تفسير سفر المزامير – مزمور ٥١
استرداد ملك مكسور ومسحوق
المزمور معنون: إِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ إِلَيْهِ نَاثَانُ ٱلنَّبِيُّ بَعْدَ مَا دَخَلَ إِلَى بَثْشَبَعَ. والأحداث مذكورة بشكل بسيط ومؤلم في سفر صموئيل الثاني الإصحاحات ١١-١٢.
لاحظ جيمس مونتجمري بويس (James Montgomery Boice) أن هذا المزمور كان موضوع تعلُّق شديد من المؤمنين منذ وقت طويل. “تلا هذا المزمور كله السير توماس مور والليدي جري عندما كانا على المقصلة في أيام الملك هنري الثامن والملكة ماري الدموية. وطلب ويليام كاري، المرسل الرائد إلى الهند أن يُقرأ هذا المزمور كنصٍّ لعظة في جنازته.”
“تساعدنا هذه الترنيمة النابضة بعذاب نفسٍ منكوبة بالخطية في فهْمِ الأعجوبة المذهلة لرحمة إلهنا الأبدية.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan)
أولًا. اعتراف بالخطية وطلب الغفران
أ ) الآيات (١-٢): تضرُّع مباشر من أجل الرحمة.
١اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. ٢اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي.
١. اِرْحَمْنِي يَا ٱللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ: يقدم عنوان هذا المزمور السياق المأساوي لتضرُّع داود. إذ أخطأ بارتكابه القتل، والزنا، وتغطية خطيته، وتقسّيه ضد التوبة. فقد احتاج الأمر إلى مواجهة من النبي ناثان لكي يهزّه ويوقظه من سُباته (سفر صموئيل الثاني ١٢). غير أنه بعد أن تمّ هزّه، لجأ إلى الله بصدق وانكسار عظيمين.
· اِرْحَمْنِي يَا ٱللهُ: هذه صلاة رجل عرف أنه أخطأ وتوقّف عن كل تبرير للذات. قال داود لناثان: ’قد أخطأتُ إلى الرب‘ (سفر صموئيل الثاني ١٣:١٢) فكان هذا اعترافًا جيدًا وواضحًا ومباشرًا من دون تقديم أعذار.
· التمس داود الرحمة حسب قياس محبة الله الكريمة الثابتة، وهي بالعبرية ’حِسِدْ.‘ وهي تدل على محبته الوفية ورحمة عهده. كانت طِلْبة صيغت جيدًا ببلاغة الانكسار الحقيقي.
٢. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ: هذه كلمات مختلفة قليلًا. يكرر داود هنا طلبته السابقة. سبق أن اختبر مراحم الله الكثيرة ورأفته الرقيقة. وهو يطلب سَكْبًا جديدًا منها.
· كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ: “يشعر البشر برعب بسبب كثرة خطاياهم. لكن توجد تعزية في أن لدى الله كثرة رحمة. إن كانت الخطايا تُعَد بالأرقام، فهي بعدد شعور رؤوسنا. لكن مراحم الله هي بعدد نجوم السماء.” سبيرجن (Spurgeon) نقلاً عن سيمسون (Symson)
· استخدم داود عدة كلمات للإشارات إلى الكرم واللطف الذي أراده من الله. “تدل الرحمة على مساعدة الله المتسمة بالمحبة لأولئك المحتاجين إلى الشفقة. وتشير محبة الله الثابتة إلى عملية مستمرة من الرحمة. وتعلّمنا الرأفة (مراحم الله الحنون) أن الله يشعر معنا في ضعفاتنا.” بويس (Boice)
٣. ٱمْحُ مَعَاصِيَّ: أحس داود بأن هنالك سجلًّا دوِّنت فيه خطايا كثيرة تدينه. فأراد من الله أن يلغي أو يمحو هذا الحساب. ربما يشير هذا المحو إلى ضمير داود، أو إلى حساب الله للخطية، أو ربما إلى كليهما.
· ٱمْحُ مَعَاصِيَّ: “يعني التوسل هنا ’امحُ‘ أن يمسح مثل أن يمسح المرء كتابة في دفتر أو سجل (انظر سفر الخروج ٣٢:٣٢؛ سفر العدد ٢٣:٥).” كيدنر (Kidner)
· ٱمْحُ مَعَاصِيَّ: “من دفتر الديون، اشطب السطور السُّود لخطاياي بالسطور الحُمر من دم المسيح. الغِ الصك رغم أنه ربما بحروف كبيرة سُوْدٍ غامقة.” تراب (Trapp)
٤. ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي: كانت كلمة الله على لسان النبي ناثان بمنزلة مرآة كشفت لداود مدى قذارته وتلطُّخه. وقد عاش في تلك الحالة فترة طويلة (ربما سنة) من دون معرفة ثاقبة بحقيقة إثمه وخطيته. والآن، يدفعه الشعور بالوصمة والتلوّث إلى أن يلتمس التطهير.
· “ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا. يقول النص العبري ’اغسلني مرّات مضاعفة،‘ ما يدلّ على عِظَم ذنبه وعدم كفاية غسلاته الشرعية، ويؤكد الضرورة المطلقة لوجود أشياء أخرى تغسله على نحو أفضل.” بوله (Poole)
· ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا: “الكلمة المستخدمة ذات دلالة، حيث إنها تعني على الأرجح الغسل عن طريق العجن أو الضرب، وليس بعملية نقع بسيطة.” ماكلارين (Maclaren)
· ٱغْسِلْنِي كَثِيرًا: “طلب أن يُغسَل لا من التلوّثات الخارجية فقط، لكن من طبيعته الخنزيرية في المقام الأول. لأنه رغم أن الخنزير يُغسل إلا أنه لا يصبح نظيفًا أبدًا. فإذا احتفظ بطبيعته، فسيظل مستعدًا في التمرغ في أول وحل يجده.” تراب (Trapp)
· استخدم داود عدة كلمات للإشارة إلى إساءته إلى الله:
ü تحمل كلمة المعصية (مَعَاصِيَّ) فكرة تجاوز الحدود (التعدّي).
ü تحمل كلمة الإثم (إِثْمِي) فكرة الالتواء أو الانحراف.
ü تحمل كلمة الخطية (خَطِيَّتِي) فكرة التقصير أو إخطاء الهدف.
ب) الآيات (٣-٤): اعتراف مفتوح بالخطية.
٣لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. ٤إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ.
١. لِأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ: أدرك داود أنه لم يكن هنالك تَعَدٍّ واحد فقط، بل تعديات كثيرة. وقد قام بها بلا مبرر، ومن دون اللجوء إلى إلقاء اللوم على آخرين، أو إلى العقلانية.
· “الكاتب واعٍ تمامًا بحالته أمام الله. وهو يعترف قائلًا: ’إنّي عارف‘ مؤكدًا الضمير المتصل في ’إنّي.‘ فهو يعرف نفسه على نحو وثيق، وهو يرى المدى الذي وصل إليه في تمرده.” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا: في الشهور الطويلة بين ارتكابه لتلك الخطايا واعترافه بها، لم يفلت من الإحساس بخطيته – إذ كانت ماثلة أمام عينيه دائمًا (وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا). فعل ما بوسعه ليتجاهلها ولينكرها، لكن بصفته ابنًا حقيقيًّا لله، لم يستطع أن يتهرب منها. كان في حالة خطية لم يتم الاعتراف بها، لكنه كان تعيسًا فيها، كما ينبغي أن يكون أي ابن لله.
· لم يقل داود: ’عقابي أَمَامِي دَائِمًا‘ أو ’عواقب أَمَامِي دَائِمًا.‘ إذ كانت خطيته هي التي أزعجته. يحزن كثيرون على عواقب خطاياهم، لا على الخطية نفسها.
· أَمَامِي دَائِمًا: “إن ما يؤلمني كثيرًا ويجعلني أندم هو أن ضميري يضربني بها (خطيتي)، ويضعها إبليس في صحني.” تراب (Trapp)
· لنتذكر أن داود عاش هذا العذاب وهو ملك. “لا تستطيع ثروات أية مملكة وقوّتها ومجدها أن تمنع عذاب الخطية أو أن تزيله. بل تجعل الملك والمتسول على نفس المستوى.” هورن (Horne)
· خَطِيَّتِي: “نلاحظ هنا أيضًا كيف أن صاحب المزمور يدرك مسؤوليته الشخصية. وهو يؤكدها بالاستخدام المتكرر للضمير المتصل، الياء، في ’معاصيّ، إثمي، خطيّتي.‘ ولا يلقي اللوم على الظروف، أو يتحدث عن مزاجه النفسي، أو أقاويل المجتمع، أو تركيبه الجسمي. ربما شاركت هذه كلها في إجباره على الخطية. لكن رغم هذا، وفي نهاية المطاف، كان هو فاعل الفعل، ويتوجب عليه أن يحمل عبئه.” ماكلارين (Maclaren)
٣. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ: لم يكن هذا بمعنى موضوعي صحيحًا. فقد أخطأ داود إلى بثشبع، وأوريا، وعائلتيهما، وعائلته، ومملكته أيضًا. وبمعنى ما، أخطأ إلى جسده (رسالة كورنثوس الأولى ١٨:٦). لكن هذه الحقائق كلها تَبْهَت في الخلفية وهو يتأمل عِظَمَ خطيته ضد الله. فأحس بحق كما لو أنه “إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ.”
٤. وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ: أدرك داود أن الله كان موجودًا، فرأى الشر الذي صنعه. لم يكن بعيدًا عن فراش الزنا أو عن المكان الذي أمرَ فيه بقتل أوريا.
· “أحس داود أن خطيته ارتُكبت بكل قذارتها بينما كان الله يراقب. ولا يهتم بعين الله المراقِبة إلا ابنٌ لله.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ: لم يهدف اعتراف داود إلى أن يريحه من عبء خطيته وذنبه فحسب، بل إلى تمجيد الله أيضًا. ففي اعترافه بخطيته، أَمِلَ في أن يثبِّت عدالة الله وطبيعته المقدسة، مبرهنًا بذلك أن وصاياه كلها صالحة حتى لو كسرها داود.
ج) الآيات (٥-٦): أعماق احتياج داود.
٥هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. ٦هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ، فَفِي السَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً.
١. هَأَنَذَا بِٱلْإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي: لم يولد داود من علاقة آثمة. فليس هذا هو المقصود هنا. وليس المقصود أيضًا أن يبرر خطيته بالقول: “انظروا كم كنت سيئًا في بدايتي. فأي شيء آخر يمكن أن تتوقعوا مني؟” كان الهدف أن يبيّن مدى خطيته وكيف أن تصرفاته الآثمة تعود في أصلها إلى طبيعته الآثمة العنيدة منذ ولادته.
· “يرجع فعل الخطية إلى تلوّث طبيعة المرء.” مورجان (Morgan)
· من هذا المقطع ومقاطع مماثلة أخرى في الكتاب المقدس، نستمد فكرة الخطية الأصلية – أي أن البشر يولدون خطاة لأنهم ورثوا طبيعة آثمة كأبناء وبنات لآدم وحواء. “تُفهم هذه الآية من مفسرين يهود ومسيحيين قدماء ومتأخرين بشكل عام على أنها تدل على الخطية الأصلية.” بوله (Poole)
· “إنها مصارعة شريرة ضد كلمة الله أن ننكر الخطية الأصلية والفساد الطبيعي الذي يعلَّم هنا. ومن المؤكد أن الذين يستهجنون هذه العقيدة محتاجون إلى أن يتعلموا من الروح القدس أولى أركان الإيمان.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ: رغم أن طبيعة الخطية كانت عميقة داخل داود، إلا أن الله أراد أن يعمل في داخله بعمق. أراد الله أن يُحْدث تحوّلًا جذريًّا في داود يصل إلى أجزائه الداخلية، إلى الجزء الخفي (السَّرِيْرَة) الذي يمكن أن يعرف الحكمة. لم يطلب داود إصلاحًا سطحيًّا، لكن شيئًا أعمق.
· “لا تخدع نفسك بفكرة أنك لا تملك إلا رغبات مقدسة، ما لم تملكها فعلًا. لا تعتقد أن رغباتك سليمة تجاه الله، ما لم تكن كذلك. فهو يريد الحقيقة حول رغباتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. صلوات للاسترداد
أ ) الآيات (٧-٩): استرداد من ذبيحة دموية.
٧طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ. ٨أَسْمِعْنِي سُرُورًا وَفَرَحًا، فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا. ٩اسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ، وَامْحُ كُلَّ آثامِي.
١. طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ: طلب داود من الله أن يعمل عملًا تطهيريًّا روحيًّا وأخلاقيًّا، وأن يفعل ذلك من خلال ذبيحة كفارية بديلية. وكان يُستخدم الزُّوفَا في وضع دم الحمَل على الأشياء المراد تقديسها (سفر الخروج ٢٢:١٢). وكان الزُّوفَا يستخدم أيضًا في رش الماء التطهيري من قبل الكاهن (سفر العدد ١٨:١٩).
· حسب الشريعة اللاوية، كان الكاهن هو الذي يستخدم الزُّوفَا في رش الماء التطهيري. “يلتمس صاحب المزمور من الله أن يكون كاهنه بأن يأخذ الزوفا ويعلنه مطهَّرًا من كل خطية.” فانجيميرين (VanGemeren)
· لم يعتقد داود للحظة أنه كان يستطيع أن يطهر نفسه. لكنه احتاج إلى الله لكي يطهره، وأن يفعل هذا من خلال ذبيحة كاملة تتنبّأ بها الذبائح الحيوانية.
· طهِّر: “تستند هذه الكلمة إلى الكلمة العبرية (chattath) وهي تعني حرفيًّا ’ألْغِ خطيتي.‘ أراد داود أن تطهَّر خطيته بشكل كامل.” بويس (Boice)
٢. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ: عرف داود أن تطهير الله له فعّال. كانت خطيته لطخة عميقة، لكن يمكن استراداد النقاوة. نحس هنا بأن داود كان يتكلم بصوت الإيمان. إذ يمكن أن يكون صعبًا للخاطئ المدان أن يؤمن بمثل هذا التطهير الكامل. ويحتاج الأمر إلى إيمان رغم الشك والصعوبة.
· “كان بمقدور الله أن يجعله كما لو أنه لم يخطئ قط. فهذه هي قوة عمل الله التطهيري في القلب، حيث يرد لنا براءتنا ويجعلنا كما لو أننا لم نتلطخ بالتعديات.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. أَسْمِعْنِي سُرُورًا وَفَرَحًا، فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا: أحس داود بالانكسار الملائم لخاطئ تحت تبكيت الروح القدس. كان قاسيًا جدًّا حتى إن عظامه كُسِرت. ولأنه كان واثقًا بعمل الروح القدس، استطاع أن يصلي أن يقوده إلى الفرح والسرور، فيبتهج من منطلق انكساره.
· إنه لأمر فظيع أن نواجه وجهًا لوجه سواد خطيتنا. لكن الله يريد أن يكون هذا مقدمة للفرح والسرور. فهدفه هو استرداد الفرح.
· “إنه يطلب شيئًا عظيمًا. إنه يسعى إلى فرح لقلب آثم، موسيقى لعظام منسحقة. هذه صلاة غير معقولة في أي مكان، لكنها تُرفع الآن عند عرش الله.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. ٱسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ، وَٱمْحُ كُلَّ آثَامِي: يكرر داود طلبته للغفران والاسترداد. ونحن نرى في هذا التكرار أنه لم يكن أمرًا هيّنًا بالنسبة لداود. فهو لا يعبَّر عنه بسهولة ولا يُحصَل عليه بالإيمان بسهولة أيضًا. إذ كان عليه، بمعنى ما، أن يناضل مع كل من الله ونفسه لكي يوصل نفسه إلى المكان الذي ينبغي أن يكون فيه.
ب) الآيات (١٠-١١): استرداد القلب.
١٠قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. ١١لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي.
١. قَلْبًا نَقِيًّا ٱخْلُقْ فِيَّ يَا ٱللهُ: أحس داود أنه ليس كافيًا أن يطهر قلبه الحالي. ولهذا عبّر عن احتياجه إلى قلب جديد من الله. وفي هذا توقَّع داود واحدًا من أعظم الوعود للذين يؤمنون حسب نظام العهد الجديد. “وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ ٱلْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ.” (سفر حزقيال ٢٦:٣٦)
· “الكلمة العبرية المستخدمة هنا في بداية الآية هي بارا (بَرَأَ بالعربية)، وهي تشير إلى خلق شيء من العدم.” بويس (Boice)
· “باستخدام كلمة ’خلق،‘ فإن داود لا يطلب شيئًا أقل من معجزة. إنه أمر لا يستطيع أن يفعله إلا الله وحده.” كيدنر (Kidner)
٢. وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي: إلى جانب قلب جديد طاهر، احتاج داود إلى روح مستقيمة (ثابتة) لكي يبقى في طريق القداسة. ويعبّر هذا عن اعتماد متواضع على الرب.
· “وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ، أو روحًا ثابتة أو راسخة لله تكون قادرة على مقاومة إبليس، ثابتة في الإيمان، والثبات في طريق القداسة.” تراب (Trapp)
· “الروح الثابتة لازمة للحفاظ على قلب طاهر. وإضافة إلى ذلك، فإنه بوجود قلب طاهر، يتحرر المرء من اضطرابات الرغبات المتمردة وتأثيرات الخطية المُوْهِنة، وتصبح روحه ثابتة.” ماكلارين (Maclaren)
٣. لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي: هذه طريقة أخرى عبّر بها داود عن اعتماده على الله. فبالنسبة له، فإن الفكرة وراء التطهير والاسترداد هي تجديد علاقته بالله. فلم يُرِد من الله أن يطهره ويبقى بعيدًا عنه بعد ذلك.
· لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ: “كان هذا عقاب قايين، وربما كان هذا ما خطر ببال داود، حيث ارتكب هو أيضًا عملية اغتيال.” تراب (Trapp)
· وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي: “كانت الخلفية المحتملة لهذا الخوف من النبذ ما حدث مع شاول الذي فارقه روح الرب (رسالة صموئيل الأول ١٤:١٦).” كيدنر (Kidner)
· “لا تخشى الروح الثابتة حقًّا شيئًا مثل أن تُنبَذ من حضور الرب (لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ)، وأن يفارقها روح الله (وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي). هذا هو أكثر تأثيرات الخطية بؤسًا، وهو غير قابل للإصلاح. لكن ربما كان أقل تأثير يوضع في الاعتبار.” هورن (Horne)
· لاحظ بعضهم أن عدة طِلبات من هذه لا تنطبق على المؤمن تحت نظام العهد الجديد (سفر إرميا ٣١:٣١-٣٤؛ سفر حزقيال ٢٥:٣٦-٢٧). ففي العهد الجديد، يمتلك المؤمن قلبًا جديدًا بالفعل، ولديه وعد بحضور دائم من الروح القدس. هذه نقطة صحيحة من ناحية واقعية، لكنها لا تنزع الإحساس العميق بالحاجة إلى الاسترداد والعودة إلى المحبة الأولى، وهو أمر يَسَم مؤمنًا خاطئًا تحت نظام العهد الجديد.
ج ) الآيات (١٢-١٣): استرداد فرح الخلاص.
١٢رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي. ١٣فَأُعَلِّمَ الأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَالْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ.
١. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ: في الشهور الكثيرة التي عاشها من دون اعتراف بالخطية، أحس داود بتعاسة الهزيمة الروحية. وأراد أن يختبر مرة أخرى الفرح المرافق لخلاص (بَهْجَةَ خَلَاصِكَ) الذين ينقذهم الرب.
٢. وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ ٱعْضُدْنِي: يعبّر داود مرة أخرى عن ثقته بالله تجاه مستقبله. فلم يكن يتوهم أنه قادر على أن يعضد نفسه. وعادة ما يؤدي مثل هذا الإحساس بالثقة بالنفس، حتى بالرجال الصالحين، إلى الخطية.
٣. فَأُعَلِّمَ ٱلْأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَٱلْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ: في الأيام السابق لاعتراف داود بالخطية، لم يكن قادرًا على تعليم البعيدين عن الله، ولم يرجع أحدهم إلى الرب. ولا نعرف إن كان داود قد قام بمحاولات كهذه بسبب شعوره بالذنب ولم يرَ أية بركة في عمله هذا. فبطريقة أو بأخرى، فإن تصويب العلاقة بالرب كان سرّ فاعلية عمله الروحي.
· وَٱلْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ: لاحظ فانجيميرين (VanGemeren) أن داود استخدم نفس الكلمة المترجمة إلى ’يَرْجِعُونَ‘ (يهتدي) التي دلت في السابق على معنى الاسترداد (مزمور ١٢:٥١). “نجد هنا أن صاحب المزمور الذي صلى من أجل الاسترداد يصلي أيضًا من أجل أن يكون له دور فعّال في استرداد الخطاة إلى طرق الرب.” فانجيميرين (VanGemeren)
د ) الآيات (١٤-١٧): استرداد التسبيح.
١٤نَجِّنِي مِنَ الدِّمَاءِ يَا اَللهُ، إِلهَ خَلاَصِي، فَيُسَبِّحَ لِسَانِي بِرَّكَ. ١٥يَا رَبُّ افْتَحْ شَفَتَيَّ، فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ. ١٦لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ١٧ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ.
١. نَجِّنِي مِنَ ٱلدِّمَاءِ يَا ٱللهُ، إِلَهَ خَلَاصِي: وعى داود عمق خطيته المتمثلة في قتل أوريا (سفر صموئيل الثاني ١١). ورغم أنه لا يشير على الإطلاق بشكل محدد إلى خطية الزنا في هذا المزمور، إلا أنه أحس بأنه يتوجب عليه أن يذكر هذه الخطية العظيمة. ومن المؤكد أن طِلبة كهذه مقدمة إلى الله المخلِّص (إِلَهَ خَلَاصِي) ستستجاب.
· “في هذه الآية، يتضرع المجرم التعيس من أجل العون والاسترداد الإلهيين، وكأنه لم يسمع شيئًا غير دم أوريا البريء وهو يصرخ من قبره، لكن كما لو أنه رأى أوريا المغدور مُقْبِلًا عليه كرجل مسلح من أجل الانتقام.” هورن (Horne)
٢. فَيُسَبِّحَ لِسَانِي بِرَّكَ: عرف داود أنه، بعد معالجة ذنبه أمام الله، سيكون قادرًا على تسبيح الرب بصوت عالٍ (فَيُسَبِّحَ لِسَانِي بِرَّكَ). ونحن نعتقد أن الشهور الطويلة التي لم يعترف بها بخطيته كانت خالية من روح التسبيح الحقيقي.
٣. لِأَنَّكَ لَا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا: يعبّر داود هنا عن المبدأ المقدم في المزمور السابق (المزمور ٥٠). لقد فهِم أن للذبائح مكانها، إلا أن الله كان يريد قلب الإنسان، لا ذبائحه.
· وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا: “كان يسعده أن يقدم عشرة آلاف ذبيحة حيوانية لو أنها تلبي الحاجة في حالته. وبالفعل، كان مستعدًّا لأن يقدم بسرور أي شيء يطلبه الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. ذَبَائِحُ ٱللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ: كانت لدى داود محبة لبيت الرب. وقد رعى عملية تقديم ذبائح كثيرة لله (سفر صموئيل الثاني ١٣:٦؛ ١٧:٦-١٨). غير أنه أدرك أن المرء قد يقدم ذبائح لله من دون انكسار قلبي. وربما قدّم ذبائح على مذبح الله في الشهور التي لم يعترف بخطيته فيها، وأدرك خُواء تلك الذبائح وقيمة روحه المنكسرة وقلبه المنسحق.
· رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ: “إذا كان لدينا روح منكسرة، فإن هذا يعني أن كل فكرتنا عن أهميتنا قد ولّت. فما هي فائدة الروح المنكسرة؟ إنها إلى حد بعيد نفس فائدة وعاء مكسور أو إبريق مكسور أو زجاجة مكسورة!” سبيرجن (Spurgeon)
· قَلْبٌ مَنْكَسِر: “هذا نقيض لقلبنا القاسي أو المتحجر الذي نقرأ عنه كثيرًا، وهو يدل على قلب لا يشعر بعبء الخطية، قلب عنيد ومتمرد على الله، قلب غير قابل للإصلاح.” بوله (Poole)
· “يتوجب أن يستمر القلب في انسحاقه إذا كان له أن يبقى طاهرًا.” ماكلارين (Maclaren)
٥. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا ٱللهُ لَا تَحْتَقِرُهُ: يَسْهل أن نتخيل أن كثيرين في زمن داود احتقروا قلبه المنكسر. فما فعله – أن يأخذ أية امرأة أرادها وأن يقتل كل رجل يقف في طريقه – كان سلوكًا متوقعًا من ملوك العالم. وربما تحيَّر الملوك المجاورون كيف أن هذه الممارسة أزعجت داود. لكن داود لم يَعْبأ بما يعتقده الآخرون. لم يحتقر الله قلبه المكسور المنسحق، فكان ذلك كافيًا بالنسبة لداود.
· لَا تَحْتَقِرُهُ: “هذه تعزية عظيمة للذين يرزحون تحت شعور بالخطية ويخافون من الغضب، وهم قريبون من اليأس.” تراب (Trapp)
هـ) الآيات (١٨-١٩): استرداد الخير للمملكة.
١٨أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ابْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ. ١٩حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ الْبِرِّ، مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولاً.
١. أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ: أدرك داود أنه لم يسقط كرجل وكزوج وكأب فحسب، بل فشل أيضًا كملك على شعب الله. ولهذا طلب من الله أن يسترد رضاه على المملكة.
· لا ندري إن كانت هنالك علامات واضحة على استياء الله من المملكة في فترة الخطية غير المعترف بها. وسواء أكان هنالك شيء من هذا أم لم يكن، فإن داود فهِم أن هنالك جانبًا خاصًّا بالمملكة ينبغي معالجته.
٢. حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ ٱلْبِرِّ: عرف داود أن الله، تحت نظام العهد القديم، لم ينتهِ من الذبائح الحيوانية. إذ ستكون هنالك ذبائح ثيران على مذبحه (حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولًا). ومع معالجة الأمور القلبية، ستكون تلك الذبائح هادفة ومفيدة.
· ربما خطر ببال داود أيضًا تلك الذبائح التي كانت تقدم بشكل منتظم من أجل إسرائيل، وأنه يمكن استرداد معناها وفائدتها للأمّة.