تفسير سفر المزامير – مزمور ٧٣
لَوْلَا قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي
يخبرنا عنوان هذا المزمور ’مَزْمُوْرٌ لِآسَافَ‘ أنه كُتب من قبل المرنم والموسيقي العظيم في عهدي داود وسليمان (أخبار الأيام الأول ١٧:١٥-١٩؛ ٥:١٦-٧؛ ٦:٢٥). وتضيف أخبار الأيام الأول ١:٢٥ و أخبار الأيام الثاني ٣٠:٢٩ أن آساف كان نبيًّا في مؤلفاته الموسيقية.
يمكن أن يُفهم هذا الموضوع على أفضل نحو من خلال اختلاف الضمائر المهيمنة عليه. فعندما ينزعج آساف بسبب مصير الأشرار (الآيات ١-١٢) فإن ’هم‘ هو الضمير المهيمن. وعندما يصف تفكيره المحبَط الذي أدى إلى قراره (الآيات ١٣-١٧)، كان ’أنا‘ هو الضمير المهيمن. وعندما نجد حل المشكلة (الآيات ١٨-٢٢)، فإن الضمير المهيمن هو ’أنت‘ مشيرًا إلى الله. وعندما يعلن ثقته بالله وشركته معه (الآيات ٢٣-٢٨)، فإن الضميرين المهيمنين هما ’أنا‘ و’أنت.‘
أولًا. المشكلة المطروحة
أ ) الآيات (١-٣): التناقض بين صلاح الله وازدهار الأشرار.
١إِنَّمَا صَالِحٌ ٱللهُ لِإِسْرَائِيلَ، لِأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ. ٢أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلَا قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي. ٣لِأَنِّي غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلَامَةَ ٱلْأَشْرَارِ.
١. إِنَّمَا صَالِحٌ ٱللهُ لِإِسْرَائِيلَ: بدأ آساف مزموره بإعلان بسيط عن صلاح الله لشعبه. وبهذا أشار إلى أنه لم يفهم أن الله صالح فحسب، بل إنه أظهر صلاحه هذا بشكل نشط لإسرائيل ولأنقياء القلب.
· كان آساف منظمًا وقائدًا لجوقات الهيكل في أيام داود، وفي أيام سليمان على ما يُفترض. وكان هو الذي يتنبّأ حسب تنظيم الملك (١ أخبار ٢٥: ١ – ٢).
· “لا يشك الكاتب في هذا، بل يطرحه كاقتناع راسخ. وإنه لأمر حسن أن نتأكد مما نعرفه، إذ سيكون هذا بمثابة مرساة قوية لنا عندما تتحرش بنا العواصف الغامضة التي تنشأ من أشياء لا نفهمها.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ: عرف آساف أن ما قاله عن الله في الآية الأولى صحيح، لكن كانت هنالك حقيقة أخرى أزعجته كثيرًا، بل أوشكت أن تعثره (كَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ).
· “يبيّن هذا أن وجود شكوك مثل آساف لا يتعارض مع الحياة المسيحية المسؤولة. ربما يكون صحيحًا، كما قال، إن قدميه كادتا تزلّان، لكنهما لم تزِلّا فعلًا، أو على الأقل لم تزِلّا إلى درجة جعلته تنسيه مسؤولياته كقائد لشعب الله.” بويس (Boice)
٣. لِأَنِّي غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلَامَةَ ٱلْأَشْرَارِ: كانت هذه حقيقة أخرى بدا أن آساف عرفها عن الله كما أعلن في الآية الأولى. عرف أن الله صالح لإسرائيل ولأنقياء القلب، لكن يبدو أنه صالح للْمُتَكَبِّرِينَ وٱلْأَشْرَارِ أيضًا. فبدا أن هذا أمر غير منصف بالنسبة لله، فجعله يوشك على الانزلاق.
· رأى آساف نفس الأدلة المزعجة التي يراها كثيرون كل يوم في حياتهم. وهم لا يستطيعون أن ينكروا أن الله صالح معهم. لكن يبدو أنه صالح أيضًا مع المتكبرين والأشرار، بل ربما صالح معهم بشكل زائد. ولهذا يَسْهُل أن نحسد الأشرار ونحسد ازدهارهم.
· تدفع هذه الأسئلة العميقة المرء إلى التشكك في النظام الأخلاقي للكون. فقد يسأل المرء: ما هي الفائدة من أن يكون المرء صالحًا؟ فإن كان الأشرار يتمتعون بالازدهار نفسه الذي يتمتع به أتقياء القلب، فما هي مكافأة الصلاح؟
· “إن كان الله مسيطرًا على الأمور، يفترض أن تتعثر خططهم. وينبغي أن يعاقَبوا علنًا. وينبغي للأنقياء وحدهم أن يزدهروا. لكن ليس هذا هو ما رآه آساف، ولا نراه نحن. إذ نرى أنذالًا يثرون. وحتى الأشخاص المنحطون تمامًا، مثل موسيقيي الروك الحقيرين، أو نجوم الأفلام يكسبون أجورًا خيالية، وهم محط الأنظار وموضع الإعجاب. وحتى المجرمون يثرون عندما ينشرون قصص جرائمهم.” بويس(Boice)
· “جعل الإيمان الذي نشأ عليه وتمسّك به صعوباته في هذا الجانب أكبر. فقد تعلَّم أن الصالحين يزدهرون دائمًا وأن الأشرار يفشلون.” شابل (Chappell)
· يمكننا القول إن هذا هو الإيمان نفسه الذي آمن به بقوة أصحاب أيوب، والإيمان نفسه الذي دفع التلاميذ إلى طرح السؤال: “يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟” (يوحنا ٢:٩)
· “إنه لأمر مؤسف أن وريثًا للسماء يعترف قائلًا: ’لقد حسدت!‘ لكن كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ لو قال: ’حسدتُ الأغبياء!‘” سبيرجن (Spurgeon)
ب ) الآيات (٤-٩): حياة الأشرار الطيبة.
٤لِأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. ٥لَيْسُوا فِي تَعَبِ ٱلنَّاسِ، وَمَعَ ٱلْبَشَرِ لَا يُصَابُونَ. ٦لِذَلِكَ تَقَلَّدُوا ٱلْكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ. ٧جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ ٱلْقَلْبِ.٨ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِٱلشَّرِّ ظُلْمًا. مِنَ ٱلْعَلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ. ٩جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي ٱلْأَرْضِ.
١. لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ: ربما رأى آساف بعض الأشخاص الأشرار يموتون ميتة مؤلمة، لكنه رأى أشرارًا كثيرين جدًا يموتون ميتة مسالمة، فدفعه ذلك إلى القول: ’لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ.‘
· “قد يموت الرجال كالحملان، ومع ذلك مكانهم دائمًا هو مع الماعز.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ماثيو هنري (Matthew Henry)
· “قال أصحابه: ’نام كطفل.‘ وقال آخرون: ’كان سعيدًا جدًّا. فلا بد أنه كان قديسًا.‘ لكن هذا ما كان ظاهرًا لهم. فالله يعلم أن موت الخطاة الهادئ ما هو إلا الهدوء الرهيب الذي ينذر بالإعصار الأبدي.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لَيْسُوا فِي تَعَبِ ٱلنَّاسِ، وَمَعَ ٱلْبَشَرِ لَا يُصَابُونَ: هنا طوّر آساف حجّته إلى بُعد آخر. فلا يكافأ الأشرار على قدم المساواة مع الصالحين فحسب، لكن يبدو أنهم يبارَكون أكثر من أنقياء القلب أيضًا. كما أنه يبدو أن حياتهم تعاني أقل (لَيْسُوا فِي تَعَبِ ٱلنَّاسِ) وأنهم يُبتلون أقل (وَمَعَ ٱلْبَشَرِ لَا يُصَابُونَ) من الإنسان العادي.
· “مع أن قديسين كثيرين فقراء ومبتلون، إلا أن الخاطئ المزدهر لا يعاني شيئًا من ذلك. إنه أسوأ من الآخرين، لكنه أفضل حالًا منهم. فهو يحرث أقل الجميع ويحصل من الطعام على أكثر من الجميع. وهو يستحق الجحيم الحارق، غير أن لديه أدفأ عش.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. تَقَلَّدُوا ٱلْكِبْرِيَاءَ: حسب تحليل آساف، لأن الله لم يعاقب الأشرار كما ينبغي، صاروا أكثر شرًّا، حتى إنهم لبسوا الكبرياء كقلادة (تَقَلَّدُوا ٱلْكِبْرِيَاءَ). ولهذا صاروا أكثر عنفًا وتجديفًا.
· “كانت سلاسل الذهب وخواتم الذهب علامة على أصحاب السلطة التشريعية والمدنية. وكما كانت هذه السلاسل تحيط بأعناقهم، أو الخواتم بمعاصمهم وأصابعهم كعلامات على مناصبهم التي كانوا يتقلدونها، كذلك كان العنف والسلوك القمعي يحيط بهم.” كلارك (Clarke)
· نحن نقدّر القوة الشعرية لوصف آساف. نرى هنا الشرير مرتديًا من قلادة متباهية من الكبرياء. وهو مكسو بملابس تثير الإعجاب لكنها تُخفي كغطاء عُنفه تجاه الآخرين. وهو ممتلئ بالطعام حتى إن عينيه تبرزان من الوفرة. ولديه أكثر مما يتمنّاه قلبه. وفمه يسخر دائمًا، ويتحدث بالشر. لسانه ضد السماء. وأسوأ من ذلك، أن الجميع يسمعون هذا الإنسان وازدهاره، كما لو أن لسانه يمشي عبر الأرض.
· “المقطع بأكمله صورة بارعة لمحبي الثروة: متضخّمون، متعجرفون، مثيرون للضحك إن لم يكونوا بهذه القسوة. ويدفعهم غرورهم إلى التغطرس على الكون نفسه.” كيدنر (Kidner)
· نحن نتصور مع آساف هؤلاء الأغنياء مشهورين متكبرين مبهرجين، عنيفين، جشعين، كرجال عصابات يتفوّهون بكلام رديء متباهين بشرّهم. ونحن ننزعج مثل آساف من ازدهارهم ولامبالاتهم بالله.
· جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ: “بسُمنتهم أو بدانتهم تتغير ملامح (خطوط) وجوههم الطبيعية أو تنطمس. وتتلاشى الفروقات المميِّزة، فلا نرى، إلى جانب بقايا قليلة، إلاّ خنزيرًا بشريًّا.” كلارك(Clarke)
ج) الآيات (١٠-١٤): شكوك الأتقياء.
١٠لِذَلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ.١١وَقَالُوا: «كَيْفَ يَعْلَمُ ٱللهُ؟ وَهَلْ عِنْدَ ٱلْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟». ١٢هُوَذَا هَؤُلَاءِ هُمُ ٱلْأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى ٱلدَّهْرِ يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً. ١٣حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلًا وَغَسَلْتُ بِٱلنَّقَاوَةِ يَدَيَّ. ١٤وَكُنْتُ مُصَابًا ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ.
١. لِذَلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا: لهذا الرجل رفقاء مثله، فيأخذون ما يأخذه (وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ).
· يَصعُب ترجمة هذه الآية بحيث تتناسب مع السياق. “تجد معظم الترجمات الحديثة هنا العبادة الشعبية للنجاح.” كدنر (Kidner)
٢. وَقَالُوا: «كَيْفَ يَعْلَمُ ٱللهُ؟»: أخبرنا آساف في الآيات السابقة أن الرجل الشرير ورفقاءه تكلموا ضد السماء. وهنا يكرر نفس الفكرة. وهم يزعمون أن الله أعمى أو جاهل، ولهذا يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون، بينما لا يستطيع الله أن يفعل شيئًا ضدهم.
٣. هُوَذَا هَؤُلَاءِ هُمُ ٱلْأَشْرَارُ: رأى آساف في إحباطهم حياة الشر بصفتها الحياة الجيدة. فهم مرتاحون دائمًا، ويزدادون ثراءً. وهم يحصلون على مكافأة لشرّهم من إله يبدو أنه ليس على دراية بما يقوله الأشرار.
٤. حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلًا وَغَسَلْتُ بِٱلنَّقَاوَةِ يَدَيّ: تنامى الإحباط لدى آساف. فقد أحس بأن حياة النقاوة عبث. فهو عبث أن تكون يداك طاهرتين أمام الله، أو أن تكون بريئًا.
· “يا للمسكين آساف! إنه يشكك في قيمة القداسة عندما يتلقّى أجورها بعملة الابتلاء.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. وَكُنْتُ مُصَابًا ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ: أحس آساف بأن حياته كانت أصعب بكثير من حياة الرجل الشرير. فبينما كان الشرير يتمتع بالصحة والراحة والكبرياء، كان على آساف أن يحتمل الابتلاء والتأديب ليلَ نهارٍ (ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وكُلَّ صَبَاحٍ).
· المُصاب (الابتلاء) سيئ، غير أن المرء يمكن أن يُرجعه إلى أسباب مجهولة أو طبيعية. لكن التأديب أسوأ، لأن هذا يوحي بأن الله نفسه كان يبتلي آساف بالشدائد. فكان الله متساهلًا مع الأشرار وقاسيًا على آساف.
· كما يُتوقع في التدفق الشعري، كان آساف يبالغ في تصويره. فلم تكن حياة الأشرار بالجودة التي لاحظها، ولا كانت حياته بنفس السوء الذي أحس به. لكن لا يستطيع المرء أن ينكر أو يناقض الشعور الذي دفعه إلى كتابة هذا المزمور. ومن المؤكد أننا نستطيع أن نتعاطف معه في شعوره هذا.
ثانياً. فَهم المشكلة
أ ) الآيات (١٥-١٧): قوة المنظور الجديد.
١٥لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هَكَذَا، لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ. ١٦فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا، إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ. ١٧حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ ٱللهِ، وَٱنْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ.
١. لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هَكَذَا: فَطِن آساف إلى أنه كان ينزلق بعيدًا نحو اليأس في مسألة إدراكه لازدهار الأشرار. فلم يُرِد أن يكون غير أمين لِجِيلِ بَنِيكَ، بمعنى أنه لم يُرِد أن يروّج الإحساس بالظلم الذي أحس به.
٢. فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا، إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ: كان آساف عالقًا في فخ. إذ لم يكن بمقدوره أن ينكر الأدلة التي تقول إن الأشرار يعيشون في الغالب حياة طيبة. ولم يكن بمقدوره أيضًا أن ينكر أن حياته كانت صعبة في الغالب، حيث كان مبتلىً (مُصابًا) ومؤدَّبًا من الله. شعر بأن هذا كله صحيح. غير أنه أحس بأنه غير قادر على الخوض في هذا الموضوع، لأنه هذا سيكون بمثابة خيانة للآخرين.
٣. حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ ٱللهِ، وَٱنْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ: بدا أن الأزمة كانت تتنامى لدى آساف حتى دخل بيت الرب. وهناك اكتسب منظورًا جديدًا إلى مشكلته. ولهذا استطاع أن ينظر إلى الأمور من وجهة نظر أبدية، وعندئذٍ، فهِم نهايتهم.
· “ما الذي فعله صاحب المزمور؟ ربما يبدو الجواب لبعضهم صبيانيًا تمامًا. ذهب إلى الكنيسة… ولا ندري ما خرج به الآخرون من الاجتماع. لكن صاحب المزمور حصل على اقتناعات ثبَّتتْه ومكّنته من السير في الأيام التالية بحزم وثقة.” شابل (Chappell)
· ما الذي استفاده آساف بذهابه إلى بيت الرب؟ حصل هناك على فَهم من عدة نواحٍ:
ü فهِم من خلال الصلاة والعبادة أن الله هو مركز كل شيء. واكتسب تقديرًا جديدًا لكل من الله والأبدية.
ü فهم من خلال الاستماع إلى كلمة الله في المقدس أن هنالك حقيقة تتجاوز ما رآه واختبره في حياته اليومية.
ü فهِم من مراقبته لتقديم الذبيحة أن الله يأخذ الخطية مأخذ الجد، حتى إنها تدان ويكفَّر عنها، حتى ولو كان هذا عن طريق ضحية بريئة تحل محل المذنب بالإيمان.
· هذا هو أحد أغراض الله العظيمة في إقامة مكان حيث يأتي إليه شعبه للقائه. ولا يوجد أي تضمين أنه لا يوجد إلا مكان واحد أو عدة أماكن قليلة فقط يمكن فيها للمرء أن يلتقي الله، أو أنه يتوجب أن تكون مباني مزخرفة فخمة. والتوكيد هنا هو أنه جيد أن يكون هنالك مكان منفصل من أمكنة أخرى حيث نركز على منظور سماوي أبدي.
· كان هذا مَقَادِسَ ٱللهِ بالنسبة لآساف. كان الهيكل في أورشليم أو خيمة الاجتماع التي كانت موجودة قبل الاجتماع. وبالنسبة لنا، فإنه المكان الذي نلتقي فيه شعب الله للعبادة والشركة والاستماع إلى كلمة الله.
· عندما ذهب آساف إلى مَقَادِسَ ٱللهِ، تلقّى فهمًا. لم يكن مجرد مكان يؤثر في الحواس والمشاعر، بل في فهم الإنسان. لم يخبرنا كيف أنه أحس بنهايتهم أو كيف اختبرها، بل فهِمها. ليس أمرًا سيئًا أن نشعر ونختبر الأشياء الحسنة في بيت الله، لكن يتوجب أن يكون هنالك فهم أيضًا – توصيل الحق بطريقة يمكن تلقّيها.
· عندما ذهب آساف إلى مَقَادِسَ ٱللهِ، أفاده هذا لأنه ارتبط بالأبدية، ما جعله يفهم نهاية الأشرار. لم يحتج إلى الذهاب إلى بيت الله ليستمع إلى أخبار اليوم، أو أحاديث السوق التجاري، أو مكتب العمل. فقد احتاج إلى صلة نهائية، صلة الأبدية.
· “الكلمة المترجمة إلى ’نهايتهم‘ تعني حرفيًا ’مستقبلهم‘ أو ’عاقبتهم‘ التي ستبطل كل شيء عاشوا من أجله.” كدنر (Kidner)
ب ) الآيات (١٨-٢٠): مكان الأشرار غير الآمن.
١٨حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى ٱلْبَوَارِ. ١٩كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! ٱضْمَحَلُّوا، فَنُوا مِنَ ٱلدَّوَاهِي. ٢٠كَحُلْمٍ عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ.
١. حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ: هذا هو جزء من الفهم الذي اكتسبه آساف في بيت الرب. فهِم أن راحة الأشرار وأمانهم محض وهْم. وهُم في واقع الأمر موضوعون فِي مَزَالِقَ، وهم جاهزون للوقوع في أي وقت.
· سبق أن عبّر آساف في الآية الثانية من هذا المزمور أن قدميه كادتا تزلّان. وهو الآن من خلال المنظور الذي اكتسبه من بيت الرب يرى أن الأشرار هم الذين فِي مَزَالِقَ.
· “أيها الخاطئ، قد تسقط في أي وقت. فالجبال تهتز تحت قدميك، والجليد الزلِق الذي تقف عليه يذوب كل لحظة. انظر إلى أسفل، واعرف أن هلاكك سريع. هنالك هوة لا قرار لها ستبتلعك بينما ننظر إليك بدموع يائسة. ولا تستطيع صلواتنا أن تتبعك. فمِن مكانك الزلِق ستسقط وستضيع إلى الأبد. والموت يجعل المكان الذي تقف عليه زلقًا، لأنه يذوِّب حياتك كل ساعة. ويجعله الزمن أيضًا زلقًا، فهو يقطع الأرض من تحت قدميك. وتجعل الأباطيل التي تتمتع بها مكانك زلقًا، لأنها مثل الجليد الذي سيذوب أمام الشمس. ليس لديك موقع قدم، أيها الخاطئ. وليس لديك رجاء أكيد أو ثقة. فإن كل ما تضع فيه ثقتك آخذ في الذوبان.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً: لم يستطع آساف أن يفهم هذا إلا بمنظور أبدي حصل عليه في بيت الرب. ففي حياته اليومية، لم يكن يرى إلاّ ما كان في صالح الأشرار. لكنه رأى بمنظوره الأبدي الجديد هلاكهم وخرابهم وأهوالهم.
· في مرحلة سابقة من المزمور، أحس آساف بأنه مستعد لاستبدال مكانه بمكان الرجل الشرير الذي بدا مبارَكًا. وبعد اكتسابه المنظور الأبدي الجديد، نرى أنه لن يقبل أبدًا مثل هذه المبادلة مع الرجل الشرير. فمن يريد الهلاك والخراب والأهوال؟
٣. كَحُلْمٍ عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ يَا رَبُّ: مع منظور أبدي حصل عليه آساف في بيت الله، فهم أن حياة الأشرار الطيبة هي في واقع الأمر هشة كحلم، وأنهم سيستيقظون على واقع الهلاك والخراب والأهوال، والتي هي نصيبهم.
· “سعادتهم هي مثل حلم، حيث يبدو الرجل مسرورًا للغاية محمولًا بمسرّات تخلب اللب. لكن عندما يستيقظ، فإنه يجد نفسه مخدوعًا وغير مُشْبَع.” بوله (Poole)
· “فليتباهوا بساعتهم القصيرة، أولئك الذين هم أبناء الأحلام التي لا أساس لها. فسرعان ما ستتلاشى. وعندما يبدأ النهار، وعندما يستيقظ الرب كجبار من نومه، سيتلاشون. فمن الذي يمكن أن يهتم بثروة أرض الأحلام؟ مَن غير الحمقى؟” سبيرجن (Spurgeon)
٤. عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ يَا رَبُّ: اعترف آساف أنه بدا أن الله كان نائمًا، لأنه لم يكن المرء يقدر أن يرى دائمًا يد دينونة الله نشطة ضد الأشرار. وباستخدام هذه اللغة، عرف آساف أن الله لن يبقى نائمًا في صبره تجاه الأشرار. فذات يوم سيستيقظ وسيحتقر صورتهم.
ج) الآيات (٢١-٢٤): الاعتراف بالحماقة وتلقّي الإرشاد.
٢١لِأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي، وَٱنْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. ٢٢وَأَنَا بَلِيدٌ وَلَا أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. ٢٣وَلَكِنِّي دَائِمًا مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي ٱلْيُمْنَى. ٢٤بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي.
١. لِأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي… وَأَنَا بَلِيدٌ وَلَا أَعْرِفُ: اعترف آساف أمام الرب بافتقاره الآثم إلى الفهم قبل ذهابه إلى بيت الرب. فأحس بأنه كان أحمق لأنه نسي الحقائق الواضحة حول الأبدية وعدالة الله.
٢. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ: لاحظ آساف بحق أن الحيوانات لا تبدو أنها تمتلك تصورًا للأبدية. فهي تحيا حياتها للملذات الوقتية فتُشبع نوازعها الطبيعية. وعندما نسي آساف الأبدية كان مثل حيوان بهيم أمام الله.
· “تدل الكلمة العبرية المترجمة إلى ’بهيم‘ إلى حيوان ضخم، لكنه مخلوق غبي جدًّا أحمق، لكنه مخلوق لا يخلو من النعمة فحسب، لكنه يخلو من العقل أيضًا. ولسان حال صاحب المزمور هو: كنت لا أضع في اعتباري إلا الأشياء الآنيّة، كما تفعل البهائم.” بوله (Poole)
· “وصل أيوب إلى هذه النقطة في صراعاته مع سؤال آساف. فعندما انتهى الله من استجواب أيوب، اعترف بأن طرق الله هي فوق استيعابه كلّيًّا، واحتقر كبرياءه وتاب.” بويس (Boice)
٣. وَلَكِنِّي دَائِمًا مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي ٱلْيُمْنَى: أعلن آساف هنا أنه مع الله، وأن الله معه أيضًا. فلم يكن كافيًا أن يعرف آساف أن الله كان معه، فأقر أيضًا بأنه مع الله.
٤. بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي: أدرك آساف مع المنظور الذي حصل عليه في بيت الله أن الله سيرشده (تَهْدِينِي) في هذه الحياة، وأنه سيستقبله في المجد (وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي).
· إنه لأمر ذو دِلالة أن آساف عرف أن الله سيرشده بمشورته (بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي). توقَّع أن يسمع حكمة الله ويتلقى إرشادات من خلالها. فلم يتوقع أن يُرشَد بشكل رئيسي من خلال المشاعر أو الظروف أو الخبرات، بل بمشورة الله ورأيه.
· توقَّع آساف أن يكون لديه مجد لاحق. وهذه مقابلة متعمّدة مع نهاية الأشرار في الآيات ١٧-١٩. فكان لدى آساف مستقبله، وكان للأشرار مستقبلهم.
د ) الآيات (٢٥-٢٨): مجد رجاء سماوي.
٢٥مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لَا أُرِيدُ شَيْئًا فِي ٱلْأَرْضِ. ٢٦قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي ٱللهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢٧لِأَنَّهُ هُوَذَا ٱلْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ.٢٨ أَمَّا أَنَا فَٱلِٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ مَلْجَإِي، لِأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ.
١. مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ (غيرك)؟ هذا تعبير جميل لقلب توّاق إلى الله والأبدية. فمن ناحية ذهنية، يرجَّح أن آساف فهِم أن هنالك أشياء كثيرة له في السماء. فهناك الملائكة والمنازل وشوارع الذهب وصحبة شعب الله على مدى الأجيال. لكن هذا كله يبهت في نور حضور الله.
· “ليس هنالك ما يكفيك في السماء بنجومها وملائكتها إلا هو.” ماكلارين (Maclaren)
· “فليتمتع الخطاة بازدهارهم الأرضي. أمّا أنا فلا أشبع إلا بك وبرضاك. بما أنك أعطيتني دعمًا هنا، وتحملني سالمًا من هنا إلى مجد أبدي، فما الذي أحتاج إليه أكثر؟ أو ماذا يمكنني أن أرغب فيه أكثر؟” بوله (Poole)
· يلاحظ بويس (Boice): “الآية ٢٥ تعبير رائع على نحو خاص. وقد كانت بركة لكثيرين على مدى العصور. وقد كان تشارلز ويسلي (١٧٠٧– ١٧٨٨) كاتب الترانيم المنهجي العظيم يفكر فيها وهو على فراش الموت. واستدعى زوجته ليملي عليها هذه الكلمات:
في الشيخوخة والضعف الشديد،
ما الذي يمكن لدودة آثمة أن تفدي؟
يسوع، أنت رجائي الوحيد.
أنت قوة جسدي وقلبي الفانيين.
ليتني أحظى بابتسامة منك،
وبعد ذلك أنتقل إلى الأبدية.”
٢. وَمَعَكَ لَا أُرِيدُ شَيْئًا فِي ٱلْأَرْضِ: لم يكن الله بالنسبة لآساف رجاءً سماويًّا فحسب، بل رجاءً أرضيًا أيضًا. فكان الله يمثل ميراثه في السماء ورغبته على الأرض.
٣. قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي ٱللهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ: أدرك آساف ضعفه وقوة الله، كما فهم الطبيعة الدائمة لقوة الله.
· “في إسرائيل القديمة، كان الكهنة يتمتعون بامتياز خاص، وهو أن الرب كان ’نصيبهم‘ و’ميراثهم‘ (سفر العدد ٢٠:١٨). فرغم أنهم مُنعوا من امتلاك أرض، إلا أنه كانت احتياجاتهم يتم التكفل بها من خلال عشور الرب والتقدمات.” فانجيميرين (VanGemern)
· “هنالك تلميح إلى تقسيم الأرض الموعودة. ولسان حال صاحب المزمور هو: لا أطلب ميراثًا تحت. فأنا أبحث عن ميراث فوق.” كلارك(Clarke)
٤. لِأَنَّهُ هُوَذَا ٱلْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ: لم يعد لدى آساف أية شكوك حول مصير الأشرار. فمع المنظور الأبدي الذي اكتسبه في بيت الرب، فهِم أنهم سيهلكون فعلًا.
· لا يمكن إنقاذ نفس غير متحدة بالله. فٱلْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. سيضيعون ويدمَّرون ويخرَّبون بلا أي علاج. فلأنهم مفصولون من الله بالخطية، فلن يعودوا ينضمون إليه أبدًا. وستبقى الهوة العظيمة بينهم وبين خالقهم إلى الأبد.” كلارك (Clarke)
٥. أَمَّا أَنَا فَٱلِٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللهِ حَسَنٌ لِي: إنه لأمر مذهل أن نرى مقدار الفائدة التي حصل عليها آساف في زيارته إلى بيت الرب. فقد أعطته منظورًا أبديًّا.
· رأى فائدة الاقتراب إلى الله، وهو أمر شك فيه من قبل (الآية ١٣). “قد يبدو في عين الشخص الدنيوي أن يختار طريقه الخاص وأكواب الخمر، ويمرح، ويرقص؛ وربما يبدو لمن يتكل على ذراع بشر أن يبحث عن أصدقاء وأقرباء، ويعهد بقضيته إلى تقديرهم؛ وربما يبدو جيدًا للشخص القانط أن يجلس ليطيل التفكير في أحزانه، وللفاجر أن يُغرق كل همٍّ في كل ما هو باطل. أمّا أنا (يقول صاحب المزمور)، فَٱلِٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللهِ حَسَنٌ لِي.” سبيرجن (Spurgeon)
· رأى قيمة وضع الثقة في الله بعد أن فهم أنه يمكن الاعتماد عليه.
· كان لديه شغف بالإعلان عن أعمال الله (صَنَائِعِكَ)، وسيكون رسولًا لصلاح الرب ورسولًا للمنظور الأبدي الذي حصل عليه في بيت الرب.