تفسير سفر المزامير – مزمور ٢٣
الرب راعيّ ومضيفي
يحمل هذا المزمور المحبوب، شأنه شأن مزامير كثيرة أخرى، العنوان البسيط مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. ويعده كثيرون مزمورًا لنضج داود مع تذكُّرٍ لشبابه كراعٍ. كتب سبيرجن: “أحب أن أستذكر أن داود كتب هذا المزمور بينما كان على الأرجح ملكًا. سبق أن كان راعيًا، ولم يكن خجِلًا من مهنته السابقة.”
“لقد أراح هذا المزمور أحزانًا أكثر من كل فلسفات العالم، ووضع تلك الأحزان في زنازنها أكثر من أفكار المجرمين، وأكثر من الشكوك السوداء، وأكثر من أحزان السرقة، وأكثر من رمال شاطئ البحر. وعزّى المضيف النبيل للمساكين، وبثّ الشجاعة والترنم في جيوش المحبطين، وسكب بلسم العزاء في قلب المرضى، والأسرى في السجون، والأرامل في أحزانهن اللاذعة، والأيتام في وحدتهم. ومات الجنود ميتة أسهل وهم يسمعون المزمور وهو يُقرأ عليهم، وأُنيرت مستشفيات كئيبة مروِّعة. زار المزمور السجين، فحطّم أغلاله، ومثل ملاك بطرس، أطلقه في الخيال وأعاده إلى بيته. جعلت العبد المؤمن بالمسيح أكثر حرية من سيّده، وعزّى أولئك المحتضرين، فتركوا الحداد وراءهم لغيرهم، لا لأن الأحياء افتقدوهم، بل لأنهم لم يستطيعوا أن يذهبوا أيضًا.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) نقلًا عن هنري وورد بيتشر (Henry Ward Beecher)
“استظهرت ملايين البشر هذا المزمور مع أنهم لم يتعلموا إلا أجزاء قليلة جدًّا من الكتاب المقدس. واستخدمه خدّام لتعزية أشخاص يمرون بمحن شخصية قاسية، أو يعانون من مرض أو يحتضرون. وبالنسبة لبعضهم، فإن كلمات هذا المزمور هي آخر ما نطقوا به في الحياة.” جيمس مونتجمري بويس (James Montgomery Boice)
أولًا. الرب كراعٍ يحفظ
أ ) الآية (١): تصريح ونتيجة فورية.
١ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ.
١. ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ: فكّر داود بالله، إله إسرائيل. وبينما كان يفكر في علاقته به، خرج بهذا القياس التمثيلي للراعي وخرافه. فكان الله راعيًا لداود (رَاعِيَّ)، وكان داود كخروف لله.
· بمعنى ما، لم يكن هذا غير عادي. إذ توجد أمثلة أخرى لهذا القياس التمثيلي بين الآلهة وأتباعها في ثقافات الشرق الأوسط القديمة. “في الفكر الشرقي، وفي الأدب الكتابي على نحو مؤكد، فإن الملك راعٍ.” مورجان (Morgan)
· وهي أيضًا فكرة مألوفة عبر الكتاب المقدس أن الرب راعٍ لشعبه. وتبدأ الفكرة في مرحلة مبكرة في سفر التكوين، حيث دعا موسى الله الرَّاعِي صَخْرِ إِسْرَائِيلَ (سفر التكوين ٢٤:٤٩).
ü في مزمور ٩:٢٨، يدعو داود الرب إلى أن يرعى شعب إسرائيل ويحملهم إلى الأبد. وينظر مزمور ١:٨٠ إلى الرب بصفته رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ… قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ.
ü تتحدث الآية في سفر الجامعة ١١:١٢ عن كَلاَمُ الْحُكَمَاءِ كَالْمَنَاسِيسِ (مسامير)، وَكَأَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ… قَدْ أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ.
ü في سفر إشعياء ١١:٤٠ يخبرنا النبي أن الرب كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ. ويدعو النبي ميخا (سفر ميخا ١٤:٧) الرب: اِرْعَ بِعَصَاكَ شَعْبَكَ غَنَمَ مِيرَاثِكَ… كَأَيَّامِ الْقِدَمِ.
ü في سفر زكريا ٧:١٣ يخبرنا النبي عن المسيّا بصفته الراعي الذي سيُضرب، وكيف أن الخراف ستتشتت (وهي تُقتبس في إنجيل متى ٣١:٢٦).
ü يتحدث يسوع بوضوح في إنجيل يوحنا ١١:١٠، ١٤ عن نفسه بصفته الراعي الصالح الذي يبذل حياته من أجل خرافه (أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ). وكان بإمكانه أن يقول: “وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي.” وتتحدث الآية في رسالة العبرانيين ٢٠:١٣ عن يسوع بصفته رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ. ويدعو بطرس في رسالته الأولى ٢٥:٢ يسوع رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا، وفي بطرس الأولى ٤:٥ يصف يسوع بأنه رَئِيسُ الرُّعَاةِ.
ü كانت فكرة كون يسوع الراعي الصالح ثمينة جدًّا للمؤمنين الأوائل. إذ كان أحد الموضوعات الأكثر شيوعًا في الرسومات في سراديب القبور يسوع كراعٍ يحمل حمَلًا على كتفيه.
· إنه أمر لافت للنظر أن يدعو الرب نفسه راعيًا لنا. “ففي إسرائيل، كما في المجتمعات القديمة كلها، كان يُعَد عمل الراعي أوضع المهن. فإن كانت عائلة محتاجة إلى راعٍ، فإنه الابن الأصغر دائمًا، مثل داود، الذي يحصل على هذه المهمة غير المُسِرّة. وقد اختار الرب (يهوه) أن يكون راعينا، كما يقول داود. لقد تنازل إله الكون العظيم ليهتم بك وبي.” بويس (Boice)
· “يقول المعلم اليهودي جوزيف بار حمنا (Joseph Bar Hamna) إنه لا توجد وظيفة أكثر احتقارًا من وظيفة الراعي… لكن الله لا يزدري أن يطعم شعبه، ويرشدهم، ويحكمهم، ويدافع عنهم، ويتعامل معهم، ويشفيهم، ويهتم، بهم ويرعاهم.” تراب (Trapp)
· عرف داود هذه الاستعارة بطريقة فريدة، حيث إنه كان نفسه راعيًا. “يستخدم داود هذه الاستعارة الأكثر شمولية وحميمية في المزامير، مفضّلًا أحيانًا استعارة ’الملك‘ أو ’المنقذ‘ التي تدل على بُعد أكبر، أو استعارة ’الصخرة’ أو ’الترس‘ غير الشخصية، إلخ، بينما يعيش الراعي مع قطيعه، وهو كل شيء لهم، حيث هو مرشدهم وطبيبهم وحاميهم.” كيدنر (Kidner)
٢. ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ: عرف داود هذا بمعنى شخصي. فكان بمقدوره أن يقول ’رَاعِيَّ.‘ ليس الأمر أن الرب كان راعيًا للجميع بمعنى نظري، بل كان راعيًا حقيقيًّا شخصيًّا لداود نفسه.
· “الخروف موضوع ملكية، وليس حيوانًا برّيًّا. ويَعُده صاحبه مقتنى ثمينًا، وغالبًا ما يُشترى بثمن كبير. وإنه لأمر جيد أن نعرف، كما عرف داود على نحو مؤكد، أننا ننتمي إلى الرب. فلا توجد نغمة أكبر نبلًا من هذه العبارة. لا توجد شروط (إنْ) أو استدراك (لكن) أو تمنٍّ (ليت). بل يقول: ’ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
· “إن أعذب جزء من هذه العبارة حرف الياء في ’رَاعِيَّ.‘ فهو لا يقول إن الرب هو راعٍ للعالم كله بشكل عام، أو إنه يقود الجماهير كقطيع. بل يقول: “ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ.” فإن لم يكن راعيًا لأحد آخر، فإنه راعيّ أنا. وهو يهتم بي ويرعاني ويحفظني.” سبيرجن (Spurgeon)
· إن الفكرة الرائعة وراء دور الله كراعٍ هو رعايته واهتمامه المتسمان بالمحبة. وقد وجد داود عزاءً وأمانًا في فكرة أن الله مهتم بأمره كما يهتم الراعي بخرافه.
· أحس داود بحاجة إلى راعٍ. فلا توصل روح المزمور فكرة الاكتفاء الذاتي. لكن الذين يحسون بحاجتهم الشديدة – المساكين بالروح الذين وصفهم يسوع في العظة على الجبل (إنجيل متى ٣:٥) – يجدون تعزية كبيرة في أن الله يمكن أن يكون راعيًا لهم بمعنى شخصي.
· قال سبيرجن (Spurgeon) إنه قبل أن يكون بمقدور المرء أن يقول ’ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ،‘ يتوجب أن يشعر بأنه خروف بطبيعته. “لأنه لا يستطيع أن يعرف أن الله راعيه ما لم يشعر في نفسه بأنه يمتلك طبيعة خروف. فالخروف معروف بحمقه واعتماده والطبيعة المشوهة لإرادته.”
· “يقول أرسطو إن الخروف مخلوق أحمق وبليد… وهو ميّال إلى أن يهيم على وجهه، مع أنه لا يشعر برغبة في العودة… ولا يستطيع الخروف أن يقوم بحركة ليخلّص نفسه من العواصف أو الغرق. فهو يقف مستعدًّا للهلاك إن لم يقم الراعي بإبعاده عن الخطر.” تراب (Trapp)
٣. فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ: بالنسبة لداود، كانت حقيقة رعاية الله الشبيهة برعاية الراعي نهاية احتياجه غير الملبّى. فقال: “فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ” كتصريح وقرار في الوقت نفسه.
· فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ: تعني هذه العبارة: “كل احتياجاتي مُلَبّاة من الرب، راعيّ.”
· فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ: تعني هذه العبارة: “قررتُ ألّا أرغب في شيء أكثر مما يعطيه الرب، راعيّ.”
ب) الآية (٢): كيف يحفظ الراعي خرافه.
٢فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي.
١. يُرْبِضُنِي (يُسكِنُنِي): عرف الرب الراعي كيف يريح داود عند احتياجه إلى ذلك، تمامًا كما يفعل الراعي العادي مع خرافه عندما يرعاها. والتضمين هنا هو أن الخروف لا يعرف دائمًا ما يحتاج إليه وما هو أفضل له، ولهذا يحتاج إلى عون من الراعي.
· إن أروع صورة يقدمها عالم الطبيعة ممثلة في هذ الخيال: قطيع يرعى في مروج خضراء ويرتاح بهدوء بجانب مياه نهر تتدفق عبر هذه المروج.” هورن (Horne)
٢. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي: عرف الراعي أيضًا الأماكن الصالحة لراحة خرافه. وهو لهذا يرشدها إلى مروج خضراء (مَرَاعٍ خُضْرٍ).
· يكتب فيليب كيلر (Philip Keller) في كتابه بعنوان: ’راعٍ ينظر إلى المزمور ٢٣‘ إن الخراف لا تربض بسهولة، ولن تفعل ذلك ما لم تتم أربعة شروط. فلأنها خوّافة، فإنها لن تربض إن كانت خائفة. ولأنها حيوانات اجتماعية، فإنها لن تربض إن كان هنالك احتكاك بين الخراف. فإذا أزعجها ذباب أو طفيليات، فلن تربض. وأخيرًا، إن كانت الخراف قلقة حول الطعام أو جائعة، فلن تربض. فالراحة تأتي لأن الراعي قد تعامل مع الخوف والاحتكاك والذباب والمجاعة.
٣. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي: يعرف الراعي متى تحتاج الخراف إلى مراعٍ خضراء، ومتى تحتاج إلى مياه هادئة (مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ). فالصورة هنا غنية بالإحساس بالتعزية والاهتمام والراحة.
ثانيًا. الرب يقود كراعٍ
أ ) الآية (٣): أين يقود الراعي ولماذا.
٣يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ.
١. يَرُدُّ نَفْسِي: حققت رعاية الراعي المتسمة بالحنو في الآية السابقة تأثيرها المقصود. فقد رُدَّتْ نفس داود بالمراعي الخضراء والمياه الهادئة المجازيّة التي جلبها الراعي له.
· تدل كلمة ’يَرُدُّ‘ على فكرة استعادة شيء مفقود. “ربما كانت صورة لعودة الخروف الضالة.” كيدنر (Kidner)
· “يمكن أن تعني عبارة ’يَرُدُّ نَفْسِي‘ في العبرية “تُحْضِرني إلى التوبة (أو التجديد).” بويس (Boice)
· “’يَرُدُّ نَفْسِي.‘ يرد نفسي إلى طهارتها الأصلية بعد أن صارت موحلة وسوداء بالخطية. وفضلًا عن ذلك، ما الفائدة من أن تكون لي مراعٍ خضراء ونفس سوداء؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيكر (Baker)
٢. يَهْدِيْنِي (يقودني): كان الراعي مرشدًا. لم تكن الخراف تحتاج إلى معرفة مكان المراعي الخضراء أو المياه الهادئة. فكل ما احتاجت إليه هو أن تعرف مكان الراعي. وبنفس الطريقة، سيقود الرب داود إلى ما سيحتاج إليه.
٣. إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ: لم تُرِحْ قيادة الراعي داود وترد نفسه فحسب، بل هدت خرافه إلى البر أيضًا. إذ يوجد للإرشاد الإلهي جانب أخلاقي.
· “إنها تقاد من الآن فصاعدًا في سُبُلِ ٱلْبِرِّ، في طريق الطاعة المقدسة. فتُزال العقبات أمامها وتتقوى لتسير وتركض في سبل وصايا الله.” هورن (Horne)
٤. مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ: يرشد الراعي خرافه من منظور شامل من أجل فضل اسم الراعي ومجده.
· مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ: “إن دوافع الله للسلوك تجاه البشر مستمدة من كمال طبيعته وصلاحها.” كلارك (Clarke)
ب) الآية (٤): هبة حضور الراعي.
٤أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ لَا أَخَافُ شَرًّا، لِأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي.
١. أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ: هذه أول نغمة سوداء في هذا المزمور الجميل. سبق أن كتب داود عن المراعي الخضر ومياه الراحة وسبل البر. لكن عندما يتبع المرء الراعي، قد يسير فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ.
· استخدم داود هذه العبارة القوية للحديث عن خبرة سوداء مخيفة من نوع ما. إنها عبارة غير دقيقة، غير أن شِعْريّتها تجعل المعنى منطقيًا تمامًا.
ü إنه وادٍ وليس قمة جبل أو مرجًا واسعًا. توحي كلمة ’وَادِي‘ بكون المرء محاطًا داخلَ سياجٍ ومحاصرًا.
ü إنه وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ. فهو لا يواجه الموت نفسه، بل ظله فقط الذي يلقي ظلاله المظلمة المخيفة عبر سبيل داود.
ü إنه وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ. يواجه داود ما بدا له الهزيمة النهائية والشر.
· من الجدير بالملاحظة أن داود أدرك أنه قد يمشي في وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ تحت قيادة الراعي. ليست هذه وجهته أو مسكنه. ويمكن لداود أن يقول، مثل الواعظ في سفر الجامعة، إن كل الحياة تعاش تحت ظِلِّ ٱلْمَوْتِ، وإن الوعي بحضور الرب كراعٍ هو الذي يجعل الحياة محتملة.
· هذا السطر ممتلئ بالإيحاءات عندما نقرأ هذا المزمور وعيوننا موجهة إلى يسوع، الراعي العظيم. ونحن نفهم أن الظل ليس ملموسًا، لكنه يُلقى من شيء موجود. ويمكن للمرء أن يقول بحق إننا نواجه ظِلِّ ٱلْمَوْتِ فقط، لا الموت نفسه، لأن يسوع أخذ كل حقيقة الموت مكاننا.
٢. أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ: أثبت هذا السطر من المزمور – والمزمور ككل – أنه ذو قيمة عالية جدًا للقديسين المحتضرين عبر القرون. فقد تعزّوا وتقووا وتدفأوا بفكرة أن الرب سيرعاهم عبر وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ.
· عند الموت، يواصل القديس المسير بهدوء. ليس محتاجًا إلى أن يسرّع خطاه في فزع أو ذعر. فعند الموت، لا يسير القديس في الوادي، بل عَبْرَه.
· “تمت إزاحة الموت في جوهره، ولم يبقَ إلا ظله. فليس هنالك من يخاف من ظل. فالظل لا يستطيع أن يوقف شخصًا في طريقه ولو للحظة. ولا يستطيع ظل الكلب أن يعض، ولا يستطيع ظل السيف أن يقتل، ولا يستطيع ظل الموت أن يميتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إن لهذا تطبيقًا سارًّا بشكل لا يوصف على المحتضرين. لكنّ له تطبيقًا على الأحياء أيضًا. فالكلمات لا تأتي في صيغة المستقبل، ولهذا فإنها ليست محفوظة للحظة بعيدة.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لَا أَخَافُ شَرًّا: رغم سواد فكرة وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ، كان بمقدور داود أن يقول بحزم إنه تحت رعاية الرب راعيه. فحتى في مكان مخيف، كان حضور الرب يلغي خوف الشر.
· يمكننا القول إن حضور الراعي لم يلغِ وجود الشر، لكن من المؤكد أنه ألغى الخوف من الشر.
٤. لِأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي: يؤكد هذا أن وجود الراعي هو الذي أزال الخوف من الشر في نفوس الخراف. فبغضّ النظر عن بيئة داود في تلك اللحظة، كان بمقدوره أن يتطلع إلى حقيقة وجود الله كراعٍ، وأن يعرف أن الرب معه ’لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي‘ ويقول بثقة ’لَا أَخَافُ شَرًّا.‘
· إنه لأمر ذو دلالة أنه في تلك اللحظة الخطرة المصورة في المزمور، تتحول اللغة من المخاطب الغائب ’هو‘ في الآيات ١ إلى ٣ إلى المخاطب المفرد ’أنتَ.‘ فالرب كراعٍ هو الآن موجود كشخص مخاطب.
٥. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي: كانت العصا والعكاز أداتين يستخدمهما الراعي. والفكرة وراء العصا هي السير بثبات، وهو يستخدمها (قدر الإمكان) في إرشاد الخراف وحمايتهم من الحيوانات المفترسة المحتملة.
· هنالك بعض الجدل بين المفسرين حول إن كانت لدى داود فكرة استخدام أداتين منفصلتين (العصا والعكاز) أو أداة واحدة تُستخدم بطريقتين. يبدو أن الكلمة العبرية المترجمة إلى ’عصا‘ (shaybet) تعني ببساطة عصا أو قضيب، ولها تطبيقات متنوعة. ويبدو أن الكلمة العبرية المترجمة إلى ’عكاز‘ (mishaynaw) تدل على ’دعم‘ بمعنى أنها عصا للمسير.
· يلاحظ كيدنر (Kidner): “كانت العصا (وهي هراوة يرتديها الراعي على حزامه) والعكاز (للمسير ولتطويق القطيع وجمعه) سلاح الراعي وأداته. كانت الأولى تُستخدم للدفاع (انظر سفر صموئيل الأول ٣٥:١٧) والثانية للسيطرة، حيث يعني الانضباط أمانًا.”
· يكتب ماكلارين (Maclaren): “يبدو أن العصا والعكاز كانتا تسميتين لأداة واحدة تُستخدم لضرب الحيوانات المفترسة ولتوجيه الخراف.”
· كانت هاتان الأداتان (أو الأداة) المستخدمتان للتوجيه تعزية لداود. فقد كانتا تساعدانه – حتى فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ – في أن يعرف أن الله يرشده حتى من خلال التقويم والتصحيح. وإنها لتعزية عظيمة أن نعرف أن الله سيقوّمنا عندما نحتاج إلى ذلك.
ثالثًا. الرب كمضيف
أ ) (الآية ٥): بركة وقت الخطر.
٥تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِٱلدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا.
١. تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً: من دون أن ينتقل داود من الصورة السابقة لوادي ظل الموت، تَصَوَّرَ التدبير والخير اللذين يقدمهما الرب كمضيف يدعو ضيفه إلى مَائِدَةً غنية مُعَدة له.
· “هنا تبدأ الصورة الترميزية الثانية. يقدّم مضيف سخيّ ومحْسِن جدًّا مائدة رائعة. وليس لديه السخاء ليطعمني فحسب، بل القوة ليحميني أيضًا. ورغم أني محاط بأعداء، فإني أجلس إلى هذه المائدة بثقة عارفًا أني سأتمتع بها في أمان كامل.” كلارك (Clarke)
· يقدم داود صورة جميلة: توحي كلمة ’مَائِدَة‘ بالسخاء، وتوحي كلمة ’تُرَتِّبُ‘ ببعد النظر والرعاية، وتوحي كلمة ’قُدَّامِي‘ بعلاقة شخصية.
٢. تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ (قدّام أعدائي): هذه عبارة مذهلة. يوضع خير الله وصلاحه ورعايته الموحى بها في ’المَائِدَة‘ المُرتّبة في وسط حضور أعدائي (مُضَايِقِيَّ)، لكن يمكنني اختبار خير الله وصلاحه حتى في وسطهم.
· “هذا هو حال خادم الله… هو في صراع دائم، لكن توجد دائمًا مائدة ممتدة.” ماكلارين (Maclaren)
· “عندما يكون جندي موجودًا في حضور أعدائه، وحان موعد الأكل، إن كان يأكل أصلًا، فإنه يخطف وجبة على عجل، ثم يسرع إلى القتال. لكن لاحظ عبارة ’تُرَتِّبُ مَائِدَةً‘…. كما يفعل الخادم عندما يكشف القماش الدمشقي ويعرض زخارف العيد في مناسبة مسالمة عادية. فلا يوجد أي استعجال أو ارتباك أو إزعاج. العدو بالباب، غير أن الله يرتب لي مائدة. ويجلس المؤمن بالمسيح ويأكل كما لو أن كل شيء يسير في سلام كامل.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. مَسَحْتَ بِٱلدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا: رغم الأخطار المتعلقة بوجود الأعداء (تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ)، إلا أن داود تمتع بغنى خير المضيف، وانتعشت روحه عندما سُكب زيت على رأسه (مَسَحْتَ بِٱلدُّهْنِ رَأْسِي). وكانت كأسه ممتلئة حتى الفيض.
· “أيها الأحبة، سأطرح عليكم سؤالًا: كيف سيكون الأمر معك لو أن الله ملأ كأسك بما يتناسب مع قدر إيمانك؟ فكم سيكون لديك في كأسك؟” سبيرجن (Spurgeon)
· “يتوجب على الذين يتمتعون بهذه السعادة أن يرفعوا كؤوسهم في وضع مستقيم، ويتأكدوا من أنها تفيض لتنزل في كؤوس الإخوة الفقراء.” تراب (Trapp)
ب) الآية (٢): بركة للمستقبل.
٢إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى مَدَى ٱلْأَيَّامِ.
١. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي: جلبت رعاية المضيف خَيْرًا وَرَحْمَةً إلى داود، فعاش في توقع ممتلئ بالإيمان باستمرار ذلك كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ.
· “الرحمة هي كلمة العهد المترجمة إلى ’محبة ثابتة،‘ وهي مفرد كلمة ’مراحم‘ في مواضع أخرى… وهي توحي، إلى جانب الخير، باللطف أو الكرم والدعم الذي يمكن أن يعتمد المرء عليه في عائلته أو بين أصحابه الحميمين.” كيدنر (Kidner)
· “نحن مُشَيَّعون بشكل رائع، حيث الراعي (الله) أمامنا، وهذان الملاكان التوأمان (خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ) وراءنا.” ميير (Meyer)
· “سيكون هذان الملاكان الحارسان التوأمان ورائي على الدوام عند إشارة مني. فكما يسافر الأمراء العظماء إلى الخارج، فإنهم لا يذهبون وحدهم من دون مرافقة، كذلك هو حال المؤمن.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى مَدَى ٱلْأَيَّامِ: ينتهي المزمور بتوكيد هادئ جدًّا بأنه سيتمتع بحضور الرب إلى الأبد في كل من حياته على الأرض وما بعد ذلك في السماء.
· “في عالم العهد القديم، كان الأكل والشرب على مائدة شخص ما يخلق رباطًا من الولاء المتبادل. ويمكن أن يكون هذا ذروة الرمز للعهد… فعندما تكون ضيفًا على الرب، فإنك أكثر من مجرد أحد معارفه الذي يزوره ليوم. إنها دعوة إلى أن تعيش معه إلى الأبد.” كيدنر (Kidner)
· “بينما أنا هنا، سأكون ابنًا في البيت مع إلهي، وسيكون العالم كله بيته لي. وعندما أصعد إلى الحجرة العلوية (السماء)، لن أغيّر صحبتي، ولن أغيّر بيتي. إنما سأذهب لأسكن في الطابق العلوي من بيت الرب إلى الأبد.” سبيرجن (Spurgeon)