تفسير سفر المزامير – مزمور ٧١
متقدم في السنين وقويّ في الإيمان
يعتقد كثيرون أن هذا المزمور لداود، وأنه يمثل صلاته وثقته بالله في آخر سنواته أثناء تمرد أبشالوم. وبما أنه لا يوجد عنوان للمزمور، ولأن النص لا يقول هذا، فإننا لن نلجأ إلى التكهن والقول إنه كُتِب تحت تلك الظروف. بل سنتعامل معه على أن كاتبه غير معروف الهوية.
“نجد هنا ’صلاة المؤمن المُسِنّ‘ الذي في إيمانه وثقته المقدسة تَقَوَّى بخبرة كبيرة. وهو يتوسل إلى الله ضد أعدائه، ويطلب مزيدًا من البركات لنفسه.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
ومن المثير للاهتمام أن هذا المزمور يتضمن إشارات وتلميحات كثيرة إلى مزامير أخرى:
- الآية
مزمور ١:٧١-٣ مقتبسة بدقة تقريبًا من مزمور ١:٣١-٣ - يبدو أن الأفكار الموجودة في مزمور ٥:٧١ موجودة أيضًا في مزمور ٩:٢٢-١١
- تردد الكلمات: ’يَا ٱللهُ، لَا تَبْعُدْ عَنِّي. يَا إِلَهِي‘ في مزمور ١٢:٧١أ صدى مزمور ١١:٢٢
- تستعير الكلمات: ’يَا إِلَهِي، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِع‘ في مزمور ١٢:٧١ب فكرة مزمور ١:٧٠
- مزمور ١٣:٧١ مشابهة لمزمور ٢٦:٣٥
- تحمل آية مزمور ١٨:٧١ أفكار مزمور ٢٢:٢٢ و مزمور ٣٠:٢٢-٣١
- مزمور ١٩:٧١يستخدم تعابير الآية في سفر الخروج ١١:١٥
إنه لأمر معقول أن نعتقد أن كاتب المزمور ٧١ جعل دراسة كلمة الله والتأمل فيها أولوية في حياته. فكانت نتيجة ذلك أنه استخدم بشكل طبيعي العبارات والمفردات الكتابية في الصلاة والتسبيح.
“لكنّ الكلمات المقلِّدة ليست أقل إخلاصًا، ويمكن أن تتدفق منها مشاعر جديدة من العرفان بالجميل في قوالب قديمة، من دون الضرر بمقبوليّتها لله وتثمين البشر لها.” ألكزاندر ماكلارين (Alexander Maclaren)
أولًا. الله ملجؤنا في سنواتنا المتقدمة
أ ) الآيات (١-٣): الثقة بالرب الذي يخلّص شعبه.
١بِكَ يَا رَبُّ ٱحْتَمَيْتُ، فَلَا أَخْزَى إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢بِعَدْلِكَ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ وَخَلِّصْنِي. ٣كُنْ لِي صَخْرَةَ مَلْجَإٍ أَدْخُلُهُ دَائِمًا. أَمَرْتَ بِخَلَاصِي لِأَنَّكَ صَخْرَتِي وَحِصْنِي.
١. بِكَ يَا رَبُّ ٱحْتَمَيْتُ (وضعتُ ثقتي فيك): تبدأ مزامير كثيرة بوصف احتياج الشاعر. لكن هذا المزمور يتطلع إلى الله معلنًا ثقة المرنم بالرب (يهوه)، إله عهد إسرائيل. كان صاحب المزمور واثقًا بأن مثل هذ الثقة بالرب ستؤدي إلى التبرئة، وبأنه لن يُخزى أبدًا (فَلَا أَخْزَى إِلَى ٱلدَّهْرِ).
· “غالبًا ما يبدأ صاحب المزمور بإعلان إيمانه الذي يمثّل للنفس المبتلاة نفس ما تمثله المرساة لسفينة في محنة.” هورن (Horne)
٢. بِعَدْلِكَ (ببرّك) نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي: لأن صاحب المزمور وثق بالله، فقد طلب منه بجسارة أن يتصرف ببر من أجله، وأن ينقذه. ويعني هذا أن يعمل بر الله من أجله.
٣. أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ وَخَلِّصْنِي. كُنْ لِي صَخْرَةَ مَلْجَإٍ أَدْخُلُهُ دَائِمًا: حدّد صاحب المزمور في السطر السابق أساس إنقاذ الله له، وهو أن ينقذه حسب بره (بِعَدْلِكَ ’ببرّك‘ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي)، ثم ناشده أن يتصرف ببر من أجل خادمه المحتاج، فينقذه ويحميه.
- كُنْ لِي صَخْرَةَ مَلْجَإٍ: “نرى هنا رجلًا ضعيفًا لكن في مأوى قوي، حيث يرتكز أمانه على البرج الذي يختبئ فيه، وهو ليس في خطر بسبب ضعفه الشخصي.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. أَمَرْتَ بِخَلَاصِي: كان واثقًا بإرادة الله، حتى بأمره. صلى كاتب المزمور بثقة كاملة أن يكون الله صخرته وحصنه.
ب) الآيات (٤-٦): الثقة برعاية الله الدائمة.
٤يَا إِلَهِي، نَجِّنِي مِنْ يَدِ ٱلشِّرِّيرِ، مِنْ كَفِّ فَاعِلِ ٱلشَّرِّ وَٱلظَّالِمِ. ٥لِأَنَّكَ أَنْتَ رَجَائِي يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ، مُتَّكَلِي مُنْذُ صِبَايَ. ٦عَلَيْكَ ٱسْتَنَدْتُ مِنَ ٱلْبَطْنِ، وَأَنْتَ مُخْرِجِي مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي. بِكَ تَسْبِيحِي دَائِمًا.
١. نَجِّنِي مِنْ يَدِ ٱلشِّرِّيرِ: يكشف هنا مصدر تعاسة صاحب المزمور. إذ كان هنالك رجل شرير آثم قاسٍ بدا أنه وقع في قبضته، فاحتاج إلى أن يخلّصه الله منه.
· مِنْ يَدِ ٱلشِّرِّيرِ: نتذكر دائمًا أن الشر خطر على الأقل عندما يغوي (يجرِّب) كما يضطهِد، ويستطيع أن يبتسم كما يستطيع أن يعبس إلى أن يوصل ضحيته إلى الموت.” هورن (Horne)
٢. أَنْتَ رَجَائِي يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ: أعلن صاحب المزمور رجاءه وثقته بالسيد الرب (أدوناي يهوه)، إله عهد إسرائيل. لم يكن رجاؤه في يهوه فحسب، بل كان يهوه نفسه رجاءه.
٣. عَلَيْكَ ٱسْتَنَدْتُ مِنَ ٱلْبَطْنِ: لاحظ صاحب المزمور أن الله رعاه وأعانه منذ خروجه إلى الحياة، فناشده أن يواصل اهتمامه به ورعايته له. وفي مقابل ذلك، وعد بأن يسبّح الله باستمرار.
· “كما استندتُ عليك وأنا في البطن (الرحم)، كذلك أستند عليك وأنا خارج البطن.” تراب (Trapp)
· بِكَ تَسْبِيحِي دَائِمًا: “حيثما يتم تلَقِّي صلاح (خير) الله من دون توقُّف، ينبغي تقديم التسبيح من دون توقُّف.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات(٧-١١): ملجأ حصين عبر حياة طويلة.
٧صِرْتُ كَآيَةٍ لِكَثِيرِينَ. أَمَّا أَنْتَ فَمَلْجَإِي ٱلْقَوِيُّ. ٨يَمْتَلِئُ فَمِي مِنْ تَسْبِيحِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ مِنْ مَجْدِكَ. ٩لَا تَرْفُضْنِي فِي زَمَنِ ٱلشَّيْخُوخَةِ. لَا تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي. ١٠لِأَنَّ أَعْدَائِي تَقَاوَلُوا عَلَيَّ، وَٱلَّذِينَ يَرْصُدُونَ نَفْسِي تَآمَرُوا مَعًا. ١١قَائِلِينَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ تَرَكَهُ. الْحَقُوهُ وَأَمْسِكُوهُ لأَنَّهُ لاَ مُنْقِذَ لَهُ».
١. صِرْتُ كَآيَةٍ لِكَثِيرِينَ. أَمَّا أَنْتَ فَمَلْجَإِي ٱلْقَوِيُّ: بسبب كثرة الأعداء وهجماتهم، دُهش كثيرون من صاحب المزمور. وفي تعجُّبهم تساءلوا كيف يمكن لإنسان – وبشكل خاص إنسان مكرس لله – أن يُبتلى هكذا. ورغم ذلك كله، فقد وجد ملجأ قويًّا في الله نفسه.
· “المؤمن لغز. إنه أحجية تعصى على فهم غير الروحيين. فهو يحارب وحوشًا، رغبات الجسد، وهي التي تمثل كل شيء بالنسبة للآخرين. إنه أعجوبة، وهو غير عُرضة للمساءلة أمام أحكام الأشرار. إنه آية يحدقون فيها ويخشونها، وفي نهاية الأمر، يتهكمون عليها بازدراء.” سبيرجن (Spurgeon)
· “كان المسيح في حالة إذلاله على الأرض ’علامة‘ (آية) تُنتقد في كل مكان، كما تنبّأ سمعان أن يكون – لوقا ٣٤:٢.” هورن (Horne)
· أَمَّا أَنْتَ فَمَلْجَإِي ٱلْقَوِيُّ: “لاحظ أيضًا التأثير المحوري باستخدامه ’أَمَّا أَنْتَ‘ (٧:٧١ب) حيث يعيد توجيه انتباههم من نفسه والعدو المحاصر إلى الله. إنه مهرب إلى الواقع، لا منه.” كيدنر (Kidner)
٢. يَمْتَلِئُ فَمِي مِنْ تَسْبِيحِكَ: لأن الله كان ملجأ أمينًا جدًّا كملجأ قوي، صمّم صاحب المزمور أن يتحدث عن تسبيح الله ومجده.
- “طعام الله في أفواهنا دائمًا، وكذلك ينبغي أن يكون تسبيحنا. هو يملؤنا بالطعام، فلنمتلئ بالشكر والعرفان بالجميل. فمن شأن ذلك أن لا يترك مجالًا للتذمر والاغتياب.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لَا تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي: عرف صاحب المزمور أمانة الله له في شبابه، وهو الآن يطلب منه أن يواصل هذه الأمانة في شيخوخته وعند تلاشي قوته. عرف أن قوة المرء تتلاشى مع تقدم العمر، لكن قوة الله لا تضعف أبدًا.
· ليس أمرًا غير طبيعي أو غير ملائم لرجل يرى الشيخوخة مقبلة عليه أن يصلي من أجل نعمة خاصة وقوة خاصة تمكّنه من التصدي لِما يستطيع أن يصدّه ولِما لا يملك إلّا أن يرهبه. فمن هو ذاك الذي ينظر إلى آفات الشيخوخة مقبلة عليه من دون أن يفعل ذلك لحزن ورثاء؟ فمن الذي يمكن أن يتمنى أن يكون مُسِنًّا؟” سبيرجن ( Spurgeon) نقلًا عن بارنز (Barnes)
· لم يتحدث صاحب المزمور عن فقدان القدرة البدنية والذهنية فحسب، بل القوة الروحية المحتملة أيضًا. فلا يصبح كل مؤمن أقوى في الرب مع تقدُّمه في العمر. إذ يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة لأشخاص أخطأوا وسقطوا في آخر سنواتهم.
ü أخطأ داود إلى بثشبع وأوريا في سنوات نضجه (سفر صموئيل الثاني ١١).
ü انجذب سليمان إلى عبادة الأوثان في آخر سنواته (سفر ملوك الأول ١١).
ü انحدرت ثقة الملك آسا بالله كثيرًا في آخر سنواته (سفر
أخبار الأيام الثاني ٧:١٦-١٢)
٤. لِأَنَّ أَعْدَائِي تَقَاوَلُوا عَلَيَّ: عرف صاحب المزمور ما كان يقوله أعداؤه عنه. إذ عرف أنهم ادعوا أن إلههه تركه وأنه لا منقذ له. إذ جعلتهم محنة داود يعتقدون أن الله لم يعد معه، ولهذا كان ذلك وقتًا ملائمًا لهم أن يهجموا عليه (ٱلْحَقُوهُ وَأَمْسِكُوهُ لِأَنَّهُ لَا مُنْقِذَ لَهُ).
· عرف يسوع قسوة أن يقول أشخاص عنه إن الله تركه (
لوقا ٣٥:٢٣-٣٧). “أحس الرب يهذا الاتهام الشائك، فلا عجب أن تلاميذه قد شعروا بنفس هذا الإحساس. ولو كان هذا القول هو الحقيقة، لكان يومُنا جميعًا سيئًا جدًّا. لكن مجدًا لله! إنها كذبة مكشوفة.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١٢-١٣): أعِنّي بضرب أعدائي.
١٢يَا ٱللهُ، لَا تَبْعُدْ عَنِّي. يَا إِلَهِي، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ. ١٣لِيَخْزَ وَيَفْنَ مُخَاصِمُو نَفْسِي. لِيَلْبَسِ ٱلْعَارَ وَٱلْخَجَلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا.
١. يَا إِلَهِي، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ: مع وجود أعداء عازمين على الضرر بصاحب المزمور، حسب الآيات السابقة، احتاج إلى عون سريع من إلهه. أحس بأن العون المتأخر لن يفيده في شيء.
· كان على صاحب المزمور أن يتعامل مع حقيقة أنه مع تقدُّمه في العمر، لم تختفِ مشكلاته، بل بقيت. وهذا امتحان كبير لبعض المؤمنين. لكن صاحب المزمور فهِم أن هذا الوضع يدفعه إلى مزيد من الثقة الدائمة بالله.
· “لاحظْ قبضة الإيمان الأقوى في الجزء الثاني من الآية. إذ قال في الجزء الأول ’يَا ٱللهُ‘ وفي الجزء الثاني ’يَا إِلَهِي.‘ إنه توسُّل أعظم عندما نمسك بالله بقبضة إيمان تعبر عن علاقتنا الشخصية به عندما نصرخ: يَا إِلَهِي، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِيَخْزَ وَيَفْنَ مُخَاصِمُو نَفْسِي. لِيَلْبَسِ ٱلْعَارَ وَٱلْخَجَلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا: هذا هو العون الذي طلبه صاحب المزمور. أراد أن يضرب الله أعداءه بالارتباك والتشويش وٱلْعَار وَٱلْخَجَلِ. فلم يُرد لهم الهزيمة فحسب، بل إلصاق كل صيت سلبي بهم أيضًا.
· نظر آدم كلارك إلى هذه العبارات على أنها نبوات )أمور ستتحقق في حياة أعداء هؤلاء الأشرار) أكثر منها صلوات يقدمها صاحب المزمور. “سيُربكون ويذوقون العار. هذا شجبٌ نبوي.” كلارك(Clarke)
ثانيًا. ارتفاع منسوب الرجاء، وإطلاق تسبيح
أ ) الآيات (١٤-١٦): رجاء دائم، قوة دائمة.
١٤أَمَّا أَنَا فَأَرْجُو دَائِمًا، وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ. ١٥فَمِي يُحَدِّثُ بِعَدْلِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ بِخَلَاصِكَ، لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لَهَا أَعْدَادًا. ١٦آتِي بِجَبَرُوتِ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ. أَذْكُرُ بِرَّكَ وَحْدَكَ.
١. أَمَّا أَنَا فَأَرْجُو دَائِمًا، وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ: كان صاحب المزمور في أزمة شديدة، فاعتمد على عون الله. غير أنه لا ينزلق إلى اليأس. ولا يبدو أنه فقد الإحساس برضا الله ونعمته. والمزمور ٧١ تركيبة رائعة من كل المشكلات والتسبيح.
· أَمَّا أَنَا فَأَرْجُو دَائِمًا: “سأتوقع خلاصًا بعد خلاص، وبركة بعد بركة، وبالتالي سأسبّح أكثر فأكثر. فمع كثرة بركاتك تكثر تسابيحي أيضًا.” كلارك(Clarke)
· “عندما لا أستطيع أن أبتهج بما أملك، سأتطلع إلى ما سيكون لي، وسأبتهج بهذا.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ: “ينتج الرجاء المحتضِر ترانيم متضعضعة. فمع ازدياد التوقعات قتامةً، تصبح موسيقانا (ترانيمنا) أكثر وهْنًا وخُفوتًا. لكن الرجاء الخالد الأبدي يشتعل كل يوم بسطوع أكثر كثافة، ويقدّم ترانيم تسبيح. وسيظل الرجاء يرتفع، وسيكتسب قوة جديدة بشكل دائم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. فَمِي يُحَدِّثُ بِعَدْلِكَ (ببرك)، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ بِخَلَاصِكَ: كان صاحب المزمور سعيدًا بأن يشهد عن برّ الله وخلاصه وأن يفعل هذا طوال اليوم. أحسّ بأنه يحتاج إلى فعل ذلك بشكل مستمر لأنه لم يعرف حدودًا لبر الله وخلاصه. فلا حدود لهما.
· لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لَهَا أَعْدَادًا: “يا رب، حيث لا أستطيع أن أعُد، فإني أؤمن. وعندما تتجاوز حقيقة ما أرقامي (أَعْدَادًا)، سأُبدي إعجابي بها.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. آتِي بِجَبَرُوتِ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ: كان صاحب المزمور يتطلع إلى الأمام، واثقًا بقوة الله رغم إحساسه بتناقض قوّته الشخصية مع تقدُّم السنوات (
مزمور ٩:٧١)
· “على من يذهب إلى معركة مع أعدائه الروحيين أن لا يثق بقوته الخاصة، بل بقوة الرب الإله؛ ولا ببره الشخصي، بل ببر الفادي. فمن يحارب وإلى جانبه القدرة الكلية لا يمكن إلا أن ينتصر.” هورن (Horne)
٤. أَذْكُرُ بِرَّكَ وَحْدَكَ: كان صاحب المزمور مهتمًّا بالحديث عن بر الله وحده، لا عن برّه الشخصي، أو عن برّ الآلهة الوثنية المزعومة.
· بِرَّكَ وَحْدَكَ: “ليس لائقًا الحديث عن بر الإنسان. فالأسمال القذرة مخبأة على نحو جيد. وليس هنالك برّ تحت السماء، أو في السماء، يضاهي برك الإلهي.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٧-١٨): قوة الله من الشباب إلى الشيخوخة.
١٧اَللَّهُمَّ، قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ، وَإِلَى ٱلْآنَ أُخْبِرُ بِعَجَائِبِكَ. ١٨وَأَيْضًا إِلَى ٱلشَّيْخُوخَةِ وَٱلشَّيْبِ يَا ٱللهُ لَا تَتْرُكْنِي، حَتَّى أُخْبِرَ بِذِرَاعِكَ ٱلْجِيلَ ٱلْمُقْبِلَ، وَبِقُوَّتِكَ كُلَّ آتٍ.
١. قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ: “كان لدى صاحب المزمور حظ مبارك في أن يتبع الله ويتعلم منه منذ حداثته. وقد أفاده هذا في آخر سنواته، حيث ما زال يعلن عجائب الله.
· يُظهر التعلم منذ الصبا الثبات والاستمرار. فليس هنالك تذبذب بين اتجاه وآخر مضاد، أو من بدعة إلى أخرى.
- “يقول: ’قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ،‘ ما يوحي بأن الله استمر يعلّمه، وأنه تعلّم بالفعل. لم يسعَ هذا التلميذ إلى مدرسة أخرى، ولم يصدّ السيد المعلّم تلاميذه.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَأَيْضًا إِلَى ٱلشَّيْخُوخَةِ وَٱلشَّيْبِ يَا ٱللهُ لَا تَتْرُكْنِي، حَتَّى أُخْبِرَ بِذِرَاعِكَ ٱلْجِيلَ ٱلْمُقْبِلَ: صلى صاحب المزمور من أجل حضور الله المستمر لكي يعلن قوة الله لجيل جديد.
· “ليس هنالك ما هو أكثر حكمة من أن نجعل المُسِن شابًّا بأن نقف مع الشباب، ونتعاطف مع طموحاتهم، ونثمّن جهودهم، ونشدد شجاعتهم بسرد قصص قوة الله وخبرات جبروته.” مورجان (Morgan)
· “لا يوجد ما هو أكثر مدعاة إلى الشفقة أو أكثر جمالًا من الشيخوخة. تكون الشيخوخة مدعاة إلى الشفقة عندما يُبَرِّد التشاؤم اتِّقاد الشباب وحماسته. وتكون جميلة عندما تثير شهادتها رؤى الشباب وتلهمهم البطولة.” مورجان (Morgan)
· كُلَّ آتٍ: “سأترك لكل جيل متعاقب صرحًا دائمًا من المثال المجيد للكفاية الكلية، مثل هذا المزمور.” بوله (Poole)
ج) الآيات (١٩-٢١): منعَش من الله الذي يفعل أشياء عظيمة.
١٩وَبِرُّكَ إِلَى ٱلْعَلْيَاءِ يَا ٱللهُ، ٱلَّذِي صَنَعْتَ ٱلْعَظَائِمَ. يَا ٱللهُ، مَنْ مِثْلُكَ؟ ٢٠أَنْتَ ٱلَّذِي أَرَيْتَنَا ضِيقَاتٍ كَثِيرَةً وَرَدِيئَةً، تَعُودُ فَتُحْيِينَا، وَمِنْ أَعْمَاقِ ٱلْأَرْضِ تَعُودُ فَتُصْعِدُنَا. ٢١تَزِيدُ عَظَمَتِي وَتَرْجِعُ فَتُعَزِّينِي.
١. وَبِرُّكَ إِلَى ٱلْعَلْيَاءِ يَا ٱللهُ: تأمّل صاحب المزمور عظمة الله، ورأى أن برّه من رتبة أخرى مختلفة عن رتبة البشر. فهو أعلى بكثير من برّ البشر. ثم إن الله هو الذي يفعل عظائم بما يتجاوز قدرة البشر على فعلها. وقد دفع بر الله وقوته صاحب المزمور إلى أن يسأل في دهشة: مَنْ مِثْلُكَ؟
· مَنْ مِثْلُكَ: “الله متفرد – من يمكن أن يشبهه؟ إنه سرمدي، فلا يوجد قبله ولا بعده. وهو في وحدته في الثالوث كائن سرمدي، وغير محدود، وغير قابل للتجزؤ، وغير مركَّب، وغير قابل للاستيعاب، وفائق الوصف. وجوهره مخفي عن العقول الذكية المخلوقة، ولا يستطيع أيٌّ من مخلوقاته أن يستقصي حكمته ومشورته. مَنْ مِثْلُكَ؟ يثير هذا السؤال العجب والدهشة والتسبيح والعبادة من الملائكة والبشر على مدى الأبدية.” كلارك (Clarke)
٢. أَنْتَ ٱلَّذِي أَرَيْتَنَا ضِيقَاتٍ كَثِيرَةً وَرَدِيئَةً، تَعُودُ فَتُحْيِينَا: فهِم صاحب المزمور أن كل الأشياء هي في يد الله، وأنه إذا سبق أنه اختبر ضيقات عظيمة قاسية، فإنها من الله أيضًا. ونفس هذا الإله قادر على أن يحييه مخرجًا إياه من أعماق الأرض.
· “لا تشك في الله أبدًا. لا تقل أبدًا أنه هجرك أو نسيك، ولا تظن أنه لا يتعاطف معك. إذ سيحييك مرة أخرى.” ميير (Meyer)
٣. تَزِيدُ عَظَمَتِي وَتَرْجِعُ فَتُعَزِّينِي: هذا المزمور أكثر من صلاة. فهو إعلان للثقة. فرغم أن صاحب المزمور تقدَّم في العمر، إلا أنه ما زال يتوقع من الله أن يزيد عظمته ويواصل تعزياته له.
· تزِيدُ عَظَمَتِي: الفكرة هي أنه مع تقدُّم السنوات، سيرى المزيد والمزيد من عظائم الله (مزمور ١٩:٧١). “تلمّح كلمة َ’عَظَمَتِي‘ إلى أشياء عظيمة (
مزمور ١٩:٧١)، أي أعمال الله المخلِّصة.” فانجيميرين (VanGemeren)
د ) الآيات (٢٢-٢٤): موسيقى التسبيح.
٢٢فَأَنَا أَيْضًا أَحْمَدُكَ بِرَبَابٍ، حَقَّكَ يَا إِلَهِي. أُرَنِّمُ لَكَ بِٱلْعُودِ يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٢٣تَبْتَهِجُ شَفَتَايَ إِذْ أُرَنِّمُ لَكَ، وَنَفْسِي ٱلَّتِي فَدَيْتَهَا. ٢٤وَلِسَانِي أَيْضًا ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُ بِبِرِّكَ. لِأَنَّهُ قَدْ خَزِيَ، لِأَنَّهُ قَدْ خَجِلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا.
١. فَأَنَا أَيْضًا أَحْمَدُكَ بِرَبَابٍ، حَقَّكَ يَا إِلَهِي. أُرَنِّمُ لَكَ بِٱلْعُودِ: وعد صاحب المزمور بأن يسبّح الله، لا بصوته فحسب فقط، بل بآلات موسيقية أيضًا. وستكون ترنيمته احتفالًا بما فعله الله في أمانته (حَقَّكَ) وعلى شخصه (يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ).· كان صاحب المزمور مهتمًّا بالاحتفاء بشخص الله وعمله بشكل ملائم. “الاحتفاء بهذا بشكل سليم، بألحان وأصوات وعواطف في انسجام كامل هو واجب الكنيسة ومسرّتها. فعندما توظَّف هذه تقدّم أفضل صورة للكنيسة المنتصرة.” هورن (Horne)
· يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ: يلاحظ كيدنر أن هذا اللقب الإلهي غير شائع خارج سفر إشعياء. وهو يصف الله بأنه “ذاك الذي يجتمع فيه النور الذي لا يُقترَب إليه ومحبته العهدية معًا.” كيدنر (Kidner)
٢. وَلِسَانِي أَيْضًا ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُ بِبِرِّكَ: سبق أن انشغلت شفتاه ونفسه بتسبيح الله في الترنيم. وهو الآن يضيف إلى ذلك حديث لسانه عن بر الله، ولا سيما في ما يراه من انتصارات على أعدائه (لِأَنَّهُ قَدْ خَزِيَ، لِأَنَّهُ قَدْ خَجِلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا).
· “هذا مزمور تبرئة لا انتقام، وسيكون جزءًا من أفراح السماء (انظر سفر
رؤيا يوحنا ٣:١٥؛
٢٠:١٨). كيدنر (Kidner)