تفسير سفر المزامير – مزمور ١٣٩
تسبيح وصلاة للإله العليم بالجميع وكليّ الحضور
هذا المزمور الرائع معنون ’لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ.‘ ونحن لا نفاجأ بأن مصدر هذا المزمور هو داود، مرنم إسرائيل الحلو (٢ صموئيل ٢٣: ١). ويعتقد بعضهم أن إِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ (الموسيقيين) هو الرب نفسه، بينما يذهب آخرون إلى أنه قائد الجوقة الموسيقيين في زمن داود، مثل هيمان أو آساف (١ أخبار ٦: ٣٣؛ ١٦: ٤-٧؛ ٢٥: ٦).
“بعد هذا، دع أصحاب الأدمغة الكبيرة الحديثة تنظر إلى رعاة فلسطين الصادقين كزمرة من المهرجين غير المتحضرين وغير المصقولين. دعهم – إذا استطاعوا – ينتجوا من المؤلفين الدنسين أفكارًا أكثر سموًّا، وأكثر جلالًا، وأفضل تعبيرًا… ناهيك عن الفكر اللاهوتي السليم والتقوى المتينة الواضحة تحت هذه التعابير.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كلود فلوري (Claude Fleury)
أولًا. عظمة الله تلمس حياتي
أ ) الآيات (١-٦): الله كلّيّ المعرفة يعرفني.
١يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. ٢أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. ٣مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. ٤لِأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلَّا وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. ٥مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. ٦عَجِيبَةٌ هَذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ٱرْتَفَعَتْ، لَا أَسْتَطِيعُهَا.
١. يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي: صلّى داود إلى الرب فاهمًا أنه يعرفه بصورة شخصية وتفصيلية. وغالبًا ما كان الوثنيون يعتقدون أن الآلهة كانت معادية أو غير مبالية بالبشر. لكن داود عرف أن الإله الحقيقي كان مهتمًّا بما يكفي ليفحص ويعرف كل إنسان.
· ليس الأمر أن الله يعرف كل شيء – بل يعرفني أنا.
· ليس الأمر أن الله موجود في كل مكان – بل هو موجود معي.
· ليس الأمر أن الله خلق كل شيء – بل خلقني أنا.
ü “لقد تجاوز هذا المزمور بشكل رائع وعظيم أية أفكار بسيطة يمكن أن تكون لدينا عن الله. غير أن ارتفاعه وعمقه يبقيان أمرًا شخصيًّا بشكل مكثف من البداية إلى النهاية.” كيدنر (Kidner)
ü “كل وضعية لجسمي، وكل إيماءاتي، وممارساتي، سواء أكنت جالسًا أم واقفًا أم ماشيًا أم مضطجعًا…. أنت تتفحصني وتعرفني بشكل كامل. قد يتفحص بعضهم، لكنهم لا يعرفون. لكنك تفعل الاثنين معًا.” تراب (Trapp)
٢. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي: استخدم داود هذا التعبير للقول إن الله عرف كل شيء عنه، حتى أكثر الأشياء التفصيلية التي يكررها كل يوم. وكما سيقول يسوع لاحقًا، فإن الله يعرف حتى عدد شعور رأسنا (متى ١٠: ٣٠).
· “حتى هذه الأشياء التافهة والعابرة هي تحت ملاحظتك المستمرة. فلا يمكنني أن أتخذ مقعدًا أو أن أغادر من أي مكان من دون أن تلاحظني.” كلارك (Clarke)
· يوضح فانجيميرين (VanGemeren) أنّ عبارتي ’أَنْتَ عَرَفْتَ‘ (الآية ٢) و’أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ‘ (الآية ١٣) تردان في النص العبري في صيغة التوكيد، حيث تؤكَّد كلمة ’أنتَ،‘ أي الله المخاطَب. “يواصل هذا القسم توكيد الانخراط الإلهي باستخدام كلمة ’أنت.‘”
٣. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ: لم يكن يعرف الله أصغر الجوانب في حياة داود فحسب، بل عرف أفكاره أيضًا. ويعرف الله أفكارنا قبل أن نتلفظ بكلمة للتعبير عنها. ولا يوجد ما هو مخفي عن الله كلّيّ المعرفة. فكما كتب داود: كُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ.
· “معرفة الله كاملة، حيث لا تخفى كلمة واحدة عن الله، أو حتى كلمة غير منطوقة. وكل إنسان معروف لديه بشكل كلي.” سبيرجن (Spurgeon)
· يفترض أن تؤثر حقيقة معرفة الله بكل كلمة على لساني في كلامي. ولهذا ينبغي أن يتذكر كل الذين يدّعون أنهم تلاميذ يسوع المسيح – غير أنهم يستخدمون كلمات نابية وكلامًا نجسًا – أن الله يسمع ويعرف كل كلمة.
٤. مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي: تدل الكلمة المستخدمة للحصار على سياج يُستخدم كحاجز وقائي. فقد حاصر الله داود من كل جهة لئلا يصل إليه أي شيء إلا بسماح إلهي. وما صحَّ على داود يَصِحّ علينا نحن الذين نتكل على الرب.
· قد يكون أمرًا مزعجًا جدًا أن يكون المرء تحت المراقبة الدائمة. فنحن نحس بالتوتر إذا رأينا كاميرات فيديو تراقبنا طوال الوقت. غير أن قلقنا مبني على حقيقة شكّنا في نيّات الذين يراقبوننا. ويحس الطفل بالراحة عندما يكون مع أب محب أو أم محبة. ونحن واثقون بمحبة الله، أبينا السماوي، واهتمامه بنا، ولهذا، فإن معرفتنا بمعرفته الثابتة بنا تشكل تعزية لا لعنة.
٥. وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ: وكما كان الحال مع استخدام ’السياج‘ في الحصار، فإن هذا تعبير عن محبة الله واهتمامه بداود. فلم تكن هذه يدًا قامعة، بل يد النعمة.
· “هذا التصريح حول كلية علم الله واضح وملموس بشكل مميز. وهو ليس مُصاغًا كعقيدة، لكن – كما يليق بمزمور – باعتراف متّسم بالامتنان. وليست معرفة الله شاملة فحسب، لكنها، مثل بعض المستقبِلات التي لا تفوّت شيئًا، تلتقط كل شيء. إنها شخصية ونشطة.” كيدنر (Kidner)
٦. عَجِيبَةٌ هَذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ٱرْتَفَعَتْ: عرف داود أن الله كان يعرفه أفضل مما كان يعرف نفسه. وهذ أمر داعٍ للتواضع. ونحن نرفض أحيانًا ما يقوله الله وكلمته عنّا وعن حالتنا. لكن ينبغي أن نقرّ بأنه يعرفنا أفضل مما نعرف أنفسنا.
· عَجِيبَةٌ هَذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ٱرْتَفَعَتْ: “لا أستطيع أن أستوعبها. بل بالكاد أتحمل مجرد التفكير في الأمر. فالأمر مربك لي. أنا مندهش ومذهول. فهذه المعرفة لا تفوق استيعابي فحسب، بل حتى خيالي.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٧-١٢): الله كلي الحضور معي.
٧أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ ٨إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. ٩إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، ١٠فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. ١١فَقُلْتُ: «إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي». فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ١٢ٱلظُّلْمَةُ أَيْضًا لَا تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هَكَذَا ٱلنُّورُ.
١. أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وضع داود في اعتباره أن الله موجود في كل مكان، وأنه لا توجد قُرنة (ركن) أو بُعد في الكون مخفي عنه. فالسماء ليست عالية عليه، وليس الجحيم منخفضًا بالنسبة له. فالله في كل مكان.
· “هنا يبني داود كلية علم الله على كلية حضوره.” تراب (Trapp)
· “لا يحاول صاحب المزمور أن يتملّص من الله، لكنه يتوسع في التعبير عن حقيقة أن معرفة الله تتجاوز قدرة البشر على استيعابها. فلا يمكن أن تكون معرفة الله وتمييزه مقصورين على أي مكان معين، لأن سيادته تمتد إلى كل الكون المخلوق. فانجيميرين (VanGemeren)
· “يتحدث صاحب المزمور عن الله كشخص حاضر في كل مكان في الخليقة، غير أنه متميز عن الخليقة نفسها. ففي هذه الآيات يقول: ” رُوحكَ… وَجْهكَ (حضورك)… أَنْتَ هُنَاكَ… يدك… يمينك… ٱلظُّلْمَةُ أَيْضًا لَا تُظْلِمُ لَدَيْكَ.” فالله موجود في كل مكان، لكنه ليس كل شيء.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جونز (Jones)
٢. رُوحِكَ… وَجْهِكَ (حضورك): يرجّح أن داود لم يكن لديه فهم للاهوت الثالوثي، لكنه تحدَّث بوحي الله عن روح الله كجانب جوهري من كينونته ووجوده.
· من وجهك: “يقول النص العبري حرفيًّا ’من وجوهك‘ (mippaneycha) لماذا نجد هذه الكلمة كثيرًا في صيغة الجمع لدى تطبيقها على الله؟ ولماذا لدينا روحه، وظهوراته أو وجوهه، كلاهما هنا؟ يقول المؤمن بالثالوث فورًا: ’إن تعدد الأقانيم في الذات الإلهية مقصود هنا.‘ ومن يستطيع أن يثبت أنه على خطأ؟” كلارك (Clarke)
· “حضور مجد الله هو في السماء، وحضور قوته هو على الأرض، وحضور عدالته هو في الجحيم، وحضور نعمته هي مع شعبه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ماسون (Mason)
٣. وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ: لم يكن داود يصف هنا ما نفكر فيه عادة على أنه جهنم (Gehenna) (متى ١٠: ٢٨؛ ١٨: ٩)، بحيرة النار (رؤيا ٢٠: ١٤-١٥). فالكلمة المستخدمة هي شيول (sheol) (الهاوية)، وهي تحمل عادة معنى القبر، وبالتضمين الحياة الأخرى.
· رغم أن داود لم يستخدم الكلمة المحددة للجحيم، إلا أن المعنى سيكون هو نفسه. فحتى في الجحيم، سيكون الله حاضرًا، لأنه لا يوجد مكان يخلو من وجود الله. لكن وجود الله في الجحيم لن يشع محبة ونعمة، بل دينونة بارّة فقط.
· “السماء هي مركز مجده، والخليقة مشهد رعايته الإلهية، وسيكون القبر نفسه مسرحًا لقوّته.” هورن (Horne)
· “أنت في السماء في مجدك، وفي الجحيم في عدالتك الانتقامية، وأنت في كل أجزاء الأرض، أو الماء، أو المكان، أو الزمان، أو الفراغ بوجودك الكلي.” كلارك (Clarke)
٤. جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ: ربما يشير جناحا الصباح هنا إلى انتشار الضوء وسرعته وهو يملأ السماء القريبة من الشرق إلى الغرب. ولا يمكن للضوء نفسه أن يتخطى حضور الله ومعرفته.
· “يطير الضوء بسرعة لا يمكن تصوُّرها. وهو يومض بعيدًا عن مجال معرفة البشر. وهو يضيء البحر العظيم الواسع، ويضع موجاته اللامعة من بعيد. لكن سرعته تفشل تمامًا إذا استُخدمت في الطيران من الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ: كان داود واثقًا جدًّا بوجود يد الله المُحبة الراعية له حتى إن الموت والقبر لن يفصلاه عن محبة الله، كما سيكتب بولس لاحقًا في رومية ٨: ٣٨-٣٩. وفي واقع الأمر، فإن يمين الله، يمين المهارة والقوة، ستمسك بداود مهما حدث.
· “التقوى والإحسان اللذان ثابروا عليها في الحقل وعلى فراش المرض، والبؤس والعذاب الناجمان عن القمع في المناجم ومطابخ السفن والزنازن… هذه كلها تخضع لتفتيش الرب، وهو يسجّلها من أجل يوم المجازاة.” هورن (Horne)
٦. إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي: كان حضور الرب مع داود مثل نور دائم في الظلمة. فكما كان عامود السحاب ينير إسرائيل في البرية (خروج ١٣: ٢١)، كذلك فإن حضوره يجعل الليل يضيء كالنهار.
· “قد تُخفينا الظلمة مع أعمالنا عن عيون البشر، لكن الحضور الإلهي، مثله مثل وجود الشمس، يحوّل الليل إلى نهار، ويجعل كل الأشياء ظاهرة أمام الرب.” هورن (Horne)
· “الظلمة نور بالنسبة له، ولا يوجد مخبأ منه.” مورجان (Morgan)
ج) الآيات (١٣-١٦): الإله الأزلي شكّلني.
١٣لِأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. ١٤أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا. ١٥لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ. ١٦رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا.
١. لِأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ (شكّلت أجزائي الداخلية): كان إله كل معرفة وحضور دائم مهتمًّا بشكل شخصي بتشكيل الجنين في رحم أمه. ويدل هذا على حقيقة أن الله عرف داود من قبل ولادته، عند الحًبَل به ونموه في الرحم.
· تعني حقيقة أن الله يعرف الأطفال ويرعاهم في الرحم أن اهتمامه بالحياة يبدأ بالحَبَل. ويعني هذا أيضًا أن لدى شعب الله مسؤولية في معرفة الأطفال في الرحم ويهتموا بهم.
· يقول بعضهم إن لدى الأم الحق الأخلاقي في الإجهاض على أساس أن لديها الحق في التصرف بجسدها كما تشاء. لكن المزمور ١٣٩ يبيّن أن الله يرى شخصًا آخر في رحم الأم.
٢. أحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَبًا: كان داود بن يسى رجلًا استثنائيًّا. إذ كان راعيًا، وجنديًّا في القوات الخاصة، وبطلًا، وشاعرًا وملكًا. ومن بعض النواحي، أضاف هنا إلى إنجازاته لقب العالِم. فقد أعلن بذهن عالم الأحياء، ومهارة الشاعر، أنه صُنِع بشكل مهيب وبديع (قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَبًا).
· إن عمل الجسم البشري مذهل في تصميمه وتنفيذه. ونحن نعرف الآن أكثر بكثير مما كان يعرفه داود حول كيفية الخلق. ويفترض أن يدفعنا هذا إلى مزيد من الخشوع والتسبيح أكثر من داود.
· “تملؤني قوتك وحكمتك اللامحدودتان اللتان تتجليان في البُنية الفريدة الغريبة للجسم البشري بالعجب، والدهشة، ورهبة من جلالك.” بوله (Poole)
· “لم ينظر صاحب المزمور إلى الحجاب الذي يخفي الأعصاب والعضلات والأوعية الدموية من فحص عام. إذ كان علم التشريح لم يكن معروفًا لديه. لكنه رأى ما يكفي لإثارة إعجابه بعمل الخالق وتوقيره له.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إن أعظم معجزة في العالم هي الإنسان الذي يضم جسمه (كم بالأحرى نفس!) معجزات كافية (بين الرأس والقدمين) تكفي لملء مجلّد.” تراب (Trapp)
· “إن كنا قد صُنعنا بشكل عجيب قبل أن نولد، فماذا يمكننا أن نقول عن معاملات الرب معنا بعد أن نترك ورشته السرية، وهو يوجّه سبيلنا عبر مرحلة الحياة؟ إن ما يمكن أن نقوله عن الولادة الثانية أكثر غموضًا عن الأولى التي تبيّن أكثر محبة الرب وحكمته.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَرُقِمْتُ (بمهارة) فِي أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ: يستخدم داود هنا تعبير ’أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ‘ للإشارة إلى أي مكان غامض غير منظور. فقد كانت عملية تشكيل الطفل في رحم الأم دائمًا غير منظورة، كما يحدث فِي أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ.
· وَرُقِمْتُ (صُنعتْ بمهارة): “يقول النص العبري ’طُرِّزتْ.‘ لقد شُكِّلت بشكل دقيق بديع من عظام، وعضلات، وأوردة، وشرايين، وأجزاء أخرى. لقد أُبدِعت بمهارة عجيبة حتى إن الوثنيين، لدى تفكيرهم في أجزاء الإنسان وكيفية تشكيله الممتاز من حيث الجمال والاستخدام معًا، عبّروا عن إعجابهم الشديد وافتتانهم بخالق الإنسان.” بوله (Poole)
· لقد جعل عمل الله في تشكيل الفرد بعضهم يتساءلون حول وجود بعض العيوب الخَلْقية وما تعني بالنسبة لعمل الله. ينبغي أن تُعَد هذه العيوب الخَلْقية كإصابات في تصميم الله الأصلي. وكما يمكن أن يصاب شخص وهو خارج الرحم، يمكن أن يصاب وهو في الرحم أثناء عملية التشكيل. وهذه الإصابات نتيجة للسقوط والفساد الناتج عنه في العالم. غير أن عين الإيمان تستطيع أن ترى يد الله وهي تعمل في الإصابات أو التشوّهات التي يسمح بوجودها في رعايته الإلهية.
· أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ: “يوصف الوعاء الغامض الذي يتشكل فيه الجسم الذي لم يولد بعد وينمو على أنه ’سرّي،‘ ويشَبَّه بالمنطقة الخفية في العالم السفلي حيث الأموات. ووَجْه الشبه هو الغموض الذي يلف كليهما.” ماكلارين (Maclaren)
· ما زال قدر كبير من تشكيل الإنسان الداخلي يتقدم في سرّية. ومن هنا، كلما زادت العزلة، كان أفضل لنا.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي… إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا: كان بمقدور الله أن يرى بشكل كامل ما لم يره داود وغيره. وهذا إظهار آخر لمعرفته الكاملة ورعايته وتدبيره.
· قدّم المفسر البيوريتاني، جون تراب (John Trapp)، تعليقًا غريبًا حول هذه الفكرة: “يقول توما الإكويني إنه عند القيامة، ستكون أجساد القديسين صافية وشفافة جدًّا بحيث تُرى الأوردة والأعصاب والأمعاء، كما في كوب زجاجي. ومن المؤكد أنها ستكون هكذا، كما خُلقتْ في الرحم.”
٥. وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ: لم تمتد معرفة الله الكاملة إلى الماضي فحسب، قبل ولادة داود. بل امتدت إلى المستقبل أيضًا. لقد عرف الله أيام داود كما لو أنها كُتبتْ في سِفر.
· “تشير عملية قيام الرب بالكتابة في سفر (انظر مزمور ٥١: ١؛ مزمور ٦٩: ٢٨) إلى معرفة الرب لطفله وبركته عليه طوال أيام حياته (انظر أفسس ٢: ١٠). إذ كُتبتْ حياته في سفر الحياة، وكل أيامه معدودة.” فانجيميرين (VanGemeren)
ثانيًا. استجابتنا لعظمة الله
أ ) الآيات (١٧-١٨): أفكار الله الثمينة عني.
١٧مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا ٱللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! ١٨إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلرَّمْلِ. ٱسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ.
١. مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا ٱللهُ عِنْدِي: امتلأ داود بالدهشة والافتتان عندما تأمّل كيف أن الله عرفه واهتم بأمره. إنه أمر كريم (ثمين) أن يفكر فينا الله أصلًا. لكنه أمر ثمين بشكل لا يقاس عندما يفكر فينا على نحو حسن.
· مَا أَكْرَمَ: “المعنى وراء جذر الكلمة المترجمة إلى ’أكرم‘ أو ’كريم‘ هو ’ثقيل‘ أو ’له وزن.‘ إذ يزن صاحب المزمور أفكار الله حوله ويجد أنها تُثقِل ميزانه.” ماكلارين (Maclaren)
· “ليس المرنم منزعجًا من حقيقة أن الله يعرف كل شيء حوله. بل على نقيض ذلك، هو مرتاح وشاعر بأنه غني كما لو أن لديه صندوقًا من الجواهر الثمينة. إذ يمثّل تفكير الله في المؤمن كنزًا ولذّة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلرَّمْلِ: استخدم داود صورة قوية لتوضيح فكرة عدد المرات التي يفكر فيها الله فينا. فنحن نتخيل أنفسنا واقفين على شاطى متسائلين كم حبة رمل تملأ الشاطئ، غير أن أفكار الله أكثر عددًا.
· “هنالك أفكار تتدفق بشكل طبيعي من الخالق، والحافظ، والفادي، والآب، والصديق… من قلب الرب. وهي أفكار غفران، وتجديد، وتعضيد وتزويد، وتعليم، وتكميل، وأفكار مماثلة أخرى تتدفق في فكر العلي على الدوام.” سبيرجن (Spurgeon)
· “أنتم تعرفون أن الناس يحسّون بالفخر إذا نظر الملك إليهم نظرة واحدة. لقد سمعت برجل ظلَّ يتباهى طوال حياته بأن الملك جورج – الذي كان وسيمًا – كلَّمه ذات يوم، حيث قال له: ’ابتعد عن طريقي!‘ ولكن الملك هو الذي قال هذا. ولهذا أحس الرجل بالامتنان الكبير. لكن يمكننا، أيها الأحبة، أن نبتهج بأن الله – الذي أمامه كل الملوك مثل جنادب – يفكر فينا، ويفكر فينا كثيرًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. ٱسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ: فكّر داود في الله ليل نهار، لأنه عرف عظمة أفكار الله نحوه. وفي الصباح كان وجود الله البديع ما زال معه.
· “هو يستيقظ من نومه واعيًا بعجب وسعادة بأن الله معه ويراقبه، مثل الأم الحنون الجالسة بجانب ابنها النائم، وبأن كل التواصل للأيام الماضية باقية كما كانت.” ماكلارين (Maclaren)
· الأفكار حول عظمة محبة الله “… تشبه حلمًا، لكن محبة الله حقيقية. وعندما يستيقظ صاحب المزمور، فإنه يعلم أنه ما زال يتمتع بحضور الله.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “عندما أستيقظ، يراودني إحساس قوي، بلمحة من القيامة.” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (١٩-٢٢): الحنين إلى البر والعدل.
١٩لَيْتَكَ تَقْتُلُ ٱلْأَشْرَارَ يَا ٱللهُ. فَيَا رِجَالَ ٱلدِّمَاءِ، ٱبْعُدُوا عَنِّي. ٢٠ٱلَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِٱلْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِٱلْكَذِبِ، هُمْ أَعْدَاؤُكَ. ٢١أَلَا أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ ٢٢بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً.
١. لَيْتَكَ تَقْتُلُ ٱلْأَشْرَارَ يَا ٱللهُ: انتقل داود فجأة من روح العجب والافتتان إلى صلاة مكثفة ضد الأشرار والمتعطشين إلى الدماء. وليس السبب الرئيسي وراء ذلك هو أنهم قاوموا داود، بل لأنهم قاوموا الله نفسه (ٱلَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِٱلْمَكْرِ). لقد ملأ افتتان داود بالله غيرة على كرامة الله.
· “إن التغيير المفاجئ في المزمور من الاستغراق في التفكير الحالم إلى التصميم أمر مزعج، لكنه كتابي بشكل كامل في واقعيته.” كيدنر (Kidner)
· “من غير المحتمل أن تمر الجرائم التي ارتُكبت أمام وجه الديّان من دون عقاب…. فالله الذي يرى كل شر سيذبح كل شرير.” سبيرجن (Spurgeon)
· “لدى الخادم الأمين نفس مصالح سيده، ونفس أصحابه، ونفس أعدائه، حيث شرف سيده شرفه في كل وقت، ويتوجب عليه في كل وقت أن يدعم قضاياه ويحافظ عليها.” هورن (Horne)
٢. أَلَا أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ: من المؤكد أن داود من أنصار الله. إذ أراد أن يكون في جانب الله، ولهذا سمح لنفسه بأن يبغض مبغضي الله. وفي واقع الأمر، تباهى بأنه يبغضهم بغضًا كاملًا، حاسبًا إياهم أعداء.
· هاجم داود روحًا واضحة في أيامنا، وهي فكرة أنه يمكننا أن نحب الله من دون أن نبغض الشر. وإنه لأمر ممكن تمامًا أن يكون المرء محبًّا بشكل زائد بحيث يفسد هذا محبته المزعومة لله.
· “الإنسان الصالح يبغض كما يبغض الله. وهو لا يبغض الأشخاص، بل خطاياهم. لا يبغض ما صنعه الله، بل ما صنعوه أنفسهم.” هورن (Horne)
· “لا ينبغي أن نبغض الأشخاص بسبب الرذائل التي يمارسونها، ولا أن نحب الرذائل من أجل الأشخاص الذين يمارسونها.” هورن (Horne)
ج) الآيات (٢٣-٢٤): صلاة متواضعة إلى إله عظيم.
٢٣ٱخْتَبِرْنِي يَا ٱللهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. ٢٤وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا.
١. ٱخْتَبِرْنِي يَا ٱللهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي: جاء داود إلى إله المعرفة الكاملة والحضور المستمر، عالمًا أنه أيضًا إله محبة، وأنه يمكن الثقة به في أن يفحص قلبه ويعرفه على أعمق المستويات. وهذا أيضًا اعتراف بأن الله يعرف داود بشكل أفضل مما عرف داود نفسه. فاحتاج إلى الله ليفحصه ويعرفه.
· أخذ داود فهمه اللاهوتي لطبيعة الله وصفاته وقام بتطبيقها على تلمذته الشخصية. فلم تكن طبيعة الله وصفاته نظريات مجردة، بل كانت مرشدات إلى نموه الروحي.
· عرف داود أنه لم يكن قادرًا على أن يعرف قلبه في أعماقه. ولهذا طلب من الله أن يعرف قلبه. “كانت جوهرة الفلسفة اليونانية – ’أيها الإنسان، اعرف نفسك‘ – قيّمة حقًّا، لأنها جلبت الإنسان في مواجهة مع المستحيل.” مورجان (Morgan)
· “جاءت صلاة داود المتواضعة من أجل فحص قلبه والإرشاد بشكل جميل بعد انفجار صاحب المزمور الناري (ضد أعداء الله). فإنه أسهل لنا أن نتوهج بالسخط على فاعلي الإثم من أن نحفظ أنفسنا من فعل الشر. فقد تختبئ خطايا كثيرة تحت عباءة الحماسة للرب.” ماكلارين (Maclaren)
· “ينبع رفض الشر من روح تكريس صاحب المزمور للرب، لا من كبريائه. وهذا واضح من صلاته طالبًا من الرب أن يميز دوافعه وأعماله.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “أناشدك أن تكون حذرًا في استخدام هذه الصلاة. يَسْهُل عليك أن تستهزأ بالله طالبًا منه أن يفحصك بينما لم تبذلْ أي جهد من جهتك لفحص نفسك. وربما قمتَ بعمل أقل حول نتيجة فحصك.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ملفيل (Melvill)
٢. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي (دواعي قلقي واضطراباتي): أراد داود من الله أن يفحصه ويبحث عن القلق فيه. إذ يمكن أن يكون القلق والاضطراب دليلًا على عدم إيمان أو ثقة في غير محلها.
٣. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ: فتح داود نفسه أمام الله بشكل كامل، سائلًا إن كانت هنالك خطايا غير معروفة أو غير مدرَكة. ويبيّن هذا مدى اهتمام داود بقداسته في الحياة وتواضعه في الاعتراف بإمكان وجود أي طَرِيقٌ بَاطِلٌ فيه.
· عندما نصلي بإخلاص، فإن هذه صلاة خطرة. صحيح أنها صلاة جديرة، لكنها خطرة. الصلاة أمر جدير، لكن خطِر. “الصلاة أمر جِدّي لأنها تدعو إلى كشف مؤلم وجراحة إن كنا نقصد ذلك. ومع هذا ينبغي لكل مؤمن حكيم أن يرغب في هذا.” بويس (Boice)
· “تقول ترجمة الملك جيمس: ’وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ شرير.‘ لكن النسخة المنقّحة تضيف في الهامش ’طريق حزن.‘ ربما يشير هذا إلى أن هذا طريق يحزن الله رغم أنه ليس ما يطلق عليه الناس طريقًا شريرًا.” ميير (Meyer)
٤. وَٱهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا: أنهى داود هذا المزمور الجليل بإعلان وجهته – الطريق الأبدي. إذ ستوصل الثقة بإله المعرفة الكاملة والحضور الدائم داود إلى الحياة الأبدية. فكان طريق القداسة التي صلى من أجلها في السطور السابقة الطريق الأبدي.
· “لقد سرنا في طريق الحزن. نحن نرغب في الطريق الأبدي – طريق الحياة الأبدية، الطريق الذي لا نحتاج إلى العودة منه، الطريق الذي يلمس أعمق حياة ممكنة للمخلوق.” ميير (Meyer)
· “يمكن أن تترجم الكلمات الأخيرة إلى ’الطريق القديم‘ كما في إرميا ٦: ١٦ (كما في ترجمات إنجليزية)، لكن يبدو أن أغلبية المترجمين على حق في ترجمتها إلى ’طريق أبدي،‘ بالمقابلة مع طريق الأشرار التي تهلك.” كيدنر (Kidner)