تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢٥
كما تحيط الجبال بأورشليم
هذا المزمور معنون ’تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ.‘ وهو ملائم – مثل المزامير الأخرى في هذه السلسلة المكونة من خمسة عشر مزمورًا – لأولئك الحجاج المتوجهين إلى أورشليم للاحتفال بواحد من الأعياد الرئيسية الثلاثة في إسرائيل.
“يمكننا أن نتخيل الحجاج يرنمون هذه الترنيمة سائرين فوق أسوار المدينة.” سبيرجن (Spurgeon)
أولًا. شعب الله وجبل صهيون
أ ) الآية (١): المكانة الدائمة لشعب الله.
١اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ، ٱلَّذِي لَا يَتَزَعْزَعُ، بَلْ يَسْكُنُ إِلَى ٱلدَّهْرِ.
١. اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ: ما يلي هذه العبارة وعدٌ مقطوع للذين يضعون ثقتهم في الرب. ولا يمكننا أن نضع ثقتنا فيه بشكل صحيح ما لم نتخلَّ عن ثقتنا بأشياء أخرى. فهو وحده ملجؤنا وقوّتنا.
· “تبيّن هذه العبارة، اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ، أحد أوجه علاقتنا المسمّاة في العهد القديم، إلى جانب ذِكر الذين ’يخافون الرب،‘ و’يحبّون الرب‘ و’يعرفون الرب.‘ وهذا رابط حميم جدًّا بحيث لا يمكن أن يكون عابرًا.” كيدنر (Kidner)
· “هنالك ثقة زائفة بصهيون، ثقة لا تتجاوز المدينة، أو تفترض التزام الله بالحفاظ على المدينة.” بويس (Boice)
· “كل الذين يريدون التعامل مع الله، يتوجب أن يعاملوه بالثقة. ولن يعزّي الله إلا الذين يعترفون بفضله. وهم يُظهِرون هذا بالتخلّي عن كل ثقة بأي شيء آخر، ويغامرون بكل شيء من أجله. وكلما قيّدنا توقعاتنا بالله، زاد إمكان رفْع مستوى توقّعاتنا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هنري (Henry)
· “إنه لأمر جيد أن أن نفهم الكثير، وأن نثق بالله بمعرفة متنامية. لكن، أيتها النفس العزيزة، إذا كنت لا تعرفين الكثير، غير أنك تثقين بالرب، فإنك ستكونين مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي لَا يَتَزَعْزَعُ.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي لَا يَتَزَعْزَعُ: كان الحاج الآتي من بعيد يُعجب بارتفاع جبل صهيون وبروزه، ذلك التل البارز الذي أُسِّستْ أورشليم عليه. وكل من يؤمن بالرب ويثق به موعود بنفس الأمان. إذ سيثْبت إلى الأبد، حيث تدوم مكانتنا في محبته، وفي حياته الجديدة، وفي قصده المنعم إلى الأبد، ولا يمكن أن يتزعزع.
· بعض الناس مثل الرمل، متغيرون ومتقلّبون دائمًا (متى ٧: ٢٦).
· بعض الناس مثل البحر، مضطربون وغير مستقرين (إشعياء ٥٧: ٢٠؛ يعقوب١: ٦).
· بعض الناس مثل الريح، غير محدَّدين، ومتناقضون مع أنفسهم (أفسس ٤: ١٤).
· “المؤمنون مثل الجبل – أقوياء وثابتون وآمنون. يقول الرب لكل نفس تثق به: ’أنت مثل بطرس.‘” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيج (Page)
ü “الرب هو أساسُهم الصخري، وحمايتهم الشاملة، ومَلِكهم المتوّج. وفيه كل قوّتهم وثقتهم.” مورجان (Morgan)
ü “إنه صخري ومرتفع وآمِن. وفضلًا عن ذلك، فإنه محاط بجبال أخرى يشبهها الكاتب بالله. فهو يحيط بشعبه بنفس الطريقة.” بويس (Boice)
ü “أليس غريبًا أن القوى الشريرة والوثنية لم تتحد معًا لهدم هذا الجبل وحمْله إلى البحر لكي تُبطِل وعدًا يبتهج به شعب الله؟ وإلى أن تستطيعوا حمْل جبل صهيون إلى البحر الأبيض المتوسط، ستنمو كنيسة المسيح وستنتصر.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كلارك (Clarke)
ب) الآية (٢): أمان عظيم لشعب الله.
٢أُورُشَلِيمُ ٱلْجِبَالُ حَوْلَهَا، وَٱلرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ مِنَ ٱلْآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ.
١. أورُشَلِيمُ ٱلْجِبَالُ حَوْلَهَا: ليست أورشليم قائمة على تل واحد. بل هي بين سلسلة من التلال. ويستطيع شعب الله أن يطمئنوا إلى أن الرب يحيط بهم ويحميهم كما تحيط الجبال بأورشليم. وقد رأى الحاج الوافد إليها هذه الجبال، وقام بتطبيق روحي من الجغرافيا من خلال هذه الترنيمة.
٢. وَٱلرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ: لم يعد الرب بأن يكون مع شعبه فحسب، بل أن يكون حولهم أيضًا. وسيحيط بهم بحيث لا يمكن أن يصل إليهم أي شيء ما لم يصل إليه أولًا.
· أُورُشَلِيمُ ٱلْجِبَالُ حَوْلَهَا: “ليس جبل صهيون أعلى قمة في سلسلة الجبال حول أورشليم. إذ يقع إلى الشرق جبل الزيتون، وإلى الشمال جبل سكوبوس، وإلى الغرب والجنوب تلال أخرى، وهي كلها أعلى من جبل صهيون. فكان جبل صهيون المحاط بالجبال آمنًا بسبب قابليّته الطبيعية للدفاع عنه.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “إنها محاطة بجبال أخرى قريبة منها، كما لو أنها في وسط مدرّج رياضي دائري.” كلارك (Clarke)
· “مع أن الجبال المحيطة بالمدينة المقدسة لا تشكل أسوارًا دائرية، إلا أنها منصوبة وكأنها حرّاس لحراسة بوّاباتها. فلم يحصر الله شعبه ضمن متاريس واستحكامات جاعًلا إياها سجنًا للمدينة، لكنه، حسب ترتيبات عنايته الإلهية، جعل قديسيه آمنين، كما لو أنهم كانوا يسكنون أقوى التحصينات.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إنه إدراك جميل. تنتصب الجبال حول المدينة المختارة غير تاركة أي جزء منها من دون حاجز…. هكذا يحيط بنا الله، وهو يمكّننا من أن نفهم كيف يصبح ما يسمح به تعيينًا منه…. قد يسمح بهجوم من أعدائنا، وما يسمح به تعيين منه.” ميير (Meyer)
· شَعْبِهِ: نتعلّم هنا أن شعب الرب هم الذين يتوكلون عليه، لأنهم يوصف هكذا في الآيات الأولى.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مِنَ ٱلْآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ: هذا وعد دائم لشعب الله – المتوكلين عليه (الآية ١). وستكون حماية الله المحيطة مع المؤمنين إلى الأبد (وَإِلَى ٱلدَّهْرِ)، كما سبق أن وعد يسوع بحضوره إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ (متى ٢٨: ٢٠).
· “لاحظ هنا أنه لا يقول إن قوة الرب أو حكمته ستدافع عن المؤمنين، لكنه هو نفسه حولهم. إنه يحميهم بنفسه، بشخصيته. فحضوره الشخصي هو حمايتهم، وربوبيّته هي حارستهم.” سبيرجن (Spurgeon)
· لا يتوجب أن نفصل الآية من الثانية. فالوعد في الآية مشروط كما هو متضمَّن في الآية الأولى. “في الأيام التي فشل إيمان أولئك الأشخاص، لم تضمن لهم الجبال المحيطة سلامة صهيون. إذ هُزِم صهيون، فداسَهُ الأعداء.” مورجان (Morgan)
ثانيًا. البر بين شعب الله
أ ) الآية (٣): البر في الأرض.
٣لِأَنَّهُ لَا تَسْتَقِرُّ عَصَا ٱلْأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ ٱلصِّدِّيقِينَ، لِكَيْلَا يَمُدَّ ٱلصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى ٱلْإِثْمِ.
١. لِأَنَّهُ لَا تَسْتَقِرُّ عَصَا (صولجان) ٱلْأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ ٱلصِّدِّيقِينَ: هذه هي الحماية التي وعد بها الله شعبه المتكلين عليه. وفي تاريخ إسرائيل، لم تستقر عَصَا ٱلْأَشْرَارِ على الأرض إلا عندما كان شعب الله عنيدًا في إثمه أو غير متكل عليه.
· عَصَا ٱلْأَشْرَارِ: “ربما يشير هذا إلى هيمنة أجنبية. فالوثنيون لا يحتكرون الخطية.” كيدنر (Kidner)
· “ربما تؤخذ العصا (الصولجان) على أنها تمثّل الاضطهاد أو الحكم. وعندئذِ، يمكن أن تفسَّر الآية هكذا: لن يسمح الله للأشرار بأن يضطهِدوا الأبرار على نحو دائم، ولن يكون لهم حُكْم دائم.” كلارك (Clarke)
· “بِغضّ النظر عن مدى شر الأوقات، فقد عرفوا أن الرب قد وعد بأن لا يسمح للأشرار بأن يسودوا على الأبرار.” فانجيميرين (VanGemeren)
· سيرى الحجاج في رحلتهم إلى أورشليم قدرًا كبيرًا من الأرض المخصصة للأبرار. ويمكنهم أن يتأملوا بحق في هذا الوعد ويصمموا على أن يكونوا بين الذين يتكلون على الرب. كانوا الأبرار الذين نالوا نصيبًا من الأرض من الله.
٢. لِكَيْلَا يَمُدَّ ٱلصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى ٱلْإِثْمِ: يعرف الله أن حكم الأشرار قد يستفز حتى الأبرار لكي يخطئوا في تمردهم أو إحباطهم. وهذا هو أحد الأسباب التي لا يسمح الله من أجلها بأن يتسلط الأشرار على الأرض المخصصة للأبرار.
· “يحتاج الأمر إلى حكمة إلهية لتقرير تحديد طول المدة التي يتوجب أن تدوم من أجل امتحان الإيمان، وبهذا تقوّيه ولا تربكه بحيث يدفع النفوس الضعيفة إلى الخطية. فالله وحده يعرف متى يقول: ’هذا يكفي!‘” ماكلارين (Maclaren)
· “لو ساد الشر، لربما كان هذا مناسبة لبعض الأتقياء ليجرَّبوا، ويُحبَطوا، ويبتعدوا عن الإيمان. فمن أجل شعب الله، لا بد للشر أن يصل إلى نهاية مطلقة.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “يحب الله (كما يقول كريسوستم) عازف العود الذي لا يدع أوتار عوده رخوة جدًّا لئلا يشوّه الموسيقى، ولا مشدودة جدًّا لئلا تتكسر.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٤-٥): البر في القلب.
٤أَحْسِنْ يَا رَبُّ إِلَى ٱلصَّالِحِينَ وَإِلَى ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ. ٥أَمَّا ٱلْعَادِلُونَ إِلَى طُرُقٍ مُعْوَجَّةٍ فَيُذْهِبُهُمُ ٱلرَّبُّ مَعَ فَعَلَةِ ٱلْإِثْمِ. سَلَامٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ.
١. أَحْسِنْ يَا رَبُّ إِلَى ٱلصَّالِحِينَ (كن صالحًا مع الصالحين): كانت إحدى السمات الرئيسية للعهد القديم الذي قطعه الله مع بني إسرائيل عند جبل سيناء مبدأ البركة على الطاعة، واللعنة على العصيان وهنا صلى صاحب المزمور ببساطة أن يحقق الله هذا الجانب من العهد ويحْسن إلى من هم صالحون.
· تتمثل العظمة المذهلة لإعلان إنجيل يسوع المسيح في أن الله أحسن إلى من هم غير صالحين. ونحن نتذكر أن يسوع المسيح مات من أجل الأثمة (رومية ٥: ٦). ويُظهر الله محبته الخاصة نحونا في أنه بينما كنا خطاة، مات المسيح من أجلنا (رومية ٥: ٨).
· وَإِلَى ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ: “الصالحون ومستقيمو القلوب هم الذين يقفون بثبات في كل تغيير للظروف، والذين لا يتذمرون من تدبيرات الله، لكنهم يؤمنون بأن كل ما يقضي به هو الأفضل، وهم يلتزمون به بإرادة توافق مع إرادته، في السرّاء والضرّاء بنفس القوة.” هورن (Horne)
٢. أَمَّا ٱلْعَادِلُونَ إِلَى طُرُقٍ مُعْوَجَّةٍ: بموجب العهد القديم، كانت هنالك بركة للصالحين ولعنات للأشرار. وقد صوّر المرنم فعلة الإثم هؤلاء كأشخاص يقادون خارج البلاد إلى السبي.
· “غير الأمناء الذين يفسحون الطريق للخطية، الذين يرتدون، والذين يسلكون بطريقة معوجة مختلفة بشكل كبير عن طريقة المستقيمين Yesharim (الصادقين، الجديرين بالإكرام)، مستقيمي القلوب. وسيقادون للعقاب مع فاعلي الإثم.” كلارك (Clarke)
· يستخدم صاحب المزمور صورة حية في شعب الرب الفاترين: “إنهم يَثْنون طرقهم ليجعلوها معوجة… ولا يمكن أن تؤدي هذه الطرق الملتوية المعوّجة إلى الثبات أو إلى أي شيء صالح.” ماكلارين (Maclaren)
· فَيُذْهِبُهُمُ ٱلرَّبُّ: “من المهم أن نلاحظ الفرق بين توقُّع الكاتب لدينونة الله المؤكدة على الأشرار والتماسه البركة للأبرار. فهو غير محتاج إلى أن يطلب من الله أن يدين الأشرار، لأن دينونتهم مؤكدة، بل هي أسرع مما نتوقع أو يتوقعون.” بويس (Boice)
٣. سَلَامٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ: ينتهي المزمور ١٢٥ بصلاة تستنزل سلامًا (شالوم) على إسرائيل. ويعني هذا بشكل أساسي هنا هو أن يكونوا هم الصالحين الذين يتمتعون بالبركة، لا الأشرار الذين سيقادون إلى السبي.”
· “نتذكر أن كلمة أورشليم تعني “السلام” (شالوم). وهكذا يقال لنا إننا لن نكون مثل ساليم (مدينة أورشليم) فحسب، بل أن نمتلك ساليم (سلامًا) أيضًا.” بويس (Boice)
· “وأخيرًا، يمد الشاعر يده فوق كل إسرائيل، كما لو أنه يباركهم بصفته كاهنًا، ويتبنّى آمالهم، والتماساتهم. وهو يتمنى كل هذه في هذه الصلاة الواحدة: ’سَلَامٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ.‘” ماكلارين (Maclaren)