تفسير سفر المزامير – مزمور ١٣٨
وعد الله بإكرام كلمته وإتمام عمله
هذا المزمور معنون مزمور لداود. وقد ذكر مفسرون كثيرون أنه وُضع بشكل ملائم إلى جوار المزمور ١٣٧ الذي يتحدث عن عجز صاحب المزمور على الترنيم أمام الوثنيين. والمزمور ١٣٨ إعلان أنه حتى ملوك الشعوب سيسبّحون الرب.
“هذا المزمور موضوع في مكانه بحكمة. فمن قام بتحرير هذه القصائد المقدسة، مرتِّبًا إياها، وضع عينًا على التشابه والتباين. فإذا رأينا في المزمور ١٣٧ الحاجة إلى الصمت أمام المُعَرْبِدين، نجد هنا تفوق الاعتراف الشجاع. فهنالك وقت لنصمت لئلا نطرح لآلئنا أمام الخنازير، وهنالك وقت للتكلم علنًا وصراحة لئلا نكون مذنبين في جبننا في عدم اعترافنا.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
“هنالك مزيج رائع من الجسارة والتواضع منذ البداية: الجسارة في الاعتراف بالرب أمام الآلهة، والتواضع والسجود أمامه.” ديريك كيدنر (Derek Kidner)
أولًا. إعلان التسبيح على الماضي
أ ) الآيات (١-٢أ): إعلان التسبيح (الحمد)
١أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. قُدَّامَ الآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ. ٢أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ…
١. أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي: بدأ داود هذه الترنيمة بإعلان جسور معلنًا أنه لن يمسك شيئًا في حمده لله. وسيفعل ذلك من كل القلب.
· مِنْ كُلِّ قَلْبِي: نحن نحتاج إلى قلب مكسور لنندب خطايانا، لكن إلى قلب كامل لتسبيح كمالات الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
· “لا يترك تعبير ’مِنْ كُلِّ قَلْبِي‘ أي مجال لدوافع مختلطة من التكريس المنقسم.” مورجان (Morgan)
٢. قُدَّامَ ٱلْآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ: لا يمكننا أن نتخيل أن داود قصد أنه سيحمد الله في حضور الأوثان وتماثيل الآلهة الأخرى. لكن توجد ثلاث أفكار حول ما قصده داود بالتسبيح قُدَّامَ ٱلْآلِهَةِ (إيلوهيم).
· ربما كان هذا إعلانًا بولائه للرب (يهوه) وحده، بينما تمثل ٱلْآلِهَةِ هنا أصنام الوثنيين.
· ربما تشير كلمة ٱلْآلِهَةِ (إيلوهيم) في هذا السياق إلى ملائكة، كما في مواضع أخرى من الكتاب المقدس.
· ربما تشير ٱلْآلِهَةِ إلى ملوك وقضاة، كما تدل الآية ٤ لاحقًا.
ü “شهادة ضد أهمية الأوثان…. يخص التسبيح والحمد الرب وحده، لا آلهة الشعوب الأخرى التي يتوجب على ملوكها أن يخضعوا للرب.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. أَسْجُدُ فِي (نحو) هَيْكَلِ قُدْسِكَ: رغم أن داود لم يكن في الهيكل، إلا أنه أدرك أن هذا الهيكل هو المكان المعيّن من الله للعبادة والذبائح. وسيعبد الله حسب توجيه الله.
· “حيثما أكون، سأوجّه قلبي، كعقرب الساعة، بغريزة مقدسة في تابوت عهد حضورك، في ابن محبتك.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٢ب-٣): أسباب الحمد والتسبيح
٢… عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ. ٣فِي يَوْمَ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي. شَجَّعْتَنِي قُوَّةً فِي نَفْسِي.
١. عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ: لم يكن تسبيح داود افتنانًا فارغًا. إذ كانت هنالك وراءه أسباب مثّلت أسسًا له. إذ فكّر في محبة الله العظيمة ومراحمه (بالعبرية حِسِدْ) تجاهه، وفي حقه الإلهي الراسخ. فقد أعطاه التأمل في هذه الهبات الإلهية أساسًا لروح التسبيح.
٢. لِأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ ٱسْمِكَ: بعد أن ذكر داود الحق الإلهي في السطر السابق، يضع الآن في اعتباره الطريقة الرئيسية التي يتم توصيل بها هذا الحق الإلهي إلينا، وهي كلمته. ويحمل الله تقديرًا عاليًا لكلمته حتى إنه عظّمها فوق اسمه، أي طبيعته الأدبية.
· هذه عبارة مذهلة رائعة تبيّن احترام الله الذي لا حد له لكلمته. فهو يحمل تقديرًا أكبر لكلمته من نفس طبيعته الأدبية أو اسمه.
· “كما لو أن الله يقول: ’أنا أثمّن نزاهتي فوق كل شيء آخر أريد أن يُصَدَّق.‘ ولا يعني هذا أن صفات الله الأخرى نُقلت إلى الصف الثاني.” بويس (Boice)
· شرح سبيرجن (Spurgeon) ثقته التامة بوحي الكتاب المقدس: “نحن نؤمن بالوحي اللفظي بشكل مطلق مع كل صعوباته في العقيدة التي لا تصل إلى نصف صعوبات أي نوع آخر من الإلهام الذي يتخيله البشر. فإن لم يكن هذا الكتاب الأساس المتين لديانتنا، فعلى أي شيء آخر يمكن أن نبني؟ فلو كذب الله، فأين نكون، أيها الإخوة؟”
٣. فِي يَوْمَ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي: كانت لدى داود أسباب عملية جدًّا أيضًا لتسبيح الله وحمده. فقد استجاب له الرب وأنقذه مرات كثيرة. وعندما كانت قوة داود تخذله، كان الله يجعله جسورًا معطيًا إياه قوة في نفسه.
· نلاحظ نمطًا مهمًّا في الأسباب التي قدّمها داود للتسبيح. فمن المهم أن نسبّح الله على طبيعته وهويته أكثر من الأشياء التي يفعلها من أجلنا.
ü سبّح الله أولًا على طبيعته – إله الرحمة والحق
ü ثم سبّح الله على إعلانه – كلمته التي عظّمها على كل اسمه.
ü ثم سبّح الله على ما فعله – استجاب لداود في وقت أزمة.
· شجّعتَني (جعلتني جسورًا): “يستخدم صاحب المزمور تعبيرًا لافتًا للنظر في قوله إن الرب شجعه. ويقول النص العبري ’جعلتني فخورًا.‘” ماكلارين (Maclaren)
· “إذا لم يتم رفع العبء، فقد أُعطيِتْ قوة لاحتماله. وهذا أسلوب فعال مساوٍ في العون.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. إعلان الثقة بالمستقبل
أ ) الآيات (٤-٦): تسبيح من ملوك الأرض.
٤يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ، إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ. ٥وَيُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ عَظِيمٌ. ٦لأَنَّ الرَّبَّ عَال وَيَرَى الْمُتَوَاضِعَ، أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ.
١. يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ ٱلْأَرْضِ: كان داود ملكًا على إسرائيل، وقد قدم تسابيح للرب. لكنه عرف أيضًا أنه سيأتي ذلك الوقت الذي سيسبّحه فيه كُلُّ مُلُوكِ ٱلْأَرْضِ، وسيفعلون ذلك استجابة لسماعهم كلمات فمه من الذين يعلنونها.
· رأى مورجان (Morgan) صلة بين استجابة الصلاة في الآيتين ٢-٣ والتسبيح المقدم من الملوك هنا. “ثم أعلن أن سبب تسبيح الرب هو رحمة الله وحقّه اللذان أُظهِرا بالفعل. ويفترض أن يتمثل تأثير التسبيح في أن يُعلن الله للآخرين من الذين يعرفونه ويسبّحونه.”
· إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ: “يرجّح أن هذا يعني أن هذا سيحدث عندما يعلن الله ممن يعرفون الله وينقلون كلامه لهم. وبعبارة أخرى، فإن المزمور يقر بالحاجة إلى أشخاص أتقياء ليكونوا مرسَلين.” بويس (Boice)
٢. يُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ ٱلرَّبِّ: لن يسبّح ملوك الأرض الرب بكلمات فحسب، بل أيضًا بالترنيم، وستكون هذه استجابتهم لفهمهم لعظمة مجد الله.
٣. وَيَرَى ٱلْمُتَوَاضِعَ: فهِمَ داود أن الله عظيم في مجده، وأنه عالٍ. غير أنه يضع المتواضع في اعتباره ويقدّره تقديرًا عاليًا. ومن جهة أخرى، فإنه ينأى بنفسه عن المتكبرين (أَمَّا ٱلْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ).
· “رغم أن الله عظيم بلا حدود، إلاّ أنه يقدّر الأدنى الذي يُعَد أقل قيمة من بين خليقته. لكن المتواضع والمبتلى يجتذب اهتمامه على نحو خاص.” كلارك (Clarke)
· “ٱلْمُتَوَاضِعَ، أو الحقير، أو المغمور في العالم، يراني أنا الراعي المسكين المحتقر الذي فضّلني على الرؤساء العظماء. يضع الله عينه على مثل هؤلاء الأشخاص.” بوله (Poole)
· إن عبارة داود أن الله “يَرَى ٱلْمُتَوَاضِعَ، أَمَّا ٱلْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ” طريقة أخرى للتعبير عن الحق المتضمن في سفر الأمثال ٣: ٣٤ التي تكرَّر مرتين في العهد الجديد: “يُقَاوِمُ ٱللهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.” (يعقوب ٤: ٦؛ ١ بطرس ٥: ٥).
· “ينظر الله إلى الأشياء الوضيعة لكي يرفعها. وأما الأشياء العالية فينظر إليها من بعيد، لكي يسحقها إلى أسفل. دفع الفريسي المتكبر نفسه ليكون قريبًا من الله قدر الإمكان. وأما العشّار فلم يجرؤ على فعل ذلك، فوقف بعيدًا. لكن الله كان بعيدًا عن الفريسي، وقريبًا من العشّار.” تراب (Trapp)
· “يفتخر المتكبرون بصوت عالٍ بثقافتهم وحرية الفكر حتى إنهم يتجاسرون على خالقهم. لكنه يعرفهم من بعيد، وسيبقيهم على مسافة بعيدة منه في هذه الحياة، وسيغلق عليهم في الجحيم في الحياة الأخرى.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٧-٨): ثقة داود الراسخة من جهة المستقبل.
٧إِنْ سَلَكْتُ فِي وَسَطِ الضِّيْقِ تُحْيِنِي. عَلَى غَضَبِ أَعْدَائِي تَمُدُّ يَدَكَ، وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ. ٨الرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي. يَا رَبُّ، رَحْمَتُكَ إِلَى الأَبَدِ. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لاَ تَتَخَلَّ.
١. إِنْ سَلَكْتُ فِي وَسَطِ ٱلضِّيْقِ تُحْيِنِي: عندما وضع داود عظمة الله ولطفه وكرمه تجاه المتواضعين في الاعتبار (الآيات ٤-٦)، تولَّدتْ لديه ثقة بأن الله سينعشه في ضيقه الحالي. فمن شأن فَهْم عظمة الله ولطفه أن يبني إيمان المرء.
٢. وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ: عندما يأتي عون الله، فإنه يأتي بمهارة وقوة (يَمِينُكَ). وسيدافع الله عن داود من غضب أعدائه.
· “تضربهم بشمالك، وتخلّصني بيمينك.” تراب (Trapp)
· “قد يكون الأعداء كثيرين وخبثاء وأقوياء، لكن ليس على مدافعنا العظيم إلا أن يمد ذراعه لتختفي جيوشهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. ٱلرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي (الرب يكمِّل ما يخُصّني): كان ذلك إعلان داود الواثق. فقد عرف أن للرب خطة من جهته، وأن إله العظمة والصلاح سيكمل هذه الخطة بشكل مؤكد.
· “هذه لغة الثقة القصوى…. ولا يرتكز الرجاء على تصميم المرنم، بل على الرب.” مورجان (Morgan)
· هذه طريقة أخرى للتعبير عن الوعد العظيم في فيلبي ١: ٦: “وَاثِقًا بِهَذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلًا صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.”
· كان بمقدور أن يفكر بالوعد المعيّن (٢ صموئيل) الذي قطعه الله له – أن يحكم نسله إلى الأبد، حيث يتحقق هذا بشكل خاص في المسيّا. والمبدأ صحيح لكل مؤمن في ما يتعلق بالوعد ومسار الحياة الذي عيّنه الله له.
· لاحظ ماكلارين (Maclaren) الصلة بين ’ٱلرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي‘ و ’يَا رَبُّ، رَحْمَتُكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ.‘ “يمكن لكل إنسان بدأ الروح القدس في تشكيله، أو بدأت نعمته بفتحِ هباتها بأي شكل من الأشكال، أن يتقيّن من أن نفادها أو تغييرها أمر غير ممكن.”
٤. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لَا تَتَخَلَّ: عرف داود – بثقةٍ برحمة الله (حِسِدْ) التي لا تنتهي – أن الرب لن يتخلى عنه، لأنه يخص الله بالخلق والفداء.
· “صلت الملكة إليزابيث: ’انظر، يا رب، إلى جراح يديك، ولا تتخلَّ عن أعمال يديك.‘ وكانت صلاة لوثر العادية هي: ’ثبِّتْ فينا، يا رب، ما صنعتَه، وأكمِل العمل الذي بدأته فينا لمجدك. آمين.‘” تراب (Trapp)
· “شكّلت يداه الخالقتان نفوسنا في البداية، وافتدتها اليدان المثقوبتان بالمسامير على الجلجثة. وتمسك يداه الممجدتان نفوسنا بقوة ولن تفلتاها أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيرجون (Burgon)