تفسير سفر المزامير – مزمور ٦٦
كيف يستطيع الجميع أن يسبّحوا الله
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ. وكما هو الحال بالنسبة للمزمور ٦٥، يوصف بأنه مَزْمُورٌ وتَسْبِيحَةٌ (ترنيمة أو قصيدة غنائية) في الوقت نفسه. وهذا هو المزمور الأول منذ المزمور ٥٠ الذي لا يُنسب إلى داود.
“يقال إن هذا المزمور كان يُتلى في عيد الفصح في الكنيسة اليونانية. وهو يوصف في الكتاب المقدس اليوناني بأنه مزمور القيامة. ويمكن أن يُفهم بأنه يشير، بمعنى نبوي، إلى تجديد العالم من خلال هداية الأمم.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن دانييل كريسويل (Daniel Cresswell)
أولًا. تسبيح لإله الأرض
أ ) الآيات (١-٢): التغني بكرامة اسمه.
١اِهْتِفِي للهِ يَا كُلَّ الأَرْضِ! ٢رَنِّمُوا بِمَجْدِ اسْمِهِ. اجْعَلُوا تَسْبِيحَهُ مُمَجَّدًا.
١. اِهْتِفِي لِلهِ يَا كُلَّ ٱلْأَرْضِ: كما في المزمور السابق والتالي، فإن إسرائيل ليست وحدها المعنيّة بهذا المزمور، بل الأرض كلها. فقد فهِم صاحب المزمور أن الله ليس إلهًا على إسرائيل وحدها، بل على العالم كله. فكان أمرًا جيدًا وملائمًا أن يدعو الجميع إلى أن يسبحّوا الله بفرح.
· “ينبغي للملحنين في الكنيسة أن يتأكدوا من أن الأجواء فرِحة مبهجة. ولا نحتاج إلى كثير من الضوضاء، بل إلى صوت فرِح مُبهج.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ٱجْعَلُوا تَسْبِيحَهُ مُمَجَّدًا: ليس الترنيم الطريقة الوحيدة لتسبيح الله، لكنها واحدة من الطرق الرئيسية لذلك. وقد شجّع صاحب المزمور الجميع على أن يرنموا لمجد اسمه، وأن يفعلوا ذلك بطريقة تجعل تَسْبِيحَهُ مُمَجَّدًا.
· تطلب المديح التركيز على الشخص موضوع المديح. ويميل الشكر إلى أن يتركز على ما ناله المتكلم، ولهذا يمكن أن يصبح ضيقًا وغير مبالٍ نوعًا ما. وفي التعبير عن الشكر، يمكن أن تصبح الذات الموضوع الرئيسي، لكن هذا أقل احتمالًا أن يحدث في التسبيح.” بويس (Boice) نقلًا عن تيت (Tate)
ب) الآيات (٣-٤): كيف نسبّح الله.
٣قُولُوا للهِ: «مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ! مِنْ عِظَمِ قُوَّتِكَ تَتَمَلَّقُ لَكَ أَعْدَاؤُكَ. ٤كُلُّ الأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ وَتُرَنِّمُ لَكَ. تُرَنِّمُ لاسْمِكَ». سِلاَهْ.
١. قُولُوا لِلهِ: يعطي صاحب المزمور إرشادًا عمليًّا للذين يريدون أن يسبّحوا الله، فيخبرهم بما ينبغي أن يقولوا، وهو لا يعني هذا أن يفعلوه بطريقة آلية خالية من الشعور. بل يقدّم عونًا للقلوب التي تريد فعلًا أن تسبّح الله لكنها تحتاج إلى نوع من التعليم حول كيفية القيام بذلك. وهنالك مكان للتسبيح غير المنطوق (مزمور ١:٦٥)، لكن لا يتوجب أن يُهمَل التسبيح المنطوق.
· قُوْلُوا لِلهِ: “هنالك احتياج إلى مجرد التفكير في الله. فللتفكُّر والتأمّل والتكهن في الله والأمور الإلهية مكانها وزمانها، لكن هذا أكثر من مجرد التعبير عن الإعجاب.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جون دَون (John Donne)
٢. مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ: يمكن للمرء أن يبدأ تسبيح الله بالتفكير في عظمة عمله في الخلق والخلاص والاسترداد، ثم بإخباره عن مدى مهابة أعماله.
٣. مِنْ عِظَمِ قُوَّتِكَ تَتَمَلَّقُ (تخضع) لَكَ أَعْدَاؤُكَ: يمكن أن يستمر التسبيح بالإقرار بقوة الله العظيمة التي جلبت هذه الأعمال المهيبة. وهنالك أعداء لهذا الإله المهوب القوي، لكنهم سيُهزمون بقوّته وسيُخضعون له. وهذا سبب يدعو إلى تسبيح الله على انتصار قوّته على كل أعدائه.· لاحظ عدة مفسرين أن كلمة ’تَتَمَلَّقُ‘ المترجمة إلى ’خضوع‘ في بعض الترجمات تحمل معنى الخضوع غير المخْلِص وغير الطوعي لله. تشير الكلمة العبرية إلى أنهم سيُجبَرون على خضوع زائف. فالقوة تُحني ركبتي الإنسان، لكن المحبة تفوز بالقلب. قال فرعون إنه سيطلق إسرائيل، لكنه كذب على الله. إذ خضع بالكلام، لكن ليس بالفعل. وهنالك عشرات الآلاف، على الأرض وفي الجحيم، يقدّمون مثل هذا الولاء المقيّد للعليّ. فهم يخضعون لأنه لا يوجد لديهم خيار آخر أمامهم. فليس ولاؤهم، بل جبروته هو الذي يُبقيهم خاضعين لسيطرته غير المحدودة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إنه لأمر صحيح أنه يميّز أن الخضوع لن يكون دائمًا أصيلًا. فهو يستخدم نفس الكلمة التي تعبّر عن هذا المعنى في مزمور ٤٤:١٨، والتي تمثّل ’التظاهر بالولاء.‘” ماكلارين (Maclaren)
· تحمل الآيات في رسالة فيلبي ١٠:٢-١١ شيئًا من هذا المعنى: “لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ ٱلْأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ ٱللهِ ٱلْآبِ.”
٤. كُلُّ ٱلْأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ: يمكن أن يسبَّح الله بالإقرار بانتصاره النهائي على الأرض، وبجدارته بتلقي العبادة والتسابيح التي يقدّمونها له بحق.
٥. وَتُرَنِّمُ لَكَ. تُرَنِّمُ لِٱسْمِكَ: كان الاسم في ذهن اليهودي القديم أكثر من مجرد كلمة. إذ كان الاسم مُعرِّفًا ومحدِّدًا حقيقيًّا، وإشارة إلى المعدن الأدبي لمن يحمله. ويدل التسبيح هنا على شيء أعظم من الخضوع عن مضض في السطور السابقة. فهذا تسبيح يعرف شيئًا عن طبيعة الله ومعدنه الأدبي.
· “لا تسبّح العبادة المقبولة الله بصفته الرب الغامض، لكنها تقدّمه كاسمٍ عطِر بسبب قدر ما من معرفتنا باسمه أو معدنه الأدبي. فالله لا يقبل أن يُعبَد كإله مجهول، أو أن يقال عن شعبه: ’أنتم تسجدون لما لستم تعلمون.‘” سبيرجن (Spurgeon)
· سِلاهْ: “هذه فترة صمت وجيزة. فالتوقع المقدس يوضع بشكل جيد بعد مثل هذه النبوة العظيمة. ورفْع القلب أيضًا توجيه مناسب وفي أوانه. ولا يمكن أن يكون أي تأمُّل أكثر فرحًا من ذاك الذي يثيره توقُّع تصالُح عالم مع خالقه.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. تسبيح إله إسرائيل
أ ) الآيات (٥-٧): رؤية أعمال الله التي تجعله جديرًا بالتسبيح.
٥هَلُمَّ انْظُرُوا أَعْمَالَ اللهِ. فِعْلَهُ الْمُرْهِبَ نَحْوَ بَنِي آدَمَ! ٦حَوَّلَ الْبَحْرَ إِلَى يَبَسٍ، وَفِي النَّهْرِ عَبَرُوا بِالرِّجْلِ. هُنَاكَ فَرِحْنَا بِهِ. ٧مُتَسَلِّطٌ بِقُوَّتِهِ إِلَى الدَّهْرِ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ الأُمَمَ. الْمُتَمَرِّدُونَ لاَ يَرْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ. سِلاَهْ.
١. هَلُمَّ ٱنْظُرُوا أَعْمَالَ ٱللهِ: أحس صاحب المزمور أنه ربما يكون الآخرون بطيئين في التفكُّر بأعمال الله المهيبة (مزمور ٣:٦٦)، وهو يريد أن يقدم العون لهم، واصفًا كيف أن الله مهوب في أعماله نَحْوَ بَنِي آدَمَ.
· هَلُمَّ ٱنْظُرُوا: “يأخذ صاحب المزمور الناس بأيديهم، كما لو أنه يقودهم إلى منظر أنشطة الله البديعة.” تراب (Trapp)
٢. حَوَّلَ ٱلْبَحْرَ إِلَى يَبَسٍ، وَفِي ٱلنَّهْرِ عَبَرُوا بِٱلرِّجْلِ: انتقل صاحب المزمور إلى تاريخ كلمة الله، وتذكَّر كيف أن الله أظهر قوته بجلب إسرائيل عبر البحر الميت (سفر الخروج ٢١:١٤) ونهر الأردن (سفر يشوع ١٤:٣-١٦).
· كان بإمكان صاحب المزمور أن يختار أي شيء ليصف أَعْمَالَ ٱلله، لكنه اختار حدثين يبيّنان كيف أن الله يشترك في شؤون البشر. فإله القوة ليس متفرّجًا سلبيًّا، لكنه مشارك نشِط.
٣. هُنَاكَ فَرِحْنَا بِهِ: يتحدث صاحب المزمور بلغة المتكلم الجمع شاملًا نفسه بين بني إسرائيل الذين شاهدوا بأم عيونهم ذلك الحدث قبل مئات السنين من ولادته. وتخيل نفسه واقفًا أمام نهر الأردن مشيرًا إلى بقعة محددة قائلًا: “هناك حدث هذا. لم تكن أسطورة أو خرافة، ولهذا سنفرح به.”
· “لا يعفو الزمن على عمل الله أبدًا. فهو إعلان لكل الأنشطة الأبدية. فما كان هو موجود الآن. وما فعله ما زال يفعله الآن. ولهذا يستطيع الإيمان أن يتغذى على سجلات الماضي ويتوقع أن يتكرر كل ما يتضمنه.” ماكلارين (Maclaren)
· فَرِحْنَا بِهِ (سنفرح به): “تجدر الإشارة إلى أن فرح إسرائيل كان بإلهها. ولهذا ينبغي أن نفرح بإلهنا. وليس ما فعله، بقدر ما هو في شخصه، هو الذي يفترض أن يثير فينا فرحًا مقدسًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلْأُمَمَ: دعا صاحب المزمور الأرض كلها لتراقب أعمال الله وتعطيه التسبيح. وكان جديرًا بالتذكر أيضًا أنه يراقب الشعوب (عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلْأُمَمَ)، وينبغي لهم أن يرفعوا أنظارهم إلى ذاك الذي يراقبهم.
٥. ٱلْمُتَمَرِّدُونَ لَا يَرْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ (لا تدعِ المتمردين يرفعوا أنفسهم): في ضوء قدرة الله، ومشاركته في شؤون البشر، ومراقبته للعالم، فإن من الحمق أن يتمرد عليه أحد، ومن الجنون أن يمجد أحد نفسه ضده.
ب) الآيات (٨-١٢): أسباب أخرى لتسبيح الله.
٨بَارِكُوا إِلهَنَا يَا أَيُّهَا الشُّعُوبُ، وَسَمِّعُوا صَوْتَ تَسْبِيحِهِ. ٩الْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي الْحَيَاةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ أَرْجُلَنَا إِلَى الزَّلَلِ. ١٠لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اَللهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ الْفِضَّةِ. ١١أَدْخَلْتَنَا إِلَى الشَّبَكَةِ. جَعَلْتَ ضَغْطًا عَلَى مُتُونِنَا. ١٢رَكَّبْتَ أُنَاسًا عَلَى رُؤُوسِنَا. دَخَلْنَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى الْخِصْبِ.
١. بَارِكُوا إِلَهَنَا يَا أَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ: يكرر صاحب المزمور حثّه للأرض على تسبيح إله إسرائيل. وسيقدم مزيدًا من الأسباب لفعل ذلك.
· “تكشف الآية ٨ الاقتناع بأن بركات إسرائيل ستصل إلى العالم، كما سبق أن وعد الله إبراهيم.” كيدنر (Kidner)
· “لا يتوجب أن نكتفي بإطلاق تسبيحات لله، بل أن نحث الآخرين على فعل ذلك أيضًا.” تراب (Trapp)
٢. ٱلْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي ٱلْحَيَاةِ: يحافظ الله على شعبه معطيًا إياهم مركزًا آمنًا (وَلَمْ يُسَلِّمْ أَرْجُلَنَا إِلَى ٱلزَّلَلِ).
· جَرَّبْتَنَا يَا ٱللهُ: “جرِّبنا يا ربُّ، لكن مَكِّنّا من الصمود أمام المحنة!” هورن (Horne)
· “إن كان قد مكّننا من المحافظة على حياتنا وعلى مركزنا في الوقت نفسه، فإننا ملزمون بأن نعطيه تسبيحًا مضاعفًا. والحياة والصمود حالة القديس من خلال النعمة الإلهية. والذين يحفظهم الله خالدون وغير متزعزعين.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا ٱللهُ: يبارك الله شعبه، لكن البركة تأتي أحيانًا في امتحان صعب. سبّح صاحب المزمور الله على الحياة وعلى المركز الآمن، لكنه أدرك أيضًا صعوبات الحياة. وعبّر عن المشقات والامتحانات في صور لفظية.
· مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ ٱلْفِضَّةِ: نحس بالحرارة المرتفعة إلى أن لا تبقى قوة أو ثبات فينا، بل نذوب. ويخرج الزغل (شوائب الفضة) إلى السطح، فيقوم الممحِّص بكشطه. وهو يعرف أن الفضة صارت نقية عندما يرى انعكاسه في معدننا الذائب.
· أَدْخَلْتَنَا إِلَى ٱلشَّبَكَةِ: أحسسنا بحرية القدرة على السباحة حيثما شئنا. وكانت الحياة ممتلئة بالخيارات المفتوحة. وفجأة، بدا أن الحرية اختفت، وضاقت خياراتنا.
· جَعَلْتَ ضَغْطًا عَلَى مُتُونِنَا: كنا نمشي بسهولة وبلا هّم، كما لو أنه لم يكن لدينا حتى عبء واحد. والآن ظهورنا محمّلة بالمحن، ونحن نجد أن ثِقَلها صعب الحمل.
· رَكَّبْتَ أُنَاسًا عَلَى رُؤُوسِنَا: كنا نقف في المعركة ونحارب على قدم المساواة مع أعدائنا، إن لم يكن موقفنا أفضل. لكنك طرحتنا، وأحسسنا بأنهم منتصرون علينا ويتسلطون علينا. لم نكن نعرف في الماضي إلا النصر، وأما الآن فإننا نحس بلسعة الهزيمة.
· دَخَلْنَا فِي ٱلنَّارِ وَٱلْمَاءِ: نشعر بأننا مررنا بكل امتحان ممكن، وأنه لم تكن هنالك شدّة إلاّ عرفناها.
· الكلمة العبرية المترجمة إلى ’ضغط‘ أو ’محنة‘ بترجمات أخرى، لا تُستخدم في أي موضع آخر من العهد القديم، ومعناها غير مؤكد. لكن ربما تكون مشتقة من جذر كلمة تعني ’يضغط،‘ وهذه فكرة مألوفة في استخدامنا الحديث كاستعارة عندما نتحدث عن الضغوط.” كيدنر (Kidner)
· “رَكَّبْتَ أُنَاسًا عَلَى رُؤُوسِنَا (أو أكتافنا). بسماحك استخدمونا كعبيد. نعم كحيوانات لكي نحمل أشخاصًا وأثقالًا. قارن بسفر إشعياء ٢٣:٥١.” بوله (Poole)
٤. ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى ٱلْخِصْبِ (إلى إشباع أو تحقيقٍ غني): قال صاحب المزمور لله إنه فهِم بمعنى ما أن محنتهم جاءت منه. كانت بالسماح من الله نفسه، وأنه طيلة اتّكالهم عليه كان يبرئ نفسه ويبرئ ذلك الاتكال عليه، لا في إنقاذهم من من صعوباتهم فحسب، بل في إخراجهم إلى الرحب (إلى إشباع أو تحقيقٍ غني). وما كان لهذا الرحب أو الإشباع الغني أن يتحقق بمنأى عن الشدائد الكثيرة.
· ليست غاية حياتنا هي أن نفعل، بل أن نصبح. ولهذا فإننا نتقولب (نتشكل) ونؤدَّب كل ساعة.” ميير (Meyer)
· نحن نذكّر أنفسنا بأن هذا جزء من قائمة طويلة من الأسباب التي تدعونا إلى تسبيح الله. ربما نعتقد أنه ينبغي لنا نتجنب مثل هذه الصعوبات إذا أردنا للآخرين أن يسبّحوا الله، لكن صاحب المزمور وصف الحياة التي عاشها كما هي فعلًا، وعرف أن فَهْمَ الله كما هو الذي سيجتذب البشر، رجالًا ونساء، إلى تسبيح الله.
ثالثًا. تسبيح إله الفرد المؤمن
أ ) الآيات (١٣-١٥): تسبيح الله بذبائح وبالوفاء بالنذور.
١٣أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ، أُوفِيكَ نُذُورِي ١٤الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا شَفَتَايَ، وَتَكَلَّمَ بِهَا فَمِي فِي ضِيقِي. ١٥أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ سَمِينَةً مَعَ بْخُورِ كِبَاشٍ. أُقَدِّمُ بَقَرًا مَعَ تُيُوسٍ. سِلاَهْ.
١. أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ: عزمَ صاحب المزمور أن يسبّح الله بإطاعة الوصية المتعلقة بالذبائح، جالبًا إياها إلى مذبح الله.
· “كانت المحرقة بطبيعتها أكثر جدية، حيث كانت تدل على شيء مثل التفاني أو تكريس ذات العابد كلها لله.” بويس (Boice)
٢. أُوفِيكَ نُذُورِي: سبق أن وعد صاحب المزمور بتقديم ذبائح معينة أو تقدمات في تعبير عن عرفانه بالجميل على عمل الله عندما كان في ضيق. فقد صمّم ألاّ يخطئ بعدم إحضار تلك التقدمات.
· نُذُوْرِي: “المهم هو ألاّ ننسى أبدًا أنه عندما ننقطع نذرًا، يتوجب علينا أن نفي له. ولا يكمن السبب في ذلك في الله، بل فينا. فعدم الحفاظ على إيماننا بالله يعني التدهور في معدننا الأدبي.” مورجان (Morgan)
٣. أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ سَمِينَةً مَعَ بْخُورِ كِبَاشٍ. أُقَدِّمُ بَقَرًا مَعَ تُيُوسٍ: سيَفي صاحب المزمور بنذره لله بذبائح سخية غالية، مقدمًا حيوانات متنوعة. وما جلبه إلى الله كان هو الأفضل. إذ كانت الحيوانات سَمِينَةً.
· “الحيوانات المؤهلة للتقديم المذكورة هنا هي كِباش وثيران وتيوس. وضخامة هذا النذر غير عادية.” فانجيميرين (VanGemeren)
ب) الآيات (١٦-١٩): تسبيح الله بالكلمات.
١٦هَلُمَّ اسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ الْخَائِفِينَ اللهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي. ١٧صَرَخْتُ إِلَيْهِ بِفَمِي، وَتَبْجِيلٌ عَلَى لِسَانِي. ١٨إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ. ١٩لكِنْ قَدْ سَمِعَ اللهُ. أَصْغَى إِلَى صَوْتِ صَلاَتِي.
١. هَلُمَّ ٱسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ ٱلْخَائِفِينَ ٱللهَ: لم يتمّ الوفاء بنذر صاحب المزمور من خلال تقديم الذبائح وحدها. إذ كان عليه أن يعلن أيضًا صلاح الله، وما فعله من أجله (بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي). تحدّثت أفعاله، لكنها لم تلغِ احتياج فمه إلى التكلم أيضًا.
· “يمكننا أن نتصور مشهد العبادة العامة أو موكب انتصار، حيث يسمح التسبيح الجماعي في نقطة ما بمجال للعابد الواحد الذي يقف بتقدماته أمام المذبح أن يتحدث عن الإله الذي لا يهتم بالعالم كله، أو الأمّة كلها فحسب، بل الذي يهتم به شخصيًا أيضًا – فَأُخْبِرَكُمْ… بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي.” كيدنر (Kidner)
٢. صَرَخْتُ إِلَيْهِ بِفَمِي، وَتَبْجِيلٌ عَلَى لِسَانِي: عندما تحدّث صاحب المزمور للآخرين عن صلاح الله، وصف كيف تكلم إلى الله، حيث قدّم ذبائح حيوانية وذبيحة تسبيح.
٣. إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لَا يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ: لا يظنّ أحد أن الله يقتنع بمجرد تقديم ذبائح أو نذور. ولهذا كان مهمًّا لصاحب المزمور أن يوضح أنه لم يقدم ذبائح فحسب، بل قدّم ما هو أفضل، وهو الطاعة. فلم يُراعِ إثمًا في قلبه.
· “إثم: إنه أية خطية مهما كانت، ولاسيما عبادة الأوثان، وهي خطية كان بنو إسرائيل عرضة لها، بل كان مجرّبين بالوقوع فيها بقوة.” بوله (Poole)
· “الصلاة التي ’تُسمع‘ هي صلاة التائب الذي حزن على خطيته التي أتعبته، كارهًا إياها وتوّاقًا إلى التحرر منها.” هورن (Horne)
٤. لَكِنْ قَدْ سَمِعَ ٱللهُ: عندما صرخ إلى الله، استجاب له، فكان هذا سببًا آخر يدعوه إلى تسبيح الله.
ج) الآية (٢٠): ختام التسبيح.
٢٠مُبَارَكٌ اللهُ، الَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلاَتِي وَلاَ رَحْمَتَهُ عَنِّي.
١. مُبَارَكٌ ٱللهُ، ٱلَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلَاتِي: غالبًا ما نأخذ امتياز الصلاة على أنه أمر مفروغ منه. لكن صاحب المزمور فهِم كم هو رائع أن يقبل الله صلواته، وكيف أن هذا يجعله أكثر استحقاقًا للتسبيح.
٢. وَلَا رَحْمَتَهُ عَنِّي: كان هذا تذكيرًا نهائيًّا ورائعًا بأن استجابة الصلاة لم تأتِ من استحقاق صاحب المزمور، بل كانت هبة من محبة الله العظيمة ورحمته [حِسِدْ].
· “ليست الكلمة النهائية للعرفان بالجميل من أجل الطلبة المستجابة وحدها، بل من أجل ما تدل عليه أيضًا، وهو علاقة غير مكسورة بالله.” كيدنر (Kidner)
· استنبط توماس فولر (اقتبسه سبيرجن) استنتاجًا منطقيًّا من مزمور ١٩:٦٦-٢٠
ü إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لَا يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ.
ü سَمِعَ ٱللهُ. أَصْغَى إِلَى صَوْتِ صَلَاتِي.
ربما توقّعنا أن يكون الاستنتاج هنا: لهذا لا يوجد إثم في قلبي. لكن صاحب المزمور أكمل المقطع الشعري بطريقة غير متوقعة ممتدحًا رحمة الله. “توقعتُ أن يضع صاحب المزمور التاج على رأسه، لكنه وضعه على رأس الله. وسأتعلم هذا المنطق الممتاز.” فولر (Fuller)· “هذه هي الخلاصة المنطقية لداود في هذه الآية والآيتين السابقتين. ومنطقه هنا أفضل من منطق أرسطو.” تراب (Trapp)