تفسير سفر المزامير – مزمور ٧٨
التعلُّم من أمانة الله لشعب المتمرد
عنوان هذا المزمور هو قَصِيدَةٌ (تأمُّل) لِآسَافَ. خدم الكاتب آساف المرنم والموسيقي العظيم في عهدي داود وسليمان (أخبار الأيام الأول ١٧:١٥-١٩، ٥:١٦-٧، أخبار الأيام الثاني ١٣:٢٩). ويضيف أخبار الأيام الأول ١:٢٥، أخبار الأيام الثاني ٣٠:٢٩ أن آساف كان نبيًّا في مؤلفاته الموسيقية.
“المزمور ٧٨ هو أطول المزامير التاريخية. والدرس الذي يعلّمه هو أنه لا يتوجب أن يكرر التاريخ نفسه. ولا يتوجب على شعب الله أن يكونوا عديمي الإيمان مرة أخرى.” جيمس مونتيغمري بويس (James Montgomery Boice)
أولًا. مقدمة: التعلم من الماضي وتعليم للمستقبل
أ ) الآيات (١-٤): شدّ اهتمام شعب الله.
١اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ إِلَى كَلَامِ فَمِي. ٢أَفْتَحُ بِمَثَلٍ فَمِي. أُذِيعُ أَلْغَازًا مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. ٣ٱلَّتِي سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا. ٤لَا نُخْفِي عَنْ بَنِيهِمْ إِلَى ٱلْجِيلِ ٱلْآخِرِ، مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ ٱلرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ ٱلَّتِي صَنَعَ.
١. اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي: المزمور ٧٨ مزمور حكمة كُتب لتعليم شعب الله. والموضوع هو عن صلاح الله ولطفه تجاه شعب عنيد متمرد. بدأ آساف بالطلب من شعب الله أن ينتبهوا لكي يتمكنوا من الاستماع إلى حكمته التي سيقولها.
· يبدأ المزمور ٧٨ بمبدأ يتم تجاهله أحيانًا بين الذين يريدون أن يتكلموا بالحكمة لآخرين… يتوجب عليك أن تسترعي انتباه سامعيك أولًا إذا أردت أن تعلّمهم وتصل إليهم.
· أَمِيلُوا آذَانَكُمْ: “لا تدل إمالة الآذان أي نوع عادي من الاستماع، بل تدل على اهتمام تلميذ بكلام سيده بخضوع واحترام وصمت وجدية، مهما كان التعليم المقدم، بحيث لا يسمح لأي شيء أن يفوته. وأما الذي يستمع بلا اكتراث، لا بغرض التعلم أو التمثُّل بالمعلم، بل بالانتقاد أو للمرح، أو الانغماس في العداوة، أو لقتل الوقت، فإنه مستمع من شاكلة أخرى.” سبيرجن (Spurgeon)نقلًا عن ماسكيولوس (Musculus)
٢. أَفْتَحُ بِمَثَلٍ فَمِي: المزمور ٤٩ مزمور حكمة آخر يشير إلى أمثال وألغاز. ولا تحمل كلمة أَلْغَاز معنى المعرفة الصوفية، بل أشياء عسرة الفهم. الألغاز التي تفيد التعلم.
· بِمَثَلٍ: كلمة مثل (Masal) أصل عنوان سفر الأمثال. ويعني المثل هنا بشكل أساسي مقارنة ما يقوله الحكيم في مجال من الحياة لإلقاء النور على مجال آخر.” كيدنر (Kidner)
· يقتبس إنجيل متى ٣٥:١٣ مزمور ٢:٧٨ كنبوة حول الطريقة التي سيعلّم بها يسوع.
٣. ٱلَّتِي سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا: آساف لن يثير موضوعات جديدة للنقاش، بل موضوعات موجودة بالفعل في ذهن إسرائيل.
٤. إِلَى ٱلْجِيلِ ٱلْآخِرِ مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ ٱلرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ ٱلَّتِي صَنَعَ: عرف آساف أن الموضوعات التي سيطرحها في هذا المزمور جاءت من أحداث وأفكار تلقّاها من الآباء (وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا). وعرف أيضًا أن عليهم أن ينقلوا ما تلقّوه في الماضي إلى ٱلْجِيلِ التالي. فكانت تقع عليهم مسؤولية نقلها إِلَى ٱلْجِيلِ ٱلْآخِرِ.
· “للاطلاع على النص التقليدي حول تعليم هذا الإيمان للأبناء، انظر سفر التثنية ٦:٦-٩. فلا يوجد في كلمة الله مجال لحياد الوالدين.” كيدنر (Kidner)
· “كلما زاد التعليم، كان أفضل. لم يُقصَد قط أن يكون الخدام ومعلمو مدارس الأحد بديلًا عن دموع الأمهات وصلوات الآباء.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. تسَابِيحِ ٱلرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ ٱلَّتِي صَنَعَ: كان آساف مهتمًّا بنقل ثلاثة أمور على الأقل إلى الجيل التالي:
· تَسَابِيحِ ٱلرَّبِّ – فالله مستحق للعبادة والشكر.
· قُوَّةُ الله – قوّته وعظمته فوق كل شيء.
· عَجَائِبِهِ – أي قوة الله في مساعدته لشعبه.
ü ما زال أمرًا جيدًا وضروريًّا أن ننقل هذه الأشياء. وينبغي أن نتكلم عنها كثيرًا وأن نروي القصة التي تتكشف باستمرار حول الكيفية التي بها صنع الرب عَجَائِبِهِ في شعبه ومن خلاله.
ü يدل هذا على أهمية أن نرى ونفهم يد الله وهي تتحرك في التاريخ ومن خلاله. “ينبغي أن يكون التاريخ سجل أعمال الله. ومن الضروري التأكيد على العامل المهم فيه. فالتاريخ الذي يُكتب هكذا، ويعلَّم هكذا سيؤثر في رجاء الشباب وذاكرتهم، وسيحصرهم هذا لطاعة الإله المعلَن. وهذه هي طريقة الحياة للإنسان وللأمّة.” مورجان (Morgan)
ü يؤكد هذا المزمور قوة الله وعجائبه، لا قوة شعبه وعجائبهم. وهو صادق جدًّا حول إخفاقات شعب الله. “إن أبرز سمة لهذا المزمور هي أنه من خلال كل مقاييسه يكرر فشل شعب الله مرارًا وتكرارًا. وصبر الله الدائم المقدَّم باعث على الارتياح الجسور.” مورجان (Morgan)
ü “من المؤكد أن الذين ينسون أعمال الله سيفشلون في أعمالهم.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات(٥-٨): تعليم جيل واحد لتجنُّب ضلالات الأجيال السابقة.
٥أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ، ٱلَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ، ٦لِكَيْ يَعْلَمَ ٱلْجِيلُ ٱلْآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ٧فَيَجْعَلُونَ عَلَى ٱللهِ ٱعْتِمَادَهُمْ، وَلَا يَنْسَوْنَ أَعْمَالَ ٱللهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ. ٨وَلَا يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ، جِيلًا زَائِغًا وَمَارِدًا، جِيلًا لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ وَلَمْ تَكُنْ رُوحُهُ أَمِينَةً لِلهِ.
١. أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ: استخدم آساف التكرار الشعري من أجل الأسلوب والتوكيد بادئًا بوصف واحدة من عجائب الله (الآية ٤)، وهي إعطاء كلمة الله لإسرائيل (وَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ).
· وبعد قرون، سيشرح الرسول بولس أن إحدى الميزات العظيمة التي أعطاها الله لإسرائيل هي أنه استأمنهم على كلمته، إعلانات الله (رسالة رومية ٢:٣).
٢. آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ: لقد أعطى الله دوامًا كلمته لكي تُنقل إلى الأجيال التالية. فمن ناحية نظرية، فإن إعلان الله يمكن أن يُفقد أو يصبح ذات صلة إذا لم يُنقل إلى الجيل التالي.
· “أمر الله من خلال موسى كل بني إسرائيل، بغضّ النظر عن انتمائهم القبَلي، بتعليم أبنائهم في البيت (سفر التثنية ٦:٦-٩، ٢٠-٢٢. انظر سفر الخروج٢:١٠؛ ١٢: ٢٦-٢٧؛ ٨:١٣.” فانجيميرين (VanGemern)
٣. فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ: لا ينبغي أن يعلّموا أبناءهم فحسب، بل أن يعلّموهم لكي يعلّموا بدورهم أبناءهم لكي تستمر كلمة الله وعمله عبر الأجيال.
· يبدو أن خمسة أجيال مذكورة هنا: ١. الآباء ٢. أبناؤهم ٣. الجيل الآتي ٤. أبناؤهم ٥. أبناؤهم. فلا ينبغي أن يغيب عن نظرهم تاريخهم عبر كل أجيالهم.” كلارك (Clarke)
٤. فَيَجْعَلُونَ عَلَى ٱللهِ ٱعْتِمَادَهُمْ، وَلَا يَنْسَوْنَ أَعْمَالَ ٱللهِ: إن الغرض من التوصيل إلى الجيل التالي هو أن يتعلموا أن يعتمدوا على الله بأنفسهم، وأن لا ينسوا عجائبه.
٥. هَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ. وَلَا يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ: يرى صاحب المزمور أن فقدان الثقة بالله ونسيان أعمال الله سيؤدي إلى العصيان. وإذا تعلَّم الجيل الأصغر، فمن المرجح أن يكون طائعًا، متجنّبًا بذلك ضلالات آبَائِهِمْ.
٦. جِيلًا زَائِغًا وَمَارِدًا: وصف آساف خطايا الأجيال السابقة في إسرائيل. كانوا عنيدين متمردين (جِيلًا زَائِغًا وَمَارِدًا). لم يضبطوا قلوبهم، ولم تكن روحهم أمينة لله. فكان تركيز آساف منصبًّا على القلب والنظرة أكثر منه على الفعل.
ج) الآيات (٩-١١): نظرة عامة وموجز: الخسارة في المعركة الروحية.
٩بَنُو أَفْرَايِمَ ٱلنَّازِعُونَ فِي ٱلْقَوْسِ، ٱلرَّامُونَ، ٱنْقَلَبُوا فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ. ١٠لَمْ يَحْفَظُوا عَهْدَ ٱللهِ، وَأَبَوْا ٱلسُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِهِ،١١وَنَسُوا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ ٱلَّتِي أَرَاهُمْ.
١. بنُو أَفْرَايِم: كان أَفْرَايِم أحد أكبر أسباط إسرائيل، وكان الله يدعو إسرائيل أحيانًا ’ أَفْرَايِم.‘ ففي سفر أخبار الأيام الثاني ٢٥:٧، استخدم تعبير بني أفرايم للإشارة إلى شعب إسرائيل ككل.
· “بصفة أفرايم أكبر أسباط إسرائيل الانفصالية، جعلهم تاريخهم اللاحق رمزًا للارتداد الروحي.” مورجان (Morgan)
· تبيّن كتابات الأنبياء (ولا سيما هوشع) أن أفرايم أصبح قائدًا في التمرد والخيانة اللذين ابتليا الأمة، ولهذا فإن هذا السبط يُستخدم مجازيًّا كرمز للبقية. وهنا تخاطَب إسرائيل كلها في أفرايم.” مورجان (Morgan)
٢. ٱلنَّازِعُونَ فِي ٱلْقَوْسِ، ٱلرَّامُونَ، ٱنْقَلَبُوا فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ: لأنه يصعب علينا أن نربط هذا بحادثة معروفة في تاريخ إسرائيل، ربما يكون المعنى هنا مرتبطًا بمعركة روحية. فمن ناحية روحية، أعدّ الله إسرائيل للصراع. فكانوا مسلّحين وامتلكوا أقواسًا، غير أنهم فشلوا في المعركة لأنهم لَمْ يَحْفَظُوا عَهْدَ اللهِ.
· “الحادثة المشار إليها غير معروفة. لكن يبدو في وقت ما أن أفرايم كانوا متسلحين بالأقواس وارتدوا أو ٱنْقَلَبُوا فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ (مزمور ٩:٧٨). لا نجد في العهد القديم شيئًا مطابقًا تمامًا لهذا.” بويس (Boice)
· غير أن وصف صاحب المزمور “بأنهم مسلحون بالأقواس يلائم عدوانيتهم كما يصورها سفر القضاة ١:٨-٣؛ ١:١٢-٦).” فانجيميرين (VanGemeren)
· “لا ينبغي أن تؤخذ الإشارة في مزمور ٩:٧٨-١١ على أنها تلميح إلى تراجع جبان من معركة حقيقية. إذ يبدو أن مزمور ٩:٧٨ طريقة مجازية محضة للتعبير عما يضعونه من دون استخدام استعارة الآيتين التاليتين. فكان تمرد أفرايم على عهد الله شبيهًا بسلوك الجنود المسلحين الذي يرفضون الهجوم على العدو.” ماكلارين (Maclaren)
· يوفر الله موارد روحية لشعبه من أجل الصراعات الروحية التي يواجهونها (رسالة أفسس ١٠:٦-١٨). غير أن فاعلية تلك الموارد بشكل ما تعتمد على قرارهم بالاستفادة منها. وفي نهاية المطاف، فإن شعب الله موعودون بالنصر الأكيد في يسوع. قد تكون هنالك هزائم ونكبات يومية – ٱنْقَلَبُوا (يتراجعون/يرتدون) فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ، لأننا لم نستخدم الموارد المتاحة.
· من ناحية روحية، هنالك كثيرون ينقلبون (يتراجعون) في يوم المعركة، لكن بطرق مختلفة.
ü يتراجع بعضهم قبل بدء المعركة.
ü يتراجع بعضهم عند بدء المعركة.
ü يتراجع بعضهم عند أول إصابة.
ü يتراجع بعضهم عندما تطول المعركة.
٣. أَبَوْا ٱلسُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِهِ، وَنَسُوا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ: كان الجهل والعصيان بين شعب الله مثلين للانقلاب في يوم المعركة. وهذا تحذير لكل الأجيال: قد تخسرون المعركة الروحية.
· وَنَسُوا أَفْعَالَهُ: “ربما يبدو أمرًا لا يصدَّق أن بإمكان شعب قاده الله هكذا أن ينسوا. لكن، أليست خطية النسيان معنا على الدوام؟ ففي يوم يحمل خطرًا وتهديدًا، ننشغل بالخطر الفوري حتى إننا لا نفكر في إنقاذ الله المتكرر لنا في الماضي. ومثل هذا الميل في الإنسان هو طبيعة عدم الإيمان في أسوأ أشكاله.” مورجان (Morgan)
· وَنَسُوا أَفْعَالَهُ: “لا تاريخيًّا، بل عمليًّا. لم يتذكروها لكي يحبوا ويخدموا الله ويتكلوا على الرب الذين اختبروا بعمق قوّته وصلاحه غير المحدودين.” بوله (Poole)
· “قبل أن ندينهم، دعنا نتب عن نسياننا الشرير ونعترف بالمرات الكثيرة التي تجاهلنا فيها أفضاله الماضية.” سبيرحن (Spurgeon)
ثانيًا. إسرائيل العنيدة المتمردة في الخروج من مصر
أ ) الآيات (١٢-١٦): أخرج الله إسرائيل من مصر عن طريق البحر وأعطاهم ماء في البرية.
١٢قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ، بِلَادِ صُوعَنَ. ١٣شَقَّ ٱلْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ ٱلْمِيَاهَ كَنَدٍّ. ١٤وَهَدَاهُمْ بِٱلسَّحَابِ نَهَارًا، وَٱللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. ١٥شَقَّ صُخُورًا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَسَقَاهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ. ١٦أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ، وَأَجْرَى مِيَاهًا كَٱلْأَنْهَارِ.
١. قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ: تذكّر آساف كيف أن الله ساعد شعبه، كما هو مذكور في الجزء الأول من سفر الخروج. ومن خلال سلسلة من الضربات المعجزية وإظهارات القوة الإلهية، أُجبر فرعون على إطلاق إسرائيل من العبودية. فغادر الشعب محمّلين بمكافآت وثروات من المصريين (سفر الخروج ٥-١٣).
· “تُعرف بلاد صُوعَن على نحو أفضل باسم تنيس في الشمال الشرقي من دلتا النيل. وهي إما أن تكون مطابقة لعاصمة رمسيس الثاني (وهي المدينة التي ساعد بنو إسرائيل في بنائها – سفر الخروج ١١:١)، أو أنها بعيدة عنها عدة أميال.” كيدنر (Kidner)
٢. شَقَّ ٱلْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ: مع ملاحقة جيوش فرعون لبني إسرائيل، أخرج الله شعبه بشكل معجزي من خلال البحر على أرض يابسة بينما جعل المياه تقف ككومة (نَصَبَ ٱلْمِيَاهَ كَنَدٍّ) (سفر الخروج ١٤).
٣. وَهَدَاهُمْ بِٱلسَّحَابِ نَهَارًا، وَٱللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ: عندما دخل بنو إسرائيل برية سيناء، طمأنهم الله وهداهم بإظهارين من حضوره، بِٱلسَّحَابِ نَهَارًا وبعمود نار ليلًا (وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَار) (سفر الخروج ٣٦:٤٠-٣٨).
· “كان السحاب مريحًا جدًا لهم لسببين: كان ظلًّا لهم في ضوء الحرارة الحارقة في ذلك المناخ وفي ذلك الوقت، وكان رفيقًا وموجّهًا في رحلتهم.” بوله (Poole)
٤. شَقَّ صُخُورًا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَسَقَاهُمْ: كانت أمة إسرائيل تحتاج دائمًا إلى ماء في البرية. وكثيرًا ما دبّر لهم الله هذا الاحتياج بشكل معجزي. ففي إحدى المرات في مريبة، ضرب موسى الصخرة، فانشقت وتدفقت منها مياه (سفر العدد ١٠:٢٠-١٣؛ سفر إشعياء ٢١:٤٨).
· “صُخُورًا: تُستخدم هنا صيغة الجمع لأن هذا حصل مرتين، مرة في رفيديم (سفر الخروج ٦:١٧) ومرة أخرى في قادش (سفر العدد ١:٢٠و ١١.” بوله (Poole)
ب) الآيات (١٧-٢٠): استجابة إسرائيل العنيدة المتمردة لعجائب الله.
١٧ثُمَّ عَادُوا أَيْضًا لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ، لِعِصْيَانِ ٱلْعَلِيِّ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلنَّاشِفَةِ. ١٨وَجَرَّبُوا ٱللهَ فِي قُلُوبِهِمْ، بِسُؤَالِهِمْ طَعَامًا لِشَهْوَتِهِمْ. ١٩فَوَقَعُوا فِي ٱللهِ. قَالُوا: «هَلْ يَقْدِرُ ٱللهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ ٢٠هُوَذَا ضَرَبَ ٱلصَّخْرَةَ فَجَرَتِ ٱلْمِيَاهُ وَفَاضَتِ ٱلْأَوْدِيَةُ. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا، أَوْ يُهَيِّئَ لَحْمًا لِشَعْبِهِ.
١. ثُمَّ عَادُوا أَيْضًا لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ: صنع الله أشياء مذهلة لإسرائيل من أجل إخراجهم من مصر والحفاظ عليهم في البرية. غير أن استجابة إسرائيل هي أن تخطئ أكثر ضد العليّ (عَادُوا أَيْضًا لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ).
٢. وَجَرَّبُوا ٱللهَ فِي قُلُوبِهِمْ، بِسُؤَالِهِمْ طَعَامًا لِشَهْوَتِهِمْ: وفّر الله احتياجات إسرائيل في البرية، لكن طالب الشعب الله بالمزيد. إذ أعطاهم المن، لكن سرعان ما طلبوا لحمًا (طَعَامًا لِشَهْوَتِهِمْ) كما في سفر العدد ٤:١١-١٠، ١٨-٢٣، ٣١-٣٤). فكان ذلك تجربة لله (وَجَرَّبُوا ٱللهَ).
· يعد الله بأن يوفر احتياجاتنا، لكنه لم يعد قط بأن يوفر الطعام الذي نشتهيه.
· “ليس هنالك ما هو أكثر استفزازًا من التشاجر حول حِصصنا والانغماس في شهوات الجسد.” سبيرجن(Spurgeon) نقلًا عن هنري (Henry)
· يمكننا القول إن شعب إسرائيل أذنبوا في خطيتين على الأقل:
ü كانوا غير راضين عما وفّره الله لهم.
ü اعتقدوا أن السبب وراء عدم إعطاء الله لهم ما أرادوه هو عجزه عن فعل ذلك – أي أن طلبتهم كانت فوق قدرته.
٣. هَلْ يَقْدِرُ ٱللهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: طعنوا الله بهذه الكلمات. جرّبوه معبّرين عن افتقارهم إلى الإيمان بقوته والثقة برعايته. لم يؤمنوا بأن الله قادر على أن يعطيهم مائدة في البرية.
· “سبق أن رأت إسرائيل عجائب الله – شقّ البحر، وإنارة الليل، وتوفير ماء من صخور، غير أنهم شكوا في قدرته على توفير الطعام لهم وتحضير مائدة في البرية.” ميير (Meyer)
· “لم تكن خطية أن يجوعوا ويعطشوا. فهذه ضرورة لطبيعتهم. فلا يوجد شيء حي لا يرغب في طعام أو يحتاج إليه. فعندما لا نفعل ذلك، فإننا نكون أمواتًا. فلم تكن خطية أن يطلبوا ذلك. كانت خطيّتهم في شكهم في قدرة الله على إعالتهم، أو بالسماح للذين يتبعونه بالافتقار إلى أي شيء جيد.” سبيرجن(Spurgeon) نقلًا عن نورث (North)
· “يمثل تعبير ’يُرَتِّبَ مَائِدَةً‘ تكرارًا لنفس التعبير في مزمور ٥:٢٣ حيث جو الصفاء هناك نقيضًا لما هو موجود هنا” كيدنر (Kidner)
· في عام ١٩٣٣ – في وسط الكساد العظيم – ترك شاب إيرلندي اسمه جي. إدوين أور (J. Edwin Orr) عملًا كان يدر عليه دخلًا جيدًا. ومن دون مصدر دخل ثابت، وثق بأن الله سيدبر احتياجاته واحتياجات أمه. خطّط أن يتجول في مقاطعات بريطانيا العظمى برسالة الصلاة والخلاص والانتعاش. فترك بلفاست ومعه شلنان وثمانية بنسات – أي حوالي ٦٥ سنتًا. وكانت لديه دراجة هوائية، وغيارات ملابس، وكتابه المقدس. أمضى السنة التالية وهو يرتحل في مقاطعات بريطانيا، ونظّم حوالي ٣٠٠ مجموعة مكرسة للصلاة من أجل الانتعاش. وألّف أور كتابًا حول هذه الأمور. وأخيرًا أقنع ناشرًا بأخذ هذا الكتاب بعد رفضه ١٧ مرة. ارتكز كتابه الأول هذا – وهو معنون “هل يستطيع الله – ؟” على مزمور ١٩:٧٨. وقد بيعت منه مئات الآلاف من النسخ، وهو ما زال مصدر إلهام للمؤمنين بالمسيح. وكان كتاب أور وحياته إظهارًا قويًّا على أن الله يستطيع أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ.
· “رغم أن وراءنا هبة الصليب، ومعجزتي القيامة والصعود، ورعاية الله لنا منذ سنواتنا المبكرة، وصلاح الله ورحمته بعد حياتنا هنا، فإننا ميّالون إلى طرح السؤال: “هل يستطيع الله؟” اجلبوا حججًا للإيمان من الأيام الخوالي.” ميير (Meyer)
· “ترتيب الكلمتين باللغة الإنجليزية (Can God?) بمعنى’هل يستطيع الله؟‘ خطأ. وينبغي تصحيحه هكذا (God Can) بمعنى ’يستطيع الله.‘” ميير (Meyer)
٤. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا، أَوْ يُهَيِّئَ لَحْمًا لِشَعْبِهِ؟: أظهر الله مرارًا وتكرارًا لإسرائيل أنه يستطيع أن يفعل كل هذا وأكثر. طرح الشعب هذه الأسئلة المتشككة وما زال المنّ في معدتهم.
· “من هو مستعد أن يقول إنه ممتن لصاحبه على لطفه وكرمه في السابق إن كان يضمر في نفسه رأيًا سيئًا حوله للمستقبل؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جورنول (Gurnall)
ج) الآيات (٢١-٢٥): غضب الله على عدم إيمان إسرائيل وثقتها به.
٢١لِذَلِكَ سَمِعَ ٱلرَّبُّ فَغَضِبَ، وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي يَعْقُوبَ، وَسَخَطٌ أَيْضًا صَعِدَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، ٢٢لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِٱللهِ وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلَاصِهِ. ٢٣فَأَمَرَ ٱلسَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٢٤وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنًّا لِلْأَكْلِ، وَبُرَّ ٱلسَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. ٢٥أَكَلَ ٱلْإِنْسَانُ خُبْزَ ٱلْمَلَائِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَادًا لِلشِّبَعِ.
١. لِذَلِكَ سَمِعَ ٱلرَّبُّ فَغَضِبَ: بارك الله إسرائيل في هروبهم من مصر، وفي تدبير احتياجاتهم في البرية. فاستجاب بالتذمر وعدم الإيمان. فلم يتجاهل الله هذا. سَمِعَ ٱلرَّبُّ فَغَضِبَ على خطيتهم ضده.
· ضع نصب عينيك أن الخطايا التي خطرت ببال آساف كانت خطايا الجحود وتجربة الله والتشكيك في قدرته ورعايته. هذه هي الخطايا التي يغضب الله بسببها كثيرًا، مع أننا غالبًا ما نعتقد أن الله لا يهتم كثيرًا لهذه الخطايا.
· “لم يكن الله غير مبالٍ بما قالوه. إذ سكن بينهم في المكان المقدس، ولهذا أهانوه في وجهه. لم يسمع تقريرًا بهذا من أحد، لكن اللغة نفسها دخلت إلى أذنيه.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي (ضد) يَعْقُوبَ: ربما خطر ببال آساف ما حدث في تبعيرة، حيث اشتعلت نار الرب بين إسرائيل (سفر العدد ١:١١-٣).
٣. لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِٱللهِ وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلَاصِهِ: في حال لم نفهم ما قاله مسبقًا، يكرر آساف الفكرة ثانية بوضوح للتأكيد. هذه كانت الخطايا التي أغضبت الله كثيرًا وجعل دينونته تشتعل ضد إسرائيل. إن عدم الإيمان بالله ورفض الإتكال عليه خطايا ليست هينة كما يحسبها كثيرون اليوم.
· “في هذا النص، يبدو كما لو أن كل خطايا إسرائيل الأخرى كانت لا شيء بالمقارنة مع هذه الخطايا. فمن هنا دع كل شخص يعاني من عدم إيمان أن يرتعد أكثر على عدم إيمانه من أي شيء آخر. فإن لم يكن زانيًا أو لصًّا أو كاذبًا، سيدان حتمًا لأنه لم يثق بخلاص الله.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. فَأَمَرَ ٱلسَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ ٱلسَّمَاوَاتِ: تأتي خطيتهم السوداء على الخلفية البيضاء لصلاح الله واهتمامه بهم ورعايته لهم. أعطاهم بشكل متواصل خبز السماء وطعام الملائكة، فأكلوا حتى الشبع.
· ربما كانت هنالك محاولات كثيرة لفهم المن كظاهرة طبيعية معروفة. وقيل أن المن يشبه المادة السكّرية التي يعرفها العرب جيدًا. غير أن المعنى في الآيتين ٢٤-٢٥ يبين أنه أمر خارق للطبيعة، بل ربما آتى من عالم آخر.
· “يُدعى ’طعام الملائكة‘ لا لأن الملائكة يقتاتون عليه كل يوم، بل لأنها صنعته وقدّمته لهم. ويدل التعبير على تميُّز هذا الطعام.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن نيس (Ness)
٥. خُبْزَ ٱلْمَلَائِكَةِ: يسجل يوحنا في إنجيله أنه في محاولة إقناع يسوع بمواصلة تقديم طعام معجزي، اقتبسوا له الآية ٢٤: “آباؤنا أكلوا المنّ في البرية، كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا” (يوحنا ٣١:٦). ففي اقتباسهم لهذا المزمور ذاته ليسوع، حققوه بشكل سلبي، مبيّنين نفس الجحود ونفس الرغبة في تجربة الله التي أظهرها شعب إسرائيل في البرية.
· “في احتكام الذي كانوا يحاجّون يسوع إلى هذا المزمور بالذات [أولئك الذين تحدّوا يسوع في يوحنا ٦[ كانوا يتعاملون مع سلاح حاد بشكل زائد (فآذوا أنفسهم به).” كيدنر (Kidner)
· إن خُبْزَ ٱلْمَلَائِكَةِ في الآية ٢٤ تعني حرفيًّا ’حبوب السماء‘ أو ذرة السماء في بعض الترجمات. “كان المنّ بذرة مستديرة كالكزبرة، ولهذا سُميت بحق ذرة السماء. لم تأتِ من الأرض، بل نزلت من السماء، ومن هنا فإن كلمات الآية دقيقة حرفيًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (٢٦-٣١): إرسال طيورًا كلحم.
٢٦أَهَاجَ شَرْقِيَّةً فِي ٱلسَّمَاءِ، وَسَاقَ بِقُوَّتِهِ جَنُوبِيَّةً. ٢٧وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْمًا مِثْلَ ٱلتُّرَابِ، وَكَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ طُيُورًا ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ. ٢٨وَأَسْقَطَهَا فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ حَوَالَيْ مَسَاكِنِهِمْ. ٢٩فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدًّا، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ. ٣٠لَمْ يَزُوغُوا عَنْ شَهْوَتِهِمْ. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ٣١فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ ٱللهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَسْمَنِهِمْ، وَصَرَعَ مُخْتَارِي إِسْرَائِيلَ.
٢. وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْمًا مِثْلَ ٱلتُّرَابِ: تصف الآيات في سفر العدد ٣١:١١-٣٣ كيف أن الله أرسل السلوى لإسرائيل عندما تذمروا من المن. وقد أسقطها عايهم حرفيًّا في وسط معسكرهم، جالبًا لهم اللحم الذي تاقوا إليه.
٣. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدًّا، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ: كتب آساف هذا بإحساس قوي من السخرية الأدبية. شبع بنو إسرائيل، لكن ليس بلحم طيور السلوى الجيد في مِعَدهم. أَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ. لكن لأنّ توقهم كان متجذرًا في إرادتهم الذاتية، كانت النتيحة سيئة.
· وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ: “بيّن الله لهم أنه قادر على أن يعطي لحمًا لشعبه بما يكفي ويزيد. وبيّن لهم أيضًا أنه عندما تفوز الشهوة برغبتها، فإنها تصاب بخيبة الأمل.” سبيرجن (Spurgeon)
· “ضع في اعتبارك أن هنالك إشباعًا حقيقيًّا أكبر في إماتة الشهوات من تدبير مجال لتحقيقها. هنالك لذة حقيقية أكبر في صلب جسدنا من إشباعه. لو كانت هنالك لذة حقيقية في الخطية، لما كان الجحيم جحيمًا، ولكان المزيد من الخطية يعني المزيد من الفرح. لكن لا يمكنك أن تشبع شهوة حتى إذا بذلت قصارى جهدك وجعلت نفسك عبدًا مطلقًا لها. أنت تعتقد أنك سترتاح إذا حققت شهوة قلبك. أنت مخطئ كثيرًا. فقد حققوها (ولم يرتاحوا).” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كارمايكل (Carmichael)
٣. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ ٱللهِ: تصور الآية في سفر العدد ٣٣:١١ ما حدث هكذا: “وَإِذْ كَانَ اللَّحْمُ بَعْدُ بَيْنَ أَسْنَانِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ، حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى الشَّعْبِ، وَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا.” أعطى الله إسرائيل المتمردة العنيدة كل ما اشتهته وتاقت إليه. وتحول السلوى إلى ضربة عظيمة من الدينونة بينهم.
ه ) الآيات (٣٢-٣٩): استجابة رحيمة لخطية عظيمة.
٣٢فِي هَذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَجَائِبِهِ. ٣٣فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَسِنِيهِمْ بِٱلرُّعْبِ. ٣٤إِذْ قَتَلَهُمْ طَلَبُوهُ، وَرَجَعُوا وَبَكَّرُوا إِلَى ٱللهِ، ٣٥وَذَكَرُوا أَنَّ ٱللهَ صَخْرَتُهُمْ، وَٱللهَ ٱلْعَلِيَّ وَلِيُّهُمْ. ٣٦فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. ٣٧أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَلَمْ تُثَبَّتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي عَهْدِهِ. ٣٨أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ، يَغْفِرُ ٱلْإِثْمَ وَلَا يُهْلِكُ. وَكَثِيرًا مَا رَدَّ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ. ٣٩ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلَا تَعُودُ.
١. فِي هَذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ: هذا السطر الشعري من نواحٍ كثيرة أكثر سطر مأساوية في هذا المزمور. فرغم كل البركات وأقوى التقويمات، ظلوا يخطئون. فلم تتعلم إسرائيل لا من صلاح الله ولا من غضبه.
٢. فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَسِنِيهِمْ بِٱلرُّعْبِ: قال الله إن جيل الشعب غير المؤمن لن يتمكن من دخول الأرض الموعودة، بل سيفنى في البرية (سفر العدد ٢٢:١٤-٢٤). تم التعبير عن البُطْل في فكرة أنهم خرجوا من مصر لكن لم يصلوا إلى الأرض الموعودة. وتم التعبير عن الخوف (ٱلرُّعْب) في عدم رغبتهم في الاستيلاء على الأرض بالإيمان (سفر العدد ١:١٤-٤).
٣. إِذْ قَتَلَهُمْ طَلَبُوهُ: احتاج الأمر إلى أكثر تقويم جذري من الله. لكن في نهاية المطاف، نشأ جيل طلب الله بجدية. لكن طلبهم هذا له كان غير صادق إلى حد ما.
· “لكن طلب الله هنا ليس طلبًا حقيقيًّا على الإطلاق. فقد كان طلبًا للهروب من الشر (مصائبهم). وفضلًا عن ذلك، لم يدم كثيرًا.” ماكلارين (Maclaren)
· “كما يكون الحديد ناعمًا ومرنًا عندما يكون في النار، لكن سرعان ما يعود إلى صلابته السابقة، كذلك حال كثيرين. فعندما يتعرضون إلى محن، يبدو وكأنهم تأثروا، لكن فيما بعد يُظهرون حقيقتهم.” تراب (Trapp)
٤. فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ: كان طلبهم لله قصير الأمد. فسرعان ما جاءوا إليه بكلمات متملقة غير صادقة فحسب. ومن الغريب أن يعتقد إنسان أنه قادر على الكذب على الله ومخادعته، غير أنهم (ونحن أيضًا) كذبوا عليه بلسانهم.
· “هم زائفون وهم على ركبهم، وكاذبون في صلواتهم. لا بدّ أن عبادة الفم بغيضة لله عندما تكون منفصلة عن القلب. يحب ملوك آخرون التملق، لكن ملك الملوك يمقته.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ، يَغْفِرُ ٱلْإِثْمَ وَلَا يُهْلِكُ: كانت استجابة الله لتمردهم العنيد وطلبهم غير الصادق، وعدم أمانتهم للعهد مفاجئة. فقد أظهر الله رأفة وغفر إثمهم. وَكَثِيرًا مَا رَدَّ غَضَبَهُ.
· “إن هذا المزمور ترنيمة عظيمة حول صبر الله. ولا توجد قصة أخرى أكثر فائدة إذا أراد البشر أن يتعلموا منها.” مورجان (Morgan)
· “رغم أن هذا غير مذكور في النص، إلا أننا نعرف من التاريخ أن وسيطًا تدخَّل. إذ وقف موسى في الثغر.” سبيرجن (Spurgeon)
٦. ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلَا تَعُودُ: بشكل جزئي، كان فهم الله لضعف البشر وراء رأفته ورحمته وغفرانه. فأحد أسباب رحمته تجاهنا هو طبيعتنا الضعيفة.
· “وجدتْ رأفته تعبيرًا في غفرانه (انظر مزمور ٣:٦٥) لخطاياهم، واحتماله لأرواحهم العنيدة، وتعاطفه مع الحالة البشرية، ولهذا لم يشتعل كل غضبه عليهم ليهلكهم.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “ما أكرم الله الذي يجعل من ضآلة الإنسان حجة ليحْجم عن غضبه.” سبيرجن (Spurgeon)
و ) الآيات (٤٠-٥٥): من مصر إلى كنعان، عدم تذكُّر إسرائيل قوة الله.
٤٠كَمْ عَصَوْهُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَأَحْزَنُوهُ فِي ٱلْقَفْرِ! ٤١رَجَعُوا وَجَرَّبُوا ٱللهَ وَعَنَّوْا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٤٢لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ ٱلْعَدُوِّ، ٤٣حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ، وَعَجَائِبَهُ فِي بِلَادِ صُوعَنَ. ٤٤إِذْ حَوَّلَ خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ، وَمَجَارِيَهُمْ لِكَيْ لَا يَشْرَبُوا. ٤٥أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بَعُوضًا فَأَكَلَهُمْ، وَضَفَادِعَ فَأَفْسَدَتْهُمْ. ٤٦أَسْلَمَ لِلْجَرْدَمِ غَلَّتَهُمْ، وَتَعَبَهُمْ لِلْجَرَادِ. ٤٧أَهْلَكَ بِٱلْبَرَدِ كُرُومَهُمْ، وَجُمَّيْزَهُمْ بِٱلصَّقِيعِ. ٤٨وَدَفَعَ إِلَى ٱلْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ، وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ. ٤٩أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ، سَخَطًا وَرِجْزًا وَضِيْقًا، جَيْشَ مَلَائِكَةٍ أَشْرَارٍ. ٥٠مَهَّدَ سَبِيلًا لِغَضَبِهِ. لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ٱلْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ، بَلْ دَفَعَ حَيَاتَهُمْ لِلْوَبَإِ. ٥١وَضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي مِصْرَ. أَوَائِلَ ٱلْقُدْرَةِ فِي خِيَامِ حَامٍ. ٥٢وَسَاقَ مِثْلَ ٱلْغَنَمِ شَعْبَهُ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. ٥٣وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا. أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ ٱلْبَحْرُ. ٥٤وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ، هَذَا ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي ٱقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ. ٥٥وَطَرَدَ ٱلْأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِٱلْحَبْلِ مِيرَاثًا، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ.
١. كَمْ عَصَوْهُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَأَحْزَنُوهُ فِي ٱلْقَفْرِ: ذكر آساف للتو استجابة الله المتسمة بالرأفة تجاه خطية إسرائيل، وبالرغم من ذلك لم يرد ان يتجاهل خطية اسرائيل وجحودهم تجاه مديونيتهم له، وتمردهم عليه.
٢. رَجَعُوا وَجَرَّبُوا ٱللهَ وَعَنَّوْا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ: لم يقتصر الأمر على عصيان إسرائيل وامتحانه لله، بل كان هناك شعورًا حقيقيًا حدّوا به قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. وبمعنى ما، من المستحيل أن يحد مخلوق خالقه. لكن عندما يربط الله عمله بعمل الإنسان و/أو طاعته، فإن هنالك معنى بموجبه يستطيع الإنسان أن يحد الله.
· تتحدث البشير متى ٥٨:١٣ عن خدمة يسوع في الناصرة: “وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ.” فما دام الله يختار أن يعمل بالتنسيق مع العامل البشري، مطوِّرًا قدرتنا على الشراكة معه، يمكن لعدم إيماننا أن يعوق عمل الله.
· من الممكن أن تعبير ’حدّوا قدوس إسرائيل‘ ليس أفضل ترجمة للنص العبري. “من المرجّح أن الفعل المستخدم النادر في ٤١ب يعني ’يجرح‘ أو ’يستفز‘ (كما في الترجمة السبعينية ومعظم التجمات الحديثة) بدلًا من كلمة ’حَدُّوا‘ كما في بعض الترجمات، رغم أنها تبدو ملائمة.” كيدنر (Kidner)
٣. لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ ٱلْعَدُوِّ: خطر ببال آساف هنا القوة التي أظهرها الله في تحرير إسرائيل من أربعة قرون من العبودية في مصر. وغالبًا ما يقدَّم الخلاص الذي تم في سفر الخروج في الكتابات العبرية المقدسة كإظهار لقوة الله.
· لدينا في العهد الجديد إظهار جديد أسمى لقوة الله في قيامة يسوع المسيح (رومية ٤:١؛ أفسس ١٩:١-٢٠؛ فيلبي ١٠:٣). ربما كان بإمكان بولس أن يعيد صياغة مزمور ٤٢:٧٨ هكذا: “لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ أقام يسوع من بين الأموات.”
· “ينسب صاحب المزمور خطية إسرائيل إلى نسيانهم لرحمة الله. وبالتالي، انتقل برشاقة إلى تلخيص ضربات مصر التي هدفت إلى تخليص إسرائيل. وهي ليست مرتّبة زمنيًّا مع أن القائمة تبدأ بالضربة الأولى.” ماكلارين (Maclaren)
٤. حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ: روى آساف كيف أن الله أظهر قوته لمصلحة إسرائيل وضد مصر بإرسال ضربات على المصريين. فكانت تلك الضربات إظهارات خاصة لقوّته، لأنها كانت موجهة بشكل مركز إلى الآلهة المصرية.
· عندما حَوَّلَ الله خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ، أظهر أنه أقوى من الإِلَهة خنوم (حارسة النيل على ما يُفترض)، وهابي (الذي يُفترض أنه روح النيل)، وأوزيريس الذي يُفترض أن النيل جدول دمه (سفر الخروج ١٧:٧-٢٠).
· عندما أَرْسَلَ الله عَلَيْهِمْ الذبّان والبق، أظهر أنه أعظم من الإله المصري امحوتب (الذي يُعتقد أنه إله الطب)، وأنه قادر على إيقاف كل عبادة الآلهة المصرية بالبقّ البغيض وأسراب الحشرات (سفر الخروج ٢٠:٨-٣٢).
· عندما أرسل ضَفَادِعَ، بيّن أنه أعظم من الإلَهة هقت (تصوَّر على شكل ضفدع) التي يُعتقد أنها إلهة الخصب (سفر الخروج ١:٨-١٥).
· وعندما سلّط عليهم الجراد، بيّن أنه أعظم من الإله المصري سِتْ الذي يُعتقد أنه حامي المحاصيل (سفر الخروج ١:١٠-٢٠).
· عندما قضى الله على زراعتهم بالبَرَد والصقيع، وعلى مواشيهم بالبرق الناري، بيّن أنه أعظم من الإِلَهة المصرية نَتْ التي يفترض أنها إلَهة السماء القريبة (سفر الخروج ١٣:٩-٣٥).
· عندما أعطى الله مواشيهم للبَرَد، بيّن أنه أعظم من الإلَهة المصرية هاثور التي يُعتقد أنها الإلَهة الأم. وهي تصوَّر على شكل بقرة (سفر الخروج ١:٩-٧).
· “يغفل المزمور ضربات البعوض، والمرض الذي أصاب المواشي، والدمامل التي أصابت المصريين، وأيام الظلمة. ولا يوجد سبب واضح لاختيار الدينونات الست أو إغفال الأربع الأخرى.” بويس (Boice)
٥. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ، سَخَطًا وَرِجْزًا وَضِيْقًا، جَيْشَ مَلَائِكَةٍ أَشْرَارٍ: كانت الضربة الأخيرة أسوأ الضربات، وهي موت كل بكر في مصر. لم تشأ مصر وفرعون إطلاق إسرائيل، بكر الله، (سفر الخروج ٢٢:٤-٢٣)، ولهذا أخذ الله بكر مصر (سفر الخروج ١:١١– ٣٠:١٢).
· “كان سهمه الأخير هو الأكثر حدّةً. فقد حفظ نبيذ سخطه القوي إلى الآخِر. لاحِظْ كيف أن صاحب المزمور يكوّم الكلمات بشكل جيد. فكل ضربة تتلو الأخرى، وكل واحدة أكثر إذهالًا من سابقتِها. ثم احتفظ بالضربة الساحقة إلى النهاية.” سبيرجن (Spurgeon)
٦. وَسَاقَ مِثْلَ ٱلْغَنَمِ شَعْبَهُ: بعد موت الأبكار، توسّل المصريون إلى بني إسرائيل أن يذهبوا، وأرسلوهم بهدايا. وكانوا سعداء للتخلص منهم. ثم لخّص آساف السنوات الكثيرة هكذا:
· وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ: حماهم الله طوال الطريق.
· أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ ٱلْبَحْر: قضى الله على الجيوش المصرية الملاحقة عندما غمرتهم مياه البحر.
· وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ: تخوم (حدود) أرضه المقدسة الموعودة.
· وَطَرَدَ ٱلْأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ: تم إجلاء شعوب كنعانية كثيرة حتى قبل مجيء بني إسرائيل إلى الأرض الموعودة.
· وَقَسَمَهُمْ بِٱلْحَبْلِ مِيرَاثًا: تم تقسيم الأرض بين الذين قطع الله عهدًا أبديًّا بامتلاك الأرض.
ü “المقابلة مذهلة، ولا ينبغي للشعب أن ينسى هذا. ذُبحت الذئاب في أكوام، وجُمعت الخراف بعناية. وقد اُنقذوا بانتصار. انقلبت الأمور. إذ صار الأقنان (عبيد الأرض) الشعب المكرَّم، بينما ذُلَّ مضطهدوهم أمامهم”. سبيرجن (Spurgeon)
ثالثًا. إسرائيل العنيدة المتمردة في الأرض الموعودة
أ ) الآيات (٥٦-٦٤): المأساة الرهيبة في شيلوه.
٥٦فَجَرَّبُوا وَعَصَوْا ٱللهَ ٱلْعَلِيَّ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا، ٥٧بَلِ ٱرْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ. ٱنْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ. ٥٨أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ، وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ. ٥٩سَمِعَ ٱللهُ فَغَضِبَ، وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدًّا، ٦٠وَرَفَضَ مَسْكِنَ شِيلُوِ، ٱلْخَيْمَةَ ٱلَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ. ٦١وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ، وَجَلَالَهُ لِيَدِ ٱلْعَدُوِّ. ٦٢وَدَفَعَ إِلَى ٱلسَّيْفِ شَعْبَهُ، وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ. ٦٣مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ ٱلنَّارُ، وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ. ٦٤كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِٱلسَّيْفِ، وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ.
١. جَرَّبُوا وَعَصَوْا ٱللهَ ٱلْعَلِيَّ: سرد القسم السابق الطويل من المزمور (الآيات٤٠-٥٥) أمانة الله لبني إسرائيل في مصر وفي ارتحالهم نحو كنعان. لكن بمجرد وصولهم إلى الأرض، ارتدوا ولم يحفظوا أحكامه وتصرفوا بغير أمانة (وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا، بَلِ ٱرْتَدُّوا).
· ٱنْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ: “في هذا كانوا غير جديرين بالثقة مثل ’قوسٍ معيبةٍ‘ تتحرك خطأ عند الحاجة (انظر مزمور ٩:٧٨؛ هوشع ١٦:٧).” فانجيميرين (VanGemeren)
· تصف صورة ’القوس الخدّاعة‘ في مزمور ٥٧:٧٨ بشكل جيد الشعب في فشلهم في تحقيق قصد الإله الذي اختارهم. وسلاح كهذا لا يُطلق بشكل سليم، ويجعل السهم يتوه عن مساره فلا يصيب هدفه مهما كان التهديف متقنًا وقويًا. وهكذا أحبطت إسرائيل المحاولات الإلهية، وفشلت في حمل رسالة الله إلى العالم، أو حتى إلى تحقيق إرادته فيهم.” ماكلارين (Maclaren)
· “تباهت إسرائيل بالقوس كسلاح قومي لها، ورنمت ترنيمة القوس. ومن هنا فإن القوس الخداعة صارت رمزًا لعدم ثباتهم. وهكذا يستطيع الله أن يجعل مجد الناس نفسه راية لعارهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ، وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ: عندما دخل بنو إسرائيل الأرض الموعودة، غالبًا ما كانوا يلجؤون إلى عبادة الآلهة الكنعانية، ويقيمون مذابح لها على المرتفعات، ويعبدون تماثيلها.
· “لم تعد الخطية المميِّزة لإسرائيل عدم القناعة (تناقض مع سنوات البرية والمعجزات اليومية) بل عبادة الأوثان – وهو تناقض السنوات في كنعان، حيث استخدم الله إسرائيل لإدانة عابدي الأوثان هناك.” كيدنر (Kidner)
٣. وَرَفَضَ مَسْكِنَ شِيلُوِ: تذكّر آساف المأساة في شيلوه، حيث اجتاح الفلسطينيون خيمة الاجتماع، وقتلوا الكهنة، واستولوا على تابوت العهد (١ صموئيل ٤).
٤. وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ، وَجَلَالَهُ لِيَدِ ٱلْعَدُوِّ: عندما تم الاستيلاء على تابوت العهد في شيلوه، سمعت كنة عالي، رئيس الكهنة، أن زوجها وأخاه وحماه وثلاثين ألفًا من جنود إسرائيل ماتوا.
· كانت حبلى، وكان الخبر صاعقًا لها حتى إن المخاض جاءها وماتت وهي تلد.
طلبت في آخر كلماتها أن يسمّى ابنها المولود إيخابود، أي ’زال المجد‘ (١ صموئيل ٢٠:٤-٢٢). صحيح أن المجد زال من إسرائيل، لكن ليس مجد تابوت العهد. فالمجد الذي زال كان حضور الله بين إسرائيل المتمردة وبركته عليهم.
٥. مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ ٱلنَّارُ … كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِٱلسَّيْفِ: ذكر آساف أن الخسائر في شيلوه تجاوزت تابوت العهد. إذ تضمنت فقدان حياة كثيرين، بما فيها حياة الكهنة (١ صموئيل ١٠:٤-٢٢).
· وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ (لم يُكرمن بالزواج): “لم يُكرمنَ بأهازيج الزواج حسب عادات تلك الأزمنة (انظر إرميا ٣٤:٧؛ ٩:١٦؛ ١٠:٢٥). والمعنى هو أنهن لم يتزوجن بشكل مشرف لأن الرجال صاروا نادرين بسبب الحروب (إشعياء ١:٤؛ إرميا ٢٢:٣١). أو تزوجن بلا احتفالات، مثل الإماء، أو تزوجن سرًّا كما يحدث في أوقات الكوارث.” سبيرجن (Spurgeon) نقلاً عن ديوداتي (Diodati)
ب) الآيات (٦٥-٦٦): انتصار الله بعد شيلوه.
٦٥فَٱسْتَيْقَظَ ٱلرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ ٱلْخَمْرِ. ٦٦فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ. جَعَلَهُمْ عَارًا أَبَدِيًّا.
١. فَٱسْتَيْقَظَ ٱلرَّبُّ كَنَائِمٍ: عندما استولى الفلسطينيون على تابوت العهد، وضعوه كجائزة ونصب تذكاري في معبد إلههم الوثني داجون. وحتى عندما كان تابوت العهد مأسورًا في معبد وثني، أظهر الله مجده (١ صموئيل ٥).
· كَجَبَّارٍ: “كان تجديد أعمال رحمة الله لإسرائيل مذهلًا حتى إن صاحب المزمور شبّهه ببطل (جبّار) يحس بأنه أكثر بطولية عندما ينتشي بالخمر (مزمور ٦٥:٧٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
· “شخص ذاهب إلى لقاء عدوه، بعد أن أخذ كفايته من الخمر لينعش نفسه فأصبحت حافزًا ملائمًا لمعنوياته وصيحاته – يطلق إشارة لبدء الحرب. فهو نافد الصبر للقاء عدوه. وهو متأكد من النصر. ليست الفكرة مأخوذة من حالة شخص سكير. فمثل هذا الشخص في حالة لا تؤهله لملاقاة العدو، وليست لديه احتمالات كبيرة للنصر.” كلارك (Clarke)
٢. فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ: نجد القصة التي تبيّن كيف أن الله مجّد نفسه على الفلسطينيين فجَعلَهُم عَارًا أَبَدِيًّا في سفر صموئيل الأول ٥. إذ أظهر الله هناك أنه قادر على حراسة مجده الذي أغفله شعبه.
· “تترجم نسخة الملك جيمس السطر في الآية ٦٦ إلى أنه ’ضرب أعداءه في القسم الخلفي من أجسامهم‘ بمرض البواسير. وقد كان هذا مؤلمًا ومخجلًا. وجعلهم يثبِّتون عارهم إلى الأبد بإرسال تابوت العهد مع هدايا من بواسير ذهبية، وهو آخر تذكارات عارهم.” بوله (Poole)
ج) الآيات (٦٧-٧٢): الاختيار المفيد لأورشليم وداود.
٦٧وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ، وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ. ٦٨بَلِ ٱخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا، جَبَلَ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي أَحَبَّهُ.٧٠ وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ، كَٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى ٱلْأَبَدِ. ٧٠وَٱخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ ٱلْغَنَمِ. ٧١مِنْ خَلْفِ ٱلْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ، لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ. ٧٢فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ.
١. بَلِ ٱخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا: يشرح آساف كيف أن الله لم يختر الأسباط الأخرى لتكون بيتًا لمقْدِسًه. إذ رَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ، واختار بدلًا من ذلك أورشليم (جَبَلَ صِهْيَوْنَ) لتكون المركز الروحي لإسرائيل.
· “هنالك دائمًا بدايات جديدة مع الله. إذ رُفض سبط أفرايم، وها هو سبط يهوذا يُختار. هجر تابوت العهد شيلوه، لكنه أُحضر إلى جبل صهيون.” بويس (Boice)
٣. وَٱخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ: كانت أورشليم من بعض النواحي خيارًا غير مرجّح لتكون مركز إسرائيل. وعلى نفس النمط، فإن دَاوُدَ – ذاك الراعي الصبي الوضيع الذي كان يلاحق النعاج – كان اختيار الله لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ.
٣. فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ (نزاهة) قَلْبِهِ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ: ينتهي المزمور ٧٨ بنغمة رجاء. فهو يختم بالإقرار بصلاح الله على نزاهة حُكمه ومهارته والعرفان بالجميل له.
· حَسَبَ كَمَالِ (نزاهة) قَلْبِهِ: “كان داود مستقيمًا أمام الله، فلم ينحرف قط في قلبه عن طاعة الرب وعبادته. ومهما كانت الأخطاء التي ارتكبها، فقد كان صادقًا أمينًا في ولائه لملك إسرائيل الأسمى. فقد رعى إسرائيل من أجل الله بقلب صادق.” سبيرجن (Spurgeon)
· تَحَقق هذا، مثل جوانب أخرى من حُكمه بطريقة أعظم في ابن داود الأعظم، يسوع المسيّا. كان قلب داود في الغالب نزيهًا، لكن قلب يسوع كان نزيهًا بشكل كامل. وهدى داود إسرائيل بمهارة عظيمة، بينما يقود يسوع شعبه بمهارة كاملة.
· “إن كان سجل إسرائيل هو عارها، يبرز صلاح الله المستمر كرجاء لها (ولنا) في هذه القصة المكتملة.” كيدنر (Kidner)