تفسير سفر المزامير – مزمور ١١٤
حضور الله القوي الذي حرر شعبه من مصر
كان لدى تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) تقدير عالٍ للمزمور ١١٤، وهو الثاني في سلسلة المزامير المعروفة بمزامير ’هلّل المصرية،‘ والذي كان يرنَّم كجزء من احتفال إسرائيل بالفصح: “ترنيمة الخروج السامية هذه واحدة لا تنقسم. وقد وصل الشعر الحقيقي هنا ذروته. لم يقدر عقل بشري أن ينتج ما هو معادل لهذا المزمور الفخم، ناهيك عما هو متفوق عليه.”
أولًا. مقدمة: تحرير الله لإسرائيل من مصر
أ ) الآية (١): تحرير من الأرض الغريبة.
١عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ.
١. عِنْدَ خُرُوجِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ: كان تحرير إسرائيل مِنْ مِصْرَ عمل الفداء المركزي بموجب العهد القديم. وكان مطلوبًا أن يُتذكر هذا العمل ويُحتفل به دائمًا. وينضم هذا المزمور إلى هذا الاحتفال.
· بالنسبة للذين هم تحت العهد الجديد في يسوع، يصبح عمل يسوع على الصليب والقبر الفارغ عمل الفداء المركزي. ونحن مدعوون أيضًا إلى أن نتذكر ونحتفل بشكل دائم بما فعله الله ليحررنا بموت يسوع على الصليب من أجلنا.
٢. وَبَيْتِ يَعْقُوبَ مِنْ شَعْبٍ أَعْجَمَ (لَمَّا غَادَرَ يَعْقُوبُ تِلْكَ الأرْضَ الغَرِيبَةَ): التشديد هنا هو على فكرة أن إسرائيل لم تكن تنتمي إلى مصر. فرغم أن بني إسرائيل عاشوا حوالي ٤٠٠ سنة هناك، إلا أن مصر لم تكن يومًا موطنهم قط. وبطريقة مماثلة، فإن العالم مكان غريب بالنسبة للذين يفديهم الله.
· “تثير الإشارة إلى لسان ’أعجم‘ تداعيات وارتباطات بالقمع (انظر إشعياء ٢٨: ١١؛ إرميا ٥: ١٥)، وهي مرادفة لتعبير ’بيت العبودية‘ (انظر خروج ٢٠: ٢).” فانجيميرين (VanGemeren)
ب) الآية (٢): محرَّرون ليكونوا محل سكنه وخدامه.
٢كَانَ يَهُوذَا مَقْدِسَهُ، وَإِسْرَائِيلُ مَحَلَّ سُلْطَانِهِ.
١. كَانَ يَهُوذَا مَقْدِسَهُ: كان أكبر سبط في إسرائيل (يَهُوذَا) يمثل الأمّة كلها التي صارت محل سكن لله (مَقْدِسَهُ). وقد فهِم الأتقياء في إسرائيل أن محل سكن الله في خيمة الاجتماع والهيكل لم يكن إلا رمزًا لحضوره بين شعبه.
· “هنالك تغيير درامي في المنزلة بين الآية الأولى والثانية. إذ يُنظَر إلى مجموعة الغرباء، التي ازدادت عزلتهم بسبب اللغة الغريبة التي أحاطت بهم، في ضوء علاقتهم لا بالإنسان بل بالله.” كيدنر (Kidner)
· “يُذكر يهوذا بصفته أكبر الأسباط، لا في العدد والقوة فحسب، بل في الكرامة أيضًا. فالملك هو من بينهم (سفر التكوين ٤٩: ١٠)، كما كان الحال في ذلك الوقت. وهو السبط الذي سيخرج منه المسيّا.” بوله (Poole)
· “هنالك اسمان [يَهُوذَا وإِسْرَائِيل] للإشارة إلى شعب واحد جاء من مصر في الخروج. ويُعلَن أن هذا الشعب الواحد مَقْدِس لله ومملكة لله في الوقت نفسه.” بويس (Boice)
٢. وَإِسْرَائِيلُ مَحَلَّ سُلْطَانِهِ: حيثما يحل الله، فإنه يفرض سلطانه. هدفت رغبة الله في أن تكون إسرائيل مقْدسه إلى تأكيد كرامته كرب وسيّد، لا كمجرد معين أو طاغية.
ثانيًا. أعمال الله العظيمة في تحرير إسرائيل من مصر
أ ) الآيات (٣-٦): سلطان الله على المياه والجبال.
٣ٱلْبَحْرُ رَآهُ فَهَرَبَ. ٱلْأُرْدُنُّ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ. ٤ٱلْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ، وَٱلْآكَامُ مِثْلَ حُمْلَانِ ٱلْغَنَمِ. ٥مَا لَكَ أَيُّهَا ٱلْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ؟ وَمَا لَكَ أَيُّهَا ٱلْأُرْدُنُّ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى خَلْفٍ؟ ٦وَمَا لَكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلْجِبَالُ قَدْ قَفَزْتُنَّ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ، وَأَيَّتُهَا ٱلتِّلَالُ مِثْلَ حُمْلَانِ ٱلْغَنَمِ؟
١. ٱلْبَحْرُ رَآهُ فَهَرَبَ: كما هو الحال في مواضع أخرى من الشعر العبري، يشخّص صاحب المزمور الطبيعة، ويصفها كأنها تتجاوب مع الله في خوف وتوقير. وهنا يَذكر انقسام المياه في كل من البحر الأحمر ونهر ٱلْأُرْدُنّ في بداية رحلة إسرائيل ونهايتها إلى الأرض الموعودة.
· “أدركت الطبيعة حضوره وأطاعت إرادته. فهرب البحر وتراجع نهر الأردن. وتزلزلت الجبال والتلال.” مورجان (Morgan)
· “إن كان للحضور الإلهي مثل هذا التأثير في المادة الجامدة، فكم بالأحرى ينبغي أن يؤثر في كائنات عقلانية تحت المساءلة؟” هورن (Horne)
٢. ٱلْأُرْدُنُّ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ: يعطي صاحب المزمور صورة جميلة وقوية. فعندما انقسمت المياه، فإنها استجابت لحضور الله المهيب. والمعنى هنا: “ماذا بإمكانها أن تفعل غير ذلك؟”
· “لا يتغنّى الشاعر هنا بتعليق قوانين الطبيعة أو بظاهرة فريدة لم تُفهم فورًا. لكن بالنسبة له، فإن حضور الله مع شعبه هو أهم شيء. وهو يخبرنا في ترنيمته السامية أن مياه نهر الأردن تراجعت لأن الرب كان موجودًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “من الملاحظ أنه يُنظَر إلى الخروج في اكتماله، لا في النجاة من مصر فحسب، بل أيضًا في دخول الأرض أيضًا. إذ يُنظَر إلى البحر والنهر على أنه تمّ عبورهما.” مورجان (Morgan)
· رأى سبيرجن (Spurgeon) دلالة روحية في هذه التوليفة من بداية الخروج ونهايته. “يوضع تقسيم البحر وجفاف النهر معًا رغم أنه تفصلهما أربعون سنة، لأنهما كانا المشهدين الافتتاحي والنهائي لحدث واحد. وهكذا يمكننا أن نوحّد بالإيمان بين ولادتنا الجديدة ومغادرتنا لهذا العالم إلى ميراث الله الموعود… إنه كله نفس التحرير، حيث تضمن البداية النهاية.”
٣. ٱلْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ: “يرجح أن هذا يشير إلى الزلازل القوية والظواهر المشابهة التي حدثت عند جبل سيناء (خروج ١٩: ١٦-٢٠) عندما أظهر الله حضوره هناك. فهناك ٱلْجِبَالُ قَفَزَتْ مِثْلَ ٱلْكِبَاشِ، وَٱلْآكَامُ مِثْلَ حُمْلَانِ ٱلْغَنَمِ.
· “يخشى البشر الجبال، لكن الجبال ترتعد أمام الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
· يحمل تعبير القفز كالكباش فكرة الفرح. ويمكننا القول إن الخليقة كانت فرِحة عندما جلب الله هذا التحرير لشعبه. “لقد ظهر الرب فعلًا لإسرائيل وأسّس مملكته في أرضها. ولهذا تبدو الطبيعة وكأنها تسجيب له استجابة مزدوجة، بالخوف والفرح العظيم.” فانجيميرين (VanGemeren)
٤. مَا لَكَ أَيُّهَا ٱلْبَحْرُ قَدْ هَرَبْتَ: يتحدى صاحب المزمور كلًّا من البحر والجبال. إذ كانت عاجزة أمام حضوره القوي، حتى إن من السخف أن يفكر إنسان (سواء أكان هذا فرديًّا أم جماعيًّا) في الوقوف أمام حضور الله القوي.
· “هذه الخطابات الموجهة إلى الأشياء الجامدة كثيرة في كل من كلمة الله وفي كتابات خارجها، ولا سيما في كتابات شعرية كهذه.” بوله (Poole)
· “اقترب الله إلينا أكثر مما فعل في سيناء أو نهر الأردن، حيث اتخذ طبيعتنا. غير أن الكتل البشرية لا ترجع عن خطاياها أو تقفز في سبُل الطاعة.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٧-٨): دعوة الأرض إلى إكرام الرب.
٧أَيَّتُهَا ٱلْأَرْضُ تَزَلْزَلِي مِنْ قُدَّامِ ٱلرَّبِّ، مِنْ قُدَّامِ إِلَهِ يَعْقُوبَ! ٨ٱلْمُحَوِّلِ ٱلصَّخْرَةَ إِلَى غُدْرَانِ مِيَاهٍ، ٱلصَّوَّانَ إِلَى يَنَابِيعِ مِيَاهٍ.
١. أَيَّتُهَا ٱلْأَرْضُ تَزَلْزَلِي مِنْ قُدَّامِ ٱلرَّبِّ: دعا صاحب المزمور كل الأرض إلى إكرام (أدوناي – السيد) في حضوره القوي. وإله يعقوب أكثر من إله محلي. فهو إله الأرض كلها.
· نجد في الآية ٧ أول إشارة في هذا المزمور إلى الله باسم أو لقب، حيث يشار إليه على أنه الرب (أدوناي – السيد) وإله يعقوب. فحتى هذه النقطة، كان لدى صاحب المزمور أسئلة مثل ’ما هذا؟ من فعل هذا؟‘ “لا بدّ أن صاحب المزمور مستمتعًا بوقته وهو يكتب، عارفًا الجواب، وعارفًا أيضًا أننا نعرف الجواب. لكنه كان ممتنعًا عن تقديم الجواب. وهو يسأل ما الذي كان يمكن أن يتسبب في انقسام مياه البحر، وتراجع مياه الأردن، وارتعاد الجبال. فعلى مدى ١٢ سطرًا، سمح ببناء تشويق من أجل إحداث تأثير درامي.” بويس (Boice)
· ربط مورجان (Morgan) فكرة الإنقاذ بآلام المخاض. “عندما قام يهوه بصفته السيد المتسيّد بزلزلة الطبيعة، فعل هذا لكي تولد أمّة.”
٢. ٱلْمُحَوِّلِ ٱلصَّخْرَةَ إِلَى غُدْرَانِ مِيَاه: تذَكّر صاحب المزمور عدة أحداث تُظهر قوة الله وقدرته أثناء سنوات الخروج – عندما جلب ماء لشعبه من الصخرة ومن الصوّان. وقد أكد هذا لشعبه أن حضوره القوي يعمل لصالحهم لا ضدهم.
· كما ختم المزمور ١١٣ برأفة الله على المرأة العاقر، فإنه يختم هذا المزمور برأفة الله على إسرائيل العطشانة. فقوّته وقدرته ليستا موجودتين لتقسيم المياه وزلزلة الجبال فحسب. إذ تجلب قدرته الجليلة بركة لشعبه واحدة تلو الأخرى.
· ٱلصَّوَّانَ إِلَى يَنَابِيعِ مِيَاهٍ: “هذه معجزة نحتاج أن نعيشها في خبرتنا. فقلبنا صوّان، وعيوننا جافة، ونفوسنا لا تستجيب بالدموع والأسى لمحبة ذاك المطعون وللائحة الاتهام ضدنا في مسؤوليتنا عن موته.” ميير (Meyer)
· ينتهي المزمور ١١٤ من دون أية تعليمات لشعب الله. لكنه يعلن أعماله العظيمة فحسب. “لا يوجد هنا درس أخلاقي، أو تطبيق، أو مشورة، أو تحذير، أو تشجيع. إذ يمكن لأي شخص أن يستخلصها بنفسه. لكن يكفيه أن يرفع ترنيمته المرتفعة، وأن يلقيها في الصمت في وسط الموسيقى التي تضجّ بها.” ماكلارين (Maclaren)
· نذكّر أنفسنا مرة أخرى أنه يرجّح أن يسوع وتلاميذه رنموا هذا المزمور في اللية التي تعرّض فيها إلى الخيانة والقبض عليه (متى ٢٦: ٣٠؛ مرقس ١٤: ٢٦). وسيعطي شعب الله تحريرًا أعظم من تحرير إسرائيل من مصر. ومن خلال هذا العمل، ستُهَزّ الطبيعة (متى ٢٧: ٤٥، ٥١).