تفسير سفر المزامير – مزمور ٣٤
تسبيح من الكهف
هذا المزمور معنون: لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَٱنْطَلَقَ. بينما كان داود طريدًا من شاول، ذهب إلى مدينة جت الفلسطينية، لكنه لم يجد مأوى هناك، ونجا بشقّ النفس. وهذه الأحداث مدوّنة في سفر صموئيل الأول ١٠:٢١–١:٢٢. وبعد، ذلك توجّه داود إلى كهف في عدلّام حيث انضمّ إليه رجال يائسون. ويبدو أن هذه الترنيمة الفرحة الحكيمة كُتبت في ذلك الكهف، ورنّمها أمام أولئك الرجال.
بُنية هذا المزمور أُكروستية تقريبًا، حيث تبدأ كل آية بحرف مختلف متسلسل من الحروف الأبجدية العبرية باستثناء حرف الواو. ويبدو أن الغرض الأساسي لهذه البُنية الشعرية هو التشجيع على التعلم والاستظهار.
يرجّح أن ’أَبِيمَالِكَ‘ لقب يعطى للحكام بين الفلسطينيين. وكان الاسم الحقيقي لذلك الحاكم الفلسطيني هو أخيش (سفر صموئيل الأول ١٠:٢١).
أولًا. دعوة شعب الله إلى التسبيح
أ ) الآيات (١-٢): حياة تفيض بالتسبيح.
١أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِمًا تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي. ٢بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ.
١. أُبَارِكُ ٱلرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ: في ضوء عنوان هذا المزمور وخلفيته التاريخية، نرى داود منتصرًا يتنفس الصُّعَداء بعد إنقاذ الله له عندما احتجزه الفلسطينيون (سفر صموئيل الأول ١٠:٢١– ١:٢٢).
· “ربما تظاهر داود بأنه أحمق. لكنه لم يكن أحمق بما يكفي لإغفال الشكر لله الذي كان يمثل حكمته الوحيدة. ربما كان مختفيًا في كهف مُوْحِش، لكن هذا المزمور يخبرنا بأنه كان يختبئ في الرب.” بويس (Boice)
· دَائِمًا تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي: “ليس في قلبي فحسب، بل في فمي أيضًا. لا ينبغي أن يكون شُكرنا أخرس. ينبغي أن يكون من بنات الموسيقى.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي: ربما كان بإمكان داود أن يفتخر بنفسه. إذ تصف رواية سفر صموئيل الأول كيف أنه اكتسب حريته بالتظاهر بالجنون، لكنه عرف أن سير الأمور كلها، بما في ذلك تظاهره بالجنون، في يد الله. ولهذا فإنه هو المستحق للشكر.
· “يا لَهذا المجال الواسع للتفاخر المقدس بالرب! فشخصه، وصفاته، وعهده، ووعوده، وأعماله، إضافة إلى ألف شيء آخر، كلها لا تقارن، ولا تضاهى، ولا مثيل لها. يمكننا أن نهتف لها كما نشاء، لكننا لن ندان على أننا نقول كلامًا باطلًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· لكن لم يكن لدى داود، بمعنى ما، الكثير ليفتخر به من منظور بشري. إذ أذل نفسه بالتظاهر كشخص مجنون لينجو من الفلسطينيين الذين سعى إلى اللجوء إليهم، حتى وهو يجلب معه سيف جليات إلى جت!
· ولهذا فإن تفاخر داود كان متضعًا، حيث كان يفتخر بالرب وربما بعض الشيء بإذلاله. “ربما تذكّر بولس في نصّه العظيم حول الافتخار، هذا القول وهذا المشهد، وتذكَّر هروبه البغيض من ملك أجنبي (رسالة كورنثوس الثانية ٣٠:١١-٣٣)، والدروس المستفادة في مثل هذه الظروف الصعبة.” كيدنر (Kidner)
- “الذي تظاهر بالجنون والغباء وكان يخربش على البوابة، هو الآن قديس وشاعر وواعظ. فعندما نظر إلى الماضي، إلى النجاة التي فاز بها بحيلة، فإنه ينظر إليها على أنها حالة من حالات استجابة الرب لصلواته!” ماكلارين (Maclaren)
٣. يَسْمَعُ ٱلْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ: فاز داود بحريته بعرض مذهل من التواضع (الإذلال). وسيفرح ٱلْوُدَعَاءُ الآخرون لسماع كيف أن الله باركه وكافأه على تواضعه.
· إنه لأمر ذو دلالة أن يدعو شعب الله بشكل عام: ٱلْوُدَعَاء، وكأنّ المتكبرين ينكرون الله نفسه، وهذا أمر صحيح بمعنى ما.
ب) الآيات (٣-٧): شهادة المخلَّص.
٣عَظِّمُوا الرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ اسْمَهُ مَعًا. ٤طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ فَاسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي. ٥نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُوا، وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ. ٦هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. ٧مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ.
١. عَظِّمُوا ٱلرَّبَّ مَعِي: عرف داود أن هنالك جاذبية خاصة حول تسبيح الله. فعندما يسبّح المرء الرب، فإنه يجذب آخرين إلى نفس هذه الممارسة. وإنه لأمر حسن أن يمجد المرء الرب ويعظمه، وأفضل من ذلك هو أن يفعل ذلك مع شعبه (عَظِّمُوا ٱلرَّبَّ مَعِي).
· اعتقد داود أن تسبيح الله يعني تعظيمه، أي أن يجعله أوسع أو أكبر في مدارك المرء. ولا يقوم التعظيم (التكبير) بجعل شيء ما أكبر مما هو، ولا نستطيع أن نجعل الله أكبر مما هو عليه. لكن تعظيم شيء أو تكبيره يعني أن ندركه على أنه أكبر. ويتوجب علينا أن نفعل ذلك مع الرب الإله.
· “وكما لو أنه غير كافٍ أن يقوم داود بعمل عظيم وحده، فإنه يدعو آخرين إلى مساعدته.” تراب (Trapp)
· “لا يعظّم المؤمن بالمسيح الرب وحده فحسب، بل يشجع الآخرين أيضًا على فعل ذلك. وهو يتوق إلى ذلك الوقت الذي فيه تضع جانبًا كل الشعوب والألسنة عداواتها وتعصّبها وتحامُلها وضلالاتها وعدم إيمانها وهرطقاتها ومكائدها، وترفع صوتًا واحدًا في تعظيم اسم فاديها العظيم ورفعه.” هورن (Horne)
٢. طَلَبْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ فَٱسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي: ما زالت شهادة داود البسيطة قوية بعد آلاف السنين. فقد طلب داود الرب وتطلّع إليه بثقة متسمة بالمحبة. ثم سمع الله خادمه واستجاب له بكل محبة وتعاطف وتحرُّكٍ إلى العمل. استجاب الله عندما أنقذ داود من كل مخاوفه.
· المفسرون منقسمون حول ما إذا كان داود قد أخطأ عندما تظاهر بالجنون بين الفلسطينيين، أو إذا كان مطيعًا لإرشاد الله في فعل ذلك. يقول مورجان (Morgan): “يبدو أن هنالك تعارضًا بين تظاهُر داود بالجنون بغرض تخليص حياته وهذا السكب الجليل من التسبيح لله بصفته المنقذ العظيم.”
· “هنالك خلاف حول أين أخطأ داود، أو إن كان قد أخطأ أصلًا، لكن لا شك أن فضل الله في إنقاذه له في ذلك الوقت كان مذهلًا جدًّا، وهو يستحق ذلك الاعتراف العلني بهذا الفضل.” بوله (Poole)
· “حتى عندما كنت في بلاد الأعداء، وكنت أقوم بحركات كرجل مجنون بينهم، صليت سرًّا في داخلي.” تراب (Trapp)
· حتى لو أخطأ داود بتظاهره بالجنون، فإن الله خلّصه ولم يتخلَّ عنه. “يَسْهل علينا أن نفهم أنه، في الكهف الهادئ الذي اتخذه ملجأ، استعاد بقوة جديدة إحساسه بالرعاية والحكمة والقوة والكفاية الإلهية، ولهذا رنّم.” مورجان (Morgan)
٣. نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا، وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ: ينتقل داود هنا من لغة المتكلم المفرد (أنا) إلى لغة الغائب الجمع (هم)، مشيرًا بهذا إلى أن هذه الخبرة لم تكن مقصورة عليه. فقد عرف وسيعرف كثيرون معنى تركيز ثقتهم المتسمة بالمحبة على الله والحصول على عونه.
· نَظَرُوا إِلَيْهِ: “كلما فكّرنا أكثر في الرب، وأقلّ في أنفسنا، كان أفضل. ومن شأن النظر إليه وهو جالس عن يمين الله أن يحفظ عقولنا وقلوبنا عندما نجتاز في مياه عميقة من المحن.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن سميث (Smith)
· وَٱسْتَنَارُوا (سطعوا): الفكرة هنا هي أنهم استمدوا هذا السطوع أو التوهج من مجد الله نفسه. وسيشرح الرسول بولس لاحقًا نفس هذه الفكرة تقريبًا في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ١٨:٣ “وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.” وهذا السطوع دليل على أنهم نَظَرُوا إِلَيْهِ حقًّا.
· “نجد هذه الكلمة مرة أخرى في سفر إشعياء ٥:٦٠، حيث تصف كيف أضاء وجه أُمٍّ لمرأى أبنائها بعد يأسها الطويل من رؤيتهم معتقدة أنهم هلكوا أو ضاعوا.” كيدنر (Kidner)
· وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ: عرف داود أيضًا أن الله لن يتخلى أبدًا عمن يتكل عليه. إذ سيعطيه الثقة بإنقاذه في الوقت المناسب.
٤. هَذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ: أكد داود مرة أخرى أنه اختبر بنفسه هذه الحقائق. فهو ٱلْمِسْكِينُ الذي صَرَخَ إلى الله، فاستجاب الله إليه في نعمته.
· الصرخة قصيرة وليست عذبة.
· الصرخة موجزة ومُرّة.
· الصرخة لغة الألم.
· الصرخة نتاج طبيعي.
· للصرخة معنى كبير، وليس فيها موسيقى.
ü من المؤكد أن داود كان هو المسكين الذي اضطر إلى التظاهر بالجنون بين الفلسطينيين. “لكي يفهم المرء قوة كلمات داود، عليه أن يتذكر الخطر الذي كان فيه والحركات البهلوانية اليائسة التي اضطر إلى التظاهر بها لإنقاذ حياته.” كيدنر (Kidner)
٥. مَلَاكُ ٱلرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ: نجا داود بإعجوبة من الموت من أيدي الفلسطينيين. وكان ما زال مطاردًا ومطلوبًا من الملك شاول الذي صمم على قتله. وتجمّع حوله رجال خاسرون يائسون في عدلام. وكان داود في أدنى مستوى من الروح المعنوية، غير أنه كان ما زال ممتلئًا بالتسبيح والثقة، حتى إنه عرف أن الله وضع حوله معسكرًا من الملائكة ليحموه.
· نغمة الانتصار والفرح واضحة جدًّا في هذه الترنيمة حتى إنه يَسْهل نسيان سياق حياة داود في هذا المزمور. “هذا المزمور للذين يجدون أنفسهم في أدنى نقطة من الحياة حيث كان داود. أو يجدون أنفسهم بين صخرتين – كانت الأولى في هذه الحالة الملك شاول، والثانية هي الملك أخيش. هذا المزمور لك عندما يبدو أن كل شيء ضدك.” بويس (Boice)
· كانت الحماية حقيقية، بل إنها كانت منظورة. لم يكن بمقدور داود رؤية حضور ملائكة، لكن ذلك الحضور كان حقيقيًّا. فقد كان ظهور ملاك الرب في العهد القديم مرات كثيرة ظهورًا مادًّيا فعليًّا للرب (يهوه) نفسه (كما في سفر القضاة ١٣). ونحن لا نعرف إن كان داود عنى الله في إشارته إلى ’مَلَاكُ ٱلرَّبِّ‘ أم أنه قصد بأن الله نفسه حاضر مع المؤمن. وكلاهما صحيح.
· “كان هذا الطريد في ملجأ كهف عدلام القوي يفكر في يعقوب الذي تشجع، في ساعة احتياجه وغياب أي نوع من الدفاع والحماية، برؤيا معسكر من الملائكة حوله.” ماكلارين (Maclaren)
· تدعم مزمور ٧:٣٤ فكرة وجود ملاك حارس لكل واحد، أو لكل مؤمن على الأقل. ولا يستطيع المرء أن يقول إن هذا النص يبرهن هذه الفكرة، لكنه متوافق معها. “لندعْ فكرة وجود هؤلاء الحراس غير المنظورين والذين يتفرجون على تصرفاتنا تمنعنا من فعل الشر وتحرّضنا على الخير.” هورن (Horne)
ج ) الآيات (٨-١٠): دعوة إلى مشاركة الشهادة الفرِحة.
٨ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. ٩اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. ١٠الأَشْبَالُ احْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو الرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ.
١. ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ: بعد أن تحدَّث داود عن خبرته الخاصة، قدّم تحدِّيًا لقارئ المزمور (أو مرنمه) بأن يختبر صلاح الله بنفسه. ولا يمكن أن تحدث هذه الخبرة إلا بالمواجهة الشخصية بطريقة مشابهة للتذوق أو النظر.
· الذوق والنظر حاستان ماديتان، وهما طريقتان نتفاعل بهما مع العالم المادي. والإيمان، من بعض النواحي، مثل حاسة روحية نتعامل بها مع العالم الروحي. وبهذا المعنى، فإن الذوق والنظر يشبه ثقتنا بالله، ومحبتنا له، وطلبه، والنظر إليه.
· “’ذُوقُوا‘ أي ضعوا هذا في اعتباركم بشكل جدي، وبشكل وافٍ، وبمحبة. جرِّبوا ذلك بخبرتكم وخبرة الآخرين. ويأتي هذا على نقيض أفكار الناس الهزيلة الزائلة حول هذا الأمر.” بوله (Poole)
· “عندما يحس شخص بسخونة النار، أو بحلاوة العسل، فإنك لا تحتاج إلى استخدام حجج معه لتقنعه بذلك. وهكذا هو الحال هنا. دع شخصًا يذُق كيف أن الرب طيب، وسيرغب منذ تلك اللحظة فصاعدًا، كطفل حديث الولادة، في تناول حليب الكلمة الصافي.” تراب (Trapp)
· “تستخدم كل من رسالة العبرانيين ٥:٦ ورسالة بطرس الأولى ٣:٢ هذه الآية في وصف أول مغامرة في الإيمان، ومن أجل التوكيد أن التذوق أكثر من مجرد عينة عادية.” كيدنر (Kidner)
· “توجد بعض الأشياء، ولاسيما في الحياة الدينية، لا يمكن أن تُفهم إلا بالخبرة. وحتى عندئذٍ، لا يمكن تجسيدُها في كلمات بشكل وافٍ. ’ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ.‘ يتوجب أن يأتي التمتع قبل الاستنارة، أو بالأحرى، فإن التمتع هو الاستنارة.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيني (Binney)
٢. طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ: كان داود متأكدًا من أنّ مَن يذوق الرب ويراه – أو أن يتكل عليه – لن يُتخلى عنه. وسيباركه الله وسيُسعده (طُوبَى لِلرَّجُلِ).
٣. ٱتَّقُوا ٱلرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ: اعتقد داود أن خوف الرب هو كالثقة به وخبرة صلاحه إلى حد كبير. وهذا الخوف احترام وتوقير ملائم ينبغي أن يكون لدى كل إنسان تجاه الرب. وإذا اختبرت صلاح الله، فستختبر معه البركات الناتجة عن الثقة به. وسيكون لديك خوف ملائم للرب.
٤. لِأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ: قد يفتقر شخص قوي كالشّبل ويجوع، لكن داود يشهد عن تدبير أعظم مقدم من الله.
· “قد تكون كلمة ’أشبال‘ هنا استعارة تشير إلى أشخاص أقوياء ظالمين أشرار.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “هل كانت هنالك أشبال تحوم حول المعسكر في عدلام؟ وهل عدّ داود زئيرها على أنها مثل كل المحاولات الباطلة لإشباع الذات؟” ماكلارين (Maclaren)
· اختبر داود شيئًا جيدًا (شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ) من الله في إنقاذه من الفلسطينيين. وعرف أن هذا الخير لم يكن بفضل قوته أو قدرته، بل كان الفضل يعود إلى صلاح الرب أو خيره الذي يقدّمه لمن يطلبونه (طَالِبُو الرَّبِّ).
· “رغم أنه عادة ما يحرص الله بشكل كبير على توفير طِلبات (رغبات) الصالحين، وأنه يفعل ذلك بطرق استثنائية، بعد فشل الطرق البشرية العادية، إلا أنه يعرف في حالات معينة – ومن المؤكد أن هذا صحيح – أن الطلبات والصلبان أكثر ضرورة وفائدة لهم من الخبز. وفي مثل هذه الحالات، تكون رحمة أكبر أن يمنع عنهم الإمدادات من أن يقدمها لهم.” بوله (Poole)
· “لم يكن لدى بولس أي شيء، غير أنه كان يمتلك كل شيء.” تراب (Trapp)
ثانيًا. تعليم شعب الله
أ ) الآيات (١١-١٤): الحياة في خوف الرب.
١١هَلُمَّ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ الرَّبِّ. ١٢مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي يَهْوَى الْحَيَاةَ، وَيُحِبُّ كَثْرَةَ الأَيَّامِ لِيَرَى خَيْرًا؟ ١٣صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ. ١٤حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا.
١. هَلُمَّ أَيُّهَا ٱلْبَنُونَ ٱسْتَمِعُوا إِلَيَّ: بعد إنقاذ داود من الفلسطينيين إثر تظاهره بالجنون، كان كثيرون في محنة، أو في شك، أو سخط (سفر صموئيل الأول ١:٢٢-٢). وإنه لأمر منطقي أن نعتقد أن داود علّم هؤلاء الرجال دروس الإيمان الحديثة، بما في ذلك مَخَافَةَ الرَّبِّ.
· يصف داود خوف الرب على أنه مؤسس على العمل، لا على مشاعر دينية. “يقول داود إن خوف الرب هو أن نفعل الصواب، وهذا يشمل الطاعة.” بويس (Boice)
٢. مَنْ هُوَ ٱلْإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَهْوَى ٱلْحَيَاةَ؟ علّم داود مجموعة أتباعه الغريبة ما يتوجب أن يفعله المرء ليرى بركة على حياته – أن يحيا في خوف الرب.
· صُنْ لِسَانَكَ عَنِ ٱلشَّرّ: علّم داود رجاله – مع أنهم جلفون وخشنون جدًّا – ألّا يتكلموا شرًّا.
· وَشَفَتَيْكَ عَنِ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْغِشِّ: علّم داود رجاله أن الكذب والغش شكل من أشكال الشر يجب تجنُّبه.
· حِدْ عَنِ ٱلشَّرِّ، وَٱصْنَعِ ٱلْخَيْرَ: علّم داود رجاله عن توجيه حياتهم بعيدًا عن الشر ونحو ٱلْخَيْر.
· ٱطْلُبِ ٱلسَّلَامَةَ، وَٱسْعَ وَرَاءَهَا: علّم داود رجاله ألّا يفكروا بلغة الحرب والمعارك فحسب، بل بلغة السلام والسعي إليه. السعي إلى السلام مع الله والناس.
٣. وَيُحِبُّ كَثْرَةَ ٱلْأَيَّامِ لِيَرَى خَيْرًا: كان تعليم داود لرجاله في الكهف في عدلام في ضوء العهد القديم الذي ارتبط به داود وبقية إسرائيل بالله. وبموجب العهد الجديد، فإن بركة الله هي في يسوع المسيح، وهي تُنال بالإيمان، لا بطاعتنا فقط.
· “إن هدف الإرشاد الديني هو تعليم الناس كيف يعيشون ويموتون. ومكافآت الفضيلة هي الطُّعم الذي ينجذب به الشباب إلى الأخلاق. وبينما نعلّم الناس تقوى الله، ينبغي أن نركز على ممارسة الأخلاق في معاملتنا مع الناس.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٥-١٦): الحياة تحت عين الله المُراقِبة.
١٥عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ، وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. ١٦وَجْهُ الرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي الشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ.
١. عَيْنَا ٱلرَّبِّ نَحْوَ ٱلصِّدِّيقِينَ: واصل داود تعليم رجاله، فعلّمهم عن عين الله المراقِبة وأُذنه المُصغية إلى صوت شعبه في الصلاة. كان هذا جانبًا آخر من المكافأة للذين عاشوا حياة الطاعة الموصوفة في مزمور ١٣:٣٤-١٤.
٢. وَجْهُ ٱلرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي ٱلشَّرِّ: كان من المهم أن يعرف رجال داود أنه – بموجب العهد القديم وتعليمه على نحو خاص – لم تكن هنالك مكافآت للطاعة فحسب، بل كانت لعنات للعصيان أيضًا. ويمكن لعَامِلِي الشَّرِّ أن يجدوا أن ذِكْرَهُمْ قد تلاشى في الأَرْضِ.
ج) الآيات (١٧-١٨): الرب يُعين المتواضع.
١٧أُولئِكَ صَرَخُوا، وَالرَّبُّ سَمِعَ، وَمِنْ كُلِّ شَدَائِدِهِمْ أَنْقَذَهُمْ. ١٨قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ.
١. أُولَئِكَ صَرَخُوا، وَٱلرَّبُّ سَمِعَ: ذكّر داود رجاله في الكهف في عدلام أن الله يرعى الأبرار وهو ينتبه إليهم. وشهد أن الله سبق أن خلّصهم من شَدَائِدِهِمْ.
٢. قَرِيبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ: كان رائعًا أن يسمع رجال داود في الكهف في عدلام تعليمه. ومن المرجح أنهم كانوا – بسبب كونهم مديونين ومكتئبين وساخطين – كسيري القلوب ومنسحقي الأرواح، فكانوا موضوعًا لنعمة الله وخلاصه، لا لازدرائه.
· “أولئك الذين قُمعت أرواحهم، بل كُسرت بسبب عِظَم مصائبهم…. هذه القلوب والأرواح تتضع بعمق حقًّا تحت يد الله.” بوله (Poole)
· “طير بجناح مكسور، وحيوان بقدم مكسورة، وامرأة بقلب مكسور، ورجل بقصد مكسور في الحياة – يبدو أن هؤلاء يتسربون من تيار الحياة الرئيسي لينسحبوا إلى الظل. ينعزلون ويعانون وينحنون. وتستمر حياة الانشغال والازدحام من دونهم. لكن الله يجذبهم إليه.” ميير (Meyer)
· “يعتقد أصحاب القلوب الكسيرة أن الله بعيد، بينما هو قريب منهم. فقد أُمسِكتْ عيونهم عن تمييز أفضل صديق لهم. لكنه معهم وفيهم، لكنهم لا يعرفون ذلك.” سبيرجن (Spurgeon)
· ٱلْمُنْسَحِقِي ٱلرُّوحِ: “إنها الروح التي تعرضت لضرب كثير شديد، ويوحي هذا بالضرورة استخدام المطرقة في تكسير الروح الخام إلى قطع، ثم تصفيح المعدن بعد فصلها من المادة الخامة.” كلارك (Clarke)
د ) الآيات (١٩-٢٢): رعاية الله لصدّيقيه.
١٩كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. ٢٠يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. ٢١الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ. ٢٢الرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ.
١. كَثِيرَةٌ هِيَ بَلَايَا ٱلصِّدِّيقِ: تحدَّث داود من خبرته الخاصة إلى رجاله في كهف عدلام. ورغم أنه كان شابًّا نسبيًّا، إلا أنه كان يعاني من بَلَايَا كثيرة، حتى كرجل بار (صِّدِّيق).
· “’كَثِيرَةٌ هِيَ بَلَايَا ٱلصِّدِّيقِ،‘ لكن إنقاذات الرب أكثر.” ماكلارين (Maclaren)
٢. وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ ٱلرَّبُّ: كان ذلك المبدأ الذي أجاب على العبارة السابقة. وبالفعل، فإنّ للصديق بلايا كثيرة، غير أن إنقاذ الله كان حقيقيًّا في حياة داود، وما زال حقيقيًّا في خبرة كثيرين من شعب الله.
٣. يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يَنْكَسِرُ: كان بمقدور داود أن ينظر إلى جسده ويرى أنه رغم دخوله في معارك وحوادث ومشقات كثيرة، إلا أن وَاحِدًا مِنْ عِظامِهِ لَا يَنْكَسِرُ.
· حسب إنجيل يوحنا، لم يكن يتحدث داود عن خبرته فحسب، بل تحدَّث نبويًّا عن المسيّا الآتي، يسوع المسيح. وشرح يوحنا أن الجنود الرومان الذين أشرفوا على عملية الصلب جاءوا إلى جسده المعلق على الصليب، أرادوا أن يضمنوا تسريع موته بتكسير رجليه، حسب إجراءاتهم التقليدية. وعندما تفحصوه جيدًا، رأوا أنه قد مات بالفعل. فاكتفوا بطعن جنبه بحربة للتثبّت من ذلك. فكتب يوحنا: “أَنَّ هذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: “عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ” (إنجيل يوحنا ٣٦:١٩).
· “كانت عظام المسيح في حد ذاتها قابلة للكسر، لكن لم يكن ممكنًا أن تُكسر بكل العنف الموجود في العالم، لأن الرب سبق أن قضى: ’يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يَنْكَسِرُ.‘” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن فولر (Fuller)
٤. ٱلشَّرُّ يُمِيتُ ٱلشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو ٱلصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ: تجاوزت ثقة داود مجرد إنقاذ الصدّيقين. إذ كان واثقًا بأن الأشرار وكل المبغِضين سيدانون.
· ٱلشَّرُّ يُمِيتُ ٱلشِّرِّيرَ: “إما، أولًا. شر الخطية. سيقضي عليه شره الخاص، رغم أنه كان موجَّهًا للآخرين. أو ثانيًا. شر التعاسة. بينما تكون لمِحَن الصالحين قضية سعيدة وراءها، فإن محن الأشرار ستقودهم إلى دمار كلي ونهائي.” بوله (Poole)
٥. وَكُلُّ مَنِ ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ لَا يُعَاقَبُ: كان بمقدور داود أن يعلن أن الله سينقذ نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وأنهم سيكونون في مكان خارج دائرة دينونته.
- قبل قرون من هذا كتب الرسول بولس: “إِذًا لَا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ” (رسالة رومية ١:٨). فحتى تحت العهد القديم، عرف داود شيئًا عن هذه الحرية من الدينونة.