تفسير سفر المزامير – مزمور ٩
الله يتذكر والإنسان ينسى
يقول عنوان هذا المزمور: “لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «مَوْتِ ٱلِٱبْنِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ“. يشير العنوان هذا إلى أن داود كتب هذا المزمور إلى الله نفسه (الذي يُعَد بشكل عام أنه “إمام المغنين” أو الموسيقيين) على لحن معروف في زمنه، (وهو بالعبرية “مُوْث لابِّن” Muth Labben). وفي هذا المزمور، يحتفل داود بعون الله وصلاحه برؤية كبيرة للأمم.
ومع أن معظم المفسرين يعتقدون أن “مُوْث لابِّن” يشير إلى لحن، يرى آخرون أنها آلة موسيقية عُزِف المزمور عليها. ويربط بعضهم (كما في حالة نسخة الملك جيمس) العنوان بالكلمتين “مُوْث لابِّن” ويطبقون هذا العنوان التالي، كما تفعل النسخة الكلدانية: “بخصوص البطل الذي خرج من بين المعسكرات،” في إشارة إلى جليات. ولعل داود كتب هذا المزمور متذكرًا نصره على جليات من وجهة نظر مواتية لسنوات كثيرة منذ ذلك النصر.
“ومن هذه النقطة في سفر المزامير إلى المزمور ١٤٨، تختلف نسخ الترجمات حول ترقيم المزامير، حيث إن الترجمة السبعينية والفلجاتا، التي اتبعتها الكنيسة الكاثوليكية، تَعُدّان المزمورين التاسع والعاشر قصيدة واحدة، بينما تتبع الكنائس البروتستانتية الترتيب العبري.” ديريك كيدنر (Derek Kidner)
أولًا. تسبيح لله على كيفية تعامله مع عدو
أ ) الآيات (١-٢): تسابيح لله الذي يفعل أشياء عظيمة.
١أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي. أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. ٢أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ. أُرَنِّمُ لاسْمِكَ أَيُّهَا الْعَلِيُّ.
١. أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي: أدرك داود أن الله مستحقٌ للحمد والتسبيح بكل القلب. وينبغي أن يوجَّه الكيان كله في محبة له.
· “ليس نصف القلب قلبًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “نحن لا نحمد الله بشفاهنا كثيرًا، إذا حمدناه أصلًا. وعندما نفعل ذلك، إذا فعلنا ذلك، فإننا نحمده بنصف القلب… بل إنه صحيح في أن المؤمنين بالمسيح في مرات أكثر يتذمرون من الكيفية التي يعامل بهم الله، ويواصلون الحديث بإفراط عن احتياجاتهم أو رغباتهم أو أقاويلهم.” بويس (Boice)
٢. أُحَدِّثُ أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ: هنا يصف داود طريقة مهمة لحمد الله وتسبيحه، وهي غالبًا ما تُهمل، وهي أن نحدّث بِجَمِيعِ عَجَائِبِهِ. ويمثّل مجرد تذكُّر الأشياء العظيمة التي فعلها الله والتحدث عنها طريقة رائعة لتسبيحه.
· “نادرًا ما يتحدث من يدعون أنهم أتباع المسيح عن الله! فما هو السبب؟ لأنهم لا يملكون ما يقولونه.” كلارك (Clarke)
· عَجَائِبِكَ: “يأتي تعبير ’أعمال (أشياء) عجيبة‘ في كلمة واحدة في العبرية (كما هو الحال في العربية)، وتتكرر بشكل خاص في المزامير، وهي تشير إلى المعجزات الفدائية العظيمة (مثلًا مزمور ٧:١٠٦، ٢٢)، وبصورة أقل في الإشارة إلى مثيلاتها في الخبرات اليومية (انظر ١٧:٧١)، وإلى الأمجاد الخفية لكلمة الله مزمور ١٨:١١٩).” كيدنر (Kidner)
· استطاع داود أن يرى أن “اليوم ممتلئ بالله وبإنقاذاته العجيبة، تمامًا كما كان بالنسبة له في الأيام المقدسة من تاريخه الوطني.” ماكلارين (Maclaren)
٣. أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ: وجد داود هنا طريقة ثانية لتسبيح الله، وهي بإيجاد سروره وفرحه فيه والتعبير عنهما. والفكرة هنا هي أن نكرم طبيعة الله الأدبية والاحتفاء بها، مدركين أنه ٱلْعَلِيُّ.
٤. أُرَنِّمُ لاسْمِكَ أَيُّهَا الْعَلِيُّ: يذكر داود هنا طريقة أخرى لتسبيح الرب من كل قلبه: الترنم لاسم الله العلي. والفكرة هي تمجيد الله وإكرامه والاحتفال بشخصه وبطبيعته، والإعلان بأنه الْعَلِيّ.
· أَيُّهَا ٱلْعَلِيُّ: “كان ملكيصادق أول من دعا الله بصفته ٱلْعَلِيَّ (تكوين ١٩:١٤-٢٠) في مناسبة شبيهة متعلقة بداود هنا.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٣-٥): يحمد داود الله على دفاعه له ضد أعدائه.
٣عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ، يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، ٤لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ. جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلاً. ٥انْتَهَرْتَ الأُمَمَ. أَهْلَكْتَ الشِّرِّيرَ. مَحَوْتَ اسْمَهُمْ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.
١. عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ، يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ: وصف داود في أول آيتين من المزمور أسبابًا عامة لحمد الله وتسبيحه، وهي أسباب مشروعة دائمًا. وهو الآن يذكر سببًا آخر أكثر تحديدًا. وهو يحمد الله على الطريقة التي بها هزم العليّ أعداءه.
٢. لِأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ: رأى داود الله وهو يتحرك ضد أعدائه بالدفاع عنه بناءً على مبدأ الصواب والخطأ في صراعه.
· يبيّن هذا أن إله داود، أي إله الكتاب المقدس، مهتم بمسائل الصواب والخطأ بين البشر. فهو ليس محايدًا دائمًا في الصراعات البشرية. إنه صحيح تمامًا أن الناس قد يظنون أن الله إلى جانبهم بينما هو ليس كذلك، وربما يكون ضد كِلا الطرفين في نزاع ما. لكن، تحت وحي الروح القدس، كان بمقدور داود أن يقول: لِأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ.
· لا ينبغي فهْمنا لهذا أن يدفعنا إلى الادعاء بشكل آلي أن الله إلى جانبنا في معاركنا ونزاعاتنا. بل يفترض أن يدفعنا إلى أن نحاول أن نكون إلى جانب الله، بأن نلتزم بكلمته.
٣. جَلَسْتَ عَلَى ٱلْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلًا. ٱنْتَهَرْتَ ٱلْأُمَمَ… مَحَوْتَ ٱسْمَهُمْ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ: رأى داود الله يعمل بين ٱلْأُمَمَ، مدينًا الأشرار بعدل.
· وبالتضمين، نرى أيضًا أن داود برر الأبرار ودافع عنهم – لأنه كان نفسه في هذا الوضع.
· “يدل استخدام صيغة الماضي في الآيات ٥-٨ على “اكتمال نبوي،” وهذه سمة من سمات العهد القديم. فهي تصف أحداثًا مستقبلة وكأنها حدثت بالفعل. فتحقيقها مؤكد جدًّا، ورؤيتها واضحة جدًّا أيضًا.” كيدنر (Kidner)
ج) الآيات (٦-٨): يحتفل داود بانتصار الرب.
٦اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَدَمْتَ مُدُنًا. بَادَ ذِكْرُهُ نَفْسُهُ. ٧أَمَّا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ. ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ، ٨وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ.
١. اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى ٱلْأَبَدِ: حوّل داود من التركيز على الرب بشكل مباشر إلى مخاطبة الأشرار الذين هزمهم الرب. وأكد داود لهم أن عملهم الشرير في التخريب سينتهي بلا جدوى.
· “يُستعاض عن استعارة كرسي للدينونة بوصف انتصاري للخراب الواقع على أرض العدو، حيث يُدرَك أن الله وحده هو الفاعل.” ماكلارين (Maclaren)
٢. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ يَجْلِسُ: ربما توقعنا أن يضع داود نفسه في مقابلة مع الأشرار، غير أنه كان حكيمًا بما يكفي لأن يتواضع فيعرف أن الله سيدين الأشرار على كونهم أعداء لله أكثر منهم أعداء لداود.
٣. وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِٱلْعَدْلِ. يَدِينُ ٱلشُّعُوبَ بِٱلِٱسْتِقَامَةِ: يتطلع داود إلى حكم الله النهائي والمطلق على كل الشعوب. وسيكون هذا تعبيرًا كاملًا عن حكم الله العادل.
· “هذا المزمور نمط عظيم للتسبيح على مستوى مهمل جدًّا في أيامنا. فنحن نحمد الله ونسبّحه على رحمته. وهذا أمر صحيح، لكنه أمر جيد أن ندرك حكمه البار العادل وأن نسبّحه على ذلك.” مورجان (Morgan)
· بعد ألف سنة من زمن داود، اقتبس الرسول بولس هذا الشطر الشعري في أريوس باغوس: “لِأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ.” (أعمال الرسل ٣١:١٧).
ثانيًا. حمد لله على كيفية معاملة المظلومين والمقموعين
أ ) الآيات (٩-١٠): الله ملجأ جدير بالثقة.
٩وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ. مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ. ١٠وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ.
١. وَيَكُونُ ٱلرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ: يعبّر هنا عن امتنانه لله على أنه فعل أكثر من مجرد دينونته للأشرار. إذ كان أيضًا ملجأً ودعمًا للمنسحقين على أيدي الأشرار.
· أَزْمِنَة ٱلضِّيقِ: يقول ماكلارين (Maclaren) إن هذا التعبير ترجمة لكلمة نادرة، وهي “لا ترد إلا هنا وفي مزمور ١:١٠. وهي تعني القطع، أي قطع الأمل في الإنقاذ. وتتكثّف فكرة الضيق فتوصل إلى اليأس.”
٢. وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ ٱلْعَارِفُونَ ٱسْمَكَ: عرف داود أن الله لا يقدم عونه لمجرد أنه يفضل بعض الناس ويقاوم آخرين، بل لأن لهم علاقة به (ٱلْعَارِفُونَ ٱسْمَكَ)، ويثقون به (وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ)، وهم يطلبونه (طَالِبِيكَ).
· إنها لمحنة خطيرة لابنٍ لله أن يشعر بأنه متروك من الله. هنالك أوقات معينة يمكن فيها أن نشعر بأن الرب تركنا.
ü عندما نخطئ.
ü عندما نواجه خطرًا عظيمًا.
ü عندما يكون لدينا عمل ما هائل ينبغي أن نقوم به.
ü عندما نشعر بأن صلواتنا لا تستجاب.
· يمكننا أن نجد ملجأً في طلبنا لله وفي معرفة اسمه. “إن معرفة ’اسمك‘ هنا مكافئ لمعرفة طبيعة الله الأدبية كما تعلنه أعماله.” ماكلارين (Maclaren)
· “نحن لا نثق برجل حتى نعرفه، والرجال السيئون معروفون أكثر مما هم موضع ثقة. وليس الرب هكذا، فحيث يُسكَب اسمه كدهن مهراق، فإن العذارى يحببنه، ويخشينه، ويبتهجن به، ويطمئن إليه.” تراب (Trapp)
· “يشكو الرجال من قلة إيمانهم. والحل هو في أيديهم. دعهم يصمموا على أن يعرفوا الله… لكن هذا يتطلب أن تفسح وقتًا. فلا يمكنك أن تعرف الله من خلال مقابلات متعجلة، فما بالك بالله نفسه! ولهذا يتوجب أن تنقع نفسك في أفكار عميقة طويلة من القرب إليه ومحبته.” ميير (Meyer)
ب) الآيات (١١-١٢): تسبيح لله الذي يتذكر شعبه.
١١رَنِّمُوا لِلرَّبِّ السَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ، أَخْبِرُوا بَيْنَ الشُّعُوبِبِأَفْعَالِهِ. ١٢لأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِالدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ الْمَسَاكِينِ.
١. رَنِّمُوا لِلرَّبِّ: حثّ داود الآخرين على أن يفعلوا ما سبق أن فعله في هذا المزمور – أن يسبّحوا الرب ويرنموا له وأن يخبروا بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ.
· “يُضم الترنيم والتعليم معًا كوسيلة لتمجيد الله. وإنه لجدير بالذكر، في ما يتعلق بانتعاشات خدمة الإنجيل، أنه كانت هنالك فوراتٌ مفاجئة لروح الترنيم. فكانت مزامير لوثر وترانيمه على كل فم. وفي الانتعاش الحديث بقيادة ويسلي ووايتفيلد، كانت جهود تشارلز ويسلي، وسينيك، وبيريج، وتوبليدي، وهارت، ونيوتون، وآخرين كثيرين ثمرة للتقوى المستردة.” سبيرجن (Spurgeon)
· يوصل داود هنا شيئًا يعرفه الذين يسبّحون الله. فعندما يسبّحون الله، فإنهم يجتذبون الآخرين للاشتراك معهم في تسبيح مماثل.
٢. لِأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِٱلدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ ٱلْمَسَاكِينِ: دعا داود الآخرين إلى حمد الله وتسبيحه لنفس الأسباب التي حمده وسبّحه عليها، وبشكل خاص لأنه يناصر المظلومين والمتواضعين، حتى إنه يطالب بدمائهم (لِأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِٱلدِّمَاء).
· تخبرنا الآيات في سفر العدد ٣٣:٣٥-٣٤ أن دم جرائم القتل التي لم يتم الانتقام له يلوّث الأرض. وقد خاطب دم هايين الله (سفر التكوين ١٠:٤)، ورأى الله دم نابال (سفر ملوك الثاني ٢٦:٩). ووعد الله بأن ينتقم للدم وأن يتذكر المقتول. “إن وصف الله بأنه مطالب بالدماء يجعله المنتقم، ويعني المطالب هنا، أي أنه يريد أن يسترد… يريد التعويض أو الترضية. ويعني هذا في نهاية الأمر أنه سينتقم ويعاقب.” ماكلارين (Maclaren)
· يذكّرنا هذا بأن الله سيتذكر فينتقم لدماء شعبه المضطهد. “أيها المضطهدون، سيأتي وقت يُجري فيه الله تحقيقًا صارمًا حول دم هوبر، وبرادفورد، ولاتيمير، وتيلور، وريدلي، وغيرهم. وهنالك وقت سيحقق فيه الله حول من الذي أخرسَ وعلّق الخادم الفلاني، والذي سدَّ فم الخادم الفلاني، والذي سجنَ وحجزَ ونفى الخادم الفلاني، والذين كانوا ذات يوم أنوارًا مشتعلة ساطعة، والذين كانوا مستعدين أن يُنفِقوا ويُنفَقوا لكي يخلص خطاة، ولكي يتمجد المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (١٣-١٤): استرحام إلى الله الذي يتذكر.
١٣اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. انْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِالْمَوْتِ، ١٤لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابْنَةِ صِهْيَوْنَ، مُبْتَهِجًا بِخَلاَصِكَ.
١. اِرْحَمْنِي يَارَبُّ: سبق أن وضع داود في اعتباره أنه لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ ٱلْمَسَاكِينِ المتواضعين. وهو الآن يريد من الله أن يتذكره في وقت ضيقه (ٱنْظُرْ مَذَلَّتِي (ضيقي) مِنْ مُبْغِضِيَّ).
· يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ٱبْنَةِ صِهْيَوْنَ: “إن المقابلة بين أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ وأَبْوَابِ أورشليم الجديدة مذهلة جدًّا. دعنا نملأ ترانيمنا حماسةً إلى أعلى نغمة وأكثرها جَذَلًا بتأمُّلنا المضاعف إلى أين نؤخذ.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ: أراد داود من الله أن ينقذه لكي يقدم لله مزيدًا من التسابيح تكون أكثر اتقادًا في العاطفة في ابتهاجه بخلاص الله.
· والفكرة هنا هي أن ما يخطر بفكر داود هو أكثر بكثير من منفعته الشخصية وخيره الخاص، حتى إن إنقاذه سيكون طريقة لجلب مزيد من المجد لله. فلم ينظر داود إلى إنقاذه بصفته الهدف النهائي. فالهدف هو دائمًا مجد أعظم لله.
· مُبْتَهِجًا بِخَلَاصِكَ: “إنه لأمر جيد للشخص السوداوي أن يؤمن بالمسيح. وإنه لأمر مؤسف جدًا للمؤمن بالمسيح أن يصبح سوداويًّا. إن كان هنالك شخص له الحق في أن يكون وجهه ساطعًا وصافيًا وعيناه وامضتين، فإنه الشخص الذي غُفرت خطاياه، والذي نال خلاص الله.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١٥-١٦): مصير الأشرار.
١٥تَوَرَّطَتِ الأُمَمُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا. فِي الشَّبَكَةِ الَّتِي أَخْفَوْهَا انْتَشَبَتْ أَرْجُلُهُمْ. ١٦مَعْرُوفٌ هُوَ الرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى. الشِّرِّيرُ يَعْلَقُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. ضَرْبُ الأَوْتَارِ. سِلاَهْ.
١. تَوَرَّطَتِ ٱلْأُمَمُ فِي ٱلْحُفْرَةِ ٱلَّتِي عَمِلُوهَا: فهِم داود أن انتصار الله كان تامًّا حتى إن أعداءه وقعوا في نفس الفخ الذي نصبوه للآخرين. فحتى أفضل الخطط والجهود التي تقاوم الله ستخدم قصده في نهاية الأمر.
· يَظهر هذا النمط مرارًا وتكرارًا في كلمة الله.
ü تآمر عيسو وإسحق على قصد الله، وانتهى ذلك إلى خدمة قصده.
ü حارب إخوة يوسف خطة الله، فعززوها بدلًا من ذلك.
ü بنى هامان مشنقة لمردخاي اليهودي ليُعدَم هو نفسه عليها.
ü خان يهوذا يسوع، فصار هو نفسه تتميمًا للنبوّة.
· وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يبرر الشر الذي يقوم به الأشخاص. فرغم أن خيانة يهوذا أرسلت يسوع إلى الصليب، إلا أنه دُعي بحق “ابن الهلاك” (ذاك المقدَّر للهلاك) على فعلته الشريرة (يوحنا ١٢:١٧).
· “لا يوجد شيء يفعله الشرير لا يكون ضد مصلحته الخاصة. فهو يؤذي نفسه باستمرار، وهو يبذل جهودًا لتدمير نفسه أكثر مما يبذله البار لكي يخلص للحياة الأبدية. وهذه حقيقة ذات شأن عظيم. ويضيف صاحب المزمور: ’سِلاَهْ‘ أي، تأملْ ذلك. انتبه له جيدًا.” كلارك (Clarke)
٢. مَعْرُوفٌ هُوَ ٱلرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى (الرب معروف بالدينونة التي ينفّذها): تظهر عظمة الله في الطريقة التي يستخدم بها خطط الأشرار وجهودهم، جالبًا قَضَاء عادل عليهم أيضًا.
ج. احتكام إلى الإله الذي يقضي بشكل بار
أ ) الآيات (١٧-١٨): سيتعامل الله مع كل من الأشرار والمتواضعين.
١٧اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، كُلُّ الأُمَمِ النَّاسِينَ اللهَ. ١٨لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى الْمِسْكِينُ إِلَى الأَبَدِ. رَجَاءُ الْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى الدَّهْرِ.
١. اَلْأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ (الجحيم): يقترب داود هنا إلى نهاية المزمور، وهو ينظر إلى نهاية الأشرار – الهلاك النهائي في الجحيم.
· في أنماط الشعر العبري، يمكن اعتبار الكلمات “كُلُّ ٱلْأُمَمِ ٱلنَّاسِينَ ٱللهَ” مجرد طريقة أخرى في وصف الأشرار المذكورين في الشطر الأول. غير أن هذا تكرار مفيد، مذكِّرًا إيانا بالخطية العظيمة المتأصلة في نسيان الله.
· ما الذي ينساه الخاطئ عن الله؟
ü ينسى الإنسان جلال الله ومجده غير المحدودين.
ü ينسى الإنسان مراحم الله.
ü ينسى الإنسان شرائع الله.
ü ينسى الإنسان حضور الله.
ü ينسى الإنسان عدالة الله.
· لماذا ينسى الخاطئ الله؟
ü ينسى الإنسان الله لأن التفكير فيه يخيفه.
ü ينسى الإنسان الله لأن فكرة الله لا تسلّيه كثيرًا بما يكفي.
ü ينسى الإنسان الله لأن فكرة الله تُصَعّب عليه الاستمرار في الخطية.
· “إن ناسي الله يفوق عددهم الدنسين أو الفاسقين. وحسب التعبير القوي في العبرية، فإن أعمق أعماق الجحيم سيكون المكان الذي سيُلقى فيه هؤلاء كلهم بلا تردد. قد يبدو النسيان خطية صغيرة، لكنها تجلب غضبًا أبديًّا على الشخص الذي يحيا ويموت فيها.” سبيرجن (Spurgeon)
· اَلْأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ: “يكرر النص العبري هنا كلمة ’إلى‘ مرتين، أي إلى أعمق أعماق الجحيم، أدنى زنزانة في الجحيم… يقول المعلم اليهودي سولومون إنهم سيُحملون من الدينونة إلى الجحيم، ومن الدينونة سيُرجَعون إلى أعمق حفرة في الجحيم.” تراب (Trapp)
٢. لِأَنَّهُ لَا يُنْسَى ٱلْمِسْكِينُ إِلَى ٱلْأَبَدِ: يقدم داود هنا مقارنة جميلة. يحاول الأشرار أن ينسوا الله، غير أن المساكين والمحتاجين (وهم هنا الأتقياء الذين يضطهدهم أعداء الله) لا يُنسَون.
· لَا يُنْسَى: يذكّرنا هذا من منظور المحتاجين والمساكين بأنهم قد يشعرون بأنهم منسيون، غير أن الإله الصالح يَعِد بأنهم لن يشعروا هذا الشعور دائمًا، وأن رجاءهم أو توقّعهم لن يخيب إلى الأبد.
· الشعور بالنسيان وخيبة الأمل من أكثر المشاعر إيلامًا. ويقطع الله هذه الوعود الرائعة بأنهم لن يُنسوا وأن رجاءهم لن يخيب.
ü لن تُنسوا دائمًا عند كرسي الرحمة، فواصلوا الصلاة.
ü لن تُنسوا دائمًا في الكلمة، فواصلوا القراءة.
ü لن تُنسوا دائمًا من المنبر، فواصلوا الاستماع.
ü لن تُنسوا دائمًا عند مائدة الرب، فواصلوا الاشتراك فيها.
ü لن تُنسوا دائمًا في خدمتك، فواصل الخدمة.
ü توقعوا أن تحصلوا على سلام من يسوع. فستحصلون على السلام فيه.
ü توقعوا أن تنتصروا على الخطية. فستحصلون على النصرة فيه.
ü توقعوا أن تخرجوا من محنتكم. ففيه ستحصلون على تحرير.
ü توقعوا أن تصبحوا أن تكونوا أقوياء في الإيمان. ففيه ستتقوّون.
ü توقعوا أن تحصلوا على أفراح وخبرات روحية. وستحصلون عليها فيه.
· “لا يُنسى أبدًا المساكين والمحتاجون الذين رجاؤهم في الرب، رغم أن الإنقاذ يمكن أن يؤجل من أجل إرباك أكبر لأعدائهم، ولإظهار أعظم لرحمة الله، ولمنفعة أكبر لهؤلاء المساكين والمحتاجين.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (١٩-٢٠): مناشدة لله أن يمجد نفسه بين الأمم.
١٩قُمْ يَا رَبُّ. لاَ يَعْتَزَّ الإِنْسَانُ. لِتُحَاكَمِ الأُمَمُ قُدَّامَكَ. ٢٠يَا رَبُّ اجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْبًا لِيَعْلَمَ الأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. سِلاَهْ.
١. قُمْ يَا رَبُّ: سبق أن عبّر داود في مرحلة مبكرة من هذا المزمور ثقة راسخة بدينونة الله للأشرار وتبرئة الأبرار. ولكن داود لم يسمح لهذا التوقع بأن يجعله سلبيًّا أو قدّرِيًّا في ما يتعلق بتنفيذ خطة الله. وبدلًا من ذلك، صلى بجسارة: “قُمْ يَا رَبُّ. لَا يَعْتَزَّ ٱلْإِنْسَانُ.” (أي لا تَدَعْ هَؤُلَاءِ النَّاسَ يَتَقَوَّوْا).
· “الصلوات هي أسلحة الكنيسة… فبها تكون مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ. هي تصلي حتى يسقط أعداؤها.” تراب (Trapp)
· “تؤكد كلمة ’الإنسان‘ في كلتا الآيتين هشاشته.” كيدنر (Kidner)
· “إذا جُمِعت معًا ثروة كروسوس، وحكمة سليمان، وفصاحة ديموسثينيس، فإنها لا تجعل مالكها إلا مجرد بشر. ليتنا نتذكر ذلك لئلا نكون أسرى للخوف، مثل الأشخاص المُشار إليهم في النص.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِتُحَاكَمِ ٱلْأُمَمُ قُدَّامَكَ. يَارَبُّ ٱجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْبًا لِيَعْلَمَ ٱلْأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ: يعبّر داود مرة أخرى عن ثقته بدينونة الله على الأشرار. غير أن هذا لم يؤدِّ هذا بداود إلى كراهية للجنس البشري أو إلى فرح غير صحي في الدينونة. إذ كان رجاؤه الحقيقي في أن إظهار دينونة الله أن تعلّم الأمم مكانهم الصحيح أمام الله. فهم مجرد بَشَر.
· هذا أمر يدعو إلى التواضع. فكما سبق أن لاحظ داود في هذا المزمور، فإن الله يتذكر المتواضعين (المساكين) (مزمور ١٢:٩). فهذه صلاة لله لكي يصل إلى الأمم من خلال إظهار دينونته.
· “إنه لغريب أن هذا الإنسان – الذي هو تراب في أصله، وآثمٌ بسبب سقوطه، والذي يُذكَّر باستمرار بما فيه وحوْله معًا – يحتاج إلى محنة قوية، أو إلى افتقاد قاسٍ من الله، لكي يعرف نفسه ويجعله يشعر وفق هويته وماهيته.” هورن (Horne)
· “وهكذا ينتهي الجزءان من المزمور باحتمال أن تأتي الأمم إلى معرفة اسم الرب الذي يناشد الذين اختبروا خلاصه أن يعلنوا بين الشعوب أعماله، وبصلاة أن يُعلِّم الله الشعوب التي نسيته عن طريق التأديب ما لم يتعلموه من مراحمه.” ماكلارين (Maclaren)
· “فأية صلاة يمكننا أن نصلي تكون أكثر أهمية من الصلاة أن تعرف الشعوب أنها مجرد بشر؟ ستدفعهم معرفة كهذه إلى الاعتماد على الله. وسيشكل هذا الاعتماد سر القوة الوطنية، والازدهار الوطني، والديمومة.” مورجان (Morgan)