تفسير سفر المزامير – مزمور ٤٣
من الكآبة إلى موكب تسبيح
“إن هذا المزمور جزء من المزمور السابق أو مرتبط به بشكل وثيق.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan). وفي واقع الأمر، فإننا نجد في عدد من المخطوطات العبرية القديمة أن المزمورين ٤٢ و ٤٣ مزمور واحد. ويرجح أنهما منفصلان، لكن تربطهما مشكلة واحدة، وهي الكآبة الروحية.
“نعتقد أن الأسلوب الشعري كان ممتعًا للكاتب، ولهذا كتب هذه الترنيمة التكميلية للترنيمة السابقة حسب نفس الأسلوب. ولأنها كانت مُلْحَقة، لم تكن تحتاج إلى عنوان.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
أولًا. صاحب المزمور يصلي إلى الله
أ ) الآية (١): يا الله، أين أنت بينما الأعداء يحاصرونني؟
١اِقْضِ لِي يَا ٱللهُ، وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي مَعَ أُمَّةٍ غَيْرِ رَاحِمَةٍ، وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي.
١. اِقْضِ لِي يَا ٱللهُ: يكرر صاحب المزمور فكرة تتردد في المزامير، وهي صرخة إلى الدفاع والتبرئة. فقد أحس بأنه اتُّهِم ظلمًا، فأخذه إحساسه بالظلم إلى المكان الملائم، إلى عرش الله تاركًا مسألة التبرئة لله.
٢. وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي: عرف صاحب المزمور صعوبة التعامل مع المخادعين والظالمين (إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ)، لأنهم لا يسيئون فحسب، لكنهم يعرفون كيف يغطّون فِعْلتهم بالخداع. وفي هذا الوضع الصعب، فعل صاحب المزمور الشيء الصحيح، ألا وهو أنه صرخ إلى الله.
· “غِشّ وَظُلْم: إنه شخص يغطي مكائده الشريرة بتظاهر جميل زائف. وأشخاص كهؤلاء يبغضهم الله وكل الناس.” بوله (Poole)
ب) الآية (٢): إلهي، لماذا تبدو بعيدًا جدًّا عني؟
٢لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ حِصْنِي. لِمَاذَا رَفَضْتَنِي؟ لِمَاذَا أَتَمَشَّى حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ ٱلْعَدُوِّ؟
١. أَنْتَ إِلَهُ حِصْنِي: لو لم يكن لصاحب المزمور علاقة بالله، لما عانى من هذه المشكلة. غير أنه أحب الرب، وقد وضع ثقته في قوة الرب (إِلَهُ حِصْنِي)، لا في قوته الخاصة. ولهذا تساءل في تلك اللحظة الحرجة أين هو الله.
٢. لِمَاذَا رَفَضْتَنِي؟ لِمَاذَا أَتَمَشَّى حَزِينًا؟ السؤال المتكرر عن السبب (لِمَاذَا) مألوف بالنسبة لرجال الله المختبرين… تساءل صاحب المزمور لماذا لا يفعل الله الأمور وفق تفكيره، وبشكل خاص عندما تبدو الإجابة واضحة له.
ج ) الآية (٣أ): أنا محتاج إلى أن أُقاد بنورك وحقك.
٣أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ، هُمَا يَهْدِيَانِنِي…
١. أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ: عرف صاحب المزمور أن نوره وحقّه غير كافيين، ولهذا احتاج إلى نور الله وحقّه. لم يكونا فيه، ولهذا إذا لم يرسلهما الله، فلن يعرفهما.
· “نُورَكَ وَحَقَّكَ، أي فضلك، أو نور وجهك وحقّ الوعود التي قطعتها لي.” بوله (Poole)
٢. هُمَا يَهْدِيَانِنِي: كانت هذه صلاة خضوع واستسلام. “يا رب، لا أريدك أن ترسل لي نورك وحقّك لكي أُبدي إعجابي بهما، بل أريد أن أخضع لنورك ولحقّك وأجعلهما يقودانني (يَهْدِيَانِنِي). أنا محتاج إلى من يقودني، فقُدْني أنت.”
· كانت هذه بداية لموكب تسبيح من صاحب المزمور. بدأ باكتئاب، لكنه سيُنهي بتسبيح لله. بدأ الأمر كله بقيادة نور الله وحقه طريق صاحب المزمور.
· “لا نطلب النور لكي نخطئ به، ولا الحق لكي نتمجد به، بل ليكونا مرشدين عمليين إلى أوثق تواصل مع الله.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. يصف صاحب المزمور استجابته لجواب الله القادم.
أ ) الآية (٣ب): عندما تستسجيب صلاتي، سآتي إلى بيتك.
٣… وَيَأْتِيَانِ بِي إِلَى جَبَلِ قُدْسِكَ وَإِلَى مَسَاكِنِكَ (خيمة الاجتماع).
١. وَيَأْتِيَانِ بِي: يشير الفاعل هنا (ألف المثنّى في الفعل) إلى نور الله وحقه المذكورين في نفس الآية. أراد صاحب المزمور أن يقود نور الله وحقه إلى مكان محدد، إِلَى جَبَلِ قُدْسِكَ وَإِلَى مَسَاكِنِكَ (خيمة الاجتماع).
· كانت هذه هي الخطوة الثانية في مسيرة التسبيح. بقيادة نور الله وحقه، جاء المرنم إلى خيمة الاجتماع ليتقابل مع الله. ويمكن أن يكون أي مكان يجتمع فيه الناس معًا ليقابلوا الله أن يصبح خيمة اجتماع.
٢. جَبَلِ قُدْسِكَ وَإِلَى مَسَاكِنِكَ: أراد صاحب المزمور الذهاب إلى خيمة الاجتماع لعدة أسباب:
· عرف أن الرب هناك بطريقة خاصة.
· عرف أن شعب الرب سيكون هناك.
· عرف أنه مكان يمكن أن يستطيع فيه أن يركز على الله.
ب) الآية (٤): سأسبّحك عندما تستجيب صلاتي.
٤فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ ٱللهِ، إِلَى ٱللهِ بَهْجَةِ فَرَحِي، وَأَحْمَدُكَ بِٱلْعُودِ يَا ٱللهُ إِلَهِي.
١. فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ ٱللهِ: توقع صاحب المزمور وهو ممتلئ بالإيمان جواب الله على صلاته، وأعلن أنه سيقدم ذبيحة هناك (فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ ٱللهِ) عندما يأتي الجواب. ولن تكون هذه ذبيحة كفارية عن الخطية، بل ذبيحة امتنان واحتفال بشركة الله.
· كان مَذْبَحِ ٱللهِ هو المحطة الثالثة في موكب التسبيح. “الطريق إلى الله هو دائمًا الطريق إلى المذبح. وتُفتح الطريق إلى المذهب بإرسال نور الله وحقّه.” مورجان (Morgan). عندما نتبع نور الله وحقه، فسيقودنا هذا إلى مذبحه – إلى الصليب حيث قُدِّم يسوع كذبيحة على خطايانا.
· عندما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين، “لَنَا «مَذْبَحٌ» لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ” (رسالة العبرانيين ١٠:١٣)، يرجح أنه أشار إلى تدبير الله على الصليب، الذبيحة الأسمى على مَذْبَحِ ٱللهِ الأسمى. إذ يمكننا أن نذهب إلى مَذْبَحِ ٱللهِ بالذهاب بإيمان إلى صليب يسوع والتفكير بعمق في عمله وانتصاره هناك.
· بموجب نظام العهد الجديد، لم نعد نقدم ذبائح حيوانية، بل نقدم ذبائح تسبيح. تخبرنا رسالة العبرانيين ١٥:١٣ كيفية ذلك: “فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ للهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ.” تصبح ترانيمنا وتسابيحنا لله ذبيحة زكية لله.
٢. وَأَحْمَدُكَ بِٱلْعُودِ يَا ٱللهُ إِلَهِي: لن يسبّح صاحب المزمور الله بذبائح حيوانية فحسب، بل بالموسيقى والترنيم أيضًا. وصل إلى وُجهته في موكب التسبيح بقيادة نور الله وحقه، وجاء إلى بيت الله، إلى مَذْبَحِ ٱللهِ، وبعد ذلك يتوّج هذا كله بالتسبيح.
ج) الآية (٥): عندما تستجيب صلاتي، سأتحدى مشاعري.
٥لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ ٱللهَ، لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلَاصَ وَجْهِي وَإِلَهِي.
١. لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي: سبق أن أَمِل صاحب المزمور في فداء الله، لكنه لم يأتِ بعد. وفي هذه الأثناء، لن يستسلم لمشاعر الكآبة والإحباط، بل سيتحدى تلك المشاعر ويُحضرها إلى الله. ووجّه كلامه إلى مشاعره المنحنية القلقة: تَرَجَّيِ ٱللهَ. سيستجيب مرة أخرى في أمانته، لأنه فعل ذلك من قبل.
· نرى في هذا المزمور أن شيئًا من ظروف صاحب المزمور لم يتغير – باستثناء نظرته إلى الأمور، وقد أَحدث هذا فرقًا كبيرًا. “لم يأتِ الجواب بعد. فما زالت الظلمة والتعاسة موجودتين حوله، لكنه رأى الطريق المنير. ومرة أخرى، فإن النفس ممنوعة من اليأس، بينما تُشَجَّع على وضع الرجاء في الله.” مورجان (Morgan)
· لِأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ: تعود لازمة الترنيمة إلى موضوع الصراع بين الإيمان والشك، إلى المقابلة بين الحاضر والمستقبل، وإلى الرجاء في ’بَعْدُ أَحْمَدُهُ.‘” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. خَلَاصَ (عون) وَجْهِي: عرف صاحب المزمور أن وجهه محتاج إلى عون (خلاص)، وأن الله هو ذاك الملائم لإحضار هذا العون. ويقدِّم السلام والفرح النابعان من الثقة بالله وتسبيحه عونًا (خلاصًا) لوجهه.
· تدل الكلمة العبرية على الخلاص (كما في الترجمة العربية) أكثر منها على العون. ويمكن أن يقول المرء إن الله يخلّص وجه شعبه. “يستطيع الشاعر أن يسبّح الله بصفته ’فرحه البالغ‘ و’خلاصه‘ لا مجرد عون له، وهي كلمة ضعيفة في التعبير عن الخلاص. لم يتغير شيء من الخارج، لكنه فاز في نهاية الأمر.” كيدنر (Kidner)
· “هل يوجد علاج للكآبة؟ نعم، لكنه ليس موجودًا فينا، بل في الله. ويتمثل هذا العلاج في أن نطلب وجهه، لئلا تكون وجوهنا منحنية. وهذا هو ما فعله صاحب المزمور.” بويس (Boice)
· “ربما يوجه الإيمان صراعًا طويلًا مع الخوف، لكن ستكون له الكلمة الأخيرة، وستكون هذه الكلمة هي: ’خَلَاصَ وَجْهِي وَإِلَهِي.‘” ماكلارين (Maclaren)