تفسير سفر المزامير – مزمور ٦
جواب واثق على تضرُّع معذَّب
يُعْرف المزمور السادس بأنه أول مزامير التوبة السبعة – وهي ترانيم اعتراف وتواضع أمام الله. وكان من المعتاد أن ترنم هذه الترانيم في الكنيسة الأولى في أيام أربعاء الرماد، قبل أربعين يومًا من أحد القيامة. وعنوان هذا المزمور “لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ذَوَاتِ ٱلْأَوْتَارِ» عَلَى «ٱلْقَرَارِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ.” ويخبرنا العنوان هوية متلقي المزمور – إِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ (الموسيقيين) الذي يفترض بعضهم أنه الرب نفسه. ويفترض آخرون أنه قائد الجوقات أو الموسيقيين في أيام داود، مثل المغني (المرنم) هيمان أو آساف أخبار الأيام الأول ٣٣:٦؛ ٥:١٦-٧؛ ٦:٢٥). وهو لم يُكتب لآلات وترية (ذَوَاتِ ٱلْأَوْتَارِ) بشكل عام، لكنه كُتب على نحو خاص لقيثارة ذات ثمانية أوتار.
أولًا. التضرع المُعذَّب.
أ ) الآية (١): تضرُّع لتخفيف يد التأديب.
١يَا رَبُّ، لَا تُوَبِّخْنِي بِغَضَبِكَ، وَلَا تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ.
١. يَا رَبُّ، لَا تُوَبِّخْنِي بِغَضَبِكَ: لا نعرف مناسبة هذه الخطية، لكن داود كان تحت وطأة توبيخ الله بسببها. ولهذا صرخ إلى الله ليخفف التأديب.
· هنالك أوقات نعتقد فيها أننا نؤدَّب على يد الله ناسين أننا جلبنا هذا الضيق على أنفسنا. لكن من المؤكد أن هنالك أوقاتًا يبادر الله فيها إلى جلب أوقات صعبة لتأديب أبنائه.
٢. وَلَا تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ: نحن نعرف أن تأديب الله ليس بشكل أساسي علامة على استيائه أو غيظه، بل هو دليل على تبنّيه لنا. إذ توضح رسالة العبرانيين ٧:١٢ أن هذا التأديب دليل على تبنّي الله لنا: “إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ ٱلتَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ ٱللهُ كَٱلْبَنِينَ. فَأَيُّ ٱبْنٍ لَا يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟” وعندما يقوم الله بتقويمنا، فإنه لا ينبغي أن نستاء، لأن هذا أمر جيد لنا وأنه لخيرنا.
· بِغَضَبِكَ… بِغَيْظِكَ: عاش داود قبل اكتمال عمل المسيح، ولهذا كان أقل يقينًا حول وضعه مع الله. ونحن نعلم أنه، على هذا الجانب من الصليب، سُكب غضب الله على يسوع على الصليب. ويؤدب الله المؤمن بدافع من محبته التي تهدف إلى تقويمه، لا بدافع من غضبه.
ب) الآيات (٢-٣): نوعان من الانزعاج.
٢ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ، ٣وَنَفْسِي قَدِ ارْتَاعَتْ جِدًّا. وَأَنْتَ يَا رَبُّ، فَحَتَّى مَتَى؟
١. لِأَنِّي ضَعِيفٌ… عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ: عرف داود محنة الضعف الجسدي والألم. وفي وسط هذا النوع من التأديب، فإنه يصرخ إلى الله مسترحمًا.
· “وهكذا، فإننا نصلي من جهة تأديبات الله لنا، إذا لم تُرفع عنا كليًّا، على الأقل أن تُحَلَّى بوعينا بأنها لا تأتي بغضب، بل بمحبة عهده الثمينة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَنَفْسِي قَدِ ٱرْتَاعَتْ جِدًّا: عرف داود محنة الضعف الروحي والألم. وقد دفعته صعوبة هذه المحن إلى طلب رحمة الله.
· تضخمت محن الجسد والنفس هذه بإحساس داود بغضب الله عليه. فعندما لا نكون واثقين بمحبة الله وعونه، تصبح حتى المحن الصغيرة أمرًا لا يطاق.
٣. فَحَتَّى مَتَى؟ شعر داود أنه تحت تأديب الله، لكنه عرف أنه ينبغي له أن يطلب من الله أن يقصّر هذه المحنة. فهنالك مكان للاستسلام للتأديب، لكن الله يريدنا أن نتوق إلى مستوى أعلى فنستخدم هذا التوق كدافع إلى طلبه وإلى تصحيح علاقتنا به.
· يبدو أن داود أصبح ذكيًا في ضوء نتيجة خطيته أكثر منه في ضوء خطيته ذاتها. والوضع الأمثل هو أن نشعر جميعنا بحزن فظيع بسبب الخطية نفسها، لكن هنالك ما ينبغي قوله حول الاعتراف والتواضع من أجل نتيجة خطايانا.
ج) الآيات (٤-٥): الطابع المُلِح لتضرُّع داود
٤عُدْ يَا رَبُّ. نَجِّ نَفْسِي. خَلِّصْنِي مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ. ٥لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْتِ ذِكْرُكَ. فِي الْهَاوِيَةِ مَنْ يَحْمَدُكَ؟
١. عُدْ يَا رَبُّ. نَجِّ نَفْسِي: يتضرع داود إلى الله في عذابه من أجل أن ينقذه، لكن على أساس رحمة الله، لا على أساس بره الذاتي. فقد عرف داود أن تأديب الله كان بارًّا وعادلًا، لكنه عرف أيضًا أن الله غني في الرحمة.
· يبيّن تضرُّع داود بكلمة “عُدْ” أنه أحس بأن الله بعيد عنه. فكان هذا جزءًا من عذاب المحنة. وعندما نحس بأن الله قريب منا، نحس بأننا نستطيع أن نواجه أي شيء. ولكن عندما نحس بأنه بعيد عنا، نكون ضعفاء أمام أقل محنة.
٢. خَلِّصْنِي مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ: ليست نغمة الاعتراف بالخطية قوية في مزمور التوبة هذا، لكنها ليست غائبة. وحقيقة لجوء داود إلى الاحتكام إلى رحمة الله لإنقاذه هي دليل على وعيه بأنه لا يستحقها.
· “ضمير داود قلق، ويتوجب عليه أن يحتكم إلى النعمة لتخفيف التأديب الذي يستحقه.” كيدنر (Kidner)
٢. لَيْسَ فِي ٱلْمَوْتِ ذِكْرُكَ: من الخطأ أن نأخذ كلمات داود المعذَّبة على أنها دليل على عدم وجود حياة بعد الموت. فقد كان للعهد القديم فهم مضبب للحياة الأخرى. فهو يبيّن أحيانًا ثقة واضحة (سفر أيوب ٢٥:١٩) وأحيانًا أخرى فكرة عدم اليقينية كما يعبّر عنها داود هنا.
· “ساحات الكنيسة أماكن صامتة، وأقبية القبور لا تردد صدى الترانيم. والتراب الرطب يُخرس الأفواه.” سبيرجن (Spurgeon)
· تخبرنا الآية في رسالة تيموثاوس الأولى ١٠:١ أن يسوع “أَبْطَلَ ٱلْمَوْتَ وَأَنَارَ ٱلْحَيَاةَ وَٱلْخُلُود بِوَاسِطَةِ ٱلْإِنْجِيلِ.” كان فهم الحياة بعد الموت في أحسن الأحوال مُعكَّرًا في العهد القديم. لكن يسوع عرّفنا عن السماء والجحيم أكثر من أي شخص آخر، لأنه كانت له معرفة أصلية مباشرة بالعالم الآخر.
· لا يهدف داود هنا إلى تقديم لاهوت شامل للحياة الأخرى. فهو في عذاب، وهو خائف على حياته، وهو يعرف أنه يستطيع أن يتذكر الله ويشكره هنا. وليس لديه يقين حول العالم الآخر، ولهذا يطلب من الله حسب يقينه.
· “تتضمن المزامير في لحظات نادرة لمحات من الإنقاذ من الهاوية، بلغة توحي بالقيامة، أو بنقل (رفع) مثل نقل أخنوخ وإيليا (انظر مزمور ١٠:٦؛ ١٥:١٧؛ ١٥:٤٩؛ ٢٤:٧٣).” كيدنر (Kidner)
ثانيًا. القرار والتصميم
أ ) الآيات (٦-٧): وصف حي لعذاب داود.
٦تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي. ٧سَاخَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي. شَاخَتْ مِنْ كُلِّ مُضَايِقِيَّ.
١. تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي (أنيني): كانت يد الله المؤدِّبة ثقيلة على داود. فبدت حياته دموعًا وتعاسة خالصة. وتتضمن محنة داود ثلاثة مكوّنات على الأقل: أحس بأن الله غاضب عليه، وافتقد حضور الله، ولم يكن قادرًا على النوم.
٢. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي: هذا مثل جيد للمبالغة الشعرية. لم يقصد داود أن نعتقد أن سريره طفا فعلًا على بِرْكة من الدموع. ولأن هذا أدب شعري، فإننا نفهمه حسب سياقه الأدبي. ويعني هذا أننا نفهم الكتاب المقدس حرفيًّا حسب سياقه الأدبي.
٣. سَاخَتْ… عَيْنِي: كانت عينا داود محمرتين وملتهبتين بسبب البكاء والافتقار إلى النوم. “يقول داود: ’كما تُعتم عينا الرجل العجوز مع السنوات، كذلك فإن عينيّ محمرتان وضعيفتان بسبب النواح.‘” سبيرجن (Spurgeon)
٤. شَاخَتْ مِنْ كُلِّ مُضَايِقِيَّ: ذُلَّ داود حتى إن وجودَ أعدائه لم يعد يحفزه على اقتناص النصر. إذ يبدو مكتئبًا ومحبطًا.
ب) الآيات (٨-١٠): تصريح داود الواثق.
٨اُبْعُدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الإِثْمِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي. ٩سَمِعَ الرَّبُّ تَضَرُّعِي. الرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي. ١٠جَمِيعُ أَعْدَائِي يُخْزَوْنَ وَيَرْتَاعُونَ جِدًّا. يَعُودُونَ وَيُخْزَوْنَ بَغْتَةً.
١. اُبْعُدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلْإِثْمِ: ربما كانت الخطية التي أدت إلى تأديب الله لداود معاشرته للأشرار. وهنا نرى أنه يتصرف وفق تَغَيُّر موقفه وقلبه طالبًا من كل الأشرار أن يبعدوا عنه.
· من المهم أن نفصل أنفسنا من معاشرة الأشرار. يصف جي. إدوين أور (J. Edwin Orr) الخدمة بين المهتدين الجدد في هاليفاكس أثناء اليقظة العظيمة الثانية في بريطانيا: “كان بينهم ملاكم فاز للتوّ بجائزة مالية وحزام. وقف حشد من أصحابه القدامى خارج القاعة للاستهزاء به. فحيّوا هذا المؤمن الجديد بصرخة: ’إنه سيصلي صلاة التجديد! ماذا عن الحزام؟ هل سيلاكم من أجله أم أنه سيتخلى عنه؟‘ فردَّ الملاكم قائلًا: ’سأتخلى عنه وعنكم أيضًا! إذا كنتم ترفضون أن تأتوا إلى السماء معي، فإني أرفض أن أذهب إلى الجحيم معكم!‘ فتخلى عن الحزام، لكنه أقنع بعضًا منهم أن يرافقوه إلى اجتماعات الخدمة، حيث اهتدى واحد منهم وانشغل بالخدمة كثيرًا.”
٢. قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي: يختم داود المزمور بنغمة ثقة. أوصلَ صرخته المعذّبة إلى الله، فسمعه الله.
· للبكاء صوت لدى الله. لا يعني هذا أن الله يتأثر بالعرض العاطفي. لكن القلب الملتهب يثير إعجابه. لم يخشَ داود أن يصرخ إلى الله، فأكرم الله صوتَ بكائه.
· “ليس أمرًا جميلًا أن تُفهَم دموعنا بينما تفشل كلماتنا. دعنا نتعلم أن ننظر إلى دموعنا على أنها صلوات سائلة.” سبيرجن (Spurgeon)
· ذات مرة، كان لوثر يصارع الله في الصلاة، وقفز من مخدع الصلاة صارخًا ’vicimus, vicimus‘ أي ’النصر، النصر.‘ ولدى داود نفس هذا الإحساس بالانتصار مع الله في نهاية هذه الصلاة.