تفسير سفر المزامير – مزمور ١٠٤
إله الخليقة
“ليس لهذا المزمور أي عنوان لا في النص العبري ولا الكلداني، لكنه يُنسب إلى داود في ترجمات الفلجاتا، والسبعينية، والحبشية، والعربية، والسريانية.” (آدم كلارك)
“يعطي هذا المزمور تفسيرًا للأصوات الكثيرة، وهو يتغنى بكل من الطبيعة والرعاية الإلهية. وتتضمن هذه القصيدة عوالم تامّة: البحر واليابسة، السحاب وضوء الشمس، النبات والحيوان، النور والظلمة، الحياة والموت. وكلها برهان لحضور الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
أولًا. مجد خليقة الله في النور والملائكة والأرض والمياه
أ ) الآيات (١-٢): تسبيح إله الكرامة والجلال والقدرة.
١بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلهِي، قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا. مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. ٢اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ.
١. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ: تكررت هذه العبارة ثلاث مرات في المزمور السابق. وهي دعوة إلى عبادة الله بالروح وبالحق، والقيام بهذا من أعماق القلب.
٢. قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا: عبدَ صاحب المزمور الرب بصفته إلهه الذي يرتدي الكرامة والجلال – (مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ). غالبًا ما كانت توصف آلهة الشعوب الوثنية بسلوك فظ ومخجل. لكن إله عهد إسرائيل معروف بكرامته وجلاله.
· “تصف هذه الآية كل عمل الخلق في فكرة فخمة واحدة. ففي هذا العمل، أظهر الإله غير المنظور نفسه في بهاء ومجد، جاعلًا هذه الصفات المتأصلة منظورة. وهذا هو أعمق معنى للخليقة. فالكون هو ثوب الله.” ماكلارين (Maclaren)
٣. اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ: كرامة الله وجلاله واضحان مثل وضوح لباس الإنسان. وكذلك هو نقاء كينونته الشبيه بالنور. وكما بدأ سفر التكوين في سرده للخلق بالحديث عن النور، فإن صاحب المزمور يذكر النور أولًا.
· “الأنماط قريبة بما يكفي لإظهار أنه خطر ببال صاحب المزمور سفر التكوين أثناء عمله على كتابة هذا المزمور. ولن نكون مخطئين كثيرًا إذا قلنا إن المزمور ١٠٤ يمثل تأملًا في الرواية الفعلية لسفر التكوين.” بويس (Boice)
· “صيغت بُنية المزمور بشكل وثيق إلى حدّ ما على غرار سفر التكوين ١، مع أخذ مراحل الخلق كنقاط بداية للتسبيح.” كيدنر (Kidner)
· يمكننا أن نفهم بطريقة ضيقة فكرة النور كثوب بتأملنا في هيئة يسوع عند التجلي: “وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَٱلشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَٱلنُّورِ.” (متى ١٧: ٢).
· تقول ١ تيموثاوس ٦: ١٦ إن الله يسكن في نور لا يُدنى منه. وربما يكون هذا وصفًا أو تلميحًا للنور كثوب. “إن كان النور ثوبًا وحجابًا، فكيف يكون البهاء المتوهج لكينونته الجوهرية! إننا نتوه في الدهشة ولا نجرؤ على التحديق في هذا السر العميق لئلا يعمينا مجده الذي لا يُحتمل.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ: إن قوة الله ظاهرة أيضًا بصفته ذاك الذي خلق السماوات الشاسعة. وبما أن الخالق أعظم من خليقته، فإن الله الذي خلق السماوات مثير للإعجاب أيضًا.
ب) الآيات (٣-٤): قوة الله العليا المنظورة في الخليقة.
٣الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. ٤الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً.
١. الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ: يستطيع إله كل خليقة أن يبني ويفعل ما لا يستطيع آخرون أن يفعلوه. فهو لا يشترك في محدودية الخلائق. إذ يجعل السماء مركبته، ويمشي على أجنحة الريح.
· الصورة الموصوفة ممتلئة بالنشاط والإثارة. “تأخذ الاستعارة أجزاءها وقِواها كثوب وخيمة وقصر ومركبة لتدعونا إلى أن نرى العالم كشيء يُسرّ به الرب، شيء مشحون بطاقته وحيّ بحضوره.” كيدنر (Kidner)
· “الرب محاط بخدامه، سواء أكانوا كائنات مخلوقة مثل الملائكة أم كقوى كامنة في نظامه المخلوق (الرياح، الرعود). ويصوَّر الخالق الملك على أنه يقود مركبته، وهذا رمز لإدارته للخليقة.” فانجيميرين (VanGemeren)
· عَلاَلِيَهُ: “الحجرات العلوية المبنية فوق الطابق الأول لأغراض الخصوصية والعزلة (انظر ١ ملوك ١٧: ١٩؛ ٢ ملوك ٤: ١٠). وهي تمثل انخراط الله وانفصاله معًا من العالم (عاموس ٩: ٦).” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً: يسود الله على الملائكة أيضًا ويعدهم للقيام بمأموريّات كما يشاء.
· اقتبس كاتب الرسالة إلى العبرانيين الآية ٤ وكشف أن الشخص المتكلم عنه هنا هو المسيّا، يسوع المسيح (عبرانيين ١: ٧). ويثبّت هذا ألوهة يسوع المسيح، لأن الملائكة تخصه، والملائكة ملائكته وخدامه.
ج) الآيات (٥-٩): قوة الله الواضحة في الطوفان وآثاره.
٥الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. ٦كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ. فَوْقَ الْجِبَالِ تَقِفُ الْمِيَاهُ. ٧مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ، مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ. ٨تَصْعَدُ إِلَى الْجِبَالِ. تَنْزِلُ إِلَى الْبِقَاعِ، إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا. ٩وَضَعْتَ لَهَا تَخْمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ. لاَ تَرْجعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ.
١. الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا: فهِم صاحب المزمور أن الله هو خالق كل الأشياء، وأنه وضع قواعد للأرض. فلم يحدث هذا صدفة أو عن طريق أحداث عشوائية. إذ هنالك خالق وراء الكون.
· من نواحٍ كثيرة، يتميّز العصر الحديث برفض الإنسان لله بصفته الخالق. فبعد أن تخلت البشرية عن الحق الأساسي، فإنها تنجرف من دون أي إحساس بالمسؤولية والمساءلة تجاه خالقها.
٢. فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ: إن ما بناه الله فقد بناه حسنًا. فقواعد الأرض متينة ولن تَتَزَعْزَع إلى أن يزعزعها الله نفسه.
· عَلَى قَوَاعِدِهَا: “على نفسها، أو على وزنها، حيث تقف ثابتة لا تتزعزع، كما لو أنها بُنيت على أقوى القواعد التي يمكن تخيُّلها. وهذا عمل مذهل لقوة الله وحكمته.” بوله (Poole)
٣. كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ: كان في ذهن صاحب المزمور حدثان، انفصال المياه في الخليقة (سفر التكوين ١: ٩-١٠)، والطوفان الشامل الموصوف في سفر التكوين ٧. وقد فهِم من قراءته لسفر التكوين ٧: ١٩-٢٠ أن المياه وقفت فوق الجبال. “وَتَعَاظَمَتِ ٱلْمِيَاهُ كَثِيرًا جِدًّا عَلَى ٱلْأَرْضِ، فَتَغَطَّتْ جَمِيعُ ٱلْجِبَالِ ٱلشَّامِخَةِ ٱلَّتِي تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاءِ. خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا فِي ٱلِٱرْتِفَاعِ تَعَاظَمَتِ ٱلْمِيَاهُ، فَتَغَطَّتِ ٱلْجِبَالُ.”
· “وبالفعل، فإن عملية الخلق مشابهة تمامًا في مسألة الطوفان في ما يتعلق بالظروف المذكورة هنا، بحيث إنه لا يهم على أي واحد منها ينطبق هذا النص الشعري الجميل.” هورن (Horne)
٤. مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ: عندما غطت المياه الأرض إلى ارتفاع كبير، جعلها الله تتراجع (سفر التكوين ٨: ٣). ووصف صاحب المزمور هذا انتهارًا للمياه، ويصف صَوْتِ الله شعريًا بأنه رعد (رَعْدِكَ).
· وبعد قرون، سينتهر الله الابن المياه وسيهدئها (متى ٨: ٢٦).
٥. إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا: تراجعت المياه إلى المكان الذي عيّنه لها الله. فوَضَع لَهَا تَخْمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ. لاَ تَرْجعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ، كما وعد (سفر التكوين ٨: ١١-١٧).
· “لا تمنع مياه البحر من تدمير الأرض فحسب، لكن بطريقة عجيبة تصبح وسيلة للحفاظ على كل شيء حي يتحرك من ذلك الوقت فصاعدًا.” هورن (Horne)
د ) الآيات (١٠-١٣): ما فعله الله بمياه الأرض.
١٠اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ. بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي. ١١تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ. تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمْأَهَا. ١٢فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا. ١٣السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ.
١. اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ: أشار صاحب المزمور في القسم السابق إلى ما فعله الله بمياه الأرض بعد الطوفان في زمن نوح. وهو الآن يتأمل كيف وزّع المياه عبر اليابسة، مرسِلًا عيونًا في الأودية لتَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ.
٢. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ: والآن يتأمل صاحب المزمور كيف أن الماء والنباتات والحيوانات تجد مكانها في خطة الله ونظامه. فتشرب الحمير الوحشية (تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمْأَهَا). وللطيور بيت لكي تغني بين الأشجار (فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا). رأى عالَمًا متناغمًا صالحًا في الطبيعة. وعرف أن الرب وراء ذلك كله.
· “يذكر الحمير البرية (الْفِرَاءُ) لأنها جزئيًا مخلوقات جافة وعطشانة، وجزئيًّا لأنها تعيش في برية لا يحكمها بشر ولا يضعون لها اعتبارًا. وهي مخلوقات غبية، إلا أن الله يهتم بها ويدبر احتياجها بوفرة بسبب عنايته الإلهية.” بوله (Poole)
· مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا: “إن كانت هذه المخلوقات الصغيرة من أعضاء جوقة الهواء، بعد أن أنعشتها الجداول التي تسكن قربها، تعبّر بطريقتها الخاصة عن امتنانها بتسابيح لصانعها وحافظها، فكم بالحري المؤمنين الذين يتمتعون بوسائل الراحة، والذين ينهلون جرعات غزيرة من مياه الحياة الأبدية، أن يخجلوا، حيث إنه رغم هذه البركات العظيمة، لا يقدمون الشكر عليها ولا يرنمون للرب ترانيم صهيون.” هورن (Horne)
ثانيًا. مجد خليقة الله في الأشياء الحية والنباتات والحيوانات.
أ ) الآيات (١٤-١٨): عالم طبيعة الله الرائعة.
١٤الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْضِ، ١٥وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ، لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ الزَّيْتِ، وَخُبْزٍ يُسْنِدُ قَلْبَ الإِنْسَانِ. ١٦تَشْبَعُ أَشْجَارُ الرَّبِّ، أَرْزُ لُبْنَانَ الَّذِي نَصَبَهُ. ١٧حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ. أَمَّا اللَّقْلَقُ فَالسَّرْوُ بَيْتُهُ. ١٨الْجِبَالُ الْعَالِيَةُ لِلْوُعُولِ، الصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ.
١. الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ: واصل صاحب المزمور حديثه عن الطبيعة، حيث رأى أن الله يدبر عُشْبًا للحيوان، وَخُضْرَةً (نباتًا) لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ.
· “تظهر القوة الإلهية بشكل فعال ومستحق للتقدير في إطعام الوحوش كما في تغذية الإنسان. وما عليك إلا أن تراقب أوراق العشب بعين تقية لترى أن الله يعمل داخلها.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْضِ: صمّم الله بيئة العالم لكي ينتج منها الإنسان بعمله طعامًا. وتحت بركة الله وعمل الإنسان، يكون الطعام المنتَج رائعًا. وتعطينا أرض الله خمرًا وزيتًا وخبزًا – كل واحد منها ببركته الخاصة وخيره الخاص.· وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ: “تميل الخمر بكمية معتدلة إلى إنعاش الإنسان وتنشيطه. قد تثير المسكرات القوية البهجة، لكنها تستهلك القوة. ومع كل جرعة منها، تصبح حالة الإنسان أسوأ. وعلى نقيض ذلك، فإن الخمر غير المغشوشة تعطي بهجة للإنسان وتنشطه، وتجعله بشوشًا، وتوفّر استمرارًا لهذه البشاشة بتقوية عضلاته وتمتين أعصابه. هذه هي فائدتها. لكن بالنسبة للذين يستمرون في الشرب إلى أن يحرقهم، فإنهم يسيئون استخدام كرم الله.” كلارك (Clarke)
٣. تَشْبَعُ أَشْجَارُ الرَّبِّ (تمتلئ بالنسغ): كانت لدى صاحب المزمور رؤية لطبيعة موفورة الصحة والحيوية. وفكّر في أَرْزُ لُبْنَانَ القوية وكيف أنها في صحتها الممتلئة نسغًا توفر مكانًا حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ.
· إنها أَشْجَارُ الرَّبِّ لأنها لم تزرعها أيدٍ بشرية. فالله هو الذي زرع تلك الأشجار القوية. “من الذين زرعوا بذار أرز لبنان، أو آلاف الأحراش أو الغابات في الكون؟ لقد زرع الله نفسه هذه البذار، وقد نمت وازدهرت من دون رعاية الإنسان!” كلارك (Clarke)
· “ماذا كان يمكن لصاحب المزمور أن يقول عن بعض الأشجار في وادي يوسيميتي؟ تستحق هذه الأشجار أن تُدعى أشجار الرب بسبب طولها وحجمها. هذه هي رعاية الله الفعلية والكافية. فإن كانت الأشجار التي لا يعتني بها إنسان ممتلئة نسغًا، يمكننا أن نطمئن إلى أن شعب الله الذين يحيون بالإيمان بالرب وحده، سيقوتهم ويحفظهم بشكل مماثل.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يمكنك أن تلاحظ أن كلمة ’نسغ‘ في الترجمة الإنجليزية مكتوبة بخط مائل. فهي غير موجودة في النص العبري. فالنص العبري (كما هو في النص العربي) يقول: ’تشبع أشجار الرب،‘ أشجار أرز لبنان التي زرعها.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يخبرنا مسافر أنه توجد في لحاء الخشب، حتى في مخروط شجرة الأرز، وفرة من الراتنج. فأشجار الأرز مشبعة بها حتى إنه يقول إنه بالكاد يلمس واحدة من أشجار أرز لبنان من دون أن يجد على يده زيت التربنتينة أو الراتنج على يديه. وينطبق هذا على المؤمن الصحّي بالمسيح حقًّا. إذ تظهر نعمته خارجيًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. أَمَّا اللَّقْلَقُ فَالسَّرْوُ بَيْتُهُ: للعصافير أعشاشها (حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ)، لكن للحيوانات الأخرى بيوتها، بما في ذلك اللقلق، فالصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ. ويوفر احتياجاته كلها إله حكيم مُحب.
· “يسمّى الوبار خطأ الزَّلَم. وهو حيوان صغير وخجول يسكن بين الصخور (انظر أمثال ٣٠: ٢٦).” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (١٩-٢٣): الشمس والقمر يباركان العالم الذي خلقه الله.
١٩صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا. ٢٠تَجْعَلُ ظُلْمَةً فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَان الْوَعْرِ. ٢١الأَشْبَالُ تُزَمْجِرُ لِتَخْطَفَ، وَلِتَلْتَمِسَ مِنَ اللهِ طَعَامَهَا. ٢٢تُشْرِقُ الشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ، وَفِي مَآوِيهَا تَرْبِضُ. ٢٣الإِنْسَانُ يَخْرُجُ إِلَى عَمَلِهِ، وَإِلَى شُغْلِهِ إِلَى الْمَسَاءِ.
١. صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ: حوّل صاحب المزمور انتباهه إلى القمر والشمس. وهما يعملان حسب خطة الله، حيث يوفر الليل لكي يَدِبَّ كُلُّ حَيَوَان الْوَعْرِ.
· “يسمَّى القمر أولًا لأن اليوم العبري كان يبدأ بالمساء.” ماكلارين (Maclaren)
· “نسب الكنعانيون المطر، وضوء الشمس، ودورة القمر إلى آلهة معينة. لكن بالنسبة لإسرائيل، كان الرب يسود على كل الخليقة ويؤسس نظامًا حسب إدارته الحكيمة.” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. تُشْرِقُ الشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ: كما يوفر الله الليل لينام فيه الإنسان، كذلك يدبر النهار حيث تضطجع الأسود والحيوانات الليلية الأخرى في أوكارها. فعندما تنام الأسود، يذهب الإنسان إلى عمله حتى المساء، حيث يعمل كل شيء حسب خطة الله الحكيمة للخليقة.
· “لا يطعم الله الخراف والحملان فقط، بل الذئاب والأسود أيضًا. وإنه لتعبير غريب أنه عندما تزأر الأسود وراء فريستها يقال إنها تَلْتَمِسُ مِنَ اللهِ طَعَامَهَا. ويوحي هذا بأنه لا قوّتها ولا براعتها هي التي تطعمها. فمن دون عون الله، فإن أقوى الحيوانات – إذا تُركت لوحدها – لا تستطيع أن تساعد نفسها.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
· “لن يكون ملائمًا للبشر والوحوش البرية أن تجمع طعامها في الوقت نفسه. إذ تُعطى هذه الحيوانات الليل لتأمين فريستها، وتُعطى النهار لترتاح فيه. فعندما يعمل الإنسان، ترتاح تلك الوحوش. وعندما يرتاح الإنسان، فإنها تعمل.” كلارك (Clarke)
ج) الآيات (٢٤-٢٦): أعجوبة البحر الذي خلقه الله.
٢٤مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ. ٢٥هذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. ٢٦هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ. لِوِيَاثَانُ هذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ.
١. مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ (ما أكثر تنوُّعها!): يستمر صاحب المزمور في دهشته وهو ينظر الطبيعة والخليقة. وهو لا يراها نتيجة لأحداث عشوائية بلا قصد، بل كأعمال حكيمة لإله حكيم لديه الحق في مُلكية كل شيء (مِنْ غِنَاكَ).
· أَعْمَالَكَ… مِنْ غِنَاكَ: “إنها كلها مُلك لله، ولا ينبغي أن تُستخدم إلا في إشارة إلى الغاية التي خُلقت من أجلها. وإن كل إساءة استخدام لمخلوقات الله إنما هي سرقة ونهب من ملكية الخالق.” كلارك (Clarke)
٢. هذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ: فكّر صاحب المزمور بعظمة المحيطات (وفي هذه الحالة، البحر الأبيض المتوسط) وَاسِعة الأَطْرَافِ التي تضم أشياء لا عدد لها، بما في ذلك أشياء عظيمة وغامضة مثل لِوِيَاثَانُ المذكور في أيوب ٤١ أيضًا.
· “لا يوجد في كل الطبيعة شيء أكثر جاذبية وإذهالًا من المحيطات.” هورن (Horne)
· لِوِيَاثَانُ: “ربما يعني ’الحوت‘ أو أي حيوان بحري ضخم. وتدعوه الترجمة السبعونية والفلجاتا ’التنين،‘ ويُقصد بهذه التسمية أحيانًا التمساح.” كلارك (Clarke)
· “أما بالنسبة للِوِيَاثَان الذي يمكن أن يكون لاسمه رنّة شريرة (انظر ٧٤: ١٣-١٥)، فإنه يقدَّم مظهره ببساطة كمخلوق ضخم لعوب يسر وجوده خالقه.” كدنر (Kidner)
ثالثًا. الله والعالم الذي خلقه
أ ) الآيات (٢٧-٣٠): اعتماد الخليقة على الله.
٢٧كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ. ٢٨تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْرًا. ٢٩تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ، وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ. ٣٠تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ.
١. كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا: فكّر صاحب المزمور في كل أنواع المخلوقات في الأرض والبحر والهواء، وأدرك أنها كُلُّهَا تعتمد على الله الذي يدبّر احتياجها فِي حِينِهِ.
· فِي حِينِهِ: “لدى الله توقيت لكل شيء. فهو لا يطعم مخلوقاته بطريقة عشوائية. وهو يَرْزُقُهَا قُوتَهَا بكميات ملائمة لاحتياجاتها. وهذا هو كل ما يتوقعه كل واحد منا. فإن كانت الحيوانات البهيمة قانعة بكفايتها، فلا ينبغي أن نكون أكثر جشعًا منها.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ: يعطي الله الحيوانات، لكنه لا يسكب طعامًا من السماء في أفواهها. هو يدبر، ولكن عليها أن تجمعها (فَتَلْتَقِطُ).
· “عندما نرى الدجاجات وهي تلتقط الذرة التي تبعثرها ربة بيت من حضنها، فإننا نرى مثلًا توضيحيًّا ملائمًا للأسلوب الذي يزود به الرب احتياجات كل الكائنات. فهو يعطي وهي تلتقط.” سبيرجن (Spurgeon)
· “تدل كلمة ’تلتقط‘ على الجمع من الأرض. وقد استُخدمت في تاريخ المنّ (خروج ١٦: ١، ٥، ١٦). ويوجد في هذه الآية تلميح واضح إليه. وتفترض عملية الالتقاط من الأرض إلقاء سابقًا من السماء إلى الأرض.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ألكزاندر (Alexander)
· هذه طريقة رائعة ليفكر بها شعب الله في تدبيره. فالله يدبر ويعطي، لكن يتوجب علينا أن نجمع (نلتقط). وخيرُه محيط بنا، ونحن نحتاج ببساطة إلى حكمة وجهد لنجمعه.
· ينطبق هذا المبدأ على الكرازة بالإنجيل أيضًا. “الله مستعد أن يعطينا نفوسًا إذا صلّينا من أجلها. لكن يتوجب علينا أن نسعى وراءها. فعندما يدعو الرب شخصًا ليتكلم باسمه، فإنه ينوي أن يعطيه بعض النجاح، لكن يتوجب عليه أن يكون يقظًا ومستعدًّا لجمعها.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ: تعتمد الخليقة على الله حتى إنه لو أخفى وجوده (تَحْجُبُ وَجْهَكَ)، أو أخذ أنفاسها (تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا)، فإنها سرعان ما تهلك (فَتَمُوتُ). ويبدو أن الخليقة أكثر تجاوبًا وخضوعًا له من البشر.
٤. تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ: يعني انسحاب حضور الله أو منْع رضاه تدمير كل خليقة، بينما يعني سكب روحه حياة وتجديدًا (تُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ).
· تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ: “يخلق روح الله كل يوم. ما الذي يجعل الكائنات تستمر في كينونتها المخلوقة غير الرعاية الإلهية؟ هذه مقولة صحيحة في اللاهوت. فالرعاية الإلهية استمرار للخلق.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
ب) الآيات (٣١-٣٢): مباركة إله كل خليقة.
٣١يَكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ. ٣٢النَّاظِرُ إِلَى الأَرْضِ فَتَرْتَعِدُ. يَمَسُّ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنُ.
١. يكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ: عندما تأمّل صاحب المزمور في قوة الله وحكمته في كل الخليقة، تاق إلى أن يدوم مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ.
· “قد تزول أعماله، لكن ليس مجده. والرب مستحق التسبيح بلا توقف حتى ولو كان ذلك من أجل ما فعله بالفعل فقط.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ: أراد صاحب المزمور أن يجد مسرة في ما خلقه. ويوحي هذا بأنه يتوجب على خلائقه التي أنعم عليها بخيار عقلاني (مثل البشر) أن تتعمد اختيار إعطاء الله أسبابًا ليفرح بِأَعْمَالِهِ.
· “لعل هذه أعلى نغمة وأجرؤها في ترنيمة التسبيح هذه. كان صاحب المزمور متأثرًا بمجد الخليقة وجمالها وروعتها، حتى إنه ناشد الله بشكل إيجابي أن يفرح في ما صنعه.” مورجان (Morgan)
· “كما فعل عند الخلق، عندما رأى أن كل شيء حسن وحسن جدًّا، فإنه ما زال يرى أن ما يفعله حسن، عندما يرى أن الخلائق تحصل على طعامها، وعندما يعطيه البشر كل مجد.” تراب (Trapp)
· “لا يوجد هنا ما يتسم بعدم التوقير هنا. فهو تعبير عن فهم عميق لنفْس لما يحس به الله في ضوء أعماله القديرة والعجيبة.” مورجان (Morgan)
٣. النَّاظِرُ إِلَى الأَرْضِ فَتَرْتَعِدُ. يَمَسُّ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنُ: يمكن أن يكون ارتعاد الأرض ودخان الجبال إشارة إلى حضور الله المعلَن في جبل سيناء (خروج ١٩). وتشكل هذه الصورة تذكارًا لقوة الله وقدرته الفائقة.
ج) الآيات (٣٣-٣٥): العزم على تسبيح الله في ترنيم وتأمُّل.
٣٣أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي. أُرَنِّمُ لإِلهِي مَا دُمْتُ مَوْجُودًا. ٣٤فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي، وَأَنَا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. ٣٥لِتُبَدِ الْخُطَاةُ مِنَ الأَرْضِ وَالأَشْرَارُ لاَ يَكُونُوا بَعْدُ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. هَلِّلُويَا.
١. أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي: لا يركز هذا المزمور الرائع على الله بصفته فاديًا أو مخلّصًا. إذ ينصبّ تركيزه على عظمة الله وصلاحه كما يظهران في الخليقة. لكن هذا كان كافيًا لكي يقرر صاحب المزمور أن يترنم للرب طوال عمره (أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي).
· “بالنسبة لصاحب المزمور، كان التسبيح طوال العمر غير كافٍ لإكرام الله بشكل ملائم.” بويس (Boice)
· يبيّن هذا مرة أخرى أهمية معرفة الله كخالق. إذ لرفض الله كخالق آثار عميقة رهيبة في العقول والقلوب في العصر الحديث.
٢. فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي (ليته يستطيب تأملاتي): فهِم صاحب المزمور أن الله يُعبَد بأفكارنا، وأن ما نختار أن نثبّت فكرنا عليه مقياس لما نثمّنه حقًّا. وبعد أن عرف عظمة الله وصلاحه كما هما معلنان في الخليقة، أراد أن يستطيب الله أفكاره وتأملاته.
· الخليقة موضوع رائع للتأمل العذب، لكن لدينا موضوعات أعظم. “الفداء موضوع مفضل للتأمل على الخلق، لأن عجائبه أعظم.” سبيرجن (Spurgeon)
· “كانت الكلمات الأخيرة التي كتبها هنري مارتن وهو يموت بين المسلمين في إيران: “جلست في البستان وفكّرت في تعزيات إلهي العذبة وسلامه، في عزلتي مع رفيقي وصديقي ومعزيَّ.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَأَنَا أَفْرَحُ بِالرَّبّ: مرة أخرى، نحس بنغمة التصميم. لقد اختار أن يكون فرِحًا في الرب، حيث صنع اختياره العقلاني في ضوء إعلان الله لنفسه من خلال الخليقة.
٤. لِتُبَدِ الْخُطَاةُ مِنَ الأَرْضِ: ربما كان هذا إعلانًا غريبًا صارمًا في هذا المزمور. غير أن هذه هي العاقبة المنطقية للذين يرفضون الله كخالق. وقد طوّر بولس هذه الفكرة في رومية ١ حول مذنوبية رافضي الله كخالق، وعبادة المخلوق بدلًا من الخالق، وعن عواقب ذلك.
· “ليس صاحب المزمور انتقاميًّا في صلاته ضد الأشرار، لكنه يتوق إلى عالم مثبّت ومحفوظ من الرب من دون أي تدخل خارجي.” فانجيميرين (VanGemeren)
٥. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ: أُجبر صاحب المزمور على النظر في العواقب المظلمة للذين يرفضون الله كخالق. لكنه لم يُرد أن ينهي مزموره بهذه النغمة السوداء. فهو ينهي بدعوة استثنائية لنفسه إلى مباركة الرب. وهذه هي الاستجابة الملائمة من المخلوق للخالق.
· بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. هَلِّلُويَا: “هذا هو أول مزمور يختم بكلمة هللويا (التسبيح ليهوه).” ماكلارين (Maclaren)
· “هذه هي أول مرة ترد فيها كلمة هللويا في سفر المزامير. وإنه لأمر ذو دلالة أنها اقترنت بصلاة لهلاك الأشرار، كما هو الحال في رؤيا يوحنا ١٩.” بويس (Boice)