تفسير سفر المزامير – مزمور ٦٩
إنقاذ من مياه عميقة
هذا المزمور معنون: لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «ٱلسُّوْسَنِّ». لِدَاوُدَ. وكما هو الحال مع المزمور ٤٥، فإنه يؤدَّى ’عَلَى ٱلسُّوْسَنِّ.‘ ربما تشير ’عَلَى ٱلسُّوْسَنِّ‘ إلى الجمال العام للمؤلَّف، أو نوع اللحن، أو حتى الآلة الموسيقية التي يُعزَف المزمور عليها، وهي آلة وترية بستة أوتار معروفة بالعبرانية شوشانيم.
“لعله لا يوجد في أي مزمور آخر من سفر المزامير إحساس أعمق بالحزن أو أكثر كثافة من هذ المزمور. فنفس صاحب المزمور تسكب ذاتها في شعور فظيع غير مقيَّد من الهجر والأسى الشديد الذي يستهلكها.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan)
أولًا. عارف في الرفض
أ ) الآيات (١-٣): الغرق في فيضان من الضيق.
١خَلِّصْنِي يَا اَللهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي. ٢غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ، وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ، وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي. ٣تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلهِي.
١. خَلِّصْنِي يَا ٱللهُ: مرّ داود بأوقات كثيرة في حياته احتاج فيها إلى رفع هذه الصلاة. فقد أحس بأنه كان على وشك الغرق (لِأَنَّ ٱلْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي – أو عُنُقي). وبعد قرون، سمع ابن داود صرخة تلميذ له وهو يقول له: “نَجِّنِي!” (إنجيل متى ٣٠:١٤)
· نحس أحيانًا وكأنّ أشياء تتدافع نحونا، ونحس بأننا نغرق في طوفان. وفي أحيان أخرى، نحس بأن منسوب المياه يرتفع ببطء إلى أن تغمرنا بشكل كامل. ولكل نوع من هذا الإحساس خوفه وتعاسته.
٢. غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ: كان داود في مزامير أخرى يبتهج بكونه واقفًا بثبات على صخرة (مزمور ٢:٤٠). وهنا نجد النقيض تمامًا، حيث يغرق فِي وحل أو حَمْأَةٍ (مستنقع) عَمِيقَةٍ، حيث لا يستطيع الوقوف على قدميه.
· يمكنني أن نتصور يسوع وهو يغرق في حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ من خطية البشرية وذنبها، حيث يصل إلى المياه العميقة، حيث تغمر الفيضانات كل شيء. فلا عجب أنه قيل عنه قبل ذهابه إلى الصليب: “وَٱبْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ.” (إنجيل متى ٣٧:٢٦)
· وصف سبيرجن عدة أنواع من الحمأة العميقة التي يمكن أن يغرق فيها المؤمن:
ü حمأة عميقة من عدم الإيمان
ü حمأة عميقة من المحن والصعوبات
ü حمأة عميقة من الفساد الداخلي
ü حمأة عميقة من تجربة إبليس وقمعه له
٣. تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي: كان داود منهكًا من الطاقة التي بذلها في صراخه وبكائه وهو ينتظر أن ينقذه الرب.
· يَبِسَ حَلْقِي: “أخشى أننا نبح أصواتنا ونحن نتحدث مع البشر عن أمور تافهة بدلًا من أن نضرع إلى الله.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (٤): وصف المشكلة.
٤أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلَا سَبَبٍ. ٱعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ ٱلَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ.
١. أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلَا سَبَبٍ: يبدأ داود بوصف المشكلات الحقيقية التي وصفها شعريًّا في الآيات السابقة. فقد عاش تحت ضغط نفسي عظيم وهو يدرك أن كثيرين يبغضونه بِلَا سَبَبٍ.
· “لا يمكن تصور أي شيء أكثر سحقًا للنفس من معاناة غريبة لا تفسير لها ناتجة عن الولاء لله والحماسة لكرامته. والتوبيخ غير المستحق هو أكثر حزن إذهالًا يمكن أن تواجهه النفس الحساسة.” مورجان (Morgan)
· يَصعب علينا أن نصدق أن مثل هذا الرجل التقي الرائع، داود، يمكن أن يُبغَض. لكن هذه هي الطبيعة البشرية. وقد كانت أكثر وضوحًا في البُغض غير المسَبَّب الموجه ليسوع المسيح، ابن داود الأعظم.
· أشار يسوع على نحو مباشر إلى مزمور ٤:٦٩ عندما تحدَّث إلى تلاميذه قبل يوم الصلب. قال: “لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلَا سَبَبٍ.” (إنجيل يوحنا ٢٥:١٥).
· “كان هنالك بين الكتبة والفريسيين والكهنة واللاويين أشخاص أبغضوه فحسب. وليست معرفة السبب أمرًا صعبًا. إذ بدوا وكأنهم أشخاص صالحون إلى أن جاء ووقف بجانبهم. أبغضوه بلا حساب وبلا قيد. أبغضوه بلا سبب في نفسه. كان السبب الوحيد هو قلوبهم الشريرة.” بويس (Boice) نقلًا عن بارنهاوس (Barnhouse)
٢. ٱعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ (الذين يريدون هلاكي أقوياء): كان من بين الكثيرين الذين أبغضوا داود أشخاص لم يكتفوا بمشاعر الكراهية تجاهه. إذ بذلوا جهودًا نشطة للقضاء عليه. وكان من بين الذين وضعوا في اعتبارهم تدمير داود أشخاص أقوياء لديهم القدرة على تنفيذ خططهم.
· “يجد القلب المثَقّل بالأحمال راحة في وصف مدى الثِّقَل الذي يرزح تحته. ويتلقى القلب الورع شيئًا من المذاق المسبق للعون الذي طالما اشتاق إليه في إخبار الله عن مدى حاجته إلى عونه.” ماكلارين (Maclaren)
٣. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ ٱلَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ: أدّى هذا الظلم الأساسي إلى مزيد من تعاسة داود وتكثيف إحساسه باليأس.
· “رغم أنه كان بريئًا، إلا أنه عومِلَ كمذنب. ورغم أن داود لم ينخرط في أية مؤامرة على الملك شاول، إلا أنه حُمِّل مسؤوليتها.” سبيرجن (Spurgeon)
· لم يكن بمقدور داود إلا بطريقة معيبة أن يقول إنه لم يسرق شيئًا (الذي لَمْ أَخْطَفْهُ). لكن كان بمقدور ابنه الأعظم أن يقولها بطريقة مذهلة جديرة بالإعجاب. حاول إبليس أن يخطف ما ليس من حقه – كرامة الله ومجده في السماء. وأخذ آدم ما ليس من حقه – الثمرة المحرمة. وأخذ موسى ما ليس من حقه – حياة المصري مراقب العمال. وأخذ داود ما ليس من حقه – بثشبع إلى فراشه. غير أن يسوع رفض أن يأخذ ما كان من حقه – “لم يحسب أن يكون معادلًا لله” (فيلبي ٦:٢)، مختارًا أن يضع امتيازاته الإلهية جانبًا. ولهذا دِيْنَ من قِبل البشرية لأنه جعل نفسه ابن الله (يوحنا ٧:١٩).
ج) الآيات (٥-١٢): التعايش مع رفض الشر الدائم.
٥يَا اَللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ. ٦لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوكَ يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوكَ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ. ٧لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ. غَطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي. ٨صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي، وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي. ٩لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ. ١٠وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذلِكَ عَارًا عَلَيَّ. ١١جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلاً. ١٢يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَابِ، وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ.
١. يَا ٱللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ: أعلن داود في مزامير كثيرة براءته بالمقارنة مع أعدائه. لكنه يعترف في هذا المزمور بخطيته وفشله مسترحمًا الله.
· “يعني داود بكلمة ’ذُنُوبِي‘ خطايا أقل جدية ارتكبها في جهله وطيشه، وخطايا ذات طبيعة أفظع.” بوله (Poole)
· وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ: “يفترض أن يكون الاعتراف سهلًا عندما نكون متأكدين من أن كل شيء معلوم لدى الله بالفعل.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ: يمكننا أن نطبّق هذا روحيًّا على يسوع، ملاحظين الطبيعة الجهارية لإذلاله على الصليب. إذ سُمِّر على صليب وهو على الأرجح عار تمامًا أمام جمهور متهكم. وأنجز يسوع عمله العظيم، ولم يكن هنالك ما يخفيه. لم تكن لديه خطايا شخصية ليحملها، لكنّ حمْل خطايانا لم يخفَ عن الله أو البشر.
٢. لَا يَخْجَلْ بِي (بسببي) مُلْتَمِسُوكَ يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ: لم يكن اهتمام داود منصبًا على تأثير ما يمر به فيه شخصيًّا فحسب، بل بشكل خاص في شعب الله أيضًا. إذ كانت فكرة إحراج الذين يلتمسون الله مؤلمة له.
· “خشي داود أن ينحرف الأشخاص المؤمنون المخْلِصون عن الإيمان وأن يُخزوا بسبب ما رأوه من معاناته.” مورجان (Morgan)
· “ينبغي أن تكون صلاة كل مؤمن – وبشكل خاص إذا كان خادمًا للإنجيل – أن لا تكون معاناته في العالم عثرة للإخوة أو الكنيسة.” هورن (Horne)
· يَا سَيِّدُ رَبَّ ٱلْجُنُودِ: “يشمل هذا التعبير ثلاثة ألقاب لله. فهو رب الكون (السيد، أدوناي)، وهو رب العهد (الله، يهوه)، والمحارب الإلهي (رب الصباؤوت).” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. غَطَّى ٱلْخَجَلُ وَجْهِي: من بين المشكلات التي تسببت فيها خطيته اضطراره إلى التعامل مع العلاقات المتضررة بإخوته.
· “لولا خوفه من أن يبتعد الإخوة عن الإيمان، لما تذمَّر من وضعه. وما كان لهذا أن يؤلمه لولا وجود عاطفة قوية لديه تجاههم.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ماسكيولوس (Musculus)
· ما أغرب كيف أن إخوة يسوع رفضوه وعاملوه كغريب (إنجيل يوحنا ٥:٧؛ إنجيل مرقس ٢١:٣). فإن كان على أحد أن يقف إلى جانبه ويدافع عنه، كان أن ينبغي يكون إخوته.
٤. وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ: لم تكن خطية داود السبب الوحيد في مشكلاته. فقد رُفِض وانتُقِد بسبب حماسته لله ولبيته.
· كانت حماسة داود لله ولبيته واضحة في رغبته في بناء هيكل للرب (سفر صموئيل الثاني ١:٧-٣)، وفي التحضير النشط لبناء الهيكل الذي سيبنيه ابنه سليمان فعلًا (سفر أخبار الأيام الأول ١:٢٢-٥).
· عندما طرد يسوع الصيارفة من ساحة الهيكل في بداية خدمته، تذكَّر تلاميذه هذا النص من مزمور ٩:٦٩ (إنجيل يوحنا ١٧:٢).
· “أَكَلَتْنِي، استهلكتْ وبدّدتْ رطوبتي الطبيعية وروحي المعنوية. وغالبًا ما يحدث بسبب الحزن والغضب، والمحبة والرغبة الفوّارة. إذ تتألف الحماسة القوية من هذه.” بوله (Poole)
· “هنالك أشخاص يأكلهم الفسق، وبعضهم الحسد، وآخرون الكبرياء. لكنّ أقوى رغبة لدى قائدنا العظيم هي مجد الله، والغيرة على اسمه، والمحبة للعائلة الإلهية.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. تَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ: كان داود سعيدًا بالارتباط بالله حاسبًا أنه شرف وكرامة له أن يحمل رفض الذين يرفضون الرب.
· أشار الرسول بولس إلى مزمور ٩:٦٩ في حديثه عن الطبيعة المضحية ليسوع في رسالة رومية ٣:١٥ “لِأَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضًا لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ، بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: تَعْيِيرَاتُ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ.”
٦. وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ: رُفض داود بسبب حماقته وخطاياه (مزمور ٥:٦٩). وعندما تاب، رفضوه أيضًا.· جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا: “كانت هذه طريقة تظهر الجدية في الصوم بين الشرقيين، حيث اعتقدوا أنه حتى اللباس الخشن كان كثيرًا عليهم. ولولا العار، لتعرَّوا تمامًا.” تراب (Trapp)
· وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلًا: الفكرة هنا أنه صار مضغة في الأفواه، حكاية يتندرون بها. صار هزءًا. وهذه في عالمنا إستراتيجية متعمدة بأن نتخلص من شخص بلصق لقب أو تسمية به حتى لا يفكر الآخرون في أن يفكروا مثله أو يتصرفوا مثله. ويعرف المؤمنون الأمناء لسعة هذه الإستراتيجية اليوم. إذ يُسخر بهم كمهووسين دينيين وأصوليين ومتطرفين ومبغِضين للآخرين.
٧. يَتَكَلَّمُ فِيَّ ٱلْجَالِسُونَ فِي ٱلْبَابِ، وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي ٱلْمُسْكِرِ: صار داود هدف الاستهزاء والرفض من الجميع تقريبًا – من قادة المدينة إلى السُّكارى فيها.
· شَرَّابِي ٱلْمُسْكِرِ: “أي حثالة الناس، كل الأشخاص الفاسقين الداعرين. وهكذا تآمر عليه عَلِيَّة القوم وأسافلهم.” تراب (Trapp)
· “وحتى يومنا، فإن الحانة تسخر بمقْدس الله. والمقعد الأمامي هو مقعد المستهزئ.” سبيرجن (Spurgeon)
· عيّر رئيس الكهنة واللص المصلوب يسوع.
ثانيًا. صلاة للإنقاذ
أ ) الآيات (١٣-١٥): التماس لله.
١٣أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّفِي وَقْتِ رِضًى. يَا اَللهُ، بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ اسْتَجِبْ لِي، بِحَقِّ خَلاَصِكَ. ١٤نَجِّنِي مِنَ الطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ وَمِنْ أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ. ١٥لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ الْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي الْعُمْقُ، وَلاَ تُطْبِقِ الْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا.
١. أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلَاتِي يَا رَبُّ: مع رفْض الناس المستمر لداود، لجأ بشكل طبيعي وحكيم إلى الله. وسيطلب الله ويقدّم صلاته لذاك الذي يسمعها في كثرة رحمته (بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي).
· فِي وَقْتِ رِضًى (مقبول): “إنه وقت رفض من جهة البشر، لكنه وقت مقبول (وقت رضى) لدى الله. سادت الخطية الأرض، لكن النعمة سادت السماء.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لَا يَغْمُرَنِّي سَيْلُ ٱلْمِيَاهِ: بهذا التكرار الشعري، يكرر داود صورة الغرق طالبًا من الله أن ينقذه من الذين يبغضونه.
ب) الآيات (١٦-١٨): طلب لإنقاذ سريع.
١٦اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَثْرَةِ مَرَاحِمِكَ الْتَفِتْ إِلَيَّ. ١٧وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ، لأَنَّ لِي ضِيْقًا. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا. ١٨اقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي افْدِنِي.
١. ٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لِأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ: يحتكم داود هنا إلى محبة الله الوفية (المحبة الثابتة، الكرم أو اللطف المتسم بالمحبة – حِسِدْ بالعبرانية)، طالبًا بهذا كثرة رحمته.
٢. وَلَا تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ، لِأَنَّ لِي ضِيْقًا: عندما يقدّم داود نفسه لله على أنه خادمه (عَبْدكَ) وأنه في ضيق، فإنه يحتكم إلى رأفة الله.
ج) الآيات (١٩-٢١): الاحتكلم إلى الرأفة.
١٩أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ. ٢٠الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ، وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ. ٢١وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاُ.
١. أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي: ويستمر الاحتكام إلى رأفة الله، ولاسيما أن داود حمل تعييرًا كثيرًا في ولائه لله (مزمور ٩:٦٩ب).
· كتب آدم كلارك عن مزمور ١٩:٦٩-٢٠ “هذا واحد من أقوى الالتماسات التي قُدمتْ على الإطلاق. فلغة هاتين الآيتين لا تضاهى. والعاطفة المعبّر عنها رائعة بحيث لا يمكن تحسينها. ولا أستطيع أن أبدي تعليقًا يمكن أن يقلل من تأثيرهما.” كلارك (Clarke)
· قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ: تصوّر سبيرجن هذه الكلمات في قلب يسوع في معاناته العظيمة: “كل الجماعة الفاسقة الصاخبة موجودة أمام عينيك الآن: يهوذا وخيانته؛ هيرودس ومكره؛ وقيافا ومشورته؛ وبيلاطس وتذبذبه؛ اليهود، والكهنة، والشعب، والرؤساء – أنت تراهم كلهم، وستحكم عليهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ: طلب داود عونًا لأنه لم يكن هنالك من يعينه.
٣. وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا: بدلًا من أن يحصل داود على عون، وجد قساوة من أعدائه. أعطوه مرارة طعامًا له، وخلًّا حامضًا ليشربه.
· “مرارة، أو سُمًّا، أو أعشابًا ضارة [الشوكران – نبات سام] أو العلقم (سفر هوشع ٤:١٠).” بوله (Poole)
· “هذه هي التعزيات التي غالبًا ما يقدمها العالم لنفس مبتلاة تُخُلِّي عنها.” هورن (Horne). وعلينا نحن المؤمنين أن نحرص كل الحرص على أن لا نكون مثل العالم في هذه الناحية فنزيد تعاسة الذين وصلوا إلى أسفل الدرك في مُصابهم.
· هذا سطر آخر من هذا المزمور يشار إليه في العهد الجديد، وبشكل خاص في ما يتعلق بمعاناة يسوع على الصليب. فقد أُعطي خلًّا ليشرب. وهذا مذكور في إنجيل متى ٣٤:٢٧. وتضيف الآيات في إنجيل يوحنا ٢٨:١٩-٢٩ توضيحًا أكبر، حيث يكتب يوحنا أن هذا حدث ليتم ما هو مكتوب.
· “إنّ ما قُدِّم لداود في استعارة لغوية هو ما قُدِّم ليسوع حرفيًّا، حسب إنجيل متى ٣٤:٢٧، ٤٨، حيث إن ’المرارة‘ و’الخل‘ هما الكلمتان المستخدمتان في الترجمة السبعينية في المزمور.” كيدنر (Kidner)
د ) الآيات (٢٢-٢٨): طلب هزيمة الأعداء.
٢٢لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا، وَلِلآمِنِينَ شَرَكًا. ٢٣لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ الْبَصَرِ، وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِمًا. ٢٤صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ. ٢٥لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا، وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ. ٢٦لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ. ٢٧اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ، وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ. ٢٨لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاءِ، وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا.
١. لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا: تألم داود بسبب استهزاء أولئك الذين جلسوا مرتاحين بينما كان في تعاسة. فصلّى أن تكون راحتهم فخًّا لهم.
· في هذا القسم من المزمور ٢٢:٦٩-٢٨، يصعب أن نعرف ما قصده داود تمامًا. ’هذا هو ما أريدك أن تفعله بهم، يا رب‘ أو ’هذا هو ما أعرف أن الله سيفعل بهم.‘ وفي أيٍّ من الحالتين، فإن الفكرة واضحة. “هو يستنزل عشر ضربات أو تأثيرات من غضب الله لكي تحل عليهم بسبب شرّهم.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ديكسون (Dickson)
· “تدل مائدتهم المجازية هنا على ازدهارهم وعلى وفرة كل شيء لديهم. وهي تمثل السلام والأمان، كما في مزمور ٥:٣٣؛ سفر أيوب ١٦:٣٦.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن فينيما (Venema)
· ينتظر هذا الخطر أولئك الذين رفضوا الرجل الذي بحسب قلب الله، كما هو في مزمور ٢٢:٦٩-٢٣. وهو نص اقتبسه بولس في رسالته إلى أهل رومية ٩:١١-١٠ كنص ملائم للذين رفضوا يسوع.
٢. لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ ٱلْبَصَرِ: كان لدى أعداء داود رؤية مشوهة كلما نظروا إليه. فصلّى أن يكون هذا التشوُّه عمىً دائمًا.
٣. صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ: طلب داود من الله أن يحقق سلسلة من اللعنات على أعدائه، انتهاء بأن يُمحى اسمهم بين الأحياء وأن لا يُكتبوا بين الأبرار.
· لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا: يشار إلى هذا السطر مرتين في العهد الجديد. إذ اقتبسه يسوع في حزنه على أورشليم (إنجيل متى ٣٨:٢٣)، وبطرس كوصف لمصير يهوذا (أعمال الرسل ٢٠:١).
· اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ: “عاقب خطيتهم بأخرى (بأن تعطيهم إحسانًا مرفوضًا، قساوة لا علاج لها)، واضربهم بقوة على خطيتهم. تدل الكلمة العبرية على الخطية والعقاب. وهما مرتبطان معًا في سلسلة التقسّي.” تراب (Trapp)
· لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ ٱلْأَحْيَاءِ، وَمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لَا يُكْتَبُوا: “لا يعني محو أسمائهم من سفر الأحياء من ذلك الوقت أن يُقتلوا فحسب، بل أن يُستثنوا أيضًا من المجتمع القومي، وبالتالي من امتيازات شعب الله.” ماكلارين (Maclaren)
· يستنبط كثيرون مقابلة بين هذه الصلوات القاسية وما يبدو نهجًا متسمًا بالمحبة في التعامل مع الأعداء، كما يعلّم العهد الجديد. “لكن وضْع داود ولعناته على معذّبيه جنبًا إلى جنب مع يسوع وصلاته من أجل معذّبيه يبيّن الهوة الكبيرة بين الرمز والمزمور إليه، وبين النظرات المقبولة لقديسي عند العهد القديم والعهد الجديد.” كيدنر (Kidner)
· غالبًا ما يقدَّم مثلٌ لهذا النهج المحب في الغفران العظيم الذي أظهره يسوع للذين سمّروه على الصليب. لكن كان لمورجان تحليل مضاد نوعًا ما. “قال يسوع: ’يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.‘ كانت هذه صلاة ملهَمة من حرية شخصية من كل انتقام شخصي. ونحن لا نجد في هذه الصلاة أو في أي تعليم من تعاليمه كلمة عن التسامح من أجل الذين يفعلون الشر وهم يعلمون أنه شر.” مورجان (Morgan)
هـ) الآيات (٢٩-٣٣): رفع المسكين والمتواضع.
٢٩أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اَللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي. ٣٠أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِتَسْبِيحٍ، وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ. ٣١فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ. ٣٢يَرَى ذلِكَ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي اللهِ. ٣٣لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ.
١. خَلاَصُكَ يَا اَللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي: لم يكتف داود بالصلاة من أجل سقوط أعدائه، بل طلب من الله أن ينقذه من الغرق في مستنقع الرجال البغيضين وأن يثبته عالياً.
· أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. “يقول النص حرفيًّا: ’جُعِلتُ تحت أو أسفل، وأنا ممتلئ بالألم والحزن‘ ولهذا يصلي: ’خَلَاصُكَ يَا ٱللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي.‘ لقد وضعني القمع الذي تعرضتُ له في مكان وضيع، فليجعلني خلاصك عاليًا.” كلارك (Clarke)
٢. أُسَبِّحُ ٱسْمَ ٱللهِ بِتَسْبِيحٍ، وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ: انتقل صاحب المزمور إلى ثقة أعظم، حيث نذر أن يسبح الله ويعظّم اسمه على خلاصه. ولا شك أن هذا التسبيح الصادق يكرم الله أكثر من أية ذبيحة حيوانية.
· ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلَافٍ: “كان العجل الصغير ملائمًا تمامًا ليكون ذبيحة، حسب الشريعة، عندما يبدأ ظهور قرنيه وأظلافه.” هورن (Horne)
٣. وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي ٱللهِ: لن تضيع محنة صاحب المزمور سُدى. إذ ستكون درسًا للآخرين الذين يطلبون الله، وستبيّن أن قلوبهم ستحيا.
و ) الآيات (٣٤-٣٦): الخاتمة الانتصارية.
٣٤تُسَبِّحُهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، الْبِحَارُ وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا. ٣٥لأَنَّ اللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْنَ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا، فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا. ٣٦وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو اسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا.
١. تُسَبِّحُهُ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلْأَرْضُ: رغم أن المزمور بدأ بروح معنوية متدنّية، إلّا أنه يرتفع إلى أعلى تسبيح. فليست السماوات والأرض كبيرة بما يكفي لتقديم التسبيح المستحق لله. ولهذا فإن البحار وكل ما فيها تشترك في تسبيحه.
٢. لِأَنَّ ٱللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْنَ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا: ترتفع الرؤية فوق مشكلات الفرد الواحد. فهو الآن يصلي من أجل بركة على أورشليم ويهوذا لكي يمتلكها الشعب ويسكن فيها.
· يعتقد بعضهم أن ذِكر مُدُنَ يَهُوذَا من دون ذِكر إسرائيل الأوسع يثبت أن هذا المزمور، أو على الأقل هذا الجزء منه كُتب إما أثناء المملكة المنقسمة أو السبي البابلي. أولًا، ليس أمرًا غير عادي أن يحمل داود اعتبارًا خاصّا لسبطه يهوذا. ثانيًا، ربما كُتب هذا المزمور أثناء السنوات السبع والستة شهور التي كان فيها داود ملكًا على يَهُوذَا قبل أن يصبح ملكًا على الأسباط الأخرى (سفر صموئيل الثاني ١:٢-١١).