تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢٦
مأخوذ بعمل الله
هذا المزمور معنون ’ترنيمة المصاعد.‘ وهو السابع في سلسلة من خمسة عشر مزمورًا للحجاج القادمين إلى أورشليم. ومن المحتمل أن يكون هذا المزمور قد كُتِب بعد السبي في امتنان عجيب لاسترداد الله لشعبه من السبي، وفي صلاة لتعزيز ذلك العمل.
أولًا. فرح يفوق الوصف عند العودة من السبي
أ ) الآية (١): تحقيق الحلم المفرح.
١عِنْدَمَا رَدَّ ٱلرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ، صِرْنَا مِثْلَ ٱلْحَالِمِينَ.
١. عِنْدَمَا رَدَّ ٱلرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ: تَغَنّى صاحب المزمور بالوقت الذي أطلق الله شعبه حرًّا من سبيهم، حيث عادوا إلى أورشليم (صهيون). ويرتبط معظمهم بالعودة من السبي بقيادة عزرا ونحميا، لكن من الممكن أن هذا يشير إلى عودة داود من سبيه القصير من أورشليم عندما قام أبشالوم بانقلاب عليه (٢ صموئيل ١٥-١٩).
· بصفة هذا المزمور ’ترنيمة المصاعد،‘ نتخيل أن هذه الكلمات على أفواه الحجاج وهم في طريقهم إلى أورشليم أو بعد وصولهم إليها. ولعلّهم عدّوا أوقاتهم بعيدًا عن أورشليم سبيًا رمزيًّا، حيث احتفلوا عودتهم بأعداد كبيرة من خلال خبرتهم الشخصية الحالية كعودة من السبي.
٢. صِرْنَا مِثْلَ ٱلْحَالِمِينَ: يصف الشاعر بقوة وجمال إحساسه بالسعادة، وذهوله وامتنانه بقوة الله وصلاحه في إرجاع شعبه من السبي. بدا أمرًا أروع من أن يصدَّق، وأعظم من أن يكون واقعًا، لكنه كان حقيقة بالفعل.
· “لم نستطع أن نصدّق عيوننا وآذاننا، لكننا ظننا الأمر حلمًا أو وهمًا من نسج خيالاتنا، كما هو المعتاد في أمور الفرح العظيم، كما في تكوين ٤٥: ٢٦؛ لوقا ٢٤: ١١؛ أعمال الرسل ١٢: ٩.” بوله (Poole)
· “عرف الشعب وعود الاسترداد، لكن عندما جاءت لحظة الاسترداد الفعلية، كانت خبرة مذهلة للغاية. فقد كانوا كأشخاص يحلمون. إذ حصل هذا كله بسرعة، وبدا سرابًا.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “بقيت ذكرى وطنية ’حية‘ (كما تصفها بعض الترجمات) كانت مثل حلم…. كم ضحكنا! كم غنّينا فرحًا! كم كنا سعداء! هذا أمر ملهِم مثل انتشار الانتعاش في الكنيسة المسيحية.” كيدنر (Kidner)
· كان الانتعاش المسيحي يوصف أحيانًا بنفس هذه اللغة. إذ يسجل جي. إدوين أور (J. Edwin Orr’s) وصفًا للانتعاش في نجارواهيا في نيوزيلندا على لسان جي. أوزوالد ساندرز: “قبل عيد الفصح بقليل، أضرم الروح القدس في قلوبنا روح توقُّع غير عادي في قلوبنا. لكن الواقع تخطّى كل توقّعاتنا. وكان أولئك المسؤولون عن إدارة المخيم فرحين للغاية بالجلوس ومراقبة الله وهو يعمل بطريقة سيادية. صاروا مِثْلَ ٱلْحَالِمِينَ.
ب) الآيات (٢-٣): ضحك، ترنيم، إعلان.
٢حِينَئِذٍ ٱمْتَلَأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكًا، وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّمًا. حِينَئِذٍ قَالُوا بَيْنَ ٱلْأُمَمِ: «إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ ٱلْعَمَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ». ٣عَظَّمَ ٱلرَّبُّ ٱلْعَمَلَ مَعَنَا، وَصِرْنَا فَرِحِينَ.
١. حِينَئِذٍ ٱمْتَلَأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكًا: احتفلوا بعمل الله المذهل بالضحك والغناء. كان هنالك ضحك كثير جدًّا حتى إن أفواههم ٱمْتَلَأَتْ به.
· كانت هذه الرحمة غير متوقعة. كانت مذهلة جدًّا وفريدة جدًّا حتى إن أقل شيء أمكنهم أن يفعلوه هو أن يضحكوا. ضحكوا كثيرًا حتى إن أفواههم ٱمْتَلَأَتْ به، لأن قلوبهم فاضت بالضحك أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يتوجب علينا أن نرفع أنفسنا بهذه الفكرة. فليست رسالة الإنجيل سوى ضحك وفرح خالصين. ويخص هذا الفرح المسبيين، أي أولئك الذين يحسّون بأسر الخطية والموت…. هؤلاء هم التلاميذ الذين ينبغي أن يُزرع في قلوبهم الضحك والفرح بسلطان الروح القدس، كما تتحدث هذه الآية.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن لوثر (Luther)
٢. إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ ٱلْعَمَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ: لم يكن الشعور بالدهشة المفرحة مقصورًا على شعب الله. فقد اضطرت الأمم الأخرى التي كانت تراقب ما يحدث إلى المناداة بأن العمل هو عمل الرب، وأنه كان عظيمًا حقًّا.
· “جاءت الحرية التي منحها الله بطريقة استثنائية، حتى إن الوثنيين رأوا أنه لا بدّ أن يد الرب العظيم هي التي كانت وراء ذلك.” كلارك (Clarke)
· “لم يكن هؤلاء الغرباء حالمين. فمع أنهم كانوا مجرد مراقبين وغير مشاركين في الرحمة المفاجئة، إلا أنهم رأوا بوضوح ما حدث. فنسبوه بحق إلى المعطي العظيم لكل ما هو صالح.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. عَظَّمَ ٱلرَّبُّ ٱلْعَمَلَ مَعَنَا: سمع المرنّم ما قالته الأمم، واتفق مع قولها، وأكّده بالتكرار، وشخَّصه. لقد صار إعلانًا لما فعله الرب من أجلنا.
· “يلتقط المرنم بانتصار إقرارهم المتراخي، وكأنه كان يشكر الأمميين على تعليمهم له لهذه الكلمة.” ماكلارين (Maclaren)
· اقترح بويس (Boice) أربع مناسبات يختبر فيها كثيرون فرحًا كبيرًا وإحساسًا بأن الله قد فعل أشياء عظيمة في حياتهم المسيحية:
ü فرح الخلاص
ü فرح الانتصار الروحي
ü فرح الشركة الروحية
ü فرح لعمل جديد لله
٤. وَصِرْنَا فَرِحِينَ: هنالك سلام فرِحٌ في هذا التصريح. ليست هذه حماسة مشاعر مُثارة من النفس، بل هذا فرح واثق بما فعله الله، ولهذا نعلن ببساطة إننا سعيدون (صِرْنَا فَرِحِينَ).
· “لم يكن مجرد اندفاع من نشوة الفرح. كم كنا سعداء! (صِرْنَا فَرِحِينَ!)” كلارك (Clarke)
· “هنالك عالم من الشعور المكبوح. ومن شأن هذا أن يجعل التعبير البسيط الهادئ، ’صِرْنَا فَرِحِينَ،‘ مثيرًا للإعجاب. فعندما شهد الوثنيون لواقع الخلاص، صارت إسرائيل واعية له بهدوء.” ماكلارين (Maclaren)
ثانيًا. الصلاة والفهم الحكيم
أ ) الآية (٤): صلاة من أجل الخلاص المستمر.
٤ٱرْدُدْ يَا رَبُّ سَبْيَنَا، مِثْلَ ٱلسَّوَاقِي فِي ٱلْجَنُوبِ.
١. ٱرْدُدْ يَا رَبُّ سَبْيَنَا: لا ينكر النصف الثاني من هذا المزمور الفرح المذهل الموصوف في النصف الأول منه، لكنه يدرك أنه ما يزال عمل ينبغي أن يتم. إذ أدرك المسبيون (بقيادة عزرا أو داود) أن هنالك عملًا يحتاج إلى إتمام. فالاسترداد لم يكتمل، بل بدأ للتو.
· “وهكذا، فإن هذه الترنيمة صرخة من أجل استكمال الاسترداد.” مورجان (Morgan)
· يمكننا أن نتصور إحساس المرء الذي غيّر يسوع المسيح حياته بعمق. فهو ممتن ومذهول لما فعله المسيح. غير أنه في اللحظة التالية يفكر في مقدار ما ينبغي أن يتم أيضًا.
· “بالنسبة لصاحب المزمور، كما بالنسبة لنا أيضًا، يمكن أن تصبح ذكرى الماضي مجرد حنين إلى الماضي – نوستالجيا. فنحن نقول: يا لتلك الأيام الخوالي! كم كانت رائعة! لكنها مضت. وفي المزمور ١٢٦، لا تتحول ذكرى أيام الغناء الممتلئة بالضحك إلى حنين إلى الماضي، بل تصبح أساسًا لرجاء قوي لأيام قادمة أفضل.” بويس (Boice)
٢. مِثْلَ ٱلسَّوَاقِي فِي ٱلْجَنُوبِ: كانت سواقي (جداول) الجنوب تتدفق عندما ينزل المطر على الجبال البعيدة. ويمكن أن تظهر هذه السواقي فجأة وتندفع بتدفُّق جبار بما يُعرَف أحيانًا بالفيضانات الخاطفة أو السريعة. فقد صلى صاحب المزمور من أجل عمل إلهي جبّار مفاجئ لتعزيز الاسترداد بين شعبه.
· “تمتد إلى جنوب منطقة اليهودية المفضّلة منطقة جافة قاحلة، حيث يتوقف جريان الجدوال فيها في أيام الصيف. كانت هذه حالة الشعب بالنسبة لصاحب المزمور. لكن في الخريف، تملأ مياه الأمطار القنوات الصخرية، فتصبح نهرًا من الحياة.” مورجان (Morgan)
· “هنالك تحوّلات قليلة أكثر درامية من تحوّل أخدود جاف إلى سيل جارف. هذا هو تأثير سقوط الأمطار التي تحوّل الصحراء المحيطة إلى مكان من العشب والزهور بين ليلة وضُحاها.” كيدنر (Kidner)
· “رغبوا في أن تكون عودتهم سريعة ووفيرة مثل مياه تلك الأمطار.” كلارك (Clarke)
· “مهما كانت الأرض قاحلة، يستطيع الرب أن يرسل سواقي منعشة لها.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٥-٦): دورة الحزن والفرح.
٥ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلِٱبْتِهَاجِ. ٦ٱلذَّاهِبُ ذَهَابًا بِٱلْبُكَاءِ حَامِلًا مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ، مَجِيئًا يَجِيءُ بِٱلتَّرَنُّمِ حَامِلًا حُزَمَهُ.
١. ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلِٱبْتِهَاجِ: كانت الفرحة في النصف الأول من هذا المزمور حقيقية، لكنها كانت مجرد جزء من الصورة. فصاحب المزمور يذكّر نفسه وإيانا جميعًا بحكمة أن الفرح العظيم غالبًا ما يسبقه موسم من الدموع، كما لو أنها هي البذار التي نزرعها فتجلب حصادًا من الفرح لاحقًا.
· في الصورة الأولى (الملء المفاجئ لجداول الصحراء – الآية ٤)، نرى أن النتائج مفاجئة وغير مكتسبة. وفي الصورة الثانية (الحصاد بعد العمل الصعب من الحرث وبذر البذور – في الآيتين ٥-٦)، نرى أن النتائج لا تأتي إلا بعد فترة طويلة من العمل الجاد والانتظار.” بويس (Boice)
· “ليست صورتا الانتعاش (٤ب، ٥-٦) مذهلتين فحسب، بل إنهما متكاملتان. فالصورة الأولى مفاجئة تمامًا، وهي هبة خالصة من السماء. وأما الثانية فهي بطيئة وشاقة، حيث يلعب فيها الإنسان دورًا مخصَّصًا له.” كيدنر (Kidner)
· يبيّن هذا المثل التوضيحي الصلة بين الدموع والفرح. فنحن نريد أن نحصد الفرح من دون أن نزرع الدموع.
· لاحظ ف. ب. ماير (F.B. Meyer) أن بعض المزارعين ينقعون بذورهم قبل أن يبذروها. وهذا أمر يساعد في تطبيق الفكرة. “إنه أمر حسن أن ينقع العمال المسيحيون دروسهم وخُطبَهم بصلواتهم ودموعهم. فليس أمرًا كافيًا أن نبذر. إذ يمكننا أن نفعل هذا بسخاء وباستمرار. لكن ينبغي أن نضيف إلى هذا عاطفة قوية ورأفة حنونًا، وصرخات قوية ودموعًا.”
· “إنه يلقي بذرة ودمعة، وبذرة ودمعة، وهكذا يواصل طريقه. وهو يحمل في سلّته بذارًا ثمينة، لأن ما فيها قليل، وهي رجاؤه للسنة القادمة. وتصاحب كل بذرة يلقيها صلاة أن لا تضيع. وهو لا يفكر في نفسه كثيرًا، بل في بذاره. وهو يسأل بشغف: ’هل ستنجح؟ هل سأتلقى مكافأة عن جهودي؟‘ نعم – لاشك أنك ستجمع حُزمًا من بذارك.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱلذَّاهِبُ ذَهَابًا بِٱلْبُكَاءِ حَامِلًا مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ: تتكرر الفكرة وتتوسع. يمكن لأولئك الذين يحتملون البكاء، إن كانوا يحملونه كبذار للزرع – طارحين إياه بإيمان بالله وبوعده – أن يطمئنوا إلى أنهم سيحصلون على حصاد جيد.
· لم يكن مفترضًا أن يجلس الشعب مكتوفي الأيدي منتظرين أن يأتي الله. إذ كان عليهم أن يخرجوا ويبذروا، مصلّين أن يحقق الله وعده الصادق. ويذكّرنا تعبير مِبْذَرَ ٱلزَّرْعِ (الآية ٦) بتشجيع حجّي للشعب على أن يبذروا القليل المتبقّي لهم، لأن الرب سيباركهم.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “هنالك توكيد على كل من الذهاب والمجيء إلى البيت بتكرار الفعل العبري (ٱلذَّاهِبُ ذَهَابًا، مَجِيئًا يَجِيءُ)، حيث يمكن أن تترجَم العبارة هكذا: الذي يذهب فعلًا بالبكاء سيجيء فعلًا بهتافات الفرح.” كيدنر (Kidner)
٣. مَجِيئًا يَجِيءُ بِٱلتَّرَنُّمِ حَامِلًا حُزَمَهُ: ستجلب الدموع التي تُبذر بإيمان في الوقت المناسب حصادًا من الابتهاج، كما لو أن الحصادين حُزمًا ثقيلة من الحبوب. وهذا وعد قوي وعظيم بأنه لا يلزم أن تضيع أحزاننا ودموعنا سُدى.لكن يمكن أن تُبذر من أجل حصاد من الفرح يأتي في موسم أفضل.
· “لأن الرب يستخدم صيغة التوكيد هنا بمضافة الفعل، احترس من أن تشك. فلا يوجد سبب للشك ما دام الرب قد تكلم.” سبيرجن (Spurgeon)
· في فرحة تجمع الحجاج الحالي، نحس بأن المرنمين يستمتعون بهذا الحصاد، مع أنهم يفهمون بحكمة أنه سيكون عليهم أن يزرعوا يإيمان دموعًا للمستقبل.
· “يا تلميذ يسوع، انظر إلى رمز عملك ومكافأتك المستقبلية. ربما تزرع بالدموع. فأنت تقوم بواجبك وسط الاضطهاد والضيق والمرض والألم والحزن. وأنت تعمل في الكنيسة من دون أن ينتبه أحد إلى جهودك. ولا يبدو أن هنالك منفعة منها. لكن سيأتي ذلك اليوم الذي ستحصد فيه بفرح. وسيكون حصادك وفيرًا.” هورن (Horne)
· “إنه يحرس البذار المدفونة، ويقف مشرفًا على الحصاد. لا يمكن أن تضيع تنهيدة، أو دمعة، أو صلاة ملهمة من روح الله، ولا يمكن أن تكون غير منتجة. وسترى، مثل سيدك، نتيجة مخاض نفسك، وسترضى.” ميير (Meyer)
· تساءل ألكزاندر ماكلارين (Alexander Maclaren) عن “مدى التشجيع والقوة اللذين استُمِدّا من كلمات هذا المزمور الجميلة. من يستطيع أن يحزر عدد القلوب التي دعمتها هذه الكلمات، ومدى الكدح الصبور الذي ألهمته؟ كان صاحب المزمور يبذر بذارًا، ثمرًا لم يحلم به عندما كتبها. وستكون حزمه ثقيلة للغاية.”
· “لأنه هكذا خرج سيدك المبارك وهو يبكي – رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ – حاملًا بذارًا ثمينة، وباذرًا إياها حوله إلى أن دُفِن جسده كحبة حنطة في أثلام القبر. لكنه قام، وهو الآن في السماء من حيث سيعود ثانية على نحو مؤكد بابتهاج، بصوت رئيس الملائكة وبوق الله، جالبًا حزمه معه.” هورن (Horne)