تفسير سفر المزامير – مزمور ٢٢
خادم الرب متروكًا، ومنقَذًا، ومنتصرًا
هذا مزمور آخر بعنوان لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «أَيِّلَةِ ٱلصُّبْحِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. يمكننا القول إن هذا المزمور رُنِّمَ لأعظم الموسيقيين، حسب لحن غير معروف، على فم مرنم إسرائيل الحلو (سفر صموئيل الثاني ١:٢٣). وهنا يترنم لا كفنان فحسب، بل كأحد أعظم الأنبياء على الإطلاق أيضًا، مشيرًا أكثر إلى ابنه الأعظم، يسوع المسيّا، من إشارته إلى نفسه.
“هذا المزمور جوهرة بين المزامير، وهو ممتاز ورائع على نحو استثنائي. وهو يتضمن معاناة المسيح العميقة السامية عندما كان يتعذب في وسط أهوال الغضب الإلهي وآلام الموت، وهو عذاب يفوق كل فكر واستيعاب بشري.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) نقلًا عن مارتن لوثر (Martin Luther)
أولًا. عذاب ذاك المتخلَّى عنه
أ ) الآيات (١-٢): صرخة المتخلَّى عنه.
١إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ ٢إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
١. إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي: يبدأ هذا المزمور فجأة بمشهد مزعج. إنه شخص يعرف الله ويثق به، لكن الله تركه. وهو يصرخ إليه في عذاب.
· هذا مزمور لداود. وكانت هنالك حالات كثيرة في حياة داود دفعته إلى كتابة مثل هذه القصيدة المعذَّبة. فقبل اعتلائه عرش إسرائيل وبعده، عاش في مواسم خطر وفقدان شديدين.
· مع أن من المؤكد أن هذا المزمور كان ينطبق على الملك داود في خبرته الحياتية، إلاّ أنه، شأنه في ذلك شأن مزامير كثيرة، ينطبق بشكل أكبر على المسيّا من داود. فقد تعمّد يسوع المسيح اختيار هذه الكلمات في وصفه لعذابه على الصليب (إنجيل متى ٤٦:٢٧).
· “يمكننا أن نتأكد إلى حد كبير من أن يسوع كان يتأمل العهد القديم أثناء ساعات معاناته، وأنه نظر إلى صلبه كتتميم لمزمور ٢٢ على نحو محدد.” بويس (Boice)
· “لا أشك في أن داود كان يشير إلى حالته الخاصة في الآيات المتنوعة المستخدمة هنا، غير أنه حُمِل بروح النبوة متجاوزًا نفسه، إلى المسيح، إلى ذاك الوحيد الذي تنطبق عليه هذه الآيات بشكل حقيقي وكامل.” بوله (Poole)
٢. إِلَهِي، إِلَهِي: هذه الافتتاحية قوية على مستويين. تبيّن صرخته ’إِلَهِي‘ أنه كان لدى الشخص المتخلّى عنه علاقة فعلًا بالله. كان ضحية لقساوة البشر، لكن الصرخة كانت موجهة إلى الله – بل إلى ’إِلَهِي‘ لا إلى بشر. ثانيًا، يبيّن التكرار شدة عذابه.
· “كان السبب في ذلك أنه أحس في جسده ونفسه برعب سخط الله على الخطية التي حملها.” تراب (Trapp)
٣. لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ هنالك نغمة استغراب في هذه الصرخة وفي السطور التالية. يبدو ذاك المتخلّى عنه محتارًا: “ما الذي يدفع إلهي إلى التخلى عني؟ ربما يستحق الآخرون ذلك، لكني لا أفهم ما الذي يدفعه إلى تركي.”
· يمكننا أن نتخيل بسهولة موقفًا في حياة الملك داود مرّ فيه بمثل هذا الاختبار. إذ وجد نفسه في أحيان كثيرة في ظروف بدت مستحيلة، وتساءل لماذا لم ينقذه الله فورًا.
· لكن، في تجاوزٍ لداود وحياته، فإن هذه الصرخة المعذَّبة وتوحُّد يسوع المتعمد بهذه الكلمات يمثلان بعَضًا من أكثر الأوصاف حدة وغموضًا لما اختبره يسوع على الصليب. لقد سبق أن اختبر آلامًا ومعاناة عظيمة (جسدية وعاطفية معًا) أثناء حياته. لكن لم يعرف قط انفصالًا واستلابًا عن الله أبيه. وفي هذه اللحظة، اختبر ما لم يختبره في حياته. فهنالك معنى أحس يسوع بحق بموجبه بأنه متروك من الله الآب على الصليب.
· لكن حدثت على الصليب مبادلة مقدسة. إذ عدَّ الله الآب يسوع كما لو أنه كان خاطئًا. فكما كتب الرسول بولس لاحقًا: “لِأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللهِ فِيهِ” (رسالة كورنثوس الثانية ٢١:٥).
· غير أن يسوع لم يختبر انسحاب شركة الآب فحسب، لكنه اختبر أيضًا سكب غضب الله البار عليه كبديل للبشرية الآثمة. “كان هذا سواد رعبه وظلمته. ثم اخترق أعماق كهوف المعاناة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يعني التخلي عنه تلاشي نور وجه الله والإحساس بحضوره بالنسبة له، وهو ما حدث ليسوع عندما حمل غضب الله ضد الخطية من أجلنا.” بويس (Boice)
· “كان ضروريًا أن يحس بفقدان بسمة الآب – إذ لا بدّ أن المدانين أحسوا بتلك المرارة – ولهذا أغمض عين محبته، ووضع يد العدالة قبل بسمة وجهه، وترك ابنه يصرخ، ’إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟‘” سبيرجن (Spurgeon)
· رغم فظاعة هذا الأمر، حقق الله بهذا خطته الفدائية الصالحة المُحِبة. ولهذا استطاع أن يقول إشعياء: “أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحَزَنِ” (إشعياء ١٠:٥٣).
· وفي الوقت نفسه، لا نستطيع أن نقول إن الانفصال بين الله الآب والابن على الصليب كان كاملًا. إذ أوضح بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ١٩:٥ أن: “ٱللهَ فِي ٱلْمَسِيحِ كَانَ مُصَالِحًا ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ” على الصليب.
٤. لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ يوجد سؤال محدد في كلمات داود، وقد نسبها يسوع إليه على الصليب. فالذي احتمله يسوع على الصليب كان معقّدًا جدًّا، ومظلمًا جدًّا، وغامضًا جدًّا في تلك اللحظة، بما يتجاوز الاستيعاب العاطفي.
· تأمّل سبيرجن في هذا السؤال مركِّزًا على الضمير المتصل في ’تركتني‘ (أي أنت يا أبي). “أنت. أستطيع أن أتفهم أن تترك يهوذا الخائن أو بطرس الخوّاف. لكن أنت إلهي، صديقي الوفي، كيف يسعك أن تتركني؟ هذا أسوأ الكل، بل إنه أسوأ من هذه كلها مجتمعة. إذ تحْمل أشد ألسنة نيران الجحيم نفس مذاق انفصال النفس من الله.” سبيرجن (Spurgeon)
· يمكننا أن نتخيل الجواب عن سؤال يسوع: لماذا؟ “لأنه قد وضع عليك أنت الاختيار، يا ابني، لتقف مكان الخطاة المذنبين. أنتَ، يا من لم تعرف خطيةً، جُعِلتَ ذبيحة مطلقة لتصبح خطية وتتلقى غضبي على الخطية والخطاة. وأنت تفعل هذا بسبب محبتك العظيمة، وبسبب محبتي العظيمة.”
· ثم ربما يعطي الآب الابن لمحة من مكافأته – جموعًا من شعبه اللابسين البر على شوارع الذهب في السماء، “يرنمون جميعًا تسبيحة المفديين، ويتغنون باسم يهوه والحمل. كان هذا جزءًا من الجواب عن السؤال.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. بَعِيدًا عَنْ خَلَاصِي (عوني): عرف داود ما يعنيه شعور حضور الله وإنقاذه له، حيث اختبر ذلك مرات كثيرة من قبل. وفي كل وقت سابق لوصول عون الله، بدا غيابه الملحوظ أكثر تدميرًا لداود. وأسوأ من ذلك، بدا أنه لم يكن هنالك تفسير لغياب عون الله. ولهذا جاء السؤال: لِمَاذَا؟
· لا شك أن داود اختبر هذا، لكن كمجرد ظل للكيفية التي اختبره يسوع. فقبل الصليب، عاش يسوع كل لحظة في شركة واعية مع الآب، إضافة إلى العون المستمر من الآب والروح القدس. وعلى الصليب، أحس يسوع بأنه لا حول ولا قوة له، حيث بدا أن الآب كان بعيدًا عن إنقاذه له (بَعِيدًا عَنْ خَلَاصِي).
٦. إِلَهِي، فِي ٱلنَّهَارِ أَدْعُو فَلَا تَسْتَجِيبُ: تمثّل بُعد آخر من عذاب داود في أنه قدّم تضرعات متكررة متواصلة لله، غير أنه أحس بأنه لا يُسمع له على الإطلاق. فلا استجابة لأنينه (زَفِيرِي).
· من المؤكد أن داود اختبر ذلك، لكن يسوع (ابن داود الأعظم) اختبره بدرجة أعظم بكثير. إذ أحس وهو على الصليب بأنه متروك من الآب وأن أنينه وصرخاته لا تُسمع.
ب) الآيات (٣-٥): تذَكُّر طبيعة الله وعونه في السابق
٣وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. ٤عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. ٥إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
١. وَأَنْتَ ٱلْقُدُّوسُ: يتذكر ذاك المتخلى عنه الله وعظمته حتى وهو مغمور بالمعاناة. لم يلعن أو يجدّف على الله، وعرف أن عذابه الحالي لم يغير قداسة الله (أَنْتَ ٱلْقُدُّوسُ) أو عظمته (ٱلْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ).
· لدينا إحساس هنا أن هذه الأزمة ملأت داود (وابنه الأعظم) بالشك والارتباك. لكنه لم يسمح لهذه الشكوك بأن تطال قداسة الله أو عظمته. فمهما كان ما لم يعرفه في وضعه الحالي، فإنه عرف أن الله قدوس.
· “هنا انتصار الإيمان. سيصمد المخلّص كصخرة في وسط محيط من التجربة. فمع ارتفاع التيارات، كان إيمانه يرتفع كصخرة مرجانية تعاظمت أكثر فأكثر حتى أصبحت جزيرة خلاص لكل النفوس التي تحطمت بها السفن. فكما لو أنه قال: ’لا يهم ما أحتمله. قد تزمجر العواصف في وجهي، وقد يحتقرني الناس، وقد تجرّبني الشياطين، وقد تقوى الظروف عليّ، وقد يتخلى الله نفسه عني. لكن الله قدوس، ولا إثم فيه.‘” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ستيفنسون (Stevenson)
· “ربما لا نشكك في قداسة الله، لكن يمكننا أن نتحاجج معه انطلاقًا منها، فنستخدمها في تضرعاتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عَلَيْكَ ٱتَّكَلَ آبَاؤُنَا… إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا: تذكّر داود أيضًا كيف أنه سبق لله أن استجاب وخلّص (فَنَجَوْا) مرات كثيرة من قبل. ومن الغريب أن هذا يحمل قدْرًا من التعزية واليأس معًا؛ التعزية، لأنه يعرف أنه يصرخ إلى نفس الإله الذي سبق أن نجّى آخرين من قبل ويمكنه أن ينجّي مرة أخرى؛ واليأس، لأنه يعرف أن نفس الإله الذي سبق أن نجّى من قبل بدا الآن بعيدًا وصامتًا.
· نكاد نسمع عذاب ذاك المُتخلى عنه: “إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا؛ وأما أنا فأصرخ فتتجاهلني.”
· آبَاؤُنَا: “يبيّن استخدام الضمير المتصل الجمع (نا) أن يسوع كان واحدًا مع شعبه حتى وهو على الصليب.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٦-٨): الاستهزاء بذاك المُتخلى عنه.
٦أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. ٧كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: ٨«اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
١. أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لَا إِنْسَانٌ: جعلتْ شدة الصراع داود يشعر بأنه تم تجاهله حتى إنه أصبح بلا قيمة. بدا أن الله يساعد آخرين، غير أنه لا يمد العون للديدان! وقد أضاف وضعُه في عينيه وفي عيون الآخرين عذابًا فوق عذابه.
· لقد تحقق القول بشكل درامي في يسوع (ابن داود الأعظم)، إذ إنه صار موضوع تعيير واحتقار من الناس (عَارٌ عِنْدَ ٱلْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ ٱلشَّعْبِ). استهزأ أشخاص قساة بيسوع في أقسى درجات عذابه (إنجيل متى ٣٩:٢٧-٤٤).
- “تتضمن هذه الآية معجزة لغوية. فكيف يمكن لرب المجد أن يُدفع به إلى مثل هذا الهوان، لا ليكون أدنى من الملائكة فحسب، بل أدنى من البشر أيضًا. ويا لهذه المقابلة بين ’أنا هو‘ و’أَنَا دُودَةٌ!‘” سبيرجن (Spurgeon)
· “أحس بأنه يشبه دودة عاجزة لا حول ولا قوة لها، مستسلمة أثناء سحقها، غير ملحوظة، ومحتقرة من قبل الذين كانوا يدوسونها. اختار أضعف المخلوقات، وهي كلها لحم بلا عظام، والتي عندما تداس تتلوى وترتجف، وهي خالية من كل قوة إلا قوة احتمال المعاناة. كان هذا شبهًا حقيقيًّا بينه وبين الدودة، عندما صار جسده ونفسه كتلة من البؤس والتعاسة – جوهر العذاب نفسه – في آلام الصلب وهو يحتضر.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. يَفْغَرُونَ ٱلشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ ٱلرَّأْسَ قَائِلِينَ: ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لِأَنَّهُ سُرَّ بِهِ: تضاعفت تعاسة داود عندما استهزأ به أشخاص أساءوا فهم عذابه. فاستخدموه كعذر للتشكيك في علاقته بالله، تمامًا كما فعل أصحاب أيوب في آلامه.
· كأنهم قالوا: “بدا أنه ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ، لكننا نعرف جميعًا أن الرب ينجي الذين يتكلون عليه. بدا أنه كان يسَر بالله، لكن لا بدّ أن هذا كذب لأن الله لم ينقذه.”
· ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ: إن كان يسوع وَحَّدَ نفسه مع الصرخة في الكلمات الافتتاحية من هذا المزمور بصرخته العظيمة التي أطلقها من فوق الصليب (إنجيل متى ٤٣:٢٧)، فإن أعداءه وحّدوا أنفسهم من دون قصد مع أعداء الله المستهزئين ومسيحه في استهزائهم بيسوع على الصليب (إنجيل متى ٤٣:٢٧ “قَدِ ٱتَّكَلَ عَلَى ٱللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ ٱلْآنَ إِنْ أَرَادَهُ!”)
· قدم سبيرجن عظة بعنوان: ’الإيمان بين المستهزئين‘ حيث تأمّل فيها في تضمينات هذه الكلمة ضد ذاك المتخلى عنه: “قَدِ ٱتَّكَلَ عَلَى ٱللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ ٱلْآنَ إِنْ أَرَادَهُ.” سبيرجن (Spurgeon)
ü ثقة الإنسان الممتلئ نعمة بالله معروفة.
ü هذه الثقة التي يظهرها الأشخاص المؤمنون غير مفهومة لدى العالم.
ü من المؤكد تقريبًا أنه سيتم الاستهزاء بهذا الإيمان الحقيقي في وقت أو آخر.
ü سيأتي ذلك اليوم الذي سيتبرر بشكل كامل رجل الإيمان الذي وضع ثقته بالله.
٣. لِيُنْقِذْهُ لِأَنَّهُ سُرَّ بِهِ: تكشف هذه العبارة الجهل المتكرر والقسوة من جهة الذين يقاومون الله وشعبه. فهم يزعمون أنهم لا يرون أي إنقاذ، مع أنه سيأتي قريبًا جدًّا. وهم يشككون في حقيقة أن الله سُرَّ به، بينما سُرَّ به وهو يُسَر به حقًّا.
· “هذه مفارقة خبيثة سعوا فيها إلى التملق بقصد تدمير ثقته، لكي يدفعوه إلى اليأس والدمار بشكل مطلق.” تراب (Trapp)
د ) الآيات (٩-١١): تضرُّع: “أنت إلهي منذ نعومة أصابعي.”
٩لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. ١٠عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي. ١١لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
١. لِأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ ٱلْبَطْنِ: فهمَ داود – لنفسه وللمسيّا الذي سيأتي لاحقًا في الوقت نفسه – أنه يمكن للمرء في أعماق العذاب والإحساس بالتخلي عنه أن يحتكم إلى الله في تذكُّره لأوقات أفضل.
· لم يقل ذاك المتخلى عنه: “بما أني أحس بأن الله تخلى عني، سأتخلى عنه.” بل بقي صامدًا ثابتًا عبر ليلة الليلاء، وظل يحتكم إلى الله الذي اهتم به منذ ولادته.
· “يستخدم هذا الطفل الذي يقاتل معركة حياته الكبيرة رحمة مولده كحجة مع الله. يجد الإيمان أسلحة في كل مكان. فمن يصمم على الإيمان لن يفتقر أبدًا إلى أسباب للإيمان.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مِنَ ٱلْبَطْنِ… عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي… مِنَ ٱلرَّحِمِ… أَنْتَ إِلَهِي: يقدم ذاك المُتخلى عنه حججًا على أسس منطقية جيدة. وهو يذكّر الله بالرعاية التي حصل عليها منه منذ نعومة أصابعه. فقد تبدو تلك النعمة السابقة مهدرة إذا لم يُنقذ المتألم في أزمته الحالية.
٣. لَا تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لِأَنَّ ٱلضِّيقَ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا مُعِينَ: ومرة أخرى، فإنه يقدم توسله من أجل العون بفصاحة وبطريقة مقْنعة. يبدو الله بعيدًا (لَا تَتَبَاعَدْ)، لكن ٱلضِّيقَ قَرِيبٌ – ولَا مُعِينَ، ولهذا يتوجب عليك أن تعينني، يا الله!
هـ) الآيات (١٢-١٨): عذاب ذاك المتخلى عنه.
١٢أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. ١٣فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. ١٤كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. ١٥يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِالْمَوْتِ تَضَعُنِي. ١٦لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. ١٧أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. ١٨يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
١. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ: مرة أخرى، يصف المتخلى عنه أزمته. إذ يتحدث عن أشخاص أقوياء مثل ثيران بَاشَانَ يعذبونه. وهي حيوانات ضخمة مشهورة بقوّتها. حاصروه وهددوه.
· “الثور رمز للقوة الوحشية. وهو ينطح ويدوس كل ما يجده أمامه.” كلارك (Clarke)
· “كان الكهنة والشيوخ والفريسيون والكتبة والرؤساء يخورون حول الصليب مثل الثيران البرية التي تتغذى في مراعي باشان الخصبة والمملئة قوة وغضبًا. كانوا يخبطون بأقدامهم ويزبدون حول البريء، وتاقوا إلى أن ينطحوه ويبقروه حتى الموت بقساوتهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. كَٱلْمَاءِ ٱنْسَكَبْتُ: أحس المتخلى عنه بالخواء التام. فلم يلمس في نفسه القدرة على مواجهة الأزمة أو المقاومة. فمهما كانت القوة أو المقاومة لديه، فقد ٱنْسَكَبَ كَٱلْمَاءِ على الأرض.
· “يسقط قلبي، وتُنفَق روحي وتتلاشى كالماء الذي حالما يندلق لا يمكن أن يُستعاد. ويذوب لحمي في داخلي. صرت ضعيفًا كالماء.” بوله (Poole)
٣. ٱنْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَٱلشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي: تصف هذه الكلمات أقصى درجات ضعف داود الجسدي في هذا الوقت، لكنها أيضًا نبوّة محددة مذهلة لمعاناة ابن داود على الصليب.
· عنى وضع الرجل المصلوب المرهق الخطِر بشكل متعمد أنه كان بمقدور يسوع أن يقول: “ٱنْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي.” فلم تكن ممارسة الصلب موجودة في أيام داود، لكنه وصف بدقة العذاب الجسدي لذلك الصلب كنبيٍّ للرب.
· هنالك أيضًا سبب للاعتقاد، بناء على إنجيل يوحنا ٣٤:١٩ بشكل رئيسي، أن يسوع عانى من تمزُّق في القلب، الأمر الذي يجعل الكلمات “صَارَ قَلْبِي كَٱلشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي” دقيقة على نحو مذهل.
· لَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي: كما كان أمرًا عاديًّا بالنسبة لشخص تحت عذاب الصلب أن يشعر بالعطش الشديد (يوحنا ٢٨:١٩).
٤. وَإِلَى تُرَابِ ٱلْمَوْتِ تَضَعُنِي: وصف داود بهذه العبارة الشعرية المؤثرة مدى بؤسه. وربما خطر بباله اللعنة التي أعلنها الله على آدم بعد خطيته: “لِأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (سفر التكوين ١٩:٣). ولأن البشرية بأكملها كانت محتواة في آدم، فإن هذه اللعنة تمتد إلى الجنس البشري كله. وقد شعر داود نفسه بأنه قريب من تُرَابِ ٱلْمَوْتِ.
· من الواضح أن داود لم يمت في الأزمة التي يصفها المزمور. بل عاش ليكتبه ويكتب غيره من المزامير. لكنه وصل إلى حافة الموت عندما أوصله الله إلى تُرَابِ ٱلْمَوْتِ. غير أن يسوع، ابن داود، غُمر بتراب الموت وبكل اللعنات المتضمنة في ذلك. فقد حمل يسوع لعنة آدم عنّا (غلاطية ١٣:٣) لئلا نحملها نحن.
٥. أَحَاطَتْ بِي كِلَابٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلْأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي: كانت أزمة داود سيئة بما يكفي لو كان محاطًا بأصحاب. ولكن تضاعف بؤسه عندما حاصره أشخاص أشرار عنفاء من كل جهة.
· لم يكن لدى يسوع (ابن داود الأعظم) متعاطفون كثيرون عند موته. إذ أحاط به أشخاص كارهون وساخرون ومستهزئون بيسوع على الصليب، وسعوا إلى تعظيم معاناته (إنجيل متى ٣٩:٢٧-٤٤؛ إنجيل مرقس ٢٩:١٥-٣٢).
٦. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: ربما أشار داود هنا إلى جروح أُصيب بها في صراعه مع أعدائه العازمين على إيذائه. وربما كتب ذلك بروح نبوية خالصة. وعلى أية حال، قبل مئات من السنوات من تبنّي الرومان ممارسة الصلب الفارسية، وصف النبي داود جراح الصلب التي حملها ابنه الأعظم.
· لا يقول النص العبري المازوري للنص مزمور ١٦:٢٢ ’ثَقَبُوا،‘ بل يقول ’مثل أسد.‘ غير أن الترجمة السبعينية (اليونانية) للعهد القديم، قبل وقت طويل من الحقبة المسيحية، تترجم النص إلى ’ثَقَبُوا.‘ ومع أنه لا يجب تجاهل النص المازوري بشكل عابر، إلا أن هنالك سببًا وجيهًا للانحياز إلى الترجمة السبعينية وأية ترجمة أخرى تقريبًا. “ربما يوحي ذلك بأنّ النص المازوري وُجِّه بشكل متعمد ليكون كما هو من قِبل باحثين يهود من أجل تجنُّب أن يكون النص نبوّة حتمية لصلب يسوع.” بويس (Boice)
٧. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي: تَفَحَّص داود عظامه، وفهمَ أنه لم تكن لديه عظام مكسورة. فرغم معاناة يسوع (ابن داود الأعظم) الشديدة على الصليب، إلا أنه لم يتعرض إلى أي كسر في عظامه. وقد لاحظ يوحنا هذه الحقيقة بعناية في إنجيله (يوحنا ٣١:١٩-٣٧). فحققت هذه الحقيقة هذه النبوّة، إضافة إلى مزمور ٢٠:٣٤ ونمط حمل الفصح كما هو موصوف في سفر الخروج ٤٦:١٢ وسفر العدد ١٢:٩.
٨. وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ: كان داود في أزمته محور تركيز غير مرغوب فيه. إذ لم يتركوه وشأنه وقت عذابه، لكنهم كشفوا كل شيء بتفرُّسهم فيه. فلم يجد يسوع (ابن داود الأعظم) مكانًا للاختباء من تحديقاتهم غير المرغوب فيها مِن قِبَل أشخاص مستهزئين على الصليب.
· لم يكن يسوع على الصليب محور سخرية وإهانة (إنجيل متى ٣٩:٢٧-٤٤؛ إنجيل مرقس ٢٩:١٥-٣٢) فحسب، بل كان أيضًا محور دهشة أشخاص بسطاء، كما حدث مع قائد المئة الذي قال: “حَقًّا كَانَ هَذَا ٱبْنَ ٱللهِ!” (إنجيل متى ٥٤:٢٧). ويلاحظ لوقأ أيضًا أن الجموع التي جاءت لتراقب هذا المشهد عادوا وهم يقرعون صدورهم (لوقا ٤٨:٢٣).
· وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ: “هذه نظرة مختلفة جدًّا عن تلك التي يوجهها الخاطئ المستنير إلى الجلجثة عندما يرفع يديه بالإيمان إلى ذاك الذي تعذَّب ونزف ومات من أجل المذنبين.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن موريسون (Morison)
٩. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ: ذُلِّل داود أمام أعدائه جدًّا إلى أنه صار بلا حول ولا قوة ضدهم حتى إنهم انتزعوا ثيابه لتكون لهم.
· وكما هو الحال مع جوانب أخرى من هذا المزمور، تحقق هذا بشكل أكثر حرفية في يسوع من حياة داود. وكما جرت العادة في ذلك الزمان، جرّد الجنود يسوع من ثيابه ليكون عاريًا تقريبًا من أجل تعليقه على الصليب. وقاموا بالمقامرة عليها (وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ) عند الصليب. ويقتبس إنجيل يوحنا ٢٣:١٩-٢٤ وإنجيل متى ٣٥:٢٧ هذا السطر من المزمور على أنه تمّ كنبوّة.
· “تفرّست عيون غير مقدسة بشكل مهين في عري المخلص، فصدمتْ رقّته المقدسة. كان يفترض أن يجتذب منظر الجسد المتعذب تعاطُف الحشود، إلا أنه زاد من مرحهم الوحشي وهم يشمتون ببؤسه بعيونهم القاسية.” سبيرجن (Spurgeon)
و ) الآيات (١٩-٢١أ): توسُّل من أجل العون والإنقاذ.
١٩أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. ٢٠أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. ٢١خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ.
١. أَمَّا أَنْتَ يَارَبُّ، فَلَا تَبْعُدْ: نجد هنا تكرارًا للطلبة في مزمور ١١:٢٢. ويبدو هنا أن داود قادر على احتمال أي شيء إن كان يتمتع بحضور الله الواعي في هذه الأزمة.
٢. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. أَنْقِذْ: من خلال تصوير داود لأعدائه على أنهم حيوانات شرسة (ٱلْكَلْب… فَم ٱلْأَسَدِ… قُرُونِ بَقَرِ ٱلْوَحْشِ)، يتوسل العون والإنقاذ اللذين يقدمهما الله.
· لا تعكس هذه السطور الخطر العظيم الذي يتهدد كُلًّا من داود ويسوع (ابن داود الأعظم) والتعاسة التي يختبرانهما فحسب، بل تعكس أيضًا ثقتهما بالرب بصفته المنقذ. فهو وحده رجاؤهما.
· أَنْقِذْ مِنَ ٱلسَّيْفِ نَفْسِي: “كان غضب الله هو السيف الذي انتقم به من كل البشر… كان السيف الملتهب الذي يُبقي البشر خارج جنة عدن.” هورن (Horne)
ثانيًا. الرد على ذاك المتخلّى عنه
أ ) الآيات (٢١ب-٢٣): المتخلى عنه يسبّح الله بين الأمم.
٢١… اسْتَجِبْ لِي. ٢٢أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ. ٢٣يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
١. ٱسْتَجِبْ لِي (استجبتَ لي أو خَلِّصْنِي): بعد أن سكب ذاك المتخلى عنه في العذاب، صار لديه إحساس مجيد بأن الله استجاب له. أصبحت هذه الأزمة محتملة في ضوء معرفته بأن الله ليس بعيدًا عن معاناته أو أنه صامت عنها.
· عنت استجابة الرب لذاك المتخلى عنه أنه لم يعد متخلّى عنه. ربما لم يأتِ الإنقاذ من الأزمة بعد، لكنه أُنقذ من الإحساس بتخلّي الله عنه في وسط أزمته. هنالك ارتياح وفرح وسلام في هذا الجواب : “ٱسْتَجِبْتَ لِي.”
· “لدى هتافه، يغمر روحه الاقتناع بأن الله سمعه. إنه أشبه بانفجار مفاجئ من أشعة الشمس في نهاية يوم عاصف.” ماكلارين (Maclaren)
· يسْهل علينا أن نرى أن هذه الكلمات تحققت في خبرة داود، لكنها تمت بشكل كامل في يسوع. وهذا هو الحل الذي ناضل من أجله شخصٌ آخر متخلّى عنه، وهو أيوب. وحتى من دون إنقاذ فوري من الأزمة، فإن هنالك تعزية هائلة في معرفة أن الله موجود وغير صامت في وسط صرخاتنا.
· في ضوء معرفتنا بأن يسوع تمّم هذا المزمور النبوي، فإن من المنصف أن نتساءل متى استطاع يسوع أن ينطق بهذه العبارة: “استجبتَ لِي” أو متى عاش تحقيقها. ربما من المستحيل أن نجيب عن هذا السؤال على وجه اليقين، لكن ربما بينما كان معلَّقًا على الصليب، لكن بعد الصفقة المجيدة التي حمل بموجبها خطية الجنس البشري. وربما كان ذلك بعد إعلانه الانتصاري، “قَدْ أُكْمِلَ!” (إنجيل يوحنا ٣٠:١٩)، لكن ربما قبل (أو حتى أثناء قوله) الكلمات الدافئة التي رفعها إلى الآب، “يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي” (إنجيل لوقا ٤٦:٢٣). وتشير هذه العبارة إلى إحساس مستعاد بالشركة حلَّ محلّ الإحساس السابق بالهجر.
٢. أُخْبِرْ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي: بعد أن أُنقِذَ – إن لم يكن من الأزمة نفسها، لأن من المؤكد أنه أُنقِذَ من الإحساس بالتخلي عنه في هذه الأزمة – فإنه يعد الآن بأن يمجد إله الإنقاذ ويسبحه. إذ يحتاج آخرون إلى معرفة عظمة الله في أقصى درجاتها كما فعل يسوع.
· تقتبس الرسالة إلى العبرانيين ١٢:٢ القسم الثاني من مزمور ٢٢ (على وجه التحديد الآية ٢٢)، الأمر الذي يبرهن أن المزمور كله يشير إلى يسوع، لا إلى العذاب المصور في النصف الأول من المزمور.
- في الليلة السابقة لصلب يسوع، صلّى صلاة مجيدة تقول عبارة منها: “وَعَرَّفْتُهُمُ ٱسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ” (إنجيل
يوحنا ٢٦:١٧). يمكن أن تُفهم هذه الصلاة التي رُفعت في ظل الصليب كرغبة متعمدة لتحقيق هذه النبوة في مزمور ٢٢، “أُخْبِرْ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي.” فقد فهِمَ يسوع أن عمل طاعته على الصليب سيجلب مجدًا عظيمًا لله أبيه، معلنًا عظمة اسمه.
· يمكننا القول إن هذا القسم من مزمور ٢٢ يعكس السبب الذي من أجله مضى يسوع إلى الصليب، ألا وهو أن يطيع الله أباه ويمجده.
٣. يَا خَائِفِي ٱلرَّبِّ سَبِّحُوهُ: هنالك أمر بأن يسبحوا الرب ويمجدوه ويخافوه. إذ يستحق إله مثل هذا الإنقاذ العظيم كل هذه الثلاثة من كل بشر.
· نرى في هذا القسم يسوع وهو يقوم بعملين عظيمين في أعقاب عمله العظيم على الصليب:
ü يعلن اسم الله (أُخْبِرْ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي).
ü يقود بنفسه المفديين في التسبيح (فِي وَسَطِ ٱلْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ).
· يعلّق سبيرجن حول النقطة الثانية: “أحب أن أعتقد أننا عندما نصلي، فإن صلواتنا ليست وحدها. لكن رئيس كهنتنا العظيم موجود ليقدم تضرعات من عنده. وعندما نرنم، على الأرض، يقوم يسوع بنفس الأمر. أليس يسوع في وسط الجماعة، جامعًا كل الملاحظات الصادرة عن الشفاه الصادقة، ليضعها في مبخرة الذهب، ويُصعدها كبخور ثمين أمام عرش الله اللامتناهي.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٢٤-٢٥): تسبيح لله الذي يستجيب للمتخلى عنه.
٢٤لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يُرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ. ٢٥مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
١. لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يُرْذِلْ مَسْكَنَةَ ٱلْمِسْكِينِ: ومرة أخرى، تعكس كلمات داود الانتصارية التي تحققت بشكل كامل في يسوع المسيح، حكمة روحية عميقة. لقد سمح الإله الذي استجاب لذاك المتخلى عنه بأن يمر في محنة، غير أنه لم يحتقرها أو يمقتها. لقد استخدم ويستخدم الله المحن لغرض صالح وعظيم.
· يربط بعض المؤمنين بشكل آلي المحن بعدم رضا الله. صحيح أنه قد تأتي المحنة أحيانًا كعقاب (لغير المؤمن) وكتأديب (للمؤمن). لكن لا تكون المحنة في بعض الأوقات شيئًا يحتقره الله أو يمقته (وَلَمْ يُرْذِلْ)، بل يستخدمها لغرض صالح في حياة شعبه.
· وبهذا المعنى، تحققت كلمات الآية في سفر إشعياء ١٠:٣٥ “أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحَزَنِ.” فلم تُحتقر هذه المحنة.
٢. وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ: من المؤكد أن داود (ويسوع، ابن داود الأعظم) أحس بأن الله حجب وجهه عنه. (إلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلَاصِي، عَنْ كَلَامِ زَفِيرِي؟ إِلَهِي، فِي ٱلنَّهَارِ أَدْعُو فَلَا تَسْتَجِيبُ. مزمور ١:٢٢-٢) لكن بعد وصول جواب الله إليه، من الواضح أن الله لم يتركه حتى في وسط محنته.
٣. بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ ٱسْتَمَعَ: بدا أن الجواب استغرق وقتًا طويلًا لا يطاق، لكنه جاء في نهاية الأمر. فكان بمقدور داود ويسوع أن يقولا إن الله “ٱسْتَمَعَ” صراخي.
٤. مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ: هنالك جانبان لاستجابة صحيحة لمثل هذا الإنقاذ الرائع: الأول هو التسبيح العلني، والثاني هو الوفاء بالوعود.
ج) الآيات (٢٦-٢٧): آخرون يبتهجون بالإله الذي يستجيب.
٢٦يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ. ٢٧تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
١. يَأْكُلُ ٱلْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ: إن كان الله يُظهر أمانة للمبتلين، فإن هنالك رجاء للْوُدَعَاء. إذ سيرعى الله الصالح ٱلْوُدَعَاء الذين يتكلون عليه ويطلبونه. وسوف يسبّحون الرب أيضًا.
- تصبح أمانة الله لذاك المتخلى عنه أساسًا لآخرين في احتياج مثل ٱلْوُدَعَاء. ويعني رضاه عن عمل يسوع (ابن داود) نعمة وبركة وفرحًا (تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ) من أجل الآخرين.
٢. يُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ طَالِبُوهُ: هنالك وعد في هذه العبارة، وهو أن الذين يطلبون الرب سيجدونه فعلًا، وسيسبّحونه.
· “هنالك نفوس تنوح الآن من أجل الخطية، وتتوق إلى مخلّص يمكن أن يجدهم. وعندئذٍ، سيكونون مرنمين حماسيين لترنيمة جديدة. وكثيرون يؤمنون، ويأتون بالآلاف. وستدوم موسيقى التسبيح دوام الشمس، وسيغطي مجد الرب الأرض كما تغطي المياه البحر. وسيسبّحون اسم الرب من جيل إلى جيل.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. تَذْكُرُ وَتَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ: تصبح أمانة الله لذاك المتخلى عنه أساس لجذب كُلُّ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ إِلَى ٱلرَّبِّ. ليس صحيحًا أن الرب لم يحتقر أو يرذل محنة المُبتلى فحسب (مزمور ٢٤:٢٢)، لكنه يستخدمها أيضًا للوصول إلى كُلُّ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ من أجل معرفة الله ليتوبوا إليه ويعبدوه (وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ ٱلْأُمَمِ).
· يمكننا القول إن القسم الثاني من المزمور ٢٢ يبيّن السبب الثاني العظيم وراء ذهاب يسوع إلى الصليب. فقد كان مدفوعًا بمحبة للذين سيؤمنون به وبعمله الخلاصي، ولهذا تَذْكُرُ وَتَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ. وليس من قبيل المبالغة القول إن يسوع فكّر في مفدييه وأحبهم حتى إنه وصل إلى الصليب واعتلاه من أجلهم.
· تقول الآية في الرسالة إلى العبرانيين ٢:١٢ عن يسوع: “مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِٱلْخِزْيِ.” ويبيّن المزمور ٢٢ هذا السرور، في كلٍّ من طاعته وتمجيده لأبيه وإلهه وفي إنقاذه ومحبته للذين سيتكلون عليه. إذ سيكون هنالك إخوة سيعلن لهم اسم الله (مزمور ٢٢:٢٢).
· “في هذه الفترة الفاصلة الأخيرة، قبل أن يودع روحه بين يدي الله، اندفعت أفكاره إلى الأمام وارتاحت على فكرة أن الأمم ستعبد الله – نتيجة لموته – وأن الله العلي سيُكرَم من نسل مختار.” سبيرجن (Spurgeon)
· “أعتقد أنها فكرة رائعة، وهي فكرة يفترض أن تدفعنا إلى أكثر حب تصميمًا وتكريسًا ليسوع المسيح. كنا أنا وأنت في أفكار يسوع في لحظة موته. كان يموت من أجلك ومن أجلي، ومن أجل خلاصنا بشكل صريح.” بويس (Boice)
د ) الآيات (٢٨-٣١): تسبيح دائم لإله أمين.
٢٨لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ. ٢٩أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ. ٣٠الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي. ٣١يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
١. لِأَنَّ لِلرَّبِّ ٱلْمُلْكَ، وَهُوَ ٱلْمُتَسَلِّطُ عَلَى ٱلْأُمَمِ: لم تجعل خبرة ذاك المتخلى عنه السابق بالمحنة يفقد إحساسه بالثقة بقوة الله وسلطانه. فسيادة الرب على الأمم تفسّر بشكل منطقي أزمته السابقة ودعوته الأمم إلى أن يعبدوا قدام الرب (مزمور ٢٧:٢٢).
· يذكّرنا هذا بأن يسوع سيحكم كل الشعوب ذات يوم. ولن يكون الأمر ممكنًا تصوُّره من دون ذلك. “هل المسيح قانع بأن يقبع في ركن من أركان الأرض ليحكم مقاطعة واحدة هزيلة؟” سبيرجن (Spurgeon)
· “تتوق طبيعتنا المولودة ثانية إلى انتشار ملكوت الفادي، وتصلي من أجل ذلك بشكل غريزي.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي ٱلْأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى ٱلتُّرَابِ: الرب الإله مرتفع جدًّا حتى إن الكل يكرمونه، كل من سَمِينِي ٱلْأَرْضِ وكُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى ٱلتُّرَابِ.
· من الجدير بالذكر أن الكل يكرمون الرب، لكنهم يفعلون ذلك بطرق مختلفة. فالمزدهرون في العالم (سمِينِو ٱلْأَرْضِ) يتمتعون بوجبة شركة ويعبدون الله. وبالمقابلة، فإن الذين ينحدرون إلى التراب، فإنهم ينحنون أمام الرب في توقير واتضاع.
· يتضمن هذا نفس الفكرة تقريبًا التي عبّر عنها الرسول بولس لاحقًا عندما كتب: “لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلْآبِ” (الرسالة إلى أهل فيلبي ١٠:٢-١١).
· توحي عبارة “كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى ٱلتُّرَابِ” إلى المتواضعين بحق، لكن يمكن أن تُفهم بمعنى أوسع. ففي مرحلة سابقة من المزمور، أوحت كلمة التراب بقابلية الإنسان للموت ومكانه تحت اللعنة (مزمور ١٥:٢٢). وربما استخدم داود عبارة “كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى ٱلتُّرَابِ” كتمثيل بسيط للبشر.
· فإن كان هذا صحيحًا، فإن عبارة “مَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ” (أي الذي لا يستطيع أن يبقي نفسه حيًّا) تتبع نفس الفكرة. وهي عبارة موحية بالمعاني، وبشكل خاص في ضوء صلة هذا بيسوع المسيّا، ابن داود. فمن بين كل البشر، كان يسوع هو الوحيد القادر على إبقاء نفسه حيًّا (يُحْيِ نَفْسَهُ). إذ قال مشيرًا إلى نفسه: “لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا” (إنجيل يوحنا ١٨:١٠).
٣. ٱلذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ ٱلرَّبِّ ٱلْجِيلُ ٱلْآتِي: ستتردد أمانة الرب لذاك المتخلى عنه السابق عبر الأجيال، جالبة مجدًا عظيمًا للرب. وسينظرون إلى ما تم إنجازه فيه ومن خلاله وسيسمعون “بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.” (الرب قد فعل هذا).
· يؤدي هذا إلى خدمة على مر الأجيال (ٱلذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ).
· يؤدي هذا إلى صيت لله على مر الأجيال (يُخَبَّرُ عَنِ ٱلرَّبِّ ٱلْجِيلُ ٱلْآتي).
· يؤدي هذا إلى انتشار رسالة بر الله عبر الأجيال (يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ).