تفسير سفر المزامير – مزمور ٨٨
صلاة مستميتة من عمق المحنة
هذا المزمور معنون سْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ. لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ٱلْعُودِ» لِلْغِنَاءِ – قصِيدَةٌ (تأمُّل) لِهَيْمَانَ ٱلْأَزْرَاحِيِّ.
هذا المزمور هو ترنيمة، وهو ترنيمه حزينة جدًا، وتعتبر من أحزن المزامير في السفر. ويبدو أن النص العبري Mahalath Leannoth يشير إلى الآلة الموسيقية التي عزفت الأغنية عليها. ويذكر المزمور ٥٣ أيضًا كلمة قصِيدَةٌ (تأمُّل).
والمزمور ٨٨ واحد من ثلاثة عشر مزمورًا تُدعى تأمُّل، ويفضّل بويس (Boice) أن تُفهم هذه الكلمة على أنها تعليم أو إرشاد.
وفي ما يتعلق بكاتب المزمور ومرنّمه، هيمان الأزراحي، فإن اسم هيمان تردَّدَ كثيرًا في أيام داود وسليمان. وعلى افتراض أن كل الإشارات هي إلى الشخص نفسه، فإنه كان مشهورًا بما يلي:· حكمته العظيمة ١ملوك٣١:٤)
· كونه من عائلة قهات، ومن بين بني قورح (١أخبار٣٣:٦)
· موهبته وخدمته الموسيقية (١أخبار٣٣:٦ ؛ ١٥: ١٧–١٩؛ ١٦: ٤١–٤٢؛ ١:٢٥ ؛ ٢أخبار١٢:٥؛ ١٥:٣٥)
· أبنائه وبناته الكثيرين والاستثنائيين (١أخبار٢٥: ٥–٦)
· خدمته للملك (١أخبار٦:٢٥)
معرفتنا لمغني هذه الترنيمة الكئيبة يساعدنا في فهمها، إنها تأتي من شخص حكيم وموهوب بارع ومبارك.
“هذه قصيدة مغنّاة كئيبة تبتدء وتنتهي بالشكوى، ولهذا رُنِّمت في أوقات بدائية بين مزامير التوبة كاعتراف علني للأشخاص الذين تمّ حرمانهم.” جون تراب(John Trapp)
يقدم هيمان في هذا المزمور خارطة لحياته، ويشير إلى الأماكن السُّود التي ارتحل إليها، ويذكر خطاياه، وندمه، وآماله (إن كانت لديه أية آمال أصلًا)، ومخاوفه، وويلاته، وما إلى ذلك. والآن هذه صلاة حقيقية تضع قضيتك أمام الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
أولًا. صلاة من شخص يرزح تحت محنة عظيمة
أ ) الآيات (١-٢): الطلب من الله أن يسمع صلاته في محنته.
١يَا رَبُّ إِلَهَ خَلَاصِي، بِٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ، ٢فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلَاتِي. أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى صُرَاخِي.
١. يَا رَبُّ إِلَهَ خَلَاصِي: يمكن أن يقودنا هذا السطر الافتتاحي إلى أن يكون المزمور أكثر تفاؤلًا جدًّا. فعندما بدأ صاحب المزمور بتعظيم يهوه بصفته إله خلاصه، توقّعنا أنه اختبر ذلك الخلاص بالفعل، وأن الإنقاذ حاضر. لكن هذا لم يكن واقع الحال. فكان هذا اللقب “إِلَهَ خَلَاصِي” تذكارًا للماضي والتمسك برجاء مستقبلي في الوقت نفسه. وهذا بصيص صغير من النور في مزمور كان يمكن أن يكون مظلمًا بشكل كامل لولاه.
· “كان ذلك الشعاع الوحيد من النور المريح عبر المزمور كله. فلصاحب المزمور خلاص، وهو متأكد من ذلك، ومن أن الله هو منشئ هذا الخلاص الوحيد. وعندما يرى إنسان الله مخلِّصًا له، فإنه ليس في منتصف الليل.” سبيرجن (Spurgeon)
- “إن مخاطبة الله على أنه إله خلاصه وتمييز يده في أحزانه عمل إيمان حقيقي مع أنه ضعيف. إن روح المزمور هو ما تعبّر عنه هذه الكلمات: “هُوَذَا يَقْتُلُنِي. لَا أَنْتَظِرُ شَيْئًا. فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ.” ماكلارين (Maclaren)
· “لا نجد من بداية المزمور إلى نهايته أي أثر للمرارة، أو رغبة في الانتقام من الأعداء، أو تأملات غاضبة في صلاح الله. بل إن الإشارات إلى الله تكشف إحساسًا مذهلًا بنعمته وصلاحه.” مورجان (Morgan)
٢. فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلَاتِي: كانت الصلاة مشبوبة بالعاطفة (صَرَخْتُ) ومتواصلة (بِٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ). كان صاحب المزمور مستميتًا في طلبه في أن يميل الله أذنه ليسمع صلاته ويستجيب إليها.
· صَرَخْتُ: “الصلاة صرخة عميقة ثاقبة. ورغم أن الكلمة العبرية Rinnah قد تدل على هتاف فرِح في سياقات أخرى (انظر ١:٤٧؛ ٤٣:١٠٥)، إلا أنه هنا استصراخ لله من أجل العون. إذ يصرخ صاحب المزمور بصوت عالٍ للرب آمِلًا أن يسمعه.” فانجيميرين (VanGemeren)
· مهما كانت مصيبة هيمان عميقة وسوداء، استطاع أن يتحدث عنها مع الله. “في بعض الأحيان يجعل اليأس الناس خُرْسًا، وفي بعض الأحيان يجعلهم بلغاء.” ماكلارين (Maclaren)
· “لم يطرح صاحب المزمور تذمرات وحشية برية، ولم يطلق أنّات في تعاسته، كما يفعل الناس عادة. لكنه سكب نفسه في حضن الله المبارك، مصليًّا وطالبًا استجابة.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٣-٥): عمق المحنة.
٣لِأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ دَنَتْ. ٤حُسِبْتُ مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لَا قُوَّةَ لَهُ. ٥بَيْنَ ٱلْأَمْوَاتِ فِرَاشِي مِثْلُ ٱلْقَتْلَى ٱلْمُضْطَجِعِينَ فِي ٱلْقَبْرِ، ٱلَّذِينَ لَا تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ ٱنْقَطَعُوا.
١. لِأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي: لم يكن هذا العذاب سطحيًّا. فقد تغلغل عميقًا في النفس. كان في الداخل، في النفس. وكان في الخارج يهدد حياته الجسدية (حَيَاتِي إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ دَنَتْ). وتوقَّع كثيرون أن يموت (حُسِبْتُ مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ).
· “العواطف والمعاناة التي يعبّر عنها صاحب المزمور قريبة من تلك الموجودة في المزمور ٢٢. وفي تقليد الكنيسة، كان هذان المزموران مرتبطين معًا في قراءة كلمة الله في يوم الجمعة العظيمة.” فانجيميرين (VanGemeren)
· قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي: “وجد صاحب المزمور أسرع حجة قدام إلهه. فلا يوجد شيء يجعل رنين الجرس في السماء أكثر سرعة مثل لمسة يد مضطربة.” ميير (Meyer)
· “بيته ممتلئ، كما يداه ممتلئتان بالحزن. لكن الأسوأ من ذلك هو أن قلبه كان ممتلئًا به. فالضيق في الروح روح الضيق.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ: كان صاحب المزمور ضعيفًا وفي محنة شديدة حتى إنه أحس بأنه ميت عمليًّا بالفعل، وقد عدَّه آخرون كذلك. بدا أن الموت كان يسحبه إليه بشكل سلبي كشخص مقتول.
٣. ٱلَّذِينَ لَا تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ: خشي المرنم الموت، وخشي أنه لن يعني هذا الانقطاع عن العلاقات البشرية فحسب، بل عن علاقته بالله أيضًا.
· كما هو الحال في المزمور السادس، فإن من الخطأ أن نأخذ هذه الكلمات المعذبة على أنها دليل على عدم وجود حياة بعد الموت. إذ كان للعهد القديم فهْم مضبب للعالم الآخر. ففي بعض الأحيان، كان يبيّن ثقة واضحة (أيوب٢٥:١٩)، وفي أحيان أخرى عدم يقين.
· “تتناقض هذه الأفكار بشكل صادم مع الآمال التي تشع بها بعض المزامير (مثلًا مزمور١٠:١٦)، وهي تبيّن أن التوكيد الواضح الدائم للبركة المستقبلية لم يُعطَ للكنيسة القديمة. ولم يكن هنالك أي يقين مستنير بذلك إلا بعد قيامة المسيح. لكن من الملاحظ أيضًا أن هذا المزمور لا يثبت ولا ينكر قيامة مستقبلة.” ماكلارين (Maclaren)
· لا يقدم سفر المزامير والعهد القديم بشكل عام لاهوتًا شاملًا للحياة ما بعد الموت. إذ يعبر سفر المزامير عن العذاب والخوف وعدم اليقين عند عتبات الموت. وغالبًا ما يعرف أصحاب المزامير أنهم يستطيعون أن يتذكروا الله وأن يعطوه الشكر الآن، لكنهم لا يملكون نفس اليقين الذي نملكه الآن حول الحياة ما بعد الموت.
· في لحظات نادرة، تلتقط المزامير لمحات من الإنقاذ من الهاوية بتعابير توحي بالقيامة، أو بنقْل (رفْع) مثل نقْل أخنوخ وإيليا (انظر ١٠:١٦؛ ١٥:١٧؛ ١٥:٤٩؛ ٢٤:٧٣). كيدنر (Kidner)
· تخبرنا ٢ تيموثاوس١٠:١ أن يسوع جلب الحياة والخلود إلى النور (أنار الحياة والخلود) من خلال رسالة الإنجيل. فكان فهْم الحياة ما بعد الموت غامضًا في أحسن الأحوال في العهد القديم، لكن يسوع أخبرنا عن السماء والجحيم أكثر من أي شخص آخر. إذ كان بمقدوره أن يفعل ذلك لأنه كانت لديه معرفة مباشرة بالعالم الآخر.
ثانيًا. المصدر الإلهي للمحنة
أ ) الآيات (٦-٧): أنت أذللتني، يا رب.
٦وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلْأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ. ٧عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلَاهْ.
١. وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلْأَسْفَلِ: يخبر صاحب المزمور الله بجسارة عما يحس به ويختبره – أن الله تسبّب في سقوطه، واضعًا إياه فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ.
٢. عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ (ثقُلَ) غَضَبُكَ: بدا أن مصدر المحنة هو غضب الله البار. إذ أحس صاحب المزمور إحساسًا عميقًا بإثمه. وحتى عندما أحس بأنه يغرق تحت كُلِّ تَيَّارَاتِكَ، لم يحتجّ بالقول إن غضب الله غير منصف.
· “غضب الله هو الجحيم نفسه. وعندما يثقل على الضمير، يحس المرء بعذاب كما لو أنه لا يمكن أن تتجاوزه إلا الأرواح المدانة في الجحيم.” سبيرجن (Spurgeon)
· “غير أن أكثر وجه الشبه قربًا (بأيوب) هو أن الله تسبّب في محنة أيوب، إن لم يكن بشكل مباشر، فعلى الأقل بسماحه لإبليس بابتلائه. ولم يكن أيوب قادرًا على تخيّل السبب وراء ذلك. وهذا هو ما يدّعيه صاحب المزمور هنا أيضًا. وأوجه الشبه كبيرة حتى إن فرانز ديلتزتش (Franz Delitzsch) قال إن هذا المزمور وسفر أيوب ربما كُتِبا على يد نفس الكاتب، هيمان الأزراحيّ.” بويس (Boice)
· سِلاهْ: “كان هنالك احتياج إلى الراحة. إذ يرفع السابح الذي تغمره الأمواج رأسه ليلتقط نفَسًا وينظر حوله قبل أن تجتاحه الموجة الثانية. وحتى في المرثاة، لا بد أن تكون لها فترات صمتها الوجيزة.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٨-٩أ): جعلتني وحيدًا، يا رب.
٨أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ. ٩أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ. عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ ٱلذُّلِّ.
١. أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي: تخلى أصحابه عنه في محنته. وبدا أن هذا مِن فعل الرب.
· “يشبه هذا الموقف موقف أيوب الذي لم يفهمه أصحابه. وأكثر من ذلك، كان قدر كبير من معاناة الرب يسوع على الأرض بسبب تخلّي تلاميذه عنه (انظر لوقا ٤٩:٢٣).” فانجيميرين (VanGemeren)
· جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ: إذا أخذنا هذا التعبير حرفيًّا، فإنه يشير إلى مرض بغيض مقزز لازمه طويلًا حتى نفر أصحابه من صحبته، وبالتالي حُكم عليه بالعزلة (أُغْلِقَ عَلَيَّ). وتوحي هذه التفاصيل بمرض البرص. وإذا كان هو ما يشار إليه هنا بالفعل، فإنه يُستخدم في عدة مزامير كرمز للمحنة.” ماكلارين (Maclaren)
· “إن ما هو أكثر تأثيرًا من استعارات التنانين والمياه العميقة هو أن صاحب المزمور تَذّكُّره لنظرة أصحابه إليه الممتلئة بالاشمئزاز، فعزلتْه في سجن النفس الضيّق.” كيدنر (Kidner)
٣. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ: ربما كان أسوأ شيء هو أن صاحب المزمور أحس بأنه لا مهرب له. وكانت الحياة تتسرب منه، وإذا لم يتدخل الله سريعًا، فلن يكون له علاج.
ثالثًا. صلاة مُلِحّة من شخص مبتلى
أ ) الآيات (٩ب–١٢): أحتاج إليك في أرض الأحياء.
٩دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ.١٠أَفَلَعَلَّكَ لِلْأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ؟ أَمِ ٱلْأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلَاهْ. ١١هَلْ يُحَدَّثُ فِي ٱلْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ، أَوْ بِحَقِّكَ فِي (مكان) ٱلْهَلَاكِ؟ ١٢هَلْ تُعْرَفُ فِي ٱلظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ، وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ ٱلنِّسْيَانِ.
١. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ: ذكّر صاحب المزمور الله بصلاته الدائمة، والتي كان يرافقها رفْع اليدين إلى الله (بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ)، حسب العادة العبرانية في الصلاة.
٢. أَفَلَعَلَّكَ لِلْأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ: لأن صاحب المزمور لم يكن متأكدًا من الحياة بعد الموت، طلب باجتهاد من الله أن يستجيب لصلاته ويلبّي احتياجه سريعًا، حيث يعرف أنه قادر على رؤية عجائب الله أو يتحدث عن رحمته (محبته) وحقه (أمانته).
· الطريقة التي تشير بها الآيات إلى الحياة بعد الموت مثلٌ توضيحي جيد لعدم اليقين الذي غالبًا ما عبّر عنه كُتّاب العهد القديم حول الحياة بعد الموت.
ü لِلْأَمْوَاتِ
ü ٱلْقَبْرِ
ü ٱلْهَلَاكِ
ü ٱلظُّلْمَةِ
ü أَرْضِ ٱلنِّسْيَانِ
· نحن نعلم أن الحياة بعد الموت ليست هذه الأشياء المذكورة، لكن صاحب المزمور لم يكن قد حصل على الإعلان الكامل.
ب) الآيات (١٣-١٥): أحتاج إليك لكسر هذا الصمت.
١٣أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ، وَفِي ٱلْغَدَاةِ صَلَاتِي تَتَقَدَّمُكَ. ١٤لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ ١٥أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ ٱلرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ. ٱحْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ.
١. إِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ: بعد تركيز قصير على أهوال القبر وعدم يقينيته، يعود صاحب المزمور إلى التركيز على الرب. وكما فعل داود، طلب الله في الصباح الباكر جدًّا (فِي ٱلْغَدَاةِ) (مزمور٣:٥؛ ١٧:٥٥؛ ١٦:٥٩).
- وَفِي ٱلْغَدَاةِ: “أُبَكّر إليك قبل الوقت العادي لصلاة الصباح، أو قبل شروق الشمس. والفكرة هي أني لم أحصل على أي جواب لصلاتي، غير أني لن أتوقف عن الصلاة إليك، ولن أتخلى عن أملي في الحصول على جواب منك.” بوله (Poole)
· وَفِي ٱلْغَدَاةِ صَلَاتِي تَتَقَدَّمُكَ: “يكمن السر وراء ذلك في التصميم على أن يبقى في اتصال بالله، والصراخ إليه، والذهاب إليه في فجر كل يوم جديد.” مورجان (Morgan)
٢. لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ تتكرر هذه الفكرة المحزنة التي بدأت في مرحلة مبكرة من هذا المزمور. كانت أسوأ محن صاحب المزمور هي إحساسه بطريقة ما بأن الله تخلّى عنه ورأى نفسه مرفوضًا، ولهذا رنّم: ٱحْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ (اضطرتُ كثيرًا).
ج) الآيات (١٦-١٨): خلِّصني من غضبك.
١٦عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ. أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي. ١٧أَحَاطَتْ بِي كَٱلْمِيَاهِ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٱكْتَنَفَتْنِي مَعًا. ١٨أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبًّا وَصَاحِبًا. مَعَارِفِي فِي ٱلظُّلْمَةِ.
١. عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ: واصل صاحب المزمور الفكرة التي بدأها في السطور السابقة. فقد فهِمَ بطريقة ما أن الله كان مصدر محنته الحالية. فإذا احتمل أهوالًا، فإنه ينسبها إلى الله، فهي أهْوَالُكَ. وظل حتى في محنته مؤمنًا ومتمسِّكًا بالله. فكانت أزمته أزمة إيمان، لا أزمة عدم إيمان.
· سَخَطُكَ: “تأتي هذه الكلمة في مزمور١٦:٨٨ في صيغة الجمع للتعبير عن الانفجارات متعددة الأشكال للسخط الإلهي المميت. وتعني الكلمة حرفيًّا ’حرارة.‘ ويمكننا أن نتصور فكرة صاحب المزمور أن الغضب كان يطلِق ألسنة شديدة من النيران، أو كجدول من الحمم البركانية التي تتدفق في مسارات كثيرة.” ماكلارين (Maclaren)
٢. أَحَاطَتْ بِي كَٱلْمِيَاهِ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٱكْتَنَفَتْنِي مَعًا: كان مبتلى ووحيدًا (أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبًّا وَصَاحِبًا)، فكان مسحوقًا كما لو أنه كان على وشك الغرق في تعاسته. ويُختَم المزمور هنا من دون استجابة، لكن بصرخة إلى الله الذي وحده يستطيع أن يُبعد عنه الضيق واليأس.
· “يُنظر إلى النهاية المفرحة في معظم المزامير كبركة إضافية، لا كاستحقاق. ولا يدلّ منْعها على برهان على استياء الله أو هزيمة صاحب المزمور.” كيدنر (Kidner)
٣. مَعَارِفِي فِي ٱلظُّلْمَةِ: يفهم كثيرون هذه العبارة بشكل مختلف. تقول بعض الترجمات: “الظلمة هي صديقتي الحميمة.” تبيّن هذه الصرخة المعذبة في هذا المزمور، مع غياب كل غضب أو مرارة تجاه الله، معنى بموجبه أن الظلمة كانت صديقة قريبة له. وقد جذبتْه إلى علاقة أوثق بالله بطريقة عميقة وفظيعة في الوقت نفسه.
· عندما بدأ بول سيمون (Paul Simon) أغنيته ’صوت الصمت‘ بهذه العبارة، ’مرحبًا بالظلمة، صديقتي القديمة،‘ لم يكن أول من عبّر عن هذه الفكرة. وربما كان هذا ما قصده هيمان. “أُلفتي هي في الظلمة، أو ربما أفضل، أُلفتي هي الظلمة. فأنا لا آلَفُ إلا الحزن، وكل شيء غيره تبخّر. أنا ابن الصراخ والبكاء وحدي في الظلمة. فهل سيترك أبي السماوي ابنه هناك؟” سبيرجن (Spurgeon)
· عندما نتذكر أن هيمان الذي عاش حياة مباركة من نواحٍ كثيرة (انظر الملاحظات حول عنوان المزمور) هو كاتب المزمور، ندرك أن الله استخدم هذا الوقت الأليم للخير.
· “يبدو أن هذا الكاتب الذي يُفترض أن الله تخلّى عنه واحد من روّاد المؤسسة الموسيقية التي أقامها داود، والتي ندين لها بمزامير بني قورح (٤١–٤٩؛ ٨٤ فصاعدًا؛ ٨٧ فصاعدًا)، وهي من أغنى المزامير في سفر المزامير. ومع أنه كان مثقّلًا بالهموم وقانطًا، إلا أن وجوده لم يكن بلا هدف على الإطلاق. فإن كان ما اختبره موتًا حيًّا، إلا أنه كان يثمر ثمرًا كثيرًا.” كيدنر (Kidner)
· “نشكر الله على أنه توجد ترنيمة كهذه، مع إعلانها عن النتائج التي في الشخصية عندما تحافظ نفس في وسط أكثر معاناة ترويعًا، على ممارسة نشطة للشركة مع الله. وقد قابلنا أشخاصًا كثيرين كهؤلاء، وكانت شهادتهم لقوة نعمة الله أكثر من طروحات نظرية.” مورجان (Morgan)