تفسير سفر المزامير – مزمور ١٤٣
رجاء للنفس المضطهدة
هذا المزمور معنون ’مزمور لداود.‘ وهذه صرخة أخرى إلى الله في وقت أزمة ومحنة بسبب أعداء داود. وهو يُعَدّ بين مزامير التوبة السبعة – ترانيم الاعتراف والتذلل أمام الرب. وكانت الكنيسة الأولى معتادة أن ترنم هذه المزامير في أربعاء الرماد، يوم الأربعاء قبل ستة أسابيع من عيد الفصح. ولا يبدو أن المزمور ١٤٣ ينتمي إلى هذه المجموعة بهذه الصفة مثل المزامير الأخرى (المزامير ٦، ٣٢، ٣٨، ٥١، ١٠٢، ١٣٠)، لكن
١٤٣: ٢ بيان قوي واضح حول إثم الجنس البشري.
أولًا. التوسل إلى الله من أجل العون في وقت أزمة
أ ) الآيات (١-٢): التوسل إلى الله من أجل الاستماع.١يَا رَبُّ، ٱسْمَعْ صَلَاتِي، وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِعَدْلِكَ. ٢وَلَا تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ.
١. يَا رَبُّ، ٱسْمَعْ صَلَاتِي: يصف هذا المزمور داود في أزمة أخرى. ولأن حياته زاخرة بالنشاط والخطر، فإن من المستحيل أن نربط هذا المزمور بنقطة معيّنة من حياته، أو أزمة محددة. وربما يعود المزمور إلى الفترة التي سبقت الاعتراف به كملك، عندما كان طريدًا من الملك شاول، أو ربما إلى زمنه كملك عندما قاد ابنه أبشالوم تمردًا عليه.
· في هذه الأزمة، عرف داود أنه يتوجب عليه أن يصرخ إلى الله، وأنه لا بد أن يسمعه الرب، وإلاّ فإنه سيضيع. لم تكن الصلاة بالنسبة لداود مجرد تمرين لتحسين الذات. فقد كان هذا جيدًا له أسمعه الله أم لم يسمعه. كانت صلاته تضرُّعًا حقيقيًّا لإله حقيقي يمكن الاحتكام إليه لكي يسمع ويجيب ويعِيْن.
٢. وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي: هذه نفس الفكرة حول الاستماع إلى الصلاة الواردة في السطر الأول. وهنا استخدم داود أداة التوازي الشعرية المألوفة في الشعر العبري، مكررًا نفس الفكرة بكلمات مختلفة لعرض التوكيد.
٣. بِأَمَانَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِعَدْلِكَ (ببرّك): احتكم داود إلى أمانة الله وبرّه في طلبه. إذ طلب إلى الله أن يتصرّف بشكل منسجم مع هاتين الصفتين في استجابته لصلاة داود.
· عرف داود شيئًا عن معدن الله الأدبي وطبيعته. وقد شكلت هذه المعرفة صلاته. إذ لم يكن ممكنًا أن يطلب إلى الله أن يكون غير أمين أو غير بار. لكن طلب إليه أن يتصرف وفق طبيعته، ولهذا قدّم طلبته بجسارة على هذا الأساس.
· بِعَدْلِكَ (ببرّك): “حتى صفات الله الأكثر صرامة تقف إلى جانب الإنسان الذي يثق بتواضع ويحوّل ثقته إلى صلاة.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. وَلَا تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ: عرف داود أنه إذا كان لله أن يتعامل معه على أساس عدله وبّره فقط، فسيعني هذا دينونة خرابًا لداود. ولهذا طلب أن يتعامل معه على أساس رحمته (َلا تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ). إذ فهِم أنه احتكم إلى الله على أساس برّه، لا على أساس برّه الذاتي.
· يمكننا أن نعبّر عن أفكار داود هكذا: “يا رب، أعرف أنك بار، وأنا لستُ كذلك. لكني آتي إليك كخادم لك، طالبًا إليك أن تتصرف من أجل خيري بسبب رحمتك وبرّك، لا على أساس برّي المزعوم.”
· عندما يقول داود، ’لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ،‘ فإنه يستبق ما قاله الرسول بولس في رومية ٣: ١٠ (مقتبسًا إشعياء): ’لَيْسَ بَارٌّ وَلَا وَاحِدٌ،‘ وفي رومية ٣: ٢٣: ’ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللهِ.‘ “دعا لوثر هذا المزمور واحدًا من المزامير البولسية (انظر ٣٢؛ ٥١؛ ١٣٠).” فانجيميرين (VanGemeren)
· عندما قال داود هذا، لم يفكر في الآخرين كما في ’يا رب، إنهم – العالم كله – غير أبرار.‘ لكنه فكّر في نفسه كما في ’يا رب، لا أحد يحيا في بر. ومن المؤكد أني معدود بينهم.‘
· “كم تختلف روح الاعتراف بالبراءة هذه عن تلك التي نراها في مزامير أخرى (٧: ٣-٥)! وكلا التعبيرين مشروع، اعتمادًا على السياق الذي يجد فيه المرء نفسه. فالاعتراف بالبراءة مشروع عندما يهان المرء ويُضطهّد من أجل البر. والاعتراف بالذنب أمر ملائم أيضًا عندما نواجَه بنقاط ضعفنا.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “أجبر هذا الخطر التائب على إدراك خطيته التي تَبَكَّتَ عليها، ولهذا توجَّب عليه أن يصوّب الأمور بينه وبين الله بالغفران الإلهي.” ماكلارين (Maclaren)
ب) الآيات (٣-٤): طبيعة الأزمة.
٣لِأَنَّ ٱلْعَدُوَّ قَدِ ٱضْطَهَدَ نَفْسِي. سَحَقَ إِلَى ٱلْأَرْضِ حَيَاتِي. أَجْلَسَنِي فِي ٱلظُّلُمَاتِ مِثْلَ ٱلْمَوْتَى مُنْذُ ٱلدَّهْرِ. ٤أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي.
١. لِأَنَّ ٱلْعَدُوَّ قَدِ ٱضْطَهَدَ نَفْسِي: عرف داود في حياته الواسعة المذهلة أنواعًا كثيرة من الآلام والمعاناة. وهنا يتحدث عن اضطهاد نفسه ومعاناتها. وربما كان هنالك جانب مادي أو جسمي من تعاسته، لكننا لا نراه هنا. فقد تألّم داود وصرخ إلى الله بسبب تعاسة نفسه.
٢. سَحَقَ إِلَى ٱلْأَرْضِ حَيَاتِي: أسهب داود في وصف تعاسة نفسه.
· أحس بالانسحاق حتى إلى الأرض (سَحَقَ إِلَى ٱلْأَرْضِ حَيَاتِي).
· أحس بأنه يحيا في ظلمة مثل الذين ماتوا منذ فترة طويلة (أَجْلَسَنِي فِي ٱلظُّلُمَاتِ مِثْلَ ٱلْمَوْتَى مُنْذُ ٱلدَّهْرِ).
· أحس بأن روحه مسحوقة داخل نفسه (أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي).
· شعر بضيق في قلبه (تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي).
ü تشكل هذه كلها مجتمعة صورة لتعاسة عميقة للنفس. لكن ما هو أسوأ بالنسبة لداود، كان يتعرض لضغط من عدوه. ولم يكن هذا لأنه كان ذا طبيعة ميالة إلى القنوط والكآبة. فللتعاسة طبيعتها الخاصة. إذ كان شيئًا جلبه عدوه عليه.
ü يجعلنا هذا نفكر في المرات التي تسبّب فيها آخرون في تعاسة كبيرة لداود، تعاسة امتدت إلى أعماق نفسه. لقد عاش سنوات طويلة طريدًا من الملك شاول، مضطرًّا إلى التخلي عن كل شيء لأن رجلًا شريرًا اضطهده بلا سبب. واختبر داود تعاسة عميقة عندما تمرد عليه ابنه أبشالوم، وأطاحه كملك. عرف داود عمق التعاسة التي يجلبها على النفس شخص آخر.
ü أَجْلَسَنِي (أَسْكَنني) فِي ٱلظُّلُمَاتِ: “يقول النص العبري ’في أماكن مظلمة.‘ ويمكن أن يُفهم هذا على لجوء داود إلى كهوف الأرض وأوكارها.” كلارك (Clarke)
٣. أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي: تكلّم داود قبل وقت طويل من مجيء ابنه الأعظم. لكن يمكن أن تكون هذه الكلمات على فم يسوع، وبشكل خاص أثناء عذابه في الجسيمانية. فقبل أن يتعرض للخيانة والصلب، قال: ’نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى ٱلْمَوْتِ‘ (متى ٢٦: ٣٨).
· “ربما استخدم الرب يسوع كلمات كهذه. وفي هذا، فإن ’الرأس‘ (يسوع) هو مثل الأعضاء، والأعضاء هي مثل ’الرأس.‘” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٥-٦): خبرات النفس.
٥تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ ٱلْقِدَمِ. لَهِجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ. ٦بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ، نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلَاهْ.
١. تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ ٱلْقِدَمِ: في هذا الموسم المظلم للنفس، فكّر داود في الأيام القديمة عندما لم تكن الأمور على مثل هذا السوء. وربما فكّر في الأيام الأولى من البراءة والنضارة في حياته وحياته مع الله.
· يرجّح أنه كانت هنالك مشاعر مختلطة داخل داود وهو يتذكر الأيام القديمة. فإذا فكر في الفرح والخير والبساطة التي اختبرها عندما قابله الله عندما كان صبيًّا راعيًا مجهولًا (وربما محتقَرًا نوعًا ما)، فإن هذا سيجلب إلى وجهه ابتسامة دافئة. غير أن هذا سيسبّب له بعض الألم حين يتأمل كيف أن هذا بعيد جدًّا عن واقع بؤسه الحالي.
· “هنالك أوقات يكون فيها تذكُّر الأيام القديمة أمرًا جيدًا. إذ يمكننا أن نتذكر الأوقات الحلوة الطيبة في حياتنا المبكرة مع الله، فنتبارك. ويمكننا أن نتذكر الأيام القديمة قبل وقتنا، مفكرين في الأشياء العظيمة التي فعلها الله بين شعبه في الماضي. وحتى لو أن تذكُّرنا للأيام القديمة يمكن أن يملأنا بشيء من الحزن عندما نرى المسافة بين الأيام القديمة الحلوة وحاضرنا الحزين، يمكننا أن نستخدم هذه الذكريات لاسترجاع الرجاء.
· “عندما لا نرى شيئًا جديدًا يبعث على السعادة، دعنا نفكر في الأيام القديمة. كانت لدينا أيام مرح، أيام إنقاذ وفرح وشكر. فلماذا لا تعود ثانية؟” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لَهِجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ: لم يكن تفكير داود في الأيام القديمة مجرد حنين إلى الماضي. بل كان تذكارًا لأعمال الله العظيمة. فلم يتذكر داود ماضيه قدر تذكُّره أعمال الرب في الماضي.
· بالنسبة لداود، إن ما جعل الأيام القديمة جديرة بالتذكر هو عمل الرب. إذ فكّر بعناية في ما سبق أن فعله الرب. وتدل الكلمتان ’لَهِجْتُ‘ و ’أَتَأَمَّلُ‘ على تفكير عميق.
٣. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ: لقد دفع تفكير داود العميق بأعمال يدي الرب إلى أن يستجيب بيديه، باسطًا إياهما أمام الله في صلاة وتسبيح. فسبّح داود الرب على ما فعله في الأيام القديمة، وصلّى أن يجذبه الله إليه الآن.
· “تدل وضعية جسم داود في الصلاة والتسبيح على رجاء حقيقي في وسط تعاسة نفسه.’أنا أبسط إليك يديَّ‘ على رجاء أن تأخذني بيديك وتجذبني إليك.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيكر (Baker)
٤. نَفْسِي نَحْوَكَ (تشتاق) كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ: إنه لأمر رائع أن الألم في نفس داود لم يبعده عن الله. بل دفعته إلى الله في صلاة وتسبيح وشوق قوي. طلبت نفسه المضطهَدة (الآية ٣) الله بقوة العطش الشديد.
· “بينما نقرأ هذه الآية، لا ننسَ ذاك الذي كثيرًا ما بسط يديه للصلاة من أجل شعبه، وكانت نفسه عطشانة لخلاصنا، مع أنه أحس بأقصى عطش جسمي على الصليب.” هورن (Horne)
ثانيًا. تقديم الالتماس مرة أخرى
أ ) الآية (٧): الاحتياج إلى استجابة سريعة.
٧أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لَا تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي، فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ.
١. أَسْرِعْ أَجِبْنِي: أحس داود بأن روحه الخائرة لن تصمد طويلًا من دون استجابة الله وتدخُّله. وقد أحس قدّيسون كثيرون بما أحسه داود.. الحاجة المُلِحّة إلى سماع جواب الرب.
· علّمت الخبرة داود أن الله يفعل ما هو صواب دائمًا. لكن الأزمة الحالية دفعته إلى الصراخ: أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ.
٢. لَا تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي: عرف داود الإحساس بالتمتع برضا الله وبركته. وأما الإحساس بأن الله يحجب وجهه عنه، فإنه سيدفعه إلى اليأس، ولهذا توسَّل أن يرى نور وجه الرب.
· كتب الرسول بولس لاحقًا: ’إِنْ كَانَ ٱللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟‘ (رومية ٨: ٣١) عندما نحيا مع الاعتقاد بأن الله هو إلى جانبنا، نكون واثقين في وجه أي عدو. لكن إذا أحسسنا بأن الله يحجب وجهه عنا، فإننا نحس بأننا ضعفاء أمام أي عدو.
· من المؤسف أن كلمات داود لا ترتبط بالخبرة اليومية لكثيرين يعتقدون أنهم أتباع الرب. فالرجل غير الحساس روحيًّا لا يأبه كثيرًا برضا الله وبركته. وهو يعيش ليدرك بين الفترة والأخرى بكسْر في شركته مع الله. ولم يكن داود هكذا.
٣. فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ: رأى داود أن هذا أسوأ مصير يمكن تخيّله – أن يترك أرض الأحياء ويذهب إلى جب القبر. أحس بأنه لن يستطيع الصمود من دون إحساس برضا الله وبركته.
ب) الآية (٨): الحاجة إلى إرشاد مُحِب.
٨أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي ٱلْغَدَاةِ، لِأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لِأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي.
١. أَسْمِعْنِي: احتاج داود إلى سماع كلمة طيبة من الله، فطلب إلى الله أن يُسمعه إياها. ربما كان داود يتساءل إن كان الله تكلّم وهو لم يسمعه لسبب أو لآخر، ولهذا صلّى: أَسْمِعْنِي. وهذه صلاة جيدة لنا جميعًا.
· “يستطيع غارس الأذن أن يُسمعنا، وسيجلب ذاك الذي هو في حد ذاته محبة رحمته ولطفه أمام أذهاننا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. رَحْمَتَكَ فِي ٱلْغَدَاةِ: احتاج داود إلى سماع شيء عن رحمة الله العظيمة (حِسِدْ). أراد أن يسمعها في الصباح البكر من النهار (فِي ٱلْغَدَاةِ). ولهذا ينبغي أن نسمعها في الصباح الباكر، لكي يكون لدينا ضمان واطمئنان، ولكي نعرف كيف نسلك في النهار.
· تُرجمت الكلمة العبرية ’حِسِدْ‘ لمدة قرون إلى رحمة ولطف ومحبة. وفي عام ١٩٢٧، قال باحث اسمه نيلسوم جلويك (Nelson Glueck) (وآخرون) إن الفكرة الحقيقية وراء هذه الفكرة هي ’ولاء العهد‘ أكثر منها المحبة أو الرحمة. غير أن كثيرين اختلفوا معه. ولا يوجد أي سبب وجيه لتغيير الفهم الذي تلقّيناه منذ زمن بعيد لنأخذها على أنها تؤكد بشكل رئيسي ولاء العهد. أنظر كتاب ر. ليرد هاريس (R. Laird Harris) بعنوان:
(Theological Wordbook of the Old Testament)
· علّق سبيرجن (Spurgeon) على كلمة ’حِسِد‘ العبرية (مراحم): “المراحم (اللطف المتّسم بالمحبة) واحدة من أعذب الكلمات في لغتنا. ويتضمن اللطف (وهو جزء من هذا التعبير) الكثير حتى إنه ثمين جدًّا في حد ذاته. لكن المراحم (اللطف المتّسم بالمحبة) ثمينة بشكل مضاعف. إنها صفوة اللطف.”
· “بدأ يتطلع إلى الأمام باحثًا عن اتجاه. وتعبير ’في الغداة‘ بالفعل رمز لهذا من خلال الاعتراف بأن الليل ليس بلا نهاية.” كيدنر (Kidner)
٣. عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا: اعترف داود بأنه لم يكن يعرف الطريق، فاحتاج إلى الله لكي يعرّفه بها. ولم يكن يحتاج إلى محبة الله فحسب، بل إلى إرشاده أيضًا.
· عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا: هذه صلاة رائعة لنا جميعًا.
٤. لِأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ… لِأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي: احتكم داود إلى الله على أساس اتكاله عليه واستسلامه له. فكما لو أن داود صلى: “يا رب، أنا أتكل عليك حقًّا. فلا تخذلني. كلِّمْني وأرشدني.”
· “إذا لم ترتفع النفس من ذاتها، يتوجب علينا أن نرفعها، ونرفعها إلى الله.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآية (٩): الحاجة إلى الإنقاذ من الأشرار.
٩أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ. إِلَيْكَ ٱلْتَجَأْتُ.
١. أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ: سبق أن اضطهد أعداد داود نفسه (الآية ٣). فصلّى لا من أجل تشجيع من الله له فحسب، بل أيضًا من أجل دفاع وحماية من هؤلاء الأعداء.
٢. إِلَيْكَ ٱلْتَجَأْتُ: هذا بيان جميل بالإيمان. إذ يرفض داود أن يتخذ ملجأ في الملذات الآثمة، أو في إلهاءات التسلية، أو في التفكير الإيجابي، أو في الاعتماد على الذات، أو في المرارة، أو في الانتقام. بل كان عازمًا أن يتخذ من الرب نفسه ملجأ له.
· “إن بركة الثقة المنسحقة (من الندم) هي أنها كلما عشَّشَتْ أقرب إلى الله، زادت إحساسًا بعدم استحقاقها. فالطفل يدفن وجهه في حضن أمه كلما ارتكب خطأ.” ماكلارين (Maclaren)
د ) الآية (١٠): الحاجة إلى عمل إرادة الرب.
١٠عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهِي. رُوحُكَ ٱلصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ.
١. عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ (مشيئتك): كان بمقدور داود أن يقول، ’أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ‘ و ’عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا،‘ لكنه لم يقل ’اجعلني أفعل مشيئتك.‘ ففي كل اعتماد داود على الرب، لن يقوم الله بالطاعة عنه. لكن الله المحب يعلّم داود أن يفعل مشيئته، وسيقوده إلى أرض الاستقامة (أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ).
· “لم يقل صاحب المزمور: ’يا رب، ساعدني على التحدث عن إرادتك،‘ رغم أن الخوض في هذا الموضوع مناسب، كما أن السماع عنه مفيد، لكن العمل أفضل من الكلام.” سبيرجن (Spurgeon)
· وصف سبيرجن (Spurgeon) أيضًا كيف ينبغي للمرء أن يفعل إراد الله: بعناية، وفورًا، وببشاشة، وبشكل كليّ وروحي ومكثّف.
· يربط السطر التالي، رُوحُكَ ٱلصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، تعليم الله بحضور روحه. “وفضلًا عن ذلك، فإن لدى الله طريقة لتعليمنا بروحه. إذ يتحدث الروح القدس بهمسات سرية للقادر على سماعه. ولا يختبر كل من يجاهر بإيمانه بالمسيح افتقادات روح الله في إشعارات شخصية. لكن يوجد قدّيسون يسمعون صوتًا خلفهم يقول: ’هَذِهِ هِيَ ٱلطَّرِيقُ. ٱسْلُكُوا فِيهَا.‘ ويرشدنا الله بعينه كما بكلامه.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهِي: كان ملائمًا أن يتوقع داود أن يعلّمه الله. إذ سيعلّم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب خادمه الطيّع الراغب في أن يفعل مشيئته. وهذا إظهار لصلاح روح الله.
· ينبغي أن نعرف ما عرفه صاحب المزمور – أن روح الله صالح. بل ينبغي أن نعرف أكثر مما عرفه داود في ضوء انسكاب الروح القدس كجزء من العهد الجديد. وليس لدى أي مؤمن بالمسيح أي سبب لعدم الاستسلام لحضور الله وقوّته.
· كتب جون تراب (John Trapp) عن سيريل الإسكندري (٣٧٨-٤٤٤م): “فهِمَ سيريل من هذا النص أن الروح الصالح هو الله، لأنه لا يوجد صالح إلا الله.”
هـ) الآيات (١١-١٢): الحاجة إلى الانتعاش والإنقاذ.
١١مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي. بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ ٱلضِّيقِ نَفْسِي، ١٢وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي، وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لِأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ.
١. يَا رَبُّ تُحْيِينِي (إحْيِني): صلى داود من أجل الانتعاش، من أجل تجديد الحياة وحيويتها. غير أنه لم يفعل هذا لمنفعته الخاصة أو لسمعته، بل من أجل اسم الرب – من أجل الرب وسمعته.
· الاهتمام الحقيقي باسم الرب جانب ضروري من الانتعاش الحقيقي – وليس الاهتمام بأي رجل من رجال الله أو تقَدُّمه. وفي واقع الأمر تُرفع صلوات كثيرة من أجل الانتعاش تتضمن مصلحة ذاتية، حيث تقول: “يا رب، دعني أُعْرَف من أجل عمل انتعاش عظيم.”
٢. بِعَدْلِكَ (ببرّك) تُخْرِجُ مِنَ ٱلضِّيقِ نَفْسِي: عرف داود أن إنقاذه سيجلب مجدًا لله، ولهذا صلى من أجل الإنقاذ على هذا الأساس. وطلب إلى الله أن يقضي على الذين يضايقون (يبتلون) نفسه، تاركًا الانتقام لله.
· تُخْرِجُ مِنَ ٱلضِّيقِ نَفْسِي: “يمكنني أن أُدخل الضيق إلى نفسي، لكنك وحدك تقدر أن تُخرجه منها.” تراب (Trapp)
٣. وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي، وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لِأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ: احتكم داود إلى الله على أساس اسمه وبرّه ورحمته، لكن أيضًا على أساس علاقته به كخادم (عبد) له. فقد عرف أن للخادم التزامات تجاه سيده، وبالمقابل أن للسيد التزامات تجاه عبده.
· من المؤكد أن تكريس الله لخادمه هو مثل تكريس الخادم له.” كيدنر (Kidner)
· طلب داود إلى الله أن يتعامل مع أعدائه. لكن قبل ذلك، طلب إليه أن يتعامل معه. فقد عرف أن مسيرته منخفضة المستوى، أو غير الملهَمة، أو غير الموجَّهة مع الله ستكون خطرًا أعظم من أي عدو.