تفسير سفر المزامير – مزمور ٤٦
واثق بحماية الله وقوّته
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. عَلَى «ٱلْجَوَابِ». تَرْنِيمَةٌ. كان أبناء قورح لاويين من عائلة قهات. وبحلول زمن داود، خدموا في الجانب الموسيقي من عبادة الهيكل (سفر أخبار الثاني ١٩:٢٠).
“الكلمة العبرية المترجمة إلى ’الجَوَاب‘ هي (الآموث) أو قصيدة غنائية تخص العذارى: ويرجح أن المعنى هو جوقة من المرنمات.” آدم كلارك (Adam Clarke)
تساءل تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) إن كان ’الجواب‘ أو ’آلاموث‘ يشير إلى آلة وترية عالية النبرة، كما توحي الآية في سفر أخبار الأول ٢٠:١٥).
“يبدو أن التعليق على هذه الترنيمة العظيمة التي تعبر عن الثقة بالله أمر غير ضروري تقريبًا، لأنها امتلكت قلب البشرية بقوة، وهي تطرح خبرة النفوس الواثقة بالرب في كل العصور وأوقات الاضطراب.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan)
“عندما كان مارتن لوثر في أشد ضيقاته، كان يستدعي هذا المزمور قائلًا: ’دعنا نرنم هذا المزمور السادس والأربعين معًا، وليفعلْ إبليس أسوأ ما لديه.‘” جون تراب (John Trapp)
أولًا. الله حاضر بين شعبه
أ) الآيات (١-٣): عون الله الذي أعظم من أية أزمة.
١اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا (حاضرًا). ٢لِذلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ الأَرْضُ، وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ. ٣تَعِجُّ وَتَجِيشُ مِيَاهُهَا. تَتَزَعْزَعُ الْجِبَالُ بِطُمُوِّهَا. سِلاَهْ.
١. ٱللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ: تبدأ مزامير كثيرة بوصف أزمة صاحب المزمور. لكن صاحب المزمور هنا يبدأ بتدبير الله. فقد تطلَّع إلى الله من أجل العون في أوقات صعبة، فوجده. ولهذا كان بمقدوره أن يقول من خبرته الخاصة:
· إن الله مَلْجَأ لشعبه، مثل مدن الملجأ التي كانت تحمي الطريد في إسرائيل.
· إن الله قُوَّة لشعبه. فهو قوي من أجلهم وفيهم.
· إن الله وحده كان ملجأه وقوّته. ليس الله وشيء آخر، أو شخص آخر.
· إن الله نفسه كان عونهم – كان قريبًا منهم لا بعيد، كان عونًا حاضرًا قويًا معهم (وُجِدَ شَدِيدًا).
ü عَوْنًا فِي ٱلضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا (عونًا فوريًّا): “سر الثقة هو الوعي بقرب الله.” مورجان (Morgan)
ü ليس لهذا علاقة بالسلامة أو القوة المتأصلة في المخلوق. “ربما نكون خوّافين بالطبيعة مثل الأرانب، لكن الله ملجؤنا. ربما نكون ضعفاء مثل أعواد القصب المترضضة، لكن الله هو قوّتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ü “عندما تكون الخلائق، كل الخلائق، في محنة، فإنها تجري إلى ملاجئها. تقول الآية في سفر الأمثال ٢٦:٣٠ “ٱلْوِبَارُ طَائِفَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلَكِنَّهَا تَضَعُ بُيُوتَهَا فِي ٱلصَّخْرِ.” تراب (Trapp)
٢. لِذَلِكَ لَا نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ ٱلْأَرْضُ: طبّق صاحب المزمور منطق الإيمان. إن كان الله ملجًأ حقيقيًّا، وقوة حقيقية، وعونًا حقيقيًّا، فلا يوجد سبب منطقي للخوف، حتى في أعظم الأزمات، (وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ ٱلْأَرْضُ).
· “تشير نغمة المزمور المتحدية القوية إلى أنه كُتب في وقت أزمة، ما يجعل المجاهرة بالإيمان مثيرًا للإعجاب بشكل مضاعف.” كيدنر (Kidner)
٣. تَزَحْزَحَتِ ٱلْأَرْضُ… ٱنْقَلَبَتِ ٱلْجِبَالُ… تَعِجُّ وَتَجِيشُ مِيَاهُهَا… تَتَزَعْزَعُ ٱلْجِبَالُ: فكّر صاحب المزمور في أكثر الظواهر الطبيعية بعثًا على الخوف والتواضع، والتي يمكن أن يتخيلها المرء. ثم قدّم تقديرًا منطقيًّا أن الله أعظم من هذه كلها. وبمعنى ما، فإن خوفنا أمام هذه الأمور يسلب الله بعضًا من كرامته.
٤. سِلَاهْ: إن عظمة الفكرة في هذا المزمور جديرة بأن تجعلنا نتوقف ونمعن التفكير فيها.
· “ليت بمقدورنا أن نقول ’سِلَاهْ‘ تحت المِحن العاصفة. لكن من المؤسف أننا كثيرًا ما نتحدث على عجل، ونضع أيدينا المرتجفة المحتارة بين الأوتار، ونضرب القيثار بصوت ارتطام خشن، فنشوِّه لحن أغنية حياتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٤-٦): تدبير مُسالم من الله.
٤نَهْرٌ سَوَاقِيهِ تُفَرِّحُ مَدِينَةَ اللهِ، مَقْدَسَ مَسَاكِنِ الْعَلِيِّ. ٥اللهُ فِي وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ. يُعِينُهَا اللهُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ. ٦عَجَّتِ الأُمَمُ. تَزَعْزَعَتِ الْمَمَالِكُ. أَعْطَى صَوْتَهُ، ذَابَتِ الأَرْضُ.
١. نَهْرٌ سَوَاقِيهِ تُفَرِّحُ مَدِينَةَ اللهِ: صوّر صاحب المزمور تدبيرًا إلهيًّا يتمثل في نَهْرٌ غني دائم الجريان. ولهذه الصورة دِلالة، لأنه لا يوجد في أورشليم نهر كهذا، بل عدة جداول صغيرة. غير أن الأنبياء توقعوا اليوم الذي سيتدفق فيه نهر قوي من الهيكل نفسه (سفر حزقيال ١٢:٤٧؛ رؤيا يوحنا ١:٢٢). فالواقع المستقبلي موجود في ذهن صاحب المزمور بالفعل.
· “ربما تترجم هذه العبارة تقريبًا إلى ’انظر! هوذا نهر!‘ كانت أورشليم فريدة بين المدن التاريخية في أنه لم تكن تملك نهرًا عظيمًا، بل خيطًا صغيرًا من الماء.” ماكلارين (Maclaren)
· “مع الله، لم تَعُد المياه بحارًا مهدِّدة، بل نهرًا يعطي حياة.” كيدنر (Kidner)
· يتدفق النهر ويجعل مَدِينَةَ الله سعيدة:
ü مَدِينَةَ الله سعيدة لأن الماء المعطي للحياة موجود دائمًا في أرض جافة شبه قاحلة.
ü مَدِينَةَ الله سعيدة لأن للنهر جداول (سَوَاقِي) كثيرة. وهذه صورة ربما ترتبط بالأنهار التي كانت تسقي جنة عدن (سفر التكوين ١٠:٢-١٤).
ü مَدِينَةَ الله سعيدة لأن النهر يمثل أحيانًا صورة للسلام (سفر إشعياء ١٨:٣٨؛ ١٢:٦٦). وأورشليم في سلام كامل.
ü مَدِينَةَ الله سعيدة لأن المدينة آمِنة، حيث تمتلك أفضل الدفاعات ضد أي عدو يمكن أن يحاصرها: مياهٌ مضمونة.
٢. مَدِينَةَ الله: الصلة بأورشليم واضحة هنا، حيث مسكن الله في خيمة اجتماع العليّ. وفي الوقت نفسه، يُرفع تصوُّر “مَدِيْنِة اللهِ” إلى المدينة الإلهية المثالية الكاملة، أورشليم الجديدة (رؤيا يوحنا ١٢:٣؛ ٢:٢١).
٣. ٱللهُ فِي وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ: تأتي البركة والتدبير في مدينة الله بسبب حضور الله. فبفضل هذا الحضور، هي أكثر ثباتًا من الأرض التي يمكن أن تتزعزع (مزمور ٢:٤٦). وهي راسخة لأن الله يُعِيْنُها.
· “يكتسب الوعد بأنها لن تتزعزع قوة خاصة من تكرار نفس كلمة ’تتزعزع،‘ وهي نفس الكلمة التي تُستخدم للجبال والممالك.” كيدنر (Kidner)
· عِنْدَ إِقْبَالِ ٱلصُّبْحِ: “كما تتبدد الظلال والظلمة مع انبلاج الفجر، كذلك عند إشراق وجه الرب، تتبدد ظلمة الشدائد.” كلارك (Clarke)
٤. عَجَّتِ ٱلْأُمَمُ… أَعْطَى صَوْتَهُ، ذَابَتِ ٱلْأَرْضُ: كما في المزمور الثاني، لا يقيم الرب وزنًا لغضب الشعوب. فمجرد أن يطلق صَوْتَه، تذوب الأرض وتختفي.
ج) الآية (٧): قرار ترنيمة (لازمة) مليء بالثقة.
٧رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا. مَلْجَأُنَا إِلَهُ يَعْقُوبَ. سِلَاهْ.
١. رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا: إن الفكرة وراء لقب رب الجنود (الصباؤوت) هو أنه قائد الجيوش، جيش شعبه وجيوش السماء معًا. ويؤكد هذا اللقب مجده وجبروته، رابطًا هذا بفكرة أن الله المجيد هو مَعَ شعبه.
· رَبُّ ٱلْجُنُودِ: “إنه ذاك الذي تأتمر بأمره جيوش السماء والأرض، الملائكة والبشر، وكل الخلائق الأخرى.” بوله (Poole). “وفي الواقع، فإن المفهوم الكامن وراء هذا الاسم هو الكون ككلٍّ منظَّم، وجيش منضبط، وعالم مطيع لصوته.” ماكلارين (Maclaren)
٢. مَلْجَأُنَا إِلَهُ يَعْقُوبَ: يؤكد لقب ’إِلَهُ يَعْقُوبَ‘ لا جانب العهد فحسب، بل النعمة أيضًا – من حيث إن شخصية يعقوب كانت حقيرة نوعًا ما. فلم يكن معروفًا بقداسته الكبيرة. وهذا الإله الكريم ملجأ مفتوح لشعبه.
· مَلْجَأُنَا: “كلمة ’مَلْجَأ‘ هنا وفي الآية ١١ متميزة عن نفس الكلمة في الآية الأولى. وهي توحي بفكرة ارتفاع لا يمكن الوصول إليه. ولهذا تترجمه بعض الترجمات إلى ’حِصْن.‘” كيدنر (Kidner)
· نرى في هاتين العبارتين الله في وجهين. فهو ملك الحشود والمجتمع وكل الجنود. وهو أيضًا إله الفرد، حيث نراه في علاقة شخصية بيعقوب.
· إِلَهُ يَعْقُوبَ: “عندما نقول ’إِلَهُ يَعْقُوبَ،‘ فإننا نعود إلى الماضي ونمسك بمُعين الرجال القدماء، كما هو معيننا الآن.” ماكلارين (Maclaren)
ثانيًا. الرب مُعظَّم بين الشعوب
أ ) الآيات (٨-٩): انظروا بأنفسكم أعمال الله.
٨هَلُمُّوا انْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ، كَيْفَ جَعَلَ خِرَبًا فِي الأَرْضِ. ٩مُسَكِّنُ الْحُرُوبِ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. يَكْسِرُ الْقَوْسَ وَيَقْطَعُ الرُّمْحَ. الْمَرْكَبَاتُ يُحْرِقُهَا بِالنَّارِ.
١. هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا أَعْمَالَ ٱللهِ: إن كانت الفكرة المهيمنة في القسم الأول من المزمور هي كون الرب ملجًأ وعونًا، فإن التوكيد هنا ينتقل إلى تأمّل مجد الله.
· “من شأن تلاوة أعمال الله العظيمة أن تزرع في ذاكرة شعب الله أدلة على رعايته وحمايته وحُكمه.” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. جَعَلَ خِرَبًا فِي ٱلْأَرْضِ: الله قوي بما يكفي لصُنع خراب أو تعزيز السلام مُوْقِفًا الحروب. ربما تكون الفكرة هنا هي دعوة شعب الرب إلى النظر إلى ميدان المعركة بعد أن دحر الله أعداءهم، وكيف أن أسلحتهم الحربية تبعثرت وكُسِرت محترقة.
· “بما أن لشعب الله سببًا للفرح في الضيق بفضل حضور الله، فكم بالأحرى سيكون فرحهم عندما تختفي كل أسباب الضيق!” فانجيميرين (VanGemeren)
ج) الآية (١٠): كلمة من الله نفسه.
١٠كُفُّوا وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ ٱلْأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي ٱلْأَرْضِ.
١. كُفُّوا وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللهُ: ليست الفكرة هنا أنه ينبغي للقارئ الوفي أن يتوقف عن نشاطه ويَلْزَم مكانه. فالمقصود هو أن تتوقف (كُفُّوا) كل حجة ومقاومة وأن يهدأ المرء، ويتم هذا في ضوء تقديره لمجد الله وعظمته حسب ما هو مذكور في الآية السابقة.
· “نجد هنا تغييرًا في هوية المتكلم. فالرب نفسه يدخل المشهد آمِرًا العالم بأن يتوقف عن مقاومته، ويعترف بقوّته، ويقر بسيادته على كل ممالك الشعوب.” هورن (Horne)
· الفكرة قريبة مما يلي: “عندما تعرف مجد الله وعظمته، امنع فمك عن مجادلته أو مقاومته. استسلم ببساطة.”
· “كُفُّوا… ليس هذا الأمر في المقام الأول تعزية للمتضايقين، بل توبيخ لعالم مضطرب هائج! اهدأ! كُفَّ تمامًا!” كيدنر (Kidner)
· “في هذا الإطار فإن عبارة ’كّفُّوْا وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللهُ‘ ليست نصيحة لنا لتقودنا إلى حياة التأمل، رغم أهمية ذلك… بل تعني “ألقوا أسلحتكم. استسلموا واعترفوا بأني أنا الإله الوحيد المنتصر.” بويس (Boice)
· ٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللهُ: “خضوعنا لله لائق كمخلوقات عقلانية. فالله لا يطالبنا بأن نخضع على خلاف العقل والمنطق، بل لأننا نرى المنطق والأساس وراء هذا الخضوع. ومن هنا، فإن مجرد إدراكنا أن الله هو الله كافٍ لأن يُخرس اعتراضاتنا ومقاومتنا ضد السيادة الإلهية.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن إدواردز (Edwards)
٢. أَتَعَالَى بَيْنَ ٱلْأُمَمِ: يستطيع الإنسان الذي يَخْرس بشكل ملائم أمام هذا المنطق الإلهي أن يبتهج عندما يتعالى الله. وسيمتد نصر الرب ما وراء إسرائيل إلى الأرض كلها.
ج) الآية (١١): قرار ترنيمة (لازمة) مليء بالثقة.
١١رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا. مَلْجَأُنَا إِلَهُ يَعْقُوبَ. سِلَاهْ.
١. رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا: يمكن أن تتمتع بالثقة بأن اسم الله الذي سيتعالى في كل الأرض هو مَعَنَا. ولا نحتاج إلى ما هو أكثر!
· مَعَنَا: “في اليوم الذي مات فيه جون ويسلي، سبق أن فقد صوته تقريبًا ولم يُفهَم إلا بصعوبة. لكنه استجمع قوّته فجأة وصرخ قائلًا: ’إن أفضل شيء هو أن الله معنا.‘ ثمّ رفع يده قليلًا ولَوّح بانتصار، وهتف ثانيةً: ’إن أفضل شيء هو أن الله معنا.‘” بويس (Boice)