تفسير سفر المزامير – مزمور ٥٥
الثقة بالله في مواجهة عدو غادر
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ذَوَاتِ ٱلْأَوْتَارِ». قَصِيدَةٌ (تأمُّل) لِدَاوُدَ. يصف المزمور وقتًا يتسم بنوع من التمرد أو صراع على السلطة ضد داود. وكان أحد القياديين المتآمرين عليه في ذلك الصراع شريكه المؤتمن أخيتوفل الذي خانه. كانت المدينة خطِرة بسبب التمرد، فصرخ داود إلى الله. ويربط معظم المفسرين هذا المزمور بتمرد أبشالوم (سفر صموئيل الثاني ١٥-١٨) وشريكه المؤتمن السابق أخيتوفل. ويبدو أن أجزاء من هذا المزمور تناسب تمرد أبشالوم، بينما لا تناسبه أجزاء أخرى. إذ يصْعُب أن نتخيل أن داود يتمنى هلاك أبشالوم في الجحيم (مزمور ١٥:٥٥) بينما لم يُرِد له أن يموت. وربما تكون الأحداث المتصلة بهذا المزمور غير مدوّنة في تاريخ حياة داود في الكتاب المقدس.
أولًا. الخوف: يصف داود ضيقته
أ ) الآيات (١-٣): التعاسة في الظلم والقمع.
١اِصْغَ يَا اَللهُ إِلَى صَلاَتِي، وَلاَ تَتَغَاضَ عَنْ تَضَرُّعِي. ٢اسْتَمِعْ لِي وَاسْتَجِبْ لِي. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ ٣مِنْ صَوْتِ الْعَدُوِّ، مِنْ قِبَلِ ظُلْمِ الشِّرِّيرِ. لأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْمًا، وَبِغَضَبٍ يَضْطَهِدُونَنِي.
١. اِصْغَ يَا ٱللهُ إِلَى صَلَاتِي (تضرُّعي): نُحِس في صلاة داود هذه بأنه شعر بأن الله كان بعيدًا عنه، كما لو أنه ستر وجهه عنه. فطلب من الله أن يسمعه ويصغي إليه (اِصْغَ يَا ٱللهُ إِلَى صَلَاتِي). واعتقد داود أنه قادر على مواجهة أي شيء بإحساس قوي بحضور الله ورضاه عليه.
· “في تلك الساعة الرهيبة التي حمل فيها يسوع خطايانا على الشجرة، أشاح الله بوجهه عنه. فكان ذلك أكثر جزء فظاعة من عذاب ابن داود.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَتَحَيَّرُ فِي كُرْبَتِي وَأَضْطَرِبُ (أنا مضطرب في شكواي وأئنُّ بضجيج): كان مضطربًا وشاكيًا وآنًّا. وكان أنينه عالي الضجيج. فاحتاج إلى عون من الله.
· “يا لها من تعزية عندما نكون على أُلفة هكذا مع إلهنا! ربما لا نشكو منه، بل نشكو إليه.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْمًا: انزعج داود مِنْ صَوْتِ ٱلْعَدُوِّ (يبدو أن المزمور يؤكد العدو بصيغة المفرد لا الجمع) واضطهاد الأشرار. فقد أبغضوه وتسبّبوا له في ضيق عظيم.
· لِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ عَلَيَّ إِثْمًا: “يُسقِطون عليّ إثمًا كما يُسقِط الرجال حجارة أو أي شيء على محاصريهم لكي يؤذيهم. يُسقط هؤلاء على داود البريء إثمًا فوق إثم لكي يصوِّروه بغيضًا.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٤-٨): محاربة الخوف.
٤يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ الْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ. ٥خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ. ٦فَقُلْتُ: «لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! ٧هأَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِبًا، وَأَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ. سِلاَهْ. ٨كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَمِنَ النَّوْءِ».
١. يَمْخَضُ قَلْبِي فِي دَاخِلِي، وَأَهْوَالُ ٱلْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ: تَسَبَّب الإجهاد النفسي المرافق لهذه الأزمة في عذاب داود. وقد ساهم في زيادته خطر الموت. فجعل هذا داود يرتعب خوفًا، وشعر بأن أهوالًا غمرته (وَأَهْوَالُ ٱلْمَوْتِ سَقَطَتْ عَلَيَّ).
- يَمْخَضُ: “ينبض قلبي كامرأة في مخاض.” فانجيميرين (VanGemeren)
· أهْوَالُ ٱلْمَوْتِ: “أنا أتوقع كل ساعة أن أتعرض لمجزرة.” كلارك (Clarke)
· “لا يستطيع شيئًا غير التأوه والأنين. وقلبه يذوب فيه، وقد سقطت عليه أهوال مميتة كانهيار جليدي متتابع فسحقته. واخترق الخوف والرعدة كيانه الداخلي. والأهوال (وهي كلمة نادرة في الترجمة السبعينية، وقد ترجمتها بعض الترجمات إلى ’ظلمة‘) غمرته أو أحاطت به، كما يغمر الثوب المرء.” ماكلارين (Maclaren)
· لاحظ كلارك كيف أن هذا وصف طبيعي وصحيح في ما يتعلق بالخطوات المؤدية إلى الأهوال الغامرة. “كم هو طبيعي هذا الوصف! إنه في محنة – وهو يئنّ ويضجّ – وينشج ويتنهد – قلبه مجروح – ولا يتوقع إلا الموت – وهذا ينتج خوفًا – وينتج هذا هزّة توصله إلى تخوُّف عميق من الدمار المحتوم المقترب الذي يغمره بشكل مرعب. لم يصف أي إنسان قط قلبًا مجروحًا مثل داود.” كلارك (Clarke)
٢. لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَٱلْحَمَامَة: تمنّى داود لو كان بمقدوره أن يهرب من هذا الوضع الممتلئ بالرعب ويبقى فِي الْبَرِّيَّةِ. ومن المحتمل أن داود كتب هذا تحت ضغط نفسي والمؤامرات على السلطة حالما يصل إلى العرش، وحنَّ إلى أيام أكثر بساطة عندما لمس أمانة الله كثيرًا فِي الْبَرِّيَّةِ.
· “يخبرنا كاتب قديم أنه أَكْرم له أن يطلب قوة ثور لاحتمال تجاربه من أن يطلب جناحي حمامة للهروب منها.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جاي (Jay)
٣. كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ ٱلرِّيحِ ٱلْعَاصِفَةِ، وَمِنَ ٱلنَّوْءِ: لو كان لدى داود جناحا طير، لهرب من مشكلاته الحالية. ويستطيع معظم الناس أن يتعاطفوا مع تَوْقِه.
· “كان مثل حمامة خائفة تطاردها الطيور الجارحة، فتطير بعيدًا برشاقة وسرعة إلى أماكن بعيدة منعزلة، حيث تختبئ وتؤَمِّن نفسها في ثقوب الصخور، أو في مكان آمِنٍ سري آخر. يمثّل كل هذا بشكل ملائم ميل داود ورغبته.” بوله (Poole)
· “نحن نتعزى بمعرفة أن هنالك عمالقة روحيين كان لديهم هذه الرغبة المُلِحّة، سواء أتعثّروا بها، مثل إيليا (سفر ملوك الأول ٣:١٩ فصاعدًا)، أم صمدوا أمامها مثل إرميا (سفر إرميا ٢:٩؛ ١٩:١٠).” كيدنر (Kidner)
· أراد داود ببساطة أن يهرب – لكنه لم يفعل. “كانت أمنية داود مجرد أمنية. وكان عليه، شأنه شأن بقيّتنا، أن يقف صامدًا متأهبًا، وإلاّ فَسَيُربَط إلى عمود، أو أن يدع الأعداء والعواصف تفعل به أسوأ ما بوسعها.” ماكلارين (Maclaren)
ثانيًا. الغضب الشديد: داود يطلب من الله أن يتعامل مع أعدائه
أ ) الآيات (٩-١١): اقضِ عليهم، يا رب!
٩أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْمًا وَخِصَامًا فِي الْمَدِينَةِ. ١٠نَهَارًا وَلَيْلاً يُحِيطُونَ بِهَا عَلَى أَسْوَارِهَا، وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا. ١١مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ.
١. أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ: نحس من التكرار إلى الإشارات إلى كلام أعداء داود (الآيات ٣، ٩، ١١، ١٢) بأنه كان هنالك نوع من الهجوم الهامس شكّلَ خطرًا على حياته. ولهذا يصلي هنا أن يفرّق الرب الذين يتكلمون بالشر عليه.
· يرى كثيرون في هذا تلميحًا إلى بلبلة الألسنة في بابل (سفر التكوين ١:١١-٩). “صلاته متسمة بالتبصُّر، وهي درس لنا. فهو يتذكر كيف تعامل الله مع بابل (٩:٥٥ب)، وهي مدينة متعجرفة أخرى، من خلال استخدام الميل المتأصل إلى الانقسام في الشر.” كيدنر (Kidner)
· إذا ربطنا هذا المزمور بتمرد أبشالوم وخيانة أخيتوفل، فإن استجابة الصلاة مدونة في سفر صموئيل الثاني ١:١٧-٢٣ عندما حدث انقسام بين مستشاري أبشالوم أخيتوفل وحوشاي.
٢. لِأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْمًا وَخِصَامًا فِي ٱلْمَدِينَةِ: ربما بدأت الهجمات على داود بالكلام، لكنها لم تتوقف عند ذلك. إذ كان هنالك أشخاص يتجولون في المدينة وهم يثيرون المتاعب لداود. فلم تكن هذه الأزمة التي نحن بصددها مجرد مشكلة لداود، بل لكل شعب الله بشكل عام.
· “صارت المدينة، المدينة المقدسة، وكرًا للشر. إذ اجتمع المتآمرون في الظلام وتحدثوا في شلل صغيرة في الشوارع حتى في وضح النهار.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلَا يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشّ: جعلت حالة عدم الاستقرار والمكائد المدينة كلها غير آمنة.
ب) الآيات (١٢-١٤): تأمُّل في مرارة خيانة صديق.
١٢لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. ١٣بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، ١٤الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ.
١. لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ: يشير داود إلى شخص معين يتكلم ضده (يُعَيِّرُنِي). كان هذا شخصًا تحالَفَ مع داود ورفع نفسه فوقه (تَعَظَّمَ عَلَيَّ).
· “لا يوجد أعداء حقيقيون مثل الأصدقاء الزائفين.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي: كان الشخص غير المسمّى شريكًا وصديقًا لداود، وكانا يتناصحان فيما بينهما – كَانَتْ تَحْلُو لَنَا ٱلْعِشْرَةُ (المشورة) – ويذهبان معًا إِلَى بَيْتِ ٱللهِ.
· “يحس صاحب المزمور بأن انشقاق هذا الصديق غير المسمّى كان أقسى ضربة له. كان بمقدوره أن يتحمل إهانات عدو. إذ ستكون لديه أسلحة للرد عليه، أو ملجأ يهرب إليه من عدو صريح. لكن الانحطاط الذي ينسى كل عشرة في السر، وكل ارتباط علني، وفي العبادة كان أكثر مما يستطيع أن يتحمله.” ماكلارين (Maclaren)
· لا نعرف على وجه التحديد متى حدث هذا في حياة داود – إن كان قبل خطيته مع بثشبع وتستّره على اغتيال أوريا أم بعد ذلك. غير أن كلمات داود في هذا النص المؤثر هو جوهر خيانته لأوريا الذي كان من أصدقائه المخْلِصين (سفر صموئيل الثاني ٣٩:٢٣).” كيدنر (Kidner)
ج ) الآية (١٥): طلبٌ إلى الله أن ينتقم.
١٥لِيَبْغَتْهُمُ الْمَوْتُ. لِيَنْحَدِرُوا إِلَى الْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً، لأَنَّ فِي مَسَاكِنِهِمْ، فِي وَسْطِهِمْ شُرُورًا.
١. لِيَبْغَتْهُمُ ٱلْمَوْتُ. لِيَنْحَدِرُوا إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً: يبيّن تصريح داود القوي هذا مدى خطورة هذا الإنسان على سلامة شعب الله، ومدى الألم الذي تَسَبَّب فيه لداود. كانت صلاة قوية، لكنها تركت الانتقام لله. فقد رفض داود أن ينتقم لنفسه.
· “تمثّل عبارة ’لِيَنْحَدِرُوا إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ أَحْيَاءً‘ صدى واضحًا لسفر العدد ٣٠:١٦، حيث طلب موسى برهانًا على أن الذين كانوا يقاومونه، المتمردين في زمنه، كانوا يقاومون الله.” كيدنر (Kidner)
٢. لِأَنَّ فِي مَسَاكِنِهِمْ، فِي وَسْطِهِمْ شُرُورًا: دعا داود الله إلى أن يجلب عليهم دينونة قاسية لأن الإثم كان متأصلًا فيهم بعمق.
· “يبدو أن من المهم ألاّ يُذكر اسم صديقه السابق في استنزال اللعن هنا. وفي واقع الأمر، يبدو أنه ميّز أعداءه الملعونين هنا من صديقه السابق في القسم السابق الذي لم يُلعن.” بويس (Boice)
ثالثًا. الإيمان: إيجاد الراحة في الله
أ ) الآيات (١٦-١٩): الثقة بالله رغم هجمات العدو.
١٦أَمَّا أَنَا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. ١٧مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي. ١٨فَدَى بِسَلاَمٍ نَفْسِي مِنْ قِتَال عَلَيَّ، لأَنَّهُمْ بِكَثْرَةٍ كَانُوا حَوْلِي. ١٩يَسْمَعُ اللهُ فَيُذِلُّهُمْ، وَالْجَالِسُ مُنْذُ الْقِدَمِ. سِلاَهْ. الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ، وَلاَ يَخَافُونَ اللهَ.
١. أَمَّا أَنَا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي: هنا يتحول داود فجأة من الصلاة من أجل إهلاك الأعداء إلى إعلان واثق هادئ بالله. فكانت هذه إشارة أخرى إلى أنه كان قادرًا على أن يترك أزمته وأعداءه في يدي الرب الذي سينقذه (وَٱلرَّبُّ يُخَلِّصُنِي).
· “سيحاول صاحب المزمور ألّا يواجه مؤامرات خصومه بمؤامرات مضادة، فلا يقلّدهم في عنفهم المتواصل. لكنه في مقاومة مباشرة لسلوكهم الآثم، سيلجأ إلى الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إن كنت أقرأ هذا النص على نحو سليم، فإن داود يتحدث إلى نفسه هنا. وهذا ما ينبغي لنا أن نفعله – أن نتحدث إلى أنفسنا كما تحدَّث داود إلى نفسه.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي: تجذرت ثقة داود بالله في اعتماده العملي الصادق عليه. وقد تجلت هذه في صلواته المستمرة. فأعطى هذان العنصران الثقة ليقول إن الله يستجيب لصلواته (فَيَسْمَعُ صَوْتِي).
· “بدأ العبرانيون يومهم بالمساء، ولهذا يذكر داود المساء أولًا.” كلارك (Clarke)
٣. فَدَى بِسَلَامٍ نَفْسِي مِنْ قِتَالٍ عَلَيَّ: أحس داود بأن نفسه قد أُنقِذتْ (اشتُريتْ، افتُدِيتْ) من الاضطرابات والأزمات ودخلت في سلام. استمرت المعركة (لِأَنَّهُمْ بِكَثْرَةٍ كَانُوا حَوْلِي) لكن نفسه كانت في سلام.
٤. يَسْمَعُ ٱللهُ فَيُذِلُّهُمْ، وَٱلْجَالِسُ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ: كان داود واثقًا بأن الإله الأزلي سيستجيب صلواته.
٥. ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ، وَلَا يَخَافُونَ ٱللهَ: الإشارة إلى عدم تغيُّرهم (لَيْسَ لَهُمْ تَغَيُّرٌ) غامضة نوعًا ما. من المحتمل أن الفكرة هي أنهم لا يتغيرون إلى ما هو أفضل، أو أن العداوة لم تضطرهم إلى التغيير.
· “يرتبط عدم تغيُّرهم بشكل وثيق بعدم خوفهم من الله. وتدل هذه الكلمة في مواضع أخرى إلى تغيير الملابس أو تغيير الحراس الجنود. ويرى كالفن وغيره أن التغييرات المقصودة هي تقلّبات الثروة، ومن هنا يستنتجون أن الفكرة الحقيقية هنا أن ازدهارهم غير المنقطع يجعلهم ينسون الله.” ماكلارين (Maclaren)
· “معظم الذين لا يعانون إلا محنًا وتجارب قليلة جدًّا أشخاص لا يتمسكون بالدين كثيرًا. فهم يصبحون كفاة في أنفسهم، ولهاذا لا يدعون الله (في الصلاة).” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (٢٠-٢١): خيانة عدو داود له.
٢٠أَلْقَى يَدَيْهِ عَلَى مُسَالِمِيهِ. نَقَضَ عَهْدَهُ. ٢١أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ، وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ.
١. أَلْقَى يَدَيْهِ عَلَى مُسَالِمِيهِ. نَقَضَ عَهْدَهُ: كان عدو داود غدّارًا، حيث قطع علاقاته المسالمة وكسر معاهدات مع آخرين.
٢. أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ: استخدم داود التكرار وصورًا حية ليبيّن مدى نذالة عدوه. وعلى نقيض ذلك، نرى كيف أن داود نبيل الأخلاق ومستحق للاحترام بعدم تسمية عدوه.
ج) الآيات (٢٢-٢٣): يترك داود المسألة بثقة لله.
٢٢أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ الصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الأَبَدِ. ٢٣وَأَنْتَ يَا اَللهُ تُحَدِّرُهُمْ إِلَى جُبِّ الْهَلاَكِ. رِجَالُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ لاَ يَنْصُفُونَ أَيَّامَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْكَ.
١. أَلْقِ عَلَى ٱلرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ: بالكاد توجد أعباء أو هموم أعظم يمكن أن يستطيع أن يحمله المرء من صديق سابق صار عدوًّا عدوًّا غدارًا خطرًا. عرف داود أن هذا همٌّ لا يستطيع أن يحمله إلا الله.
· “يفرض الله أعباء ليرى ما سنفعل بها. يمكننا أن نحملها بأنفسنا لخرابنا، أو يمكننا أن نطرحها عليه ليعيننا ويباركنا.” ميير (Meyer)
· “الكلمة المترجمة إلى ’همّ‘ (عبء) مقيِّدة جدًّا. وهي تعني أي شيء يعطى لك ليكون نصيبك المعيّن. ولهذا تترجمها بعض الترجمات إلى ’نصيبك‘ أو ’حظوظك.‘ وليس الوعد هنا هو أن يحمله الله عنك، بل أن يسندك.” كيدنر (Kidner)
· يَعُولُكَ (يسندك، يقوّيك): “لم تُؤخذ خبرة المعاناة من خادم الله، لكنه حصل على عون أمدّه بقوة كافية لمقاومة الضغط، ليجعل خدمته من خلال ذلك أكثر اكتمالًا. هكذا يسندنا الله في احتمال أعبائنا.” مورجان (Morgan)
· “إذا ألقيت همّي (عبئي) على الرب، فلماذا أزعج نفسي بحمله؟ وكيف يمكنني أن أقول بصدق إني ألقيت همي على الرب ما دمتُ مثقّلًا به؟” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لَا يَدَعُ ٱلصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلْأَبَدِ: كان لدى داود رجاء وثقة لأنه كان مقتنعًا بأن مصيره لم يكن مرهونًا في أيدي رجال خائنين. فما زال الله هو الرب المتسيد، وأن له الكلمة الأولى إن كان الأبرار سيتزعزعون أم لا.
· لاحظ مورجان أن هذا المزمور تحرَّك من الخوف إلى الغضب الشديد، وإلى الإيمان في نهاية المطاف. “يقود الخوف إلى الرغبة في الهروب. ولا يؤكد الغضب الشديد إلاّ الوعي بالخطأ. والإيمان وحده يخلق الشجاعة.” مورجان (Morgan)
٣. وَأَنْتَ يَا ٱللهُ تُحَدِّرُهُمْ إِلَى جُبِّ ٱلْهَلَاكِ: لن يساعد الإله الأمين أن يساعد الأبرار ويثبّتهم فحسب، بل إنه سيطرح أولئك المتعطشين للدماء والمخادعين (رِجَالُ ٱلدِّمَاءِ وَٱلْغِشِّ) الذين تسببوا في مثل هذا القدر من المتاعب بين شعب الله.
٤. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْكَ: ينتهي المزمور بشكل لائق بتركيز داود على الرب، لا على أعدائه. وسيتكل عليه، ولن يخيب أمله.
· “هذه صيغة توكيدية، حيث ينبذ داود انشغاله بالعدو. وفي الواقع، يوجد طرفان هنا لا ثلاثة. أَمَّا أَنَا فَأَتَّكِلُ عَلَيْكَ.” كيدنر (Kidner)