تفسير سفر المزامير – مزمور ١٠٢
مُبتلىً لكن ممتلئ بالثقة
عنوان هذا المزمور هو: صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ اللهِ. وقد استعار هذا المُبتلى نغمته وبعضًا من عبارات أيوب الذي كان في العهد القديم مثلًا للابتلاء. وفضلًا عن ذلك، فإن هنالك تعابير كثيرة فيه تطابق تعابير أخرى في مزامير أخرى.
يصف هذا المزمور أورشليم (صهيون) في حالة خراب. فإذا أخذنا هذا التعبير حرفيًّا، فربما كتبه واحد من قبل أولئك المسبيين الذين كانوا يندبون بسبب محنتهم الشخصية والوطنية. وقد تبنّى آدم كلارك (Adam Clarke) هذا الرأي، واقترح أن كاتب المزمور يمكن أن يكون دانيال أو إرميا أو نحميا. لكن قد تكون الإشارة إلى خراب صهيون أكثر شعرية في طبيعته، وربما يعود المزمور إلى ما قبل فترة السبي.
وفي الطقوس الدينية المسيحية التقليدية، كان يُعَد هذا المزمور بين مزامير التوبة (إلى جانب المزامير ٦ و٣٢ و٣٨ و٥١ و١٣٠ و١٤٣).
أولًا. صرخة من الأزمة
أ ) الآيات (١-٢): توسُّل من أجل حضور الله.
١يَا رَبُّ، اسْتَمِعْ صَلاَتِي، وَلْيَدْخُلْ إِلَيْكَ صُرَاخِي. ٢لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فِي يَوْمِ ضِيقِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ فِي يَوْمِ أَدْعُوكَ. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا.
١. يَا رَبُّ، اسْتَمِعْ صَلاَتِي: حسب عنوان هذا المزمور، فإن كاتبه شخص مبتلىً مجهول الاسم. وهو يتضرع إلى الله أن يسمع صلاته، عالمًا أن إلهًا صالحًا ورؤوفًا يسمعه لا يمكن أن يتجاهل تضرُّعه.
· أول آيتين من المزمور ممتلئتان بعبارات وتعابير تلمّح إلى مزامير أخرى. ذكر فانجيميرين (VanGemeren) سبعًا من هذه العبارات والتعابير. “لكن صاحب المزمور ليس جامعًا لمواد سابقة بدم بارد، ناسجًا شبكة من خيوط قديمة… لكنه إنسان مبتلى يستمد تعزية ما من توكيد تضرعات مألوفة.” ماكلارين (Maclaren)
٢. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي: كانت البلوى سيئة بما يكفي، لكنها كانت أسوأ فوق كل مقياس بإحساسه أن الله لا يرى أو يهتم. ولو كان الإحساس برضا الله ووجهه واضحًا، لكان بمقدوره أن يحتمل تلك البلوى.
ب) الآيات (٣-٧): عذاب المبتلى في الصحة.
٣لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ، وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ. ٤مَلْفُوحٌ كَالْعُشْبِ وَيَابِسٌ قَلْبِي، حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي. ٥مِنْ صَوْتِ تَنَهُّدِي لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي. ٦أَشْبَهْتُ قُوقَ الْبَرِّيَّةِ. صِرْتُ مِثْلَ بُومَةِ الْخِرَبِ. ٧سَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى السَّطْحِ.
١. أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ: يصف صاحب المزمور عذابه بأسلوب شعري مشابه لأسلوب أيوب. إذ تمر أيامه كالدخان بلا معنى. وجعله الألم العميق داخل عظامه يشعر وكأنها تحترق. فكان قلبه موجوعًا. ولم تكن لديه شهوة للطعام.
· فِي دُخَانٍ: “الدخان الذي يمضي إلى النسيان، وبسرعة، وبطريقة لا يمكن استعادته.” بوله (Poole)
- “يمكن تشبيه الحزن البالغ هذا المحيط بهذا الإطار البشري بالذين يضيفون نارًا على الوقود، حيث تستهلك النار رطوبته الجذرية، وبهذا تستهلك مادته بسرعة.” هورن (Horne)
· سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي: “عندما أصيب آخاب بنوع من الحزن، وداود بنوع ثانٍ، ودانيال بنوع ثالث، ’سهوا‘ جميعهم عن أكل خبزهم أو رفضوا أن يأكلوا طعامهم (١ ملوك ٢١: ٤؛ ٢ صموئيل ١٢: ١٦؛ دانيال ١٠: ٣). وهذان الرفيقان الطبيعيان هما ’الندْب والصوم.‘” هورن (Horne)
٢. لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي: كما في أيوب ١٩: ٢٠، كان صاحب المزمور ضعيفًا وهزيلًا جدًّا حتى إنه لم يكن هنالك شيء بين عظامه وجِلْده. وأحس بأنه وحيد قلق مثل الطير (القوق، البومة، العصفور).
· “القوق (البجع)، كما نجده في الترجمة العربية في إشعياء ٣٤: ١١ و صفنيا ٢: ١٤. وهو طير منفرد ونوّاح، مثل البومة هنا.” بوله (Poole)
· القوق، البومة: “يشبّه صاحب المزمور نفسه بطائرين كانا في الماضي رمزين للكآبة التعاسة.” سبيرجن (Spurgeon)
· عصفور: “لكن هذه الكلمة العبرية لا تدل على عصفور بالذات، بل على أي طير، كما في لاويين ١٤: ٤؛ تثنية ١٤: ١١؛ دانيال ٤: ١٢، ١٤، ٢١. ولهذا يمكن أن يشير إلى أي واحد من الطيور أو أكثر من تلك التي تجلس وحدها وتراقب أسطح بيتها وتندب.” بوله (Poole)
ج) الآيات (٨-١١): عذاب المبتلى من الأعداء.
٨الْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ. الْحَنِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ. ٩إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ الرَّمَادَ مِثْلَ الْخُبْزِ، وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوعٍ، ١٠بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ، لأَنَّكَ حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي. ١١أَيَّامِي كَظِلّ مَائِل، وَأَنَا مِثْلُ الْعُشْبِ يَبِسْتُ.
١. الْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ: لم تأتِ بلوى صاحب المزمور من سوء الصحة فحسب، بل أيضًا من أعداء يترصّدونه. فكانوا يقاومونه باستنكار ورفض مستمر. وأضافوا نغمة السخرية واللعنات (الْحَنِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ).
· “يضاف تأديب الله إلى سخرية الناس وتوبيخاتهم لصاحب المزمور. وربما كانت هذه جزءًا من هذا التأديب الإلهي، وأحيانًا أكثر الأجزاء مرارة.” هورن (Horne)
· حَلَفُوا عَلَيَّ: “أقسموا على موتي، أو شتموني ولعنوني.” تراب (Trapp)
٢. أَكَلْتُ الرَّمَادَ مِثْلَ الْخُبْزِ: بدت حياة صاحب المزمور حدادًا مستمرًّا. فكانت علامات الحداد – الرماد والنواح – مألوفة له كالطعام والشراب.
٣. بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ: كان الندْب أكثر مرارة بسبب الإحساس بأن هذه البلوى جاءت كنوع من العقاب الإلهي.
· حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي: “أحس صاحب المزمور بأن الله عامله كما يتعامل المصارعون فيما بينهم، حيث يحمل المصارع خصمه ويرفعه عاليًا لكي يسقطه أسوأ سقطة.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. وَأَنَا مِثْلُ الْعُشْبِ يَبِسْتُ: كان مسحوقًا بإحساس من الرفض الإلهي (حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي)، فشعر بأن الحياة قصيرة وبلا معنى.
· كَظِلّ مَائِل: لا يميل الظل أو يمتد مرة واحدة. لكنه ينزلق شيئًا فشيئًا بشكل غير محسوس. ويزداد طولًا أو ميلانًا في نهاية الأمر ليختفي في الظلام.” هورن (Horne)
· “من هنا حتى الآية ١٢ نجد صورة نابضة جدًّا بالحياة لشخص مكتئب لا تكاد توازيها صورة أخرى.” تراب (Trapp)
ثانيًا. تسبيح للرب الذي يبني صهيون
أ ) الآية (١٢): الإقرار بالإله الأبدي.
١٢أمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ جَالِسٌ، وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ.
١. أمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ: تحدثت السطور السابقة عن هشاشة صاحب المزمور وطبيعة الحياة الزائلة. ويقدم السطر الحالي مقابلة صارخة ورائعة. فربما تكون أيام الإنسان كالظل، وربما يذبل كالعشب، لكن الله أبدي، هو إلى الأبد. ولهذا يمكن لصاحب المزمور أن يرفض الاعتماد على الذات، وأن يعتمد اعتمادًا حقيقيًّا على الرب.
· نلاحظ المقابلة بين الآيات الإحدى عشرة الأولى الممتلئة بضمير المتكلم بأشكاله (أنا، ي) والاثنتي عشرة الآية التالية الممتلئة بضمير المخاطب المفرد بأشكاله (أنت، ك)، حيث يتغير التركيز لينصب على الله.
· “هذا هو إذًا الذي يطرد الظلمة – الإحساس بأبدية الله. وعندئذٍ تُرى الحياة كلها على أنها تحت سيطرته، وهي بالتالي مكيّفة بالحكمة والقصد الإلهيين اللذين يشملان أكثر بكثير اللحظة العابرة ويضعان في الاعتبار كل العصور.” مورجان (Morgan)
٢. وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ: لا يدوم الله إلى الأبد فحسب، لكن أيضًا سيُعلن تأثيره وعظمته لكل جيل، ولن يزولا أبدًا.
ب) الآيات (١٣-١٤): الإقرار بفضل الله على أورشليم.
١٣أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ، لأَنَّهُ وَقْتُ الرَّأْفَةِ، لأَنَّهُ جَاءَ الْمِيعَادُ. ١٤لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا، وَحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا.
١. أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ: رغم أن صاحب المزمور غارق في محنته، إلا أنه كان واثقًا بأن الله سيعمل وسيظهر رحمة ورأفة لأورشليم مرة أخرى.
٢. لأنّهُ جَاءَ المِيْعادُ: في وقت الله المعيّن، ستكون أورشليم موضوع رضا الله. إذ لديه وقت محدد (ميعاد) لاسترداد أهلها، ولن يتركهم للدمار.
· إن كان هذا المزمور يصف زمن السبي، فإن الوقت المعين يشير إلى السنوات السبعين التي حددها الله لسبي إسرائيل (إرميا ٢٥: ١١-١٣؛ ٢٩: ١٠).
· “كان هنالك وقت معين لليهود في بابل. وعندما تمت الأسابيع، لم تستطع أية براغٍ أو قضبان أن تُبقي مفديّي الرب في السجن أكثر.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا: من طبيعتنا أن نرفض ما هو مكسور أو مهدَّم. لكن خدام الله (عَبِيدَكَ) يحملون محبة تتجاوز الطبيعة البشرية. فهم يرون المدينة المهجورة ويُظهرون رضا على ترابها (حَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا).
· سُحق صاحب المزمور بدماره الشخصي واحتياجه الخاص (مزمور ١٠٢: ١-١١)، غير أن هذا لم يسمح له بأن يركز على داخله بشكل كامل. إذ كان مهتمًّا بمجتمعه أيضًا.
· “عندما يتوقف شعب الله عن التفكير بأنفسهم بهذا القدر، ويبدؤون بالتفكير في حالة الأمور حولهم، وبشكل خاص مدننا والذين يتألمون فيها، عندئذٍ سيستمع الله إلى صلواتنا ويرسل انتعاشًا.” بويس (Boice)
· إن كان كل حجر في مدينة الله ثمينًا لخدامه، فبالقياس التمثيلي يمكننا القول إن كل حجر يمثل شعب الله في بنائه العظيم ثمين أيضًا (١ بطرس ٢: ٥). “ينبغي أن يكون أفقر عضو في الكنيسة، وأكثر مرتد بشاعة، وأكثر مهتدٍ جهلًا، ثمينًا في نظرنا، لأنهم يشكلون جزءًا من أورشليم الجديدة، رغم أنه يمكن أن يكون جزءًا ضعيفًا جدًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (١٥-١٧): الإقرار بإرتفاع الله بين الشعوب.
١٥فَتَخْشَى الأُمَمُ اسْمَ الرَّبِّ، وَكُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ مَجْدَكَ. ١٦إِذَا بَنَى الرَّبُّ صِهْيَوْنَ يُرَى بِمَجْدِهِ. ١٧الْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ، وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ.
١. فَتَخْشَى الأُمَمُ اسْمَ الرَّبِّ: ليس استرداد الرحمة لأورشليم إلا مجرد الجزء الأول من عمل أكبر بين الأمم. إذ سيكشف الله نفسه (يُرَى بِمَجْدِهِ) بحيث يكرم كل ملوك الأرض اسمه ومجده.
٢. يُرَى بِمَجْدِهِ: سيُكرِم ملوك العالم وممالكها الرب لأنه أعلن نفسه في عمله تجاه صهيون. وبركته ورحمته على أورشليم مذاق سابق لصلاحه الذي سيمتد إلى الأرض كلها عندما ينظر إلى صلوات المعدمين (الْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ).
· “يعبد عالم متعجّب إلهه المخلِّص.” ماكلارين (Maclaren)
· صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ: “لم يبقَ إلا أفقر الناس في الشعب لكي يتحسروا ويبكوا بين أنقاض المدينة المحبوبة. وأما بالنسبة للبقية، فكانوا غرباء في أرض غريبة وبعيدين عن المكان المقدس. غير أن صلوات المسبيين والحثالة البائسة في الأرض ستُسمع من الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١٨-٢٢): الإقرار بالخلاص العظيم الذي يجلبه الله.
١٨يُكْتَبُ هذَا لِلدَّوْرِ الآخِرِ، وشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ الرَّبَّ: ١٩لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ، ٢٠لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ، ٢١لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ، ٢٢عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ.
١. يُكْتَبُ هذَا لِلدَّوْرِ الآخِرِ (الآتي): تمثل شهادة صلاح الله لصهيون والأرض كلها شهادة للمستقبل، حيث شَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ الرَّبَّ.
· يُكْتَبُ هذَا: “لن يضيع أو يُنسى هذا الخلاص الرائع، لكنه سيُكتب من شعبك.” بوله (Poole)
· “ينبغي أن يُحتفظ بسجلات الكرم الإلهي. فنحن ندوّن في التاريخ كوارث الشعوب، والحروب، والمجاعات، والأوبئة، والزلازل. فكم بالأحرى ينبغي أن نقيم نُصُبًا تذكارية لمراحم الرب!” سبيرجن (Spurgeon)
· “لا يوجد ما هو أكثر تماسكًا مثل ذاكرة الإنسان عندما تعاني من جرح أو أذى، ولا يوجد ما هو أكثر تراخيًا منها إذا مُنِح صاحبها فائدة. ولهذا السبب لا يرغب الله في أن تُنسى هباته من عقولنا. ولهذا أمر بتدوينها.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن لابلانك (Le Blanc)
· إن فكرة أن الله يفكر ويخطط من أجل الذين لم يُخلقوا بعد إعلان مثير للاهتمام. فنحن لا ندخل وعي الله عندما يُحبل بنا في أرحام أمهاتنا، لكننا نُتَصوَّر في قلبه وفكره.
٢. أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ: تصوَّر صاحب المزمور الله وهو يشرف من السماء:
· ليرى (إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ)
· ليسمع (لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ)
· ليعمل (لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ)
· لينادي (لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ)
· ليجمع (الشُّعُوبَ مَعًا)
· ليستقبل خدمة (عِبَادَة الرَّبِّ)
ü أخذ هورن (Horne) هذه الكلمات وجعلها صلاة ملائمة للمؤمن المبتلى اليوم: “أَشرِفِ، أيها الرب يسوع، على عبيدك الذين ما زالوا تحت هيمنة الموت، وعبودية الفساد. أطلق سلاسلهم، حتى أولئك يا رب، واجلبْهم إلى حرية مجد أولادك.”
ثالثًا. ضعف الإنسان وقوة الله
أ ) الآية (٢٣): اعتراف بالضعف وسببه.
٢٣ضَعَّفَ فِي الطَّرِيقِ قُوَّتِي، قَصَّرَ أَيَّامِي.
١. ضَعَّفَ فِي الطَّرِيقِ قُوَّتِي: بدأ صاحب المزمور هذه الترنيمة بإدراك ضعفه (١ – ١١)، ثم شكر الله على خلاصه وانتصاره النهائي (١٢ – ٢٢). وهو الآن في القسم الأخير من المزمور يعترف مرة أخرى بضعفه وهشاشته (قَصَّرَ أَيَّامِي).
٢. ضَعَّفَ… قَصَّرَ: وفضلًا عن ذلك، أدرك صاحب المزمور أن الله هو الذي تسبَّب في هذا الضعف أو الهشاشة أو سمح بها. وهذه فكرة مشابهة لتلك التي عبّر عنها الرسول بولس الذي رأى خطة الله وحتى مجده في ضعفه الحالي (٢ كورنثوس ١٢: ٩ – ١٠).
ب) الآيات (٢٤-٢٨): صلاة من صاحب المزمور المبتلى.
٢٤أَقُولُ: «يَا إِلهِي، لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي. إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ. ٢٥مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. ٢٦هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. ٢٧وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ. ٢٨أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ، وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ».
١. يَا إِلهِي، لاَ تَقْبِضْنِي: عندما ذُهل صاحب المزمور لكل من إحساسه بضعفه ووعيه بعظمة الله وانتصاره النهائي، فعل الأمر الصواب. فقد صرخ إلى الله في الصلاة ملتمسًا رحمة وعونًا.
٢. مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ: الآيات ٢٥ – ٢٧ مقتبسة في عبرانيين ١: ١٠ – ١٢ بصفتها كلام الله الآب الموجَّه إلى الله الابن، المسيّا.
· في النص العبري، نجد أن الآيات ٢٥ – ٢٧ كلمات موجهة من صاحب المزمور إلى الرب. لكن فكرة أن الله نفسه يقول هذه الكلمات أكثر وضوحًا في الترجمة اليونانية للنص العبري (الترجمة السبعينية)، والتي اقتبسها كاتب الرسالة إلى العبرانيين.
· “يفتح كاتب الرسالة إلى العبرانيين عيوننا على ما كنا لنعرفه لولا تفسيره للآيات ٢٣ فصاعدًا في الترجمة السبعينية… أي أن الآب يرد على الابن ’الذي به كل شيء كان.‘” كيدنر (Kidner)
· “لا يؤكد كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن صاحب المزمور كان يتحدث بوعي عن المسيّا، لكنه يعلن أن كلماته المقروءة في ضوء التاريخ تشير إلى يسوع بصفته تتويج إعلان الله الفادي، وبالتالي بالضرورة بصفته الخالق.” ماكلارين (Maclaren)
· عندما كتب صاحب المزمور هذه الكلمات، كان يفكر في الله الآب، كما يفعل على مدى المزمور. وليس هنالك إلا تلميح قليل جدًّا إلى الثالوث أو إلى ابن الله في العهد القديم. غير أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين مُحق عندما ينظر إلى هذه الكلمات على أنها موجهة من الآب إلى يسوع المسيح.” بويس (Boice)
٣. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى: المقابلة واضحة بالنسبة لصاحب المزمور. فالله القدير أبدي (إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ)، ويستطيع أن يفعل كل شيء (أَسَّسْتَ الأَرْضَ). ربما تبيد الأشياء التي يخلقها الله، لكنه يبقى إلى الأبد.
· “هل خلق كل الأشياء؟ إذًا يستطيع أن يبيدها، وسيبقى كما هو إلى الأبد.” ميير (Meyer)
· “لا يوجد ما يمكن أن يشدد القلب في المعاناة أو لإلهام الشجاعة في أيام الخطر والشدائد من إدراكنا لأبدية الله. فلنضع محدودياتنا في ضوء عدم محدوديته.” مورجان (Morgan)
٤. تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ: يمتلك الله قوة كاملة على الخليقة، بما في ذلك القوة على تغيير السماوات كما يشاء. غير أنه هو نفسه لا يتغير (وَأَنْتَ هُوَ)، وهو أبدي (وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ).
· “في وسط تغيرات هذه الحياة وفرصها، يوجد هنالك عزاء دائم، ألا وهو أبدية الله مخلّصنا وعدم تغيّره، الذي كان والكائن والذي يأتي.” هورن (Horne)
٥. أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ: أنهى صاحب المزمور صلاته ومزموره بنغمة من الثقة، بل من الانتصار. إذ يبدو أن ثقته بقيت. وهو لا يعلن عن أمل لضيقته الحالية. وهو في الوقت نفسه واثق تمامًا بصلاح الله وانتصاره النهائي من أجل شعبه (عَبِيدِكَ). فإن لم يرَ صاحب المزمور هذا في يومه، فمن المؤكد أن أبناءه سيرونه، وسيترسخ نسلهم بصلاح الله وقوّته.
· هذا إعلان رائع من الثقة بوعد الله بتصويب الأمور، إن لم يكن في الوقت الحالي، فسيكون في أيام قادمة. ويبيّن هذا تقدُّمًا تدرُّجيًّا في المزمور.
ü بدأ بإعلان صادق عن تعاسته.
ü ثم نظر خارج نفسه إلى مجتمعه.
ü ثم نظر خارج مجتمعه إلى العالم.
ü ثم نظر خارج زمنه إلى الأجيال القادمة.
· إنه لأمر جدير بالملاحظة أن صاحب المزمور لا يَخْلص إلى نتيجة أنه سينال جوابًا على صلاته، لكنْ أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ، أي عبيدك في الأرض، وستكون هنالك إسرائيل راسخة (ذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ).” ماكلارين (Maclaren)
· “أيًّا كان مصير الجيل الحالي، سواء أعاشوا ليروا تحقيق كل ما تم التنبؤ به أم لا، فإن كلمة الله ثابتة. وستكون هنالك كنيسة للذين تتحقق لهم الوعود المقطوعة.” هورن (Horne)