تفسير سفر المزامير – مزمور ٤٢
صلاة صادقة من قديس محبَط
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. قَصِيدَةٌ (تأمُّل) لِبَنِي قُورَحَ.
لا نعرف متى جُمِعت المزامير في خمسة كتب، لكن تقسيمها يعود إلى ما قبل أقدم مخطوطاتنا التي جُمعت في النص المازوري. وهذا أول مزمور في الكتاب الثاني. وتوجد اختلافات عامة بين مزامير الكتاب الأول والثاني.
هنالك اختلاف في توكيد اسم الله بين الكتابين الأول والثاني. “يقول فرانز ديليتش (Franz Delitsch) إن الاسم يهوه (الرب) وردَ ٢٧٢ مرة في الكتاب الأول بينما وردَ اسم إيلوهيم ١٥ مرة فقط. لكن في الكتاب الثاني، وردَ اسم إيلوهيم ١٦٤ مرة بينما وردَ اسم الرب (يهوه) ٣٠ مرة فقط. جيمس مونتجمري بويس (James Montgomery Boice)
وفي الكتاب الأول، يُنسب ٣٧ من ٤١ مزمورًا إلى داود بشكل محدد، بينما لا تُنسب المزامير الأربعة الأخرى إلى أحد. فداود هو المرنم المعروف الوحيد في الكتاب الأول.
وفي الكتاب الثاني من المزامير، كتب داود ١٨ مزمورًا من ٣١ مزمورًا، أي أكثر من النصف. وهنا يظهر مرنمون آخرون. إذ كتب كل من آساف وسليمان مزمورًا، وكتب بنو قورح سبعة أو ثمانية مزامير، بينما لا تُنسب ثلاثة مزامير إلى أي مؤلف.
كان أبناء قورح لاويين من عائلة قهات. وبحلول زمن داود، خدموا في الجانب الموسيقي من عبادة الهيكل (سفر أخبار الأيام الأول ١٩:٢٠).
قاد قورح ٢٥٠ قائدًا من قادة المجتمع في تمرد على موسى أثناء أيام البرية بعد الخروج (سفر العدد ١٦). فأدان الله قورح وقادته، فماتوا جميعًا، لكن أبناء قورح بقوا (سفر العدد ٩:٢٦-١١). ربما كانوا ممتنّين لهذه الرحمة حتى إنهم برزوا بين إسرائيل في تسبيح الله.
أولًا. حاجة المرنم العميقة
أ ) الآيات (١-٣): يجلب إحساس بالاحتياج العظيم، والابتعاد عن بيت الله، وكلمات محبطة إحساسًا باليأس.
١كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. ٢عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ ؟ ٣صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلاً إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟».
١. كَمَا يَشْتَاقُ ٱلْإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ، هَكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللهُ: بدأ بنو قورح هذا المزمور بصورة قوية – أيائل ظامئة. ربما جاء الظمأ من الجفاف أو من مطاردة ساخنة. وفي أيٍّ من الحالتين، تاقت الأيائل إلى الماء الضروري. وبنفس الطريقة، تاقت واحتاجت نفس المرنم إلى الله.
· “لم يطلب المرنم راحة، ولم يشتهِ كرامة أو منزلة، لكن التمتع بالتواصل مع الله كان حاجة مُلِحّة لنفسه. لم ينظر إلى هذا الأمر على أنه مجرد أعذب الكماليات، لكن كضرورة مطلقة، كاحتياج الإيل إلى الماء.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى ٱللهِ، إِلَى ٱلْإِلَهِ ٱلْحَيِّ: لم يكن المرنم عطِشًا إلى الماء، بل إلى الله. والشرب والعطش صورتان شائعتان للاحتياج الروحي للإنسان إلى إمدادات الله. وينصب التوكيد هنا على الطلب المستميت لإشباع هذه الحاجة.
· ربما يبقى المرء أيامًا كثيرة من دون طعام، لكن العطش يُظهر حاجة أكثر إلحاحًا. “العطش أكثر إلحاحًا من الجوع. يمكنك أن تخفف من وطأة الإحساس بالجوع، لكن العطش فظيع ونهِم وصخّاب ومميت.” سبيرجن (Spurgeon)
· إِلَى ٱلْإِلَهِ ٱلْحَيِّ: “ليس إلى الهيكل أو الطقوس والفرائض، بل إلى الشركة مع الله نفسه. ولا يستطيع أن يتعاطف مع هذا الاحتياج إلا الأشخاص الروحيون.” سبيرجن (Spurgeon)
· “الحزن (الأسى) هو دائمًا إحساس بالافتقار. فحزن الثكل هو الإحساس بفقدان أحد الأحبة. وحزن المرض افتقار إلى الصحة. وأسمى حزن هو الافتقار إلى الله. كان هذا أسمى حزن لدى المرنم.” مورجان (Morgan)
· إنه ٱلْإِلَهُ ٱلْحَيُّ من ثلاث نواح على الأقل:
ü فهو وحده حي في ذاته ومن ذاته.
ü وهو وحده يعطي حياة.
ü وهو متميز عن الآلهة الميتة، الآلهة الوثنية المتخيّلة.
٣. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ ٱللهِ؟: بالنسبة لأبناء قورح – المرتبطين بخيمة الاجتماع والهيكل وطقوسهما – كان هنالك مكان معين ليتراءوا فيه قُدَّامَ ٱللهِ. فكان هذا توقًا إلى الاتصال به وبشعبه في الخيمة أو الهيكل.
· أَتَرَاءَى قُدَّامَ ٱللهِ: “في مكان حضوره الخاص والعبادة العامة (انظر سفر الخروج ١٥:٢٣؛ ٣٠:٢٥) وما يُدعى ’قُدَّامَ ٱللهِ‘ (سفر أخبار الأيام الأول ١٠:١٣) هو قُدَّامَ التابوت أو عند التابوت (سفر صموئيل الثاني ٧:٦).” بوله (Poole)
· “ليس الأمر أنه لا يؤمن بأن الله موجود في كل مكان أو لأن الله ليس معه. فهو، رغم كل شيء، يصلي إلى الله في المزامير. لكن ابتعاده عن بيته جعل روحه المعنوية تنخفض، وتسببت كآبته في الإحساس بأن الله غائب.” بويس (Boice)
· “لا يستطيع إنسان شرير أن يقول بجدية: ’مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ ٱللهِ.‘ لأن هذا سيحدث في وقت مبكر جدًّا بالنسبة له، أي قبل الأوان، تمامًا كما قالت الأرواح الشريرة للمسيح: ’أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟‘ اسأل لصًّا أو قاتلًا إن كان مستعدًّا أن يظهر أمام القاضي؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هورتون (Horton)
٤. صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلًا: يمكن أن تُفهم هذه الدموع بطريقتين على الأقل. أولًا، تُظهر الأسى الذي جعل صاحب المزمور يتوق إلى الراحة في الله. ثانيًا، تبيّن أسى صاحب المزمور على المسافة المدرَكة بينه وبين الرب. ويمكن أن تنطبق إحدى الطريقتين أو كلتاهما معًا على حالته. غير أن احتياجه عميق وعظيم بشكل واضح.
· “إن أفضل شيء بعد الحياة في نور محبة الرب هو أن تكون تعيسًا إلى أن تحصل عليها، وأن تلهث (تتوق) وراءها.” سبيرجن (Spurgeon)
· “ربما أفقدتْه دموعه وحزنه شهيته للطعام، فصارت تلك الدموع طعامه.” بوله (Poole)
٥. إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: “أَيْنَ إِلَهُكَ؟: ساءت المشكلة في وجود صحبة أشخاص أرادوا أن يثبطوا عزيمة صاحب المزمور. أرادوا منه أن يحس في لحظة احتياجه بأن الله غير موجود بالنسبة له.
· “جاء أول إلحاد حقيقي مع الفلسفة اليونانية. فلم تعنِ هذه السخرية المهينة أن الله غير موجود، بل تعني أن الله ترك صاحب المزمور.” بويس (Boice)
· “واجه قديسون متألمون آخرون نفس المعاملة. ففي أورليانز، فرنسا، عندما قتل البابويون المتعطشون للدماء البروتستانت، صرخوا: أين إلهكم؟ وما الذي آلت إليه صلواتكم ومزاميركم الآن؟ ادعوا الله الذي دعوتموه أن يخلّصكم الآن إذا استطاع.” تراب (Trapp)
- أَيْنَ إِلَهُكَ؟: “ربما كان بمقدور داود (لو كان السؤال موجهًا إليه) أن يرد عليهم: أين عيونكم؟ أين أبصاركم؟ فالله ليس في السماء فقط. بل هو فيّ أيضًا؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن سيبس (Sibbes)
ب) الآية (٤): ذكريات أليمة تجلب مزيدًا من الإحباط.
٤هَذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ: لِأَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ مَعَ ٱلْجُمَّاعِ، أَتَدَرَّجُ مَعَهُمْ إِلَى بَيْتِ ٱللهِ بِصَوْتِ تَرَنُّمٍ وَحَمْدٍ، جُمْهُورٌ مُعَيِّدٌ.
١. كُنْتُ أَمُرُّ مَعَ ٱلْجُمَّاعِ، أَتَدَرَّجُ مَعَهُمْ إِلَى بَيْتِ ٱللهِ: جعل تذَكُّر الأيام السعيدة صاحب المزمور أكثر حزنًا. فقد فكّر في أوقات العبادة المفرحة في بَيْتِ ٱللهِ، وأحس بأنه بعيد عن تلك الأيام الجميلة الخوالي.
· فَأَسْكُبُ نَفْسِي: “تذوب نفسي، وتصير كالماء عندما أتأمّل ما لديّ وما فقدتُه.” كلارك (Clarke)
· فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ (داخلي، فيَّ): “فيَّ، داخل صدري بين الله ونفسي، لا علنًا لئلا يحوِّل أعدائي المسألة إلى شماتة وفرح وإهانة لي.” بوله (Poole)
٢. مَعَ ٱلْجُمَّاعِ… جُمْهُور مُعَيِّد: تذكّر صاحب المزمور على نحو خاص ذروة أوقات الأعياد الدينية التي ميّزت التقويم العبري. فكّر في الجمهور والإثارة (بِصَوْتِ تَرَنُّمٍ وَحَمْدٍ) التي رافقت أعياد الفصح والخمسين والمِظال.
ج) الآية (٥): كلام حكيم يوجهه إلى نفسه.
٥لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ ٱرْتَجِي ٱللهَ، لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، لِأَجْلِ خَلَاصِ وَجْهِهِ.
١. لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي: توقّف صاحب المزمور عن التذكر المؤلم ليتحدى نفسه. لم يستسلم لمشاعر الكآبة الروحية والإحباط. بل تحدّاها وأحضرها إلى الله. وقال لتلك المشاعر المنحنية القلقة: “ٱرْتَجِي ٱللهَ. سيوصلك إلى بَر الأمان ثانية، لأنه سبق أن فعل ذلك.”
· هذا بعيد جدًّا عن الاستسلام الذي غالبًا ما يقع فيه الشخص المحبط أو المكتئب روحيًّا. فلم يقل: “نفسي منحنية. وهذا هو واقع الحال. ولا أستطيع أن أفعل شيئًا حياله.” إن التحدي الموجَّه إلى نفسه – طالبًا منها أن تفسر سببًا لهذا الانحناء – مثال رائع. كانت هنالك أسباب مشروعة للإحباط، لكن كانت هنالك أسباب أكثر للرجاء.
· ومرة أخرى، ليس الأمر أنه لم يقدِّم أسبابًا كثيرة لإحباطه. إذ أزعجته أمور كثيرة.
ü المسافة بيني وبين بيت الله (٢:٤٢؛ ٦:٤٢)
ü غير المؤمنين الساخرين المتهكمين (٣:٤٢؛ ١٠:٤٢)
ü ذكريات أيام أفضل (٤:٤٢)
ü غياب الإثارة الروحية حاليًا كما كانت في الماضي (٤:٤٢)
ü تجارب الحياة الساحقة (٧:٤٢)
ü استجابة الله البطيئة البادية (٩:٤٢)
فكما لو أن صاحب المزمور قال: “ليست هذه أسبابًا كافية لكي تحنيني عندما أفكر في عظمة الله وعون رضاه وحضوره.”· “ليست النتيجة هي إماتة الإحساس بالأسى، بل بوضعه في علاقة صحيحة بالله.” مورجان (Morgan)
· “ينبغي أن تتولّى الأمر بنفسك. عليك أن تخاطب نفسك. عظْ نفسك. اسأل نفسك. يتوجب عليك أن تقول لنفسك: ’لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ ما الذي يُقلِقك ويزعجك؟‘” بويس (Boice) نقلًا عن لويد جونز (Lloyd-Jones)
- “يقرِّع داودُ داودَ (أي نفسه) للخروج من هذه المزبلة.” تراب (Trapp)
٢. ٱرْتَجِي ٱللهَ، لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ: تحدَّث صاحب المزمور إلى نفسه، بل كان يعظ نفسه. لم يكن يحس برغبة في التسبيح في تلك اللحظة، غير أنه كان واثقًا أنه عندما يفعل ذلك، سيستطيع أن يوجه رجاءه نحو الله، وعندئذ سيتدفق مزيد من الحمد والتسبيح. “لا أحس برغبة في التسبيح الآن، لكنه جدير برجائي، ولهذا سأسبّحه (أَحْمَدُهُ).”
· “الرجاء مثل الشمس التي، عندما نرتحل في اتجاهها، تلقي ظل أعبائنا وراءنا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن سمايلز (Smiles)
٣. لِأَجْلِ خَلَاصِ وَجْهِهِ (لأجِل عونِ طَلْعَتِه): بحث صاحب المزمور عن الخلاص أو العون في طلعة الرب (وَجْهِهِ)، أي في موافقة الله واستحسانه. ووجد مكانًا أفضل بتحدّي إحساسه بالكآبة وطلب طلعة الله – وَجْهِهِ.
· لِأَجْلِ خَلَاصِ وَجْهِهِ: “يقول النص العبري ’لِأَجْلِ خَلَاصاتِ وَجْهِهِ.‘” بوله (Poole). “لاحِظْ أن رجاء داود الرئيسي ورغبته يرتكزان على ابتسامة الله. فوجهه هو ما يطلبه ويرجو أن يراه. ومن شأن هذا أن يسترد روحه المعنوية المتدنية.” سبيرجن (Spurgeon)
· “عندما تشرق الشمس، فلا يمكن أن نكون بلا نور. وعندما يوجّه الله طلعته نحونا، فلا يمكن أن نكون بلا ’خلاص.‘” هورن (Horne)
· فهِمَ صاحب المزمور في سعيه إلى عون طلعة الله (خَلَاصِ وَجْهِهِ) أن الأجوبة لا تكمن في نفسه، لكن في الإله الحي. فلم ينظر إلى الداخل، بل إلى فوق.
ثانيًا. إحضار الاحتياج إلى الله
أ ) الآية (٦): صلاة صادقة من مكان بعيد.
٦يَا إِلَهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ، لِذَلِكَ أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأُرْدُنِّ وَجِبَالِ حَرْمُونَ، مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ.
١. يَا إِلَهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ: عبّر صاحب المزمور، بطريقة موضوعية مستقلة تقريبًا، عن نفسه المنحنية. كان هذا أمرًا حكيمًا، لأن ميل الإنسان في مثل هذه الحالات هو أن يبقى بعيدًا عن الله، أو أن يتصرف كما لو أنه قادر على إخفاء المشكلة عنه. فلم يغفل صاحب المزمور أيًّا منهما.
٢. لِذَلِكَ أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلْأُرْدُنِّ: يشرح هذا سبب كونه بعيدًا عن بيت الله، ولم يستطع أن يأتِ إلى خيمة الاجتماع أو الهيكل. كان بعيدًا جدًّا إلى شمال أورشليم، في جِبَالِ حَرْمُونَ.
· “نحن نعرف الشيء الرئيسي الذي أزعجه. كان بعيدًا عن أورشليم وعبادة الهيكل على جبل صهيون، ولهذا أحس بأنه مقطوع من الله.” بويس (Boice)
· جَبَل مِصْعَرَ: “يرجح أن مصعر اسم لجبل لا نعرف له اسمًا آخر. ويحدد صاحب المزمور موقعه بشكل دقيق، لكن بطريقة غير مفيدة لنا.” ماكلارين (Maclaren)
ب) الآيات (٧-٨): صلاة من أعماق الإحباط.
٧غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ. كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ. ٨بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلهِ حَيَاتِي.
١. غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ (شلالاتك): ربما رأى صاحب المزمور شلاّلًا في هذه المنطقة الجبلية، ورأى كيف أن المياه كانت تتساقط في بركة عميقة في حوض الشلال، وفكّر في نفسه: “أنا مدفون على نفس العمق تحت تعاستي. فكما لو أن أمواجك وتياراتك غمرتني ودفنتني (كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ).”
· عرف صاحب المزمور: “أنا في ضيق عميق من الخارج، وأنا في ضيق عميق من الداخل.” وبدا أنّ هذين العُمقين يصطدمان فيه ويدفعانه إلى عمق أكبر. وهذه صورة شعرية قوية لتصوير اليأس.
ü أسمعُ هدير الشلالات المستمر. وهو لا يتوقف أبدًا.
ü سقطتُ من مرتفع سابق.
ü انحدرتُ سريعًا، فوقعتُ في عمق كبير.
ü أحس بأني مدفون تحت ذلك كله.
ü أحس بأني أغرق.
· حتى في هذا، توجد نقط من النور معطيةً إياه رجاء.
ü أنا عميق، لكنك أنت كذلك، ولهذا فإن أعماقك تناديني في أعماقي.
ü الشلالات هي شلالاتك. فإن سقطتُ تحتها، فإنك معي.
ü الأمواج واللجج هي أمواجك ولججك، وأنت قِستَ هذا كله.
· “ربما لا تقدم بوصلة الخليقة بأكملها صورة أكثر عدلًا وإذهالًا للطبيعة وعدد كوارثها من تلك التي جلبتها الخطية على أبناء آدم.” هورن (Horne)
· غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا: “تتدحرج فوقي موجة من الحزن متبوعة بأخرى. هنالك شيء كئيب في صوت هذه الكلمة العبرية.” كلارك (Clarke)
· رأى ف. ب. ميير (F.B. Meyer) هذا على أن أعماق الله تستجيب لأعماق الحاجة البشرية. “مهما كانت الأعماق الموجودة في الله، فإنها تسعى إلى التوافق مع الأعماق التي فينا. ومهما كانت أعماق حزننا أو رغبتنا أو إلحاح حاجتنا، فإن هنالك أعماقًا متوافقة في الله، والتي يمكن الحصول منها على إمدادات كاملة.” ميير (Meyer)
ü “ينادي عُمق (غمْر) الفداء الإلهي على عمق (غمر) الاحتياج البشري.” ميير (Meyer)
ü “ينادي عُمق (غمْر) غنى المسيح على عمق (غمْر) فقْر القديس.” ميير (Meyer)
ü “ينادي عُمق (غمْر) شفاعة الروح القدس في الصلاة على عمق (غمْر) صلاة الكنيسة.” ميير (Meyer)
٢. يُوصِي ٱلرَّبُّ رَحْمَتَهُ: نادرًا ما تُستخدم كلمة الرب (يهوه) كاسم لله في هذا الكتاب الثاني من المزمور. وهو يُستخدم هنا بقوة خاصة وبثقة عظيمة بأن الله يوصي بأن تُقدَّم رحمته (محبته الثابتة) لليائسين.
· “هذا تعبير مذهل. فهو لا يقول إن الرب سيمنح رحمته (محبته الثابتة)، بل يقول إنه يوصي بها. فبما أن الهبة الإلهية نعمة، فإنها فضل مجاني لغير المستحقين، ولهذا فإن أسلوب منحها أمر سيادي. إنها تعطى بموجب مرسوم… تبرُّع ملكي. فإذا أمر بالبركة، فمن ذا الذي يمكن أن يمنع تلقّيها؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن مارش (March)
٣. بِٱلنَّهَارِ يُوصِي ٱلرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي (معي): وصل صاحب المزمور إلى مكان ثقة أكبر، آمِنًا في صلاح الله وخيره له في الليل والنهار. وفي الليل المخيف، سيحصل على تعزية كريمة من ترنيمة منه وهو معه.
٤. صَلَاةٌ لِإِلَهِ حَيَاتِي: هذه عبارة أخرى تدل على الثقة. ستكون الترنيمة التي تأتي من الله صلاة، لكنها ليست صلاة إلى إله موته، بل إلى إله حياته.
ج) الآيات (٩-١٠): مزيد من الكلام الصادق من صاحب المزمور حول إحباطه.
٩أَقُولُ للهِ صَخْرَتِي: «لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُوِّ؟». ١٠بِسَحْق فِي عِظَامِي عَيَّرَنِي مُضَايِقِيَّ، بِقَوْلِهِمْ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟».
١. أَقُولُ لِلهِ صَخْرَتِي: «لِمَاذَا نَسِيتَنِي»: هنالك تناقض جميل في هذا الشطر. إذ سبق أن عبّر صاحب المزمور عن الثقة حينما دعى الله صخرته، فكان أمانه وثباته وقوّته. وهو في الوقت نفسه يطرح مشاعره بصدق ويسأل: «لِمَاذَا نَسِيتَنِي»؟· يعرف هذا القديس الأكثر خبرة أنه لا يوجد تناقض حقيقي هنا. فلأنه نظر إلى الله على أنه صخرته، كان بمقدوره أن يسكب نفسه أمامه بصدق.
٢. لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ ٱلْعَدُوِّ؟ يحس صاحب المزمور بأن الله يحافظ عليه ويسنده، لكن المعركة لم تنتهِ بعد. إذ هنالك مضايقات مستمرة من العدو الذي ما زال يسأل في تهكُّمه الساخر: “أَيْنَ إِلَهُك؟”
د ) الآية (١١): عودة إلى تحدٍّ واثق بالنفس وتركيز على الله.
١١لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ ٱللهَ، لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلَاصَ وَجْهِي وَإِلَهِي.
١. لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ مع استمرار مضايقات العدو، يستمر صاحب المزمور في التكلم إلى نفسه وتقديم تحدٍّ لإحساسه بالإحباط.
· “هذا حوار مهم بين جانبي المؤمن الذي هو في الوقت نفسه رجل اقتناعات ومخلوق متسم بالتغيُّر.” كيدنر (Kidner)
· “تكرِّر الذات العليا نصف توبيخ ونصف تشجيع.” ماكلارين (Maclaren)