تفسير سفر المزامير – مزمور ٦١
رجاء وعون عندما يكون قلبي منسحقًا
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ذَوَاتِ ٱلْأَوْتَارِ». لِدَاوُدَ. غالبًا ما كان داود يواجه متاعب. ولا نعرف ظروف حياته التي دفعته إلى كتابة هذا المزمور. ويبدو أنه كتبه بعد وصوله إلى العرش. وبسبب إشارته إلى أَقْصَى ٱلْأَرْضِ، يعتقد بعضهم أنه كُتب أثناء تمرد ابنه شالوم، أو أثناء حملة عسكرية قرب نهر الفرات (سفر صموئيل الثاني ٣:٨-٤). هذان احتمالان، لكنهما غير مؤكدين كإطار لهذا المزمور.
ذَوَاتِ ٱلْأَوْتَارِ: “يمكن أن تُفهم الكلمة العبرية المستخدمة هنا (Naginah) وهي مفرد لكلمة (Neginoth) على أنها مرادفة لكلمة كِنُّور أو القيثار، أي أن لها ثمانية أوتار. ويرجّح أنها تُعزف بقوس أو ريشة.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جون جيب (John Jebb)
أولًا. الصلاة
أ ) الآيات (١-٢): صرخة من أجل الإنقاذ عند االانسحاق.
١اِسْمَعْ يَا اَللهُ صُرَاخِي، وَاصْغَ إِلَى صَلاَتِي. ٢مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ أَدْعُوكَ إِذَا غُشِيَ عَلَى قَلْبِي. إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي تَهْدِينِي.
١. اِسْمَعْ يَا ٱللهُ صُرَاخِي، وَٱصْغَ إِلَى صَلَاتِي: كانت هذه صلاة حكيمة من داود. فهِم داود أنه رغم أن الله يسمع كل صلاة بمعنى واحد، بمعنى أنه يستجيب بشكل مواتٍ لكل صلاة، إلا أنه، بمعنى آخر، لا يسمع كل صلاة أو يصغي إليها. وبهذه الافتتاحية في الصلاة، لم يُرد أن يتجاسر فيفترض أن هنالك استجابة مواتية لصلاته، لكنه طلب بشكل مُلِح تلك الاستجابة.
· “قد يستريح الفريسيون في صلواتهم. وأما المؤمنون الحقيقيون فتوّاقون إلى أن تُستجاب صلواتهم. قد يَقْنع الطقسيّون عندما يكونون قد ’قالوا ورنموا‘ مجموعة ابتهالاتهم حسب المطلوب، لكن أبناء الله الأحياء لن يستريحوا إلى أن تدخل تضرّعاتهم أذني الله، رب الجنود.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. مِنْ أَقْصَى ٱلْأَرْضِ أَدْعُوكَ: حسب عِلمنا، لم يرتحل داود بعيدًا جدًّا خارج الأرض الموعودة. لكن من ناحية مجازية، وصل إلى نهاية فَهمه وقوّته وموارده البشرية التي لم تسعفه. وهنالك معنى حقيقي وقوي بموجبه كان داود يقدم صلاته هذه مِنْ أَقْصَى ٱلْأَرْضِ.
· “رغم أن تعبير ’مِنْ أَقْصَى ٱلْأَرْضِ‘ قد يدل على مسافة جغرافية من الأرض (انظر مزمور ٩:٤٦؛ سفر التثنية ٤٩:٢٨)، إلا أن هذه استعارة تدل على اليأس والاغتراب والمسافة الروحية من الرب.” فانجيميرين (VanGemeren)
· لم يقل داود: مِنْ أَقْصَى ٱلْأَرْضِ سأتخلى عن الرجاء فيك، أو أني سأنكر أنك تحبني. ففي محدودية حكمته واحتماله وقدرته، قال: أَدْعُوكَ (إليك أصرخ).
· “لاحظْ داود أنه لم يحلم بأن يطلب إلهًا آخر. ولم يتخيل أن سيادة الله وهيمنته محلية. كان في أقصى الأرض الموعودة، لكنه عرف أنه ما زال ضمن حدود أرض الملك العظيم.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. إِذَا غُشِيَ عَلَى قَلْبِي. إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي تَهْدِينِي: علم داود أن هنالك أوقاتًا يكون فيها قلبه مسحوقًا (غُشِيَ عَلَى قَلْبِي). وفي لحظات كهذه احتاج إلى ثلاثة أمور:
· احتاج إلى الصخرة، إلى مكان الثبات والأمن، شيء قوي بما يكفي ليقف عليه ضد الأمواج التي تلطمه أو الأرض التي تتزلزل تحته.
· احتاج إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي (صخرة أعلى منه)، مكان فوق نفسه، وفوق حكمته، وفوق قدراته.
· احتاج إلى الله ليقوده (تَهْدِينِي) إلى تلك الصخرة، فلم يكن قادرًا على الوصول إلى المكان الراسخ فوق أزمته بمفرده.
ü غُشِيَ – هذه هي نفس الكلمة المستخدمة في سفر يونان ٧:٢ (أَعْيَتْ)، والمترجمة في بعض الترجمات إلى أغميَ عليه. “نجد هنا أن داود أضاف محنة أخرى إلى الاكتئاب أو الإنهاك (انظر نفس الكلمة في عنوان المزمور ١٠٢، حيث يصف حالته بشيء من التفصيل.” كيدنر (Kidner)
ü لا يخبرنا المزمور لماذا غُشِيَ على قلب داود. ولعله أفضل لنا ألّا نعرف. فلو عرفنا ظروفه المعينة، سنجرَّب بقوة بقَصْر إنقاذ الله على الذين هم في نفس وضعه فقط. وقد أراد الله لشعبه أن يصلّوا تلك الصلاة، بغضّ النظر عن سبب انسحاق قلوبهم.
ü إِلَى صَخْرَةٍ: “إن وصف داود لله كصخرة عنصر بارز في مزامير داود، لأنه استخدم صخور برية اليهودية كأماكن ملجأ وحماية له.” بويس (Boice)
ü “يرى خيالُه مرتفعًا صخريًا شاهق العلو فوقه. وإذا استطاع أن يثبّت قدميه هناك، سيكون قادرًا على أن يتحدى مطارديه ومهاجميه. إذ ستكون شقوقه أمانه لو تمكن من الوصول إلى هناك. لكنه بعيد عنه ويائس. ولهذا، فإنه يلتفت إلى الله ويطلب منه أن يرفعه ويضع قدميه على تلك الصخرة.” ماكلارين (Maclaren)
٤. إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ (أعلى) مِنِّي: على افتراض أن داود كتب هذا المزمور كملك، فإنه قد وصل من الناحية البشرية إلى أعلى السُّلَم. لكنه ما زال يدرك أن ذلك لم يكن كافيًا، واحتاج إلى شيء أعلى منه.
· أَرْفَعَ (أعلى) مِنِّي: “وهكذا، فإن صلاته كانت للارتفاع فوق الذات في الله.” مورجان (Morgan)
· وفي نهاية المطاف، فإن يسوع هو الصخرة التي هي أَرْفَعُ (أعلى) مِنِّي: “إنه أرفع مني بسبب أصله السماوي، وهو أرفع مني بسبب طاعته الكاملة. وهو أرفع مني بسبب صعوده إلى يمين الآب.” ميير (Meyer)
ب) الآيات (٣-٤): الثقة الحالية المبنية على أمانة الله في الماضي.
٣لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ الْعَدُوِّ. ٤لأَسْكُنَنَّ فِي مَسْكَنِكَ إِلَى الدُّهُورِ. أَحْتَمِي بِسِتْرِ جَنَاحَيْكَ. سِلاَهْ.
١. لِأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ ٱلْعَدُوِّ: تذكَّر داود أن الله سبق أن استجاب لمثل هذه الصلوات في الماضي. فكان الله نفسه ملجأ وبرجًا حصينًا (كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ) لداود.
٢. لَأَسْكُنَنَّ فِي مَسْكَنِكَ إِلَى ٱلدُّهُورِ: تشير كلمة ’مَسْكَنِكَ‘ إلى الكلمة العبرية ’خيمتك‘ وهي خيمة الاجتماع. وكان لدى داود إحدى فكرتين (أو كلتاهما) في احتياجه هنا:
· خيمة الله كملجأ للمسافر المرهق، مكانٍ حيث تقدَّم فيه الحماية والضيافة للضيف المكرَّم.
· خيمة الله بصفتها خيمة اجتماع، مركز ذبائح إسرائيل وعبادتها.
ü “تعود صورة السكن في الخيمة إلى خبرة الصحراء (انظر سفر الخروج ٧:٣٣-١١؛ سفر العدد ١٦:١١-١٧) عندما سكن الرب بين أسباط إسرائيل في خيمة.” فانجيميرين (VanGemeren)
ü “لا يقول، لَأَسْكُنَنَّ فِي قصري إِلَى ٱلدُّهُورِ، بل في مَسْكَنِكَ، وهو الذي يحظى بتقدير أكبر.” تراب (Trapp)
٣. أَحْتَمِي بِسِتْرِ جَنَاحَيْكَ: مرة أخرى، ربما تكون إحدى فكرتين (أو كلتاهما) موجودتين في وعي داود:
· الجناحان بصفتهما المكان القريب المحمي الذي تعطيه أنثى الطائر لفراخها، حامية صغارها بِسِتْرِ جَنَاحَيْها.
· الجناحان اللذان يميزان ويحيطان بداخل خيمة اجتماع الله وكرسي الرحمة في تابوت العهد، وهو يحمل تصاميم الكروبين وأجنحتهما.
٤. مَلْجَأ… بُرْجُ قُوَّة… مَسْكِنَك… سِتْرُ جَنَاحَيْكَ: مع الصور المتلاحقة، يبني داود فكرة الصخرة، صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي، والتي ذكرها أولًا في مزمور ٢:٦١. ولا يمكن لصورة واحدة وحدها أن تعبّر بشكل وافٍ عن عظمة عون الله لداود.
ثانيًا. استجابة الصلاة
أ ) الآيات (٥-٧): رعاية الله للملك داود.
٥لأَنَّكَ أَنْتَ يَا اَللهُ اسْتَمَعْتَ نُذُورِي. أَعْطَيْتَ مِيرَاثَ خَائِفِي اسْمِكَ. ٦إِلَى أَيَّامِ الْمَلِكِ تُضِيفُ أَيَّامًا. سِنِينُهُ كَدَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٧يَجْلِسُ قُدَّامَ اللهِ إِلَى الدَّهْرِ. اجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقًّا يَحْفَظَانِهِ.
١. لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا ٱللهُ ٱسْتَمَعْتَ نُذُورِي: يرجّح أن داود يشير هنا إلى تعهداته الماضية بالولاء لله، وهي تعهدات ظلّ يُكْرمها. وقد سمع الله هذه النذور وتجاوب معها، معطيًا إياه الحُكم على شعب الله (مِيرَاثَ خَائِفِي ٱسْمِكَ).
· لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا ٱللهُ ٱسْتَمَعْتَ نُذُورِي: “كثيرًا ما قصدتُ أن أكون لك بالكامل – أن أخدمك وحدك – أن أتخلى عن كل حياتي من أجل خدمتك. وأنت سمعتني وأخذت تعهُّدي على محمل الجِد، وأعطيتني هذا الميراث، ميراث التمتع بك في فرائضك. وهذا هو نصيب الذين يخافون اسمك.” كلارك (Clarke)
٢. إِلَى أَيَّامِ الْمَلِكِ تُضِيفُ أَيَّامًا: توقع داود بثقة بركة الله على مُلكه. لم يكن ذلك لأنه كان يعتز بنفسه كثيرًا؛ بل لأنه كان يؤمن بشدة بالله الذي يفي بوعوده.
· “أَيَّام ٱلْمَلِكِ، أي حياة الملك. وهذا تعبير يدل على ازدهار الملك الحاكم، إضافة إلى الحفاظ على سلالته، على غرار الشعار الإنجليزي، ’ليحفظ الله الملكة.‘” فانجيميرين (VanGemeren)
· سِنِينُهُ كَدَوْرٍ فَدَوْرٍ (سنواته كأجيال كثيرة): “يتكلم هكذا، جزئيًّا لأن مملكته ليست كمملكة شاول التي كانت مسألة عصر واحد انتهى بانتهاء حياته. بل ثبّته الله مع وارثيه إلى الأبد. ويتكلم هكذا، جزئيًّا لأن المسيح، وهو ابنه ووريثه، هو الذي سيمتلك في شخصه المملكة فعلًا إلى الأبد.” بوله (Poole)
٣. يَجْلِسُ قُدَّامَ ٱللهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ: لم يكن بمقدور داود أن يقول هذا بالإشارة إلى نفسه إلا بطريقة محدودة جدًّا. ويمكنه أن يقول هذا من دون حدود بالإشارة إلى المسيح الذي سيأتي من نسله (سفر صموئيل الثاني ١١:٧-١٩).
· يَجْلِسُ قُدَّامَ ٱللهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ: “حرفيًّا ’سيجلس قدام وجوه الله.‘ إذ سيظهر على الدوام في حضرة الله من أجلنا.” كلارك (Clarke)
· “هذا المزمور مسيّاني جدًّا حتى إن مملكة المسيح الخالدة هي وحدها التي تحقق هذه الصلاة.” ماكلارين (Maclaren)
· “وجدتْ وعود الرب تركيزها في مسيّانية يسوع المسيح الذي يتثبّت حُكمه بوعود الآب ومكافأته (رسالة أفسس ٧:٤-١٣).” فانجيميرين (VanGemeren)
٤. ٱجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقًّا يَحْفَظَانِهِ: احتاج داود نفسه إلى هذه الرحمة وهذا الحق. لكنه عرف أن ابنه الأعظم، المسيّا الموعود، سيعتمد على رحمة الله وحقّه.
· اجعل هذين (رحمتك وحقك) دعّامتين لعرشك. اجعلهما حارسين لحياته. اجعلهما استحقاقه ونصيبه المهيّأ له.” تراب (Trapp)
· “كما يهتف الناس ’عاش الملك،‘ كذلك نحن نحيي بهتافٍ عمانوئيل المتوّج ونصرخ: ’ٱجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقًّا يَحْفَظَانِهِ.‘ والمحبة الأبدية والأمانة غير المتغيرة هما حارستا عرش يسوع.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (٨): تسبيح الله إلى الأبد.
٨هَكَذَا أُرَنِّمُ لِٱسْمِكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ، لِوَفَاءِ نُذُورِي يَوْمًا فَيَوْمًا.
١. هَكَذَا أُرَنِّمُ لِٱسْمِكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ: بدأ داود المزمور وهو يصرخ باستماتة إلى الله بقلب منسحق مغشي عليه، وينتهي بالتسبيح مكرِّمًا معدن الله الأدبي المعبّر عنه في اسمه، وهو يفعل ذلك إِلَى ٱلْأَبَدِ.
٢. لِوَفَاءِ نُذُورِي يَوْمًا فَيَوْمًا: عرف داود أن لديه التزامًا لا نهاية له بشكر الله، وهو ينبغي أن يقوم به كل يوم (يَوْمًا فَيَوْمًا) إِلَى ٱلْأَبَدِ.
· “يفي الله وعوده، فدعونا نفِ بنذورنا. وهو يحفظ عهده، فلا ننسَ عهدنا.” سبيرجن (Spurgeon)
· إِلَى ٱلْأَبَدِ… يَوْمًا فَيَوْمًا: “يحمل تعبير ’إِلَى ٱلْأَبَدِ‘ الذهن إلى الأمام بلا حد، بينما يوجهنا تعبير يَوْمًا ’فَيَوْمًا‘ إلى ما ينتظرنا أمامنا فورًا.” كيدنر (Kidner)