تفسير سفر المزامير – مزمور ٩٨
ترنيمة جديدة من أجل أموره العجيبة
عنوان هذا المزمور ببساطة هو مَزْمُوْر. وهو الوحيد الذي يحمل هذا العنوان من دون أي شرح. وهو شأنه شأن المزمور ٩٦، يتحدث عن التسبيح لله على عمل خلاصه في دوائر متّسعة – أولًا شعب إسرائيل، ثم كل الأرض، وأخيرًا الخليقة كلها.
“هذا مزمور يحرّك الروح. ربما كُتب في مناسبة انتصار وطني عظيم في ذلك الوقت، لكن ربما أُخذ فيما بعد ليُطبَق على فترة الاسترداد الألفي لكل شيء.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن توماس تشارلمرز(Thomas Chalmers)
أولًا. ترنيمة تسبيح للمخلص
“هنالك أوجه شبه مذهلة بين القسم الأول من المزمور ٩٨ وتعظيم مريم للرب (لوقا ١: ٤٦–٥٥)، ما يعني أن هذا المزمور خطر ببالها في تأليفها لهذه الترنيمة، وأنها رأت بحق أن وعود هذا المزمور ستتحقق في الانتصارات الروحية التي سيحققها يسوع المسيح.” بويس (Boice)
أ ) الآية (١): تسبيح الرب بترنيمة جديدة.
١رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، لأَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ. خَلَّصَتْهُ يَمِينُهُ وَذِرَاعُ قُدْسِهِ.
١. رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً: فكرة ’تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً‘ موجودة في أماكن كثيرة من كلمة الله (مزامير ٣:٣٣؛ ٣:٤٠؛ ١:٩٦؛ ٩:١٤٤؛ ١:١٤٩؛ إشعياء ١٠:٤٢؛ رؤيا ٩:٥؛ ٣:١٤). ويعني تصوُّر الترنيمة الجديدة أن هنالك شيئًا طازجًا، أو مفعَمًا بالحياة، وديناميكيًّا حول العبادة والترانيم التي نرنمها لله.
· لم تستخدم مريم أخت هارون ترنيمة مصرية، ولم تستخدم دبورة ترنيمة مريم. “لا بد أن تكون هنالك ترانيم جديدة في مناسبات انتصارات جديدة.” سبيرجن (Spurgeon)
· تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً: “لا يمكن أن تعتق أبدًا ترنيمة النعمة الفادية رغم تكرار نفس الكلمات… أليست مراحمه كل صباح، وأمانته كل ليلة؟ ألا تعمل محبته على بسط مائدتك لوجبات جديدة؟ وترتب سريرك لسبات جديد؟ وتهىء نفسك لراحة ومتع جديدة؟ ابحث عن هذه إلى أن يوصلك التأمل إلى الشكر.” ميير (Meyer)
· “من الواضح أن ترنيمة جديدة في سياق رجاء الانتصار هذا تعني ترنيمة تؤلَّف لهذه المناسبة. ويبدو أن أية اقتراحات أخرى إسهاب زائد.” كيدنر (Kidner)
٢. لأَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ: للترنيمة الجديدة سبب – أن تمجّد أعمال الله العظيمة وعجائبه. فليست مديحًا فارغًا، أو ترنيمًا لأجل الترنيم نفسه. فالعبادة مرتبطة بخبراتنا لعجائبه في حياتنا.
· عَجَائِبَ: “الكلمة العبرية هي Niphlaoth وتعني ’معجزات‘ وهي نفس الكلمة المستخدمة في مزمور ٣:٩٦، حيث تترجم إلى عجائب أيضًا.” كلارك (Clarke)
٣. يَمِينُهُ وَذِرَاعُ قُدْسِهِ: هاتان أداتا الانتصار، وهما تعبيران عن مهارته وقدرته. وكما في إشعياء ١٠:٥٢، فإن فكرة ذراع قُدسه هي أن الله شمّر عن ساعديه ليقوم بعمل عظيم. وقد أحرزت يمينه وذراعه معًا هذا الانتصار.
· يَمِينُهُ: “وهكذا حارب المسيح معركتنا بيمينه. فعل هذا براحة وبقوة وبحكمة لا نهائية.” سبيرجن (Spurgeon)
· “عندما يبتهج صاحب المزمور بخلاص الله المعلن من أجل إسرائيل، فإنه يؤكد حقيقة أن الرب وحده هو الذي يحققه. كانت يَمِينُهُ وَذِرَاعُ قُدْسِهِ الأداتين المتاحتين لصنع الخلاص.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٢-٣): إعلان انتصار الرب.
٢أَعْلَنَ الرَّبُّ خَلاَصَهُ. لِعُيُونِ الأُمَمِ كَشَفَ بِرَّهُ. ٣ذَكَرَ رَحْمَتَهُ وَأَمَانَتَهُ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. رَأَتْ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ خَلاَصَ إِلهِنَا.
١. أَعْلَنَ الرَّبُّ خَلاَصَهُ: عُرضت عجائب الله المذكورة في الآية ١ أمام عيون الأمم.
· هذا واضح بسبب الطبيعة العلنية لعمل الله المتكشف.
· هذه نبوّة ليوم آتٍ عندما تسمع كل الأرض.
· هذا حضٌّ لشعب الله على المناداة برسالة خلاصه وبره.
ü خلاصه… برّه: “قام الله بقوته بتحقيق الانتصار. وظهر خلاصه وبرّه. وهاتان الكلمتان مرادفتان في الإشارة إلى نظام الله العادل على الأرض في تحقيق للكلمة النبوية (انظر إشعياء ١٣:٤٦؛ ٥١: ٥ -٦، ٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
ü أعلن (عرَّف): “ينبغي تسبيح الله، لا على تحقيقه للخلاص فحسب، بل أيضًا على التعريف به والإعلان عنه، لأن الإنسان ما كان ليكتشف ذلك بنفسه.” سبيرجن (Spurgeon)
ü يبيّن العهد الجديد أن الله عرّف بخلاصه بطريقة تجاوزت توقعات صاحب المزمور. فشخص يسوع المسيح وعمله وانتشار رسالة الإنجيل عبْر العالم هو تحقيقٌ لهذا.
ü “احتفل صاحب المزمور العبراني بحقيقةٍ بالكاد أدرك قيمتها الكاملة.” مورجان (Morgan)
٢. ذَكَرَ رَحْمَتَهُ وَأَمَانَتَهُ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: من الأمور العظيمة حول الله رحمته التي لا تنتهي وأمانته لعهده مع شعبه من خلال إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وإنه لأمر غريب أن يعتقد بعضهم أن الله نسي رحمته وأمانته لبيت إسرائيل.
٣. رَأَتْ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ خَلاَصَ إِلهِنَا: تمركز عمل الله في بيت إسرائيل، لكن أَقَاصِي الأَرْضِ لم تُنسَ. فمن بداية عهد الله مع إبراهيم، كانت كل قبائل الأرض ضمن خطة الله ونصب عينيه (سفر التكوين ٣:١٢).
· كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ: “كل سكان العالم من طرف إلى طرف.” بوله (Poole)
ثانيًا. جلب تسبيح مع موسيقى
أ ) الآية (٤): موسيقى ترنيمة فرِحة.
٤اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ. اهْتِفُوا وَرَنِّمُوا وَغَنُّوا.
١. اِهْتِفِي (رنّموا بفرح وبصوت عالٍ) لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ: بما أن بشارة عجائب الله (الآية ١) وصلت إلى أقاصي الأرض (الآية ٣)، فإنه صواب أن تترنم كل الأرض للرب.
· “نحن نجد الهتاف المذكور في الآيتين ٤و٦ في موضع آخر عندما ينطلق صراخ عفوي يمكن أن يحيّي ملكًا أو يحتفل بلحظة انتصار. وهذه هي نفس الكلمة المستخدمة في زكريا ٩:٩ التي تتضمن تحقيقًا لأحد الشعانين.” كيدنر (Kidner)
· “كان صوت عبادة الهيكل أسطوريًا حسب وصف مارفن إي. تيت (Marvin E. Tate). وهو يشير إلى عبادة إسرائيل في ٢ أخبار ٢٩: ٢٥–٣٠ و عزرا ٣: ١٠–١٣ حيث يقال في النص الثاني إن صوت الآلات وهتافات الشعب كان يُسمع عن بُعد (عزرا ١٣:٣).” بويس (Boice)
٢. اهْتِفُوا وَرَنِّمُوا وَغَنُّوا: ينبغي أن يكون التسبيح حماسيًّا ومتنوِّعًا وفي شكل ترنيم. وهو على نقيض الغناء الممل الكئيب.
ب) الآيات (٥-٦): موسيقى آلات كثيرة.
٥رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بِعُودٍ. بِعُودٍ وَصَوْتِ نَشِيدٍ. ٦بِالأَبْوَاقِ وَصَوْتِ الصُّورِ اهْتِفُوا قُدَّامَ الْمَلِكِ الرَّبِّ!
١. رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بِعُودٍ: يمكن أن يُفهم هذا بمعنيين: الأول هو أنه ينبغي أن يصاحَب الترنيم المذكور في الآية ٤ بالموسيقى. والثاني هو أن الآلات الموسيقية نفسها ترنم للرب ترنيمة تسبيح.
٢. بِعُودٍ وَصَوْتِ نَشِيدٍ. بِالأَبْوَاقِ وَصَوْتِ الصُّورِ: كان وجود فرقة موسيقية عنصرًا إضافيًّا إلى الترنيم والتسبيح وهتافات الفرح. ويَفترض تنويع الآلات مستوى معيّنًا من الجهد والمهارة بين الموسيقيين.
· وَصَوْتِ نَشِيدٍ (مزمار): “أعتقد أن الكلمة العبرية Zimrah والتي تترجم في بعض الترجمات إلى ’مزمور‘ أو إلى نوع من الآلات الموسيقية أو نوع من الأناشيد التي تتميز بتصاعد طبقات الأصوات المختلفة.” كلارك (Clarke)
· بِالأَبْوَاقِ: “يعلن البوق Shofar أحداثًا مهمة مثل سنة اليوبيل أو اعتلاء ملك عرش البلاد (لاويين ٩:٢٥ فصاعدًا؛ ١ ملوك ٣٩:١).” كيدنر (Kidner)
ثالثًا. تسبيح جليل من كل خليقة
أ ) الآيات (٧-٨): تسبيح من كل خليقة.
٧ليَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ، الْمَسْكُونَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا. ٨الأَنْهَارُ لِتُصَفِّقْ بِالأَيَادِي، الْجِبَالُ لِتُرَنِّمْ مَعًا أَمَامَ الرَّبِّ.
١. ليَعِجَّ الْبَحْرُ وَمِلْؤُهُ: لم تكن الآلات الموسيقية المذكورة في الآيات السابقة هي الأصوات الوحيدة التي تعطي الله التسبيح المستحَق له. فالبحر مدعو الآن إلى إضافة عجيجه إلى أصوات التسبيح. ثمّ تُضَم الجبال والأنهار إلى فريق العبادة بأصواتها الفرِحة.
· “تشكل هذه الالتماسات المقدمة إلى الطبيعة في اختصاصاتها العظيمة – البحر بعجيجه، والأرض بفيضاناتها وجبالها – لا تحذيرًا، بل دعوة للخدام المسيحيين إلى المزيد من الإقرار في صلواتهم وعظاتهم بإله الخليقة، بدلًا من أن يقيدوا أنفسهم بشكل حصري بالحديث عن العقائد المسيحية. افعل الأولى ولا تهمل الثانية.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن تشالمرز(Chalmers)
٢. الْمَسْكُونَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا: الصورة الشعرية لتسبيح الرب من الطبيعة الجامدة رائعة، لكنها ليست كافية. إذ ينبغي أن يصدر التسبيح عن الساكنين فيها – وربما ليست هذه إشارة إلى البشر وحدهم، بل إلى عالم الحيوان أيضًا.
· “يطلب صاحب المزمور – وهو يرى بالروح تحقيق الوعود، ومجيء المسيح، ومجد المملكة – من العالم كله أن ينفجر فرحًا.” هورن (Horne)
ب) الآية (٩): سبب التسبيح العظيم.
٩لأَنَّهُ جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ.
١. لأَنَّهُ جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ: لا يأتي التسبيح القوي العظيم الموصوف في هذا المزمور بسبب العجائب التي صنعها الرب فحسب (الآية ١)، بل بسبب العمل الذي يوشك أن يفعله أيضًا، حيث سيدين العالم بالبر. وسيكون حُكمه البار مدعاة لارتياح كل الخليقة التي تأثرت بالخطية وبتمرد الإنسان.
· “يسهب بولس في شرح هذه النقطة في رومية ١٩:٨ فصاعدًا، حيث إن الطبيعة لن تعود من تلقاء نفسها إلى حالتها الكاملة إلى أن يُحكَم سيدها الحقيقي، الإنسان، بالعدل والاستقامة.” كيدنر (Kidner)
· “أفكّر في الطريقة التي طوّر بها سي. أس. لويس(C. S. Lewis) هذه الفكرة في قصته ’الأسد والساحرة وخزانة الملابس‘ (نارنيا). ففي القسم الأول من الكتاب، عندما نجد نارنيا تحت قوة ساحرة الشمال الشريرة، كانت الأرض في حالة شتاء دائم من دون ربيع على الإطلاق. لكن عندما قام أصلان من بين الأموات، بدأ الجليد يذوب، والأزهار تتفتح، والأشجار تخضرّ. هذه صورة شعرية، لكنها تصف شيئًا سيحدث. فالأنهار ستصفق بأيديها حقًّا، وستترنم الجبال فعلًا. وسننضم جميعًا إليها.” بويس (Boice)