله.” كيدنر (Kidner)
· “إنه صالح بما يتجاوز كل الآخرين. بل إنه وحده الصالح بالمعنى الأسمى. وهو مصدر كل صلاح (خير)، وهو صلاح كل صلاح، وحافظ كل صلاح، وحامي الصلاح، ومكافئ الصلاح. ولهذا يستحق امتنانًا دائمًا من شعبه.” سبيرجن (Spurgeon)
· لأننا مخلوقون على صورة الله (تكوين ١: ٢٦-٢٧)، فإننا نعرف شيئًا عما هو صالح. غير أننا ساقطون ( رومية ٥: ١٩)، ومعرفتنا بالصلاح فاسدة، غير أن تصوَّرنا الكلي للصلاح متجذر في الله وصلاحه.
· أولئك الذين يشككون في صلاح الله، فإنهم يفعلون هذا حسب قياس لما هو صالح وشرير. ويربطهم وجود هذا المقياس نفسه بشيء يتجاوزهم، شيء يعود إلى الخالق الذي صنعهم على صورته.
٢. لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ: هذه أول مرة من ٢٦ مرة تتكرر هذه العبارة في هذا المزمور. ويرجح أن هذه العبارة كانت ردًّا من جماعة إسرائيل على كل أول سطر ينطقه أو يرنمه الكهنة أو اللاويون.”
· توحي ١ أخبار ١٦: ٣٧-٤١ بأن عبارة ’لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ‘ كانت ترنَّم يوميًّا كجزء من طقس الذبائح الصباحية والمسائية.
· “تصبح الترانيم التي تتضمن قرارًا بسيطًا قويًّا مفضلة لدى الكنائس. ومن المؤكد أن هذا القرار كان واحدًا من أفضل القرارات والمحببة للقلوب.” سبيرجن (Spurgeon)
· لقد رأينا أعظم إظهار لرحمة الله التي لا تنتهي في شخص يسوع المسيح المخلّص وعمله.
٣. لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ: ينادي هذا الإعلان بأن رحمة الله (بالعبرية حِسِدْ) لا تنتهي، وأنها ستعطى لشعبه دائمًا.
· الرحمة هي ترجمة للكلمة العبرية ’حِسِدْ،‘ والتي يمكن أن تُفهم على أنها نعمة الرب، ومحبته المخْلصة، ومحبته العهدية لشعبه. ولقد شدّد بعض الباحثين على هذا الجانب من العهد، مستمدين معاني زائدة من هذه الكلمة العبرية. وتجمع كلمة ’حِسِدْ‘ الولاء للعهد بمحبة ورحمة حقيقيتين.
تُرجمت الكلمة العبرية ’حِسِدْ‘ لمدة قرون إلى رحمة ولطف ومحبة. وفي عام ١٩٢٧، قال باحث اسمه نيلسوم جلويك (Nelson Glueck) (وآخرون) إن الفكرة الحقيقية وراء هذه الفكرة هي ’ولاء العهد‘ أكثر منها المحبة أو الرحمة. غير أن كثيرين اختلفوا معه. ولا يوجد أي سبب وجيه لتغيير الفهم الذي تلقّيناه منذ زمن بعيد لنأخذها على أنها تؤكد بشكل رئيسي ولاء العهد. راجع كتاب ر. لاريد هاريس (R. Laird Harris) بعنوان:
(Theological Wordbook of the Old Testament)
٤. ٱحْمَدُوا إِلَهَ ٱلْآلِهَةِ … ٱحْمَدُوا رَبَّ ٱلْأَرْبَابِ: تتكرر أسباب حمد الله وتسبيحه. وهنا يرتبط السبب بطبيعة الله وكينونته. فهو أعظم من أي إله مزعوم أو رب تعبده الأمم. ويمكن استخلاص هذه الفكرة من سفر التثنية ١٠: ١٧.
· رَبَّ… إِلَهَ… رَبَّ: تشير المقاطع الافتتاحية إلى ذاك الذي يشار إليه عبر المزمور باستخدام ثلاثة أسماء عظيمة يُعْرَف بها: يهوه، لقب النعمة (الآية ١)، وإيلوهيم، اسم القدرة (الآية ٢)، وأدوناي، لقب السيادة (الآية ٣). مورجان (Morgan)
· رَبَّ ٱلْأَرْبَابِ: “كل الأرباب في صيغة الجمع ملخّصة في هذا الرب في صيغة المفرد. فهو أكثر تسيُّدًا وقدرة من كل الأباطرة والملوك مكَثَّفين معًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. ٱلصَّانِعَ ٱلْعَجَائِبَ ٱلْعِظَامَ وَحْدَهُ: دُعي شعب الله إلى تسبيحه بصفته الإله صاحب القوة الحقيقية والعجائب المعجزية. وتصف بقية المزمور كثيرًا من هذه العجائب، والتي كانت وما زالت تعبيرًا عن رحمته العظيمة (حِسِدْ) لشعبه.
· “الصفتان المذكورتان سابقًا هما ’الصلاح والقوة.‘ فالأولى تجعله راغبًا في الخلاص، بينما تجعله الثانية قادرة علي إنجاز الخلاص. فماذا يمكننا أن نطلب أكثر إلا أن يبقى هكذا؟” هورن (Horne)
· “أعماله كلها عظيمة في العجب عندما لا تكون عظيمة في الحجم. وفي واقع الأمر، نحن نرى الأشياء الدقيقة من خلال المجهر عجائب عظيمة، كما يمكن أن يكشفها حتى التليسكوب.” سبيرجن (Spurgeon)
· إنه أمر صحيح أن الله وحده يستطيع أن يفعل العجائب (ٱلصَّانِعَ ٱلْعَجَائِبَ ٱلْعِظَامَ وَحْدَهُ). وتخبرنا السطور التالية أن الخليقة هي بداية تلك العجائب، لا آخرها.
ب) الآيات (٥-٩): رحمة الله الدائمة في عمله كخالق.
٥ٱلصَّانِعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٦ٱلْبَاسِطَ ٱلْأَرْضَ عَلَى ٱلْمِيَاهِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٧ٱلصَّانِعَ أَنْوَارًا عَظِيمَةً، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٨ٱلشَّمْسَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٩ٱلْقَمَرَ وَٱلْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. ٱلصَّانِعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ: هنا المرنم يشير إلى سفر التكوين الإصحاح ١ إلى عمل الله في الخلق كإظهار على رحمته التي لا تنتهي تجاه شعبه.
· “ينظر المزمور إلى قصة الخلق من وجهة نظر أصلية، عندما انطلقت في جوقة بعد كل مرحلة من مراحل هذا العمل، حيث تكمن محبة الرب الأبدية كدافع وراء هذا الخلق. فالخلق هو عمل محبة إلهية.” ماكلارين (Maclaren)
· “استطاعت عين الخليقة، منذ بدايتها وعبر الأيام العاصفة والمضطربة، أن تتحرى خيطًا ذهبيًّا من الرحمة. ليتنا نملك عينين من عنده تمكناننا من رؤية محبة الله دائمًا.” ميير (Meyer)
· “لا توجد سكك حديدية بقضبان وبراغٍ لتثبيت الكواكب في مداراتها. فهي تتحرك بحرية في الفضاء. وهي دائمة التغيُّر لكن من دون تغيير أبدًا. وتحفظ مداراتها. تتمايل وتُمَيَّل، تُزعِج وتُزعَج. وتطير بعيدًا، وتحقق بيقين لا ريب فيه مداراتها الجبارة. ويشكل النظام بأكمله قطعة كبيرة من الآلات السماوية… دائرة ضمن دائرة، وعجلة ضمن عجلة، ودورة ضمن دورة.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كتاب بعنوان: ’أجرام السماء‘ (The Orbs of Heaven)
٢. ٱلْبَاسِطَ ٱلْأَرْضَ عَلَى ٱلْمِيَاهِ: يوصف عمل الله كخالق في هذا القسم بعناصر من الأيام الأربعة الأولى من الخلق (تكوين ١: ١-١٩). ولأن كل واحد منها تعبير عن رحمة الله التي لا تنتهي تجاه شعبه، يمكننا القول إن الله خلق السماوات والأرض وفي ذهنه شعبه.
· “تعلن السموات من فوق والأرض من تحت حكمة الله العظيم. وهي تعلن للأُذن العاقلة بصوت عالٍ ألوهة اليد الخالقة. وتُظهر السموات محبة الله للإنسان، وتعلّم الأرض الإنسان واجبه تجاه الله.” هورن (Horne)
· ذكر بولس نفس الحقائق في لسترة عندما علّم الأمميين أن الله “يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلَأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا” (أعمال الرسل ١٤: ١٧). بويس (Boice)
· فكرة الخلق في هذا المزمور “… لا تدعو المؤمن بالمسيح أن يدخل في مشادّات كلامية حول النظريات الكونية، بل تدعوه إلى أن يتمتع ببيئته، حيث يتعلم أنها ليست مجرد آليّة، بل عمل من محبة ثابتة. وليس لغير المؤمن أسس كهذه لمثل هذا النوع من الفرح.” كيدنر (Kidner)
ثانيًا. رحمة الله التي لا تنتهي نحو شعبه
أ ) الآيات (١٠-١٥): رحمة الله الدائمة في الخلاص من مصر.
١٠ٱلَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١١وَأَخْرَجَ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَسَطِهِمْ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٢بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٣ٱلَّذِي شَقَّ بَحْرَ سُوفٍ إِلَى شُقَقٍ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٤وَعَبَّرَ إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِهِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٥وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. ٱلَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا: ذكر المزمور السابق الخلاص من مصر وضرب الأبكار (مزمور ١٣٥: ٨-٩). وهنا يسبّح الله ثانية لأنه أنقذ إسرائيل من عبوديتها وذلّها في مصر. وهذا تعبير عن رَحْمَتَه التي لا نهاية لها.
· يسرد صاحب المزمور عجائب الله العظيمة بتدفق سلس من عمل الخليقة في سفر التكوين ١ إلى عمل الخلاص المذكور في سفر الخروج. وهو يعد رواية الخروج بحق تاريخية، أي أنها حدثت فعلًا. وهو ينفي أنها أسطورة غير حقيقية.
٢. ٱلَّذِي شَقَّ بَحْرَ سُوفٍ إِلَى شُقَقٍ (قسمين): لم يُخرج الله بني إسرائيل من مصر فحسب، بل خلّصهم أيضًا من محاولة فرعون إعادة استعبادهم. ففي رحمة الله لإسرائيل، دَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ.
· استخدام الله للتاريخ في هذا المزمور أمر مهم. فكما في مواضع لا حصر لها في كلمة الله، فقد استخدم الله عمله في الماضي ليعطي رجاء للحاضر والمستقبل.
· “الكلمة العبرية التي تدل على تقسيم البحر الأحمر غريبة. فهي تعني ’تشق‘ أو ’تحطّب‘ إلى نصفين. وهي تُستخدم في تقطيع الطفل إلى نصفين حسب حُكم سليمان [١ ملوك ٣: ٢٥]. وكلمة ’شقق‘ التي تشير إلى أجزاء [اثنين] مشتقة من نفس الفعل. وهي تُستخدم في تكوين ١٥: ١٧ لوصف الأجزاء، كما فعل إبراهيم بقطع جثث الحيوانات. وهكذا، فإن الله شق البحر الأحمر كما بسيف، وعبَّرَ شعبه بين القسمين، بين نصفي ذبيحة العهد.” ماكلارين (Maclaren)
· وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ: “… كما في العبرية ’نفَضَهم.‘ وتُستخدم هذه الكلمة عن شجرة تطرح أوراقها (إشعياء ٣٣: ٩). وتُستخدم الكلمة نفسها في خروج ١٤: ٢٧ ’فَدَفَعَ (نفَضَ، طرَحَ) ٱلرَّبُّ ٱلْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ.‘” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بارنز (Barnes)
ب) الآيات (١٦-٢٢): رحمة الله التي لا تنتهي من البرية إلى الأرض الموعودة.
١٦ٱلَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٧ٱلَّذِي ضَرَبَ مُلُوكًا عُظَمَاءَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٨وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٩سِيحُونَ مَلِكَ ٱلْأَمُورِيِّينَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٠وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢١وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثًا، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ، ٢٢مِيرَاثًا لِإِسْرَائِيلَ عَبْدِهِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. ٱلَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: تذكّرنا هذه العبارة القصيرة بأعمال الله القوية المُحبة. إذ قدّم الرب إرشادًا، وطعامًا، وماء، وبُنية، وقيادة،، وشفاء، وانتصارًا، وأشياء كثيرة أخرى لإسرائيل فِي ٱلْبَرِّيَّةِ.
· “كانت معجزة مذهلة أن الله عالَ مئات آلاف الأشخاص في برية محرومة من ضروريات الحياة. وقد فعل ذلك أربعين عامًا.” كلارك (Clarke)
· “عبر تلك البرية الواسعة الموحشة التي لم تكن هنالك طريق ولا تدبير للاحتياجات، كان الله العلي وحده القادر على أن يوجههم بأمان.” بوله (Poole)
· كان هذا إظهارًا عظيمًا لرحمة الله التي لا تنتهي. “”كان سلوكهم في البرية تجربة قاسية لرحمة الله، لكنه احتملهم وغفر لهم مرات كثيرة. ورغم أنه ضربهم على تعدياتهم، إلا أنه صبر عليهم، وسرعان ما كان يلتفت إليهم رأفة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ضَرَبَ مُلُوكًا عُظَمَاءَ: سبق أن ذكر المزمور السابق هزيمة سيحون ملك الأموريين، وعوج ملك باشان، إضافة إلى إعطاء كنعان ميراثًا لإسرائيل (مزمور ١٣٥: ١٠-١٢). فكانت هذه إظهارات لرحمة الله التي لا تنتهي.
· مُلُوكًا عُظَمَاءَ: “عظماء حسب مقاييس تلك الأزمنة، مع أنهم كانوا ملوكًا لمدن صغيرة. وكان لكنعان ثلاثون ملكًا أو أكثر منهم. كانوا عظماء من حيث القامة والقوة، لأنهم كانوا عمالقة – تثنية ٣: ١١-١٣؛ عاموس ٢: ٩.” تراب (Trapp)
· “إن الرب الذي ضرب فرعون في بداية البرية ضرب سيحون وعوج أيضًا في ختامها.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ: “بِمَ أفادهما صيتهما؟ فعندما قاوما الله، صارا سيّئي السمعة بدلًا من أن يكونا مشهورين. جعل موتهما صيت الرب أكثر انتشارًا، بينما انتهى صيتهما بهزيمة مخزية.” سبيرجن (Spurgeon).
ج) الآيات (٢٣-٢٥): رحمة الله التي لا تنتهي في خلاص وعون مستمرين.
٢٣ٱلَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٤وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٥ٱلَّذِي يُعْطِي خُبْزًا لِكُلِّ بَشَرٍ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. ٱلَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا: نجد هنا نقلة حادة لكن ماهرة من عجائب الله العظيمة في الماضي إلى عونه الأمين في الحاضر. وإنه لأمر حسن أن ننظر إلى الماضي من أجل الثقة برحمة الله الدائمة. لكن أفضل لنا أن نرى الأدلة في حاضرنا.
· “رغم كل شيء، إلا أن محبته الثابتة هي إلى الأبد. وتهدف لازمة الترنيمة إلى إظهار صلة كل عمل من أعمال الله بكل مرنم من مرنمي هذا المزمور.” كيدنر (Kidner)
· وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا: “الخطية عدونا، وقد فُدينا منها بالدم الكفاري. وإبليس عدونا، وقد فدينا منه بقوة الفادي. والعالم عدونا، وقد فدينا منه بالروح القدس.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱلَّذِي يُعْطِي خُبْزًا لِكُلِّ بَشَرٍ (جسد): طلب صاحب المزمور من شعب الله أن يسبحوه ويشكروه، لا على عمله كمخلّص فحسب، بل أيضًا كمدبّر لاحتياجاتهم. وهذا دليل آخر على رحمة الله التي لا تنتهي، والتي تمتد إلى كل بَشَرٍ، لا إلى إسرائيل وحدها.
· خُبْزًا لِكُلِّ بَشَرٍ: “من خلال الرعاية الإلهية الشمولية، يُعال كل كائن عاقل وكل حيوان وتتم المحافظة على الجميع. وتعيين طعام لكل شيء حي يكون ملائمًا لطبيعته (طبيعة الحيوانات وعاداتها متنوعة إلى ما لا نهاية) دليل دامغ على الرعاية الإلهية العجيبة، وحكمته، وصلاحه.” كلارك (Clarke)
· “وعد نوحًا وكل ’جسد‘ بالمحافظة عليه بنعمته (انظر سفر التكوين ٩: ٨-١٧). وهنا يستفيد صاحب المزمور من كلمة “جسد”… ولهذا يشير إلى وعد الله (انظر سفر التكوين ٩: ١١، ١٥-١٧).” فانجيميرين (VanGemeren)
د ) الآية (٢٦): امتنان لإله الرحمة التي لا تنتهي.
٢٦ٱحْمَدُوا إِلَهَ ٱلسَّمَاوَاتِ، لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. ٱحْمَدُوا إِلَهَ ٱلسَّمَاوَاتِ: في توجيه صاحب المزمور لنا بحمد إله السماوات، فإنه لم يخطر بباله نظرة امتناننا الملائمة إلى الرب، بل يذكّرنا أيضًا بأن إله إسرائيل، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هو إِلَهَ ٱلسَّمَاوَاتِ. فهو الإله الموجود حقًّا، والذي يملك حقًّا.
· إِلَهَ ٱلسَّمَاوَاتِ: “ولهذا، فإن الدعوة إلى التسبيح التي تختم المزمور بترديد صدى بدايته لا تسمّيه بالاسم الذي يوحي بعلاقته الخاصة بإسرائيل، بل باسم تخاطبه به كل الشعوب الأخرى، إِلَهِ ٱلسَّمَاوَاتِ، والذي ينبع منه كل خير على الأرض.” ماكلارين (Maclaren)
· “رحمته في توفير السماء لشعبه هي أكثر من كل البقية.” تراب (Trapp)
٢. لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمَتَهُ: أعطانا صاحب المزمور أسبابًا كثيرة للتجاوب مع الله بهذه العبارة، ونحن مقتنعون. فإله الرحمة التي لا تنتهي – إله المراحم والنعمة والمحبة المُخْلصة – لن يتوقف عن إيجاد طريقة لمباركة شعبه ومساعدته.
· “وهل تفترض أن رحمة كهذه ستخذلك؟ إنها إلى الأبد! أنت تتضايق وتتنكد وتغضب كطفل ضيّق الصدر. لكن لا يمكنك أن تسقط من ذراعي رحمة الله.” ميير (Meyer)
· اقترح سبيرجن (Spurgeon) أشياء كثيرة يعلّمها هذا المزمور ككل:
ü لن ينهي الماضي والحاضر والمستقبل رحمة الله.
ü لن تنهي عواصف الحياة رحمته.
ü لن تنهي المسافات بين الأحبة رحمته.
ü لن يُنهي الموت نفسه رحمته.
ü ينبغي أن تجعلنا رحمة الله رحماء تجاه الآخرين.
ü ينبغي أن تجعلنا رحمة الله متفائلين بالنسبة للآخرين.
ü ينبغي أن تجعلنا رحمة الله متفائلين بالنسبة لنا.
· “في إحدى الليالي من شهر شباط من عام ٣٥٨م، أقام أحد آباء الكنيسة، أثناسيوس، خدمة طوال الليل في كنيسته في الإسكندرية في مصر. وقد كان يقود النضال من أجل قضيتي بنوة يسوع المسيح الأزلية وألوهته، عالمًا أن بقاء المسيحية تعتمد عليهما. وكان لديه أعداء كثيرون – لأسباب سياسية أكثر منها لاهوتية – وقد ألَّبوا عليه سلطات الحكومة الرومانية. كان في تلك الليلة محاطًا بجنود بسيوف مسلولة. وكان الناس خائفين. فأعلن أثناسيوس بهدوء ورباطة جأش ترنيم المزمور ١٣٦. فاستجابت الرعية الكبيرة مرددة بصوت مُرعد ستًّا وعشرين مرة اللازمة، ’لِأَنَّ إِلَى ٱلْأَبَدِ رَحْمتَهُ.‘ وعندما اقتحم الجنود الأبواب، أرعبهم الترنيم. ولزم أثناسيوس مكانه إلى أن تفرّقت الرعية. ثم اختفى هو في الظلمة ووجد ملجأ بين أصحابه.” بويس (Boice)
· “قُتل مواطنون إسكندريون كثيرون في تلك الليلة، لكن رعية أثناسيوس لم تنسَ أنه رغم أن الإنسان شرير، إلا أن الله صالح. وهو صالح فوق الكل، وإلى الأبد محبته.” بويس (Boice)