تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢
كلمات الناس وكلام الله
عنوان هذا المزمور هو “لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ٱلْقَرَارِ» (قيثارة ذات ثمانية أوتار). مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ.” ويشبه هذا العنوان عناوين أخرى في هذا القسم العام من المزامير، حيث يذكر هوية الجمهور. وفي هذا المزمور يشكو داود من كلمات خصومه الخبيثة، وبالمقابل يمتدح كلمة الله النقية الثمينة.
أولًا. مشكلة الشفاة المتملّقة
أ ) الآيات (١-٢): اختفاء الرجل التقي وبديله المؤسف.
١خَلِّصْ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ، لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. ٢يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ، بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ، بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ.
١. خَلِّصْ يَارَبُّ، لِأَنَّهُ قَدِ ٱنْقَرَضَ ٱلتَّقِيُّ: الظروف التي كتب تحتها داود هذا المزمور مجهولة لدينا. ويمكن أن يكون قد كتبها أثناء فترات مختلفة من حياته. وقد عرف داود ما يعنيه الشعور بأنه قَدِ ٱنْقَطَعَ ٱلْأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ.
· كان داود محاربًا وجنديًا شرسًا، لكننا نجده هنا مضطرًا إلى التعامل مع معارك القيل والقال والاغتياب من أشخاص ثرثارين كسالى ومخادعين. وعرف داود أيضًا الشعور بأن يكون وحده في هذا النوع من المعركة، حيث بدا أنه لم يكن هنالك أي شخص يمكن أن يتكلم دفاعًا عنه. ولهذا، رفع قضيته إلى الرب. ونحن نحس على الأرجح بأن داود يفضّل معارك السيوف والدروع على القيل والقال التي كانت تحيط به.
٢. بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ، بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ: وبدلًا من الأتقياء، رأى داود أولئك الذين يثرثرون (يَتَكَلَّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ)، وهم كاذبون ولكل واحد وجهان (بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ… بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ).
· ربما جاء هذا المزمور أثناء حياة داود في بلاط الملك شاول، حيث كان هدفًا لحسد الملك الجنوني. ويمكننا أن نتخيل حملة تهامس خبيثة ضد داود بين الذين أرادوا أن يكسبوا حظوة عند الملك المضلَّل.
· وجوهر الشِفَاهٍ المَلِقَةِ هو أنها تقول ما يريد أن يسمعه الناس. ويوجد متحدثون كثيرون مثل هؤلاء اليوم، حتى داخل الكنيسة – أولئك الذين يعرفون الجواب الصحيح في كل مناسبة، لكنهم لا يتكلمون بصدق أو بشفافية القلب. وهم يتكلمون ما يأمل أن يسمعه الناس أو ما يفترض أنه ملائم بدلًا من أفكارهم ومشاعره وأعمالهم الحقيقية.
· “يقول دانيال إن التملّق سيكون أداة سيستخدمها حاكم عالمي شرير سيظهر في اليوم الأخير (دانيال ٣٢:١١).” بويس (Boice)
· “’يَتَكَلَّمُونَ… بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ.‘ لكل واحد منهم قلبان؛ واحد للكنيسة، والثاني للتغيير؛ واحد لأيام الأحد، والثاني لباقي أيام الأسبوع؛ واحد للملك، والثاني للبابا. والرَجُل بلا قلب هو عجب العجاب، لكن الرجل ذا القلبين وحش.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن توماس آدمز (Thomas Adams)
ب) الآيات (٣-٥): توسُّل لله أن يدين أولئك الذين يتكلمون بشكل شرير.
٣يَقْطَعُ الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِمِ، ٤الَّذِينَ قَالُوا: «بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. شِفَاهُنَا مَعَنَا. مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟ ». ٥«مِنِ اغْتِصَابِ الْمَسَاكِينِ، مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ، الآنَ أَقُومُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ الَّذِي يُنْفَثُ فِيهِ».
١. يَقْطَعُ ٱلرَّبُّ (ليت الربَّ) جَمِيعَ ٱلشِّفَاهِ ٱلْمَلِقَةِ: أحس داود أنه بلا حوْلٍ ولا قوة نوعًا ما أمام أولئك المهذارين الهدّامين. فوجد ملجأه في الرب. فالتمس منه أن يَقْطَعَ ٱللِّسَانَ ٱلْمُتَكَلِّمَ بِٱلْعَظَائِمِ.
· كتب بنيامين فرانكلن (Benjamin Franklin) ذات مرة: “بما أني لا أستطيع أن أتحكم في لساني، فكيف يمكنني أن أتحكم بلسان الآخرين؟” أحسَّ داود بنفس هذا الإحباط أمام ألسنة الآخرين المهذارة الهدامة.
· “إنه أفضل أن يُمَسّ اللسان بجمرة حية من المذبح من أن يُقطَع.” ماكلارين (Maclaren)
٢. بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ… مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟ احتقر داود هذه الألسنة الهدامة، لا من أجل ما قالته فحسب، بل أيضًا من الكبرياء التي صعَّبتْ عليهم أن تتوقف. فكأنها كانت تقول: “لا يمكنك أن توقفنا عن الكلام كما نهوى.”
· بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. سيفعلون هذا بنشر الافتراءات والأخبار الشريرة الملفقّة عن داود، والتي من شأنها أن تثير غضب شاول بشكل كبير بحيث لا يمكن أن يرضى عنه بعد ذلك، وأن تُبعِد الناس عنه.” بوله (Poole)
· بالنسبة لمن يجاهر بأنه تابع ليسوع المسيح، لا يوجد إلا جواب واحد عن هذا السؤال، “مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟” يسوع المسيح هو سيدنا وربنا، وهو يملك جسدنا ونفسنا وروحنا. لقد اشتُرينا بثمن، ولهذا ينبغي أن نمجد الله في أجسادنا، بما في ذلك شفاهنا ولساننا (كورنثوس الأولى ٢٠:٦).
٣. ٱلْآنَ أَقُومُ: كان هؤلاء الثرثارون يتكلمون حسب هواهم، لكنهم لم يقدروا على أن يوقفوا الله عن الكلام حسب هواه. إذ أعلن الرب بطريقة مثيرة أنه سيتحرك مدافعًا عن المحتاجين والمساكين الذين كانوا ضحايا لهؤلاء الثرثارين المتكبرين الذين لا يمكن إيقافهم.
· “فكِّرْ في الله وهو يقوم في قدرته وجبروته. عندما يقوم، فإنه يزلزل الأرض زلزالًا. ولا يستطيع أن يقف أمامه حالما يقوم. أيها المساكين، والمرضى، والمحزونون، وأبناء الله الذين تئنّون، أنتم الذين تستطيعون أن تجلبوه إلى هذه الحالة الرائعة من النشاط.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ ٱلَّذِي يُنْفَثُ فِيهِ (الذي يتوق): أحس داود بأن هذه كلمة الله له. إذ كان واحدًا من أولئك المساكين والمحتاجين التوّاقين إلى السلامة من هؤلاء المنتقدين والثرثارين الهدامين.
ثانيًا. كلام الله وشرّ الناس
أ ) الآيات (٦-٧): كلام الرب النقي.
٦كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ، كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي الأَرْضِ، مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. ٧أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُهُمْ. تَحْرُسُهُمْ مِنْ هذَا الْجِيلِ إِلَى الدَّهْرِ.
١. كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ: بالمقابلة مع خصوم داود الكسالى، وذوي الوجهين، والكذابين، وأصحاب الشفاه المتكبرة، فإن كَلَامَ ٱلرَّبِّ كَلَامٌ نَقِيٌّ، كَفِضَّةٍ… مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
· “يا لها من مقابلة بين كلام الإنسان الباطل وكلام الرب النقي! فكلام الإنسان نعم ولا، لكن وعود الله هي نعم وآمين.” سبيرجن (Spurgeon)
· “كلام الله مقدس في أحكامه، وعادل في شرائعه، وكريم في وعوده، جوهري في أنظمته، وصحيح في رواياته، ومعصوم في نبوّاته. فما هي آلاف من قطع الذهب والفضة أمام كنوز صفحاته المقدسة!” هورن (Horne)
· يعني هذ أن كلمة الله جديرة بالثقة بكل معنى. إنها صالحة ونقية وممحوصة بشكل وافٍ. ويمكننا أن نطمئن إلى أن الله امتحن كلمته. لكنها امتُحِنت أيضًا من طلاب وباحثين ونقّاد ومتشككين عبر العصور – وما زالت كلمة الله صامدة. إنها مثل السندان الذي أنهك مطارق لا تُحصى دَقّتْهُ.
· “اجتاز الكتاب المقدس في أتون الاضطهاد، والنقد الأدبي، والشك الفلسفي، والاكتشاف العلمي، ولم يفقد إلا التأويلات البشرية التي علقت به كما تتعلق الشوائب بالمعدن النفيس. جرّبته خبرة القديسين بكل طريقة يمكن تصوُّرها، لكن لم تُلتَهم عقيدة واحدة منه أو يسقط وعد واحد في أشد حرارةٍ تطرُّفًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “بعد أكثر من قرنين من مواجهة الكتاب المقدس لأثقل البنادق التي يمكن حملها، نجا وظل صامدًا – وربما أفضل عندما يكون تحت الحصار. وهو حسب حتى تعبير نقّاده ’حقيقة تاريخية،‘ وهو يبدو أكثر مقبوليةً الآن أكثر مما كان عندما بدأ العقلانيون بالهجوم عليه.” بويس (Boice) نقلًا عن مجلة تايمز.
· “هل يتحدث الخطاة كلامًا باطلًا؟ دعوا القديسين يتحدثوا عن يسوع وإنجيله. فهل يتحدثون بكلام غير طاهر؟ إذًا دعوا الأمناء يستخدموا كلام الله النقي. فهو شأنه شأن الفضة، كلما استُخدِم، وكلما صُهِر في النار، زادت قيمته.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن روبرت هوكر (Robert Hawker)
· “كما تثري الفضة صاحبها، كذلك كلمة الله تثري عاشقيها. ولا يوجد ما يمكن أن يقوّي الذهن، ويصفّي الحُكم، ويوسّع المناظير، وينقّي الذوق، ويحيي الخيال، ويثقف الإنسان كله مثلها.” ميير (Meyer)
٢. أَنْتَ يَارَبُّ تَحْفَظُهُمْ (تحفظها). تَحْرُسُهُمْ (تحرسها): كان هذا إعلانًا من داود بثقته بقدرة الله على حفظ كلامه. فهو لم يكتفِ بإعطاء كلامه للبشر، بل حماها برعايته الإلهية عبر القرون أيضًا.
· هنالك بعض المخطوطات التي يمكن أن تترجم: “أَنْتَ يَارَبُّ تَحْفَظُنا.” وهناك مخطوطات مشروعة تدعم ترجمة “أَنْتَ يَارَبُّ تَحْفَظُهُمْ” كما هي بالعربية. ويمكننا أن نقول إن الله يخفظ كلامه وشعبه معًا.
· “ينفجر صاحب المزمور تسبيحًا بسبب نقاوة كلام الله، ويعلن أن الرب سيحفظها وسيحرسها، حيث إن “ها” هنا تعود على كلام الله. لا يوجد وعد بانتشار الانتعاش أو التجديد. فالذي يعد به الرب هو خلاص البقية التقيّة وحفظ كلامه.” مورجان (Morgan)
· لقد حفظ الله كلامه وسيحرسه. “قال الملحد الفرنسي فولتير ذات يوم: ’بعد عشرين سنة، ستختفي المسيحية. وستدمِّر يدي بمفردها الصرح الذي احتاج اثنا عشر رسولًا إلى إقامته.‘ وقال إنه بعد خمسين سنة، لن يتذكر أحد المسيحية. لكن في السنة التي كتب هذا الكلام فيها، دفع المتحف البريطاني للحكومة الروسية خمسة آلاف دولار مقابل مخطوطة للكتاب المقدس، بينما كان يباع أحد كتب فولتير في أكشاك لندن بثمانية سنتات فقط.” بويس (Boice)
· “لا تتخلوا عن سطر واحد من إعلان الله… أيها الإخوة، لا نستطيع أن نحتمل هذا الفكر اللاهوتي المراوغ. ليت الله يرسل إلينا رجالًا يتمتعون بالصلابة والثبات، رجالًا إذا آمنوا بشيء فإنهم يموتون من أجل ما يؤمنون به. إذ يستحق هذا الكتاب تضحيتنا جميعًا من أجل الحفاظ على كل سطر منه.” سبيرحن (Spurgeon)
ب) الآية (٨): طريق الأشرار.
٨ٱلْأَشْرَارُ يَتَمَشَّوْنَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ ٱلْأَرْذَالِ بَيْنَ ٱلنَّاسِ.
١. ٱلْأَشْرَارُ يَتَمَشَّوْنَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ: عرف داود أن وجود كلمة الله النقية ورفْعها لن يلغي ٱلْأَشْرَار. إذ سيظلون موجودين وسيَتَمَشَّوْنَ (خلسةً) مِنْ كُلِّ نَاحِيَة حسب استطاعتهم، لكن من دون توكيد بانتصار نهائي.
· “هنا نرجع إلى نبع المرارة الذي دفع صاحب المزمور في بداية الأمر إلى آبار الخلاص، وهذا النبع هو انتشار الشر.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ ٱلْأَرْذَالِ بَيْنَ ٱلنَّاسِ: ربما نحس بأن هذا المزمور ينتهي بنغمة حزينة كئيبة. غير أن داود كان واقعيًّا تمامًا في نظرته. عرف أنه حتى مع مُتاحية كلمة الله للناس، إلا أن كثيرين من أبناء البشر (ٱلنَّاسِ) سيفضّلون ٱرْتِفَاعِ ٱلْأَرْذَالِ.
· “إذا ارتفعت الرذالة بين الناس، فإنما هذا لأن الناس يفضّلونها على نقاوة الصلاح الصارمة. والشعب الفاسد مستعد لأن يتوّج أشخاصًا فاسدين عليهم عالًيًا.” ماكلارين (Maclaren)
· ربما يمكننا القول إنّ داود ترك النهاية هكذا كتحدٍّ لنا. دعنا نترك ٱلنَّاسِ يمجدوا الرذالة. وأما هو فسيرفع كلمة الله النقية. وفي نهاية الأمر، سيرى الجميع الفائز في المسابقة. ليفعل الأشرار أسوأ ما لديهم، وأما داود فسيبذل وسعه، بعون الله، وسيرى انتصار الرب.