تفسير سفر المزامير – مزمور ٧٦
عظمة الله واستجابة الإنسان الملائمة
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ذَوَاتِ اَلْأَوْتَارِ». مَزْمُورٌ لِآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ. كان آساف قائد الجوقات أو الموسيقيين في عهدي داود وسليمان (أخبار الأيام الأول ١٧:١٥-١٩، ٥:١٦-٧، أخبار الأيام الثاني ١٣:٢٩). ويضيف أخبار الأيام الأول ١:٢٥، أخبار الأيام الثاني ٣٠:٢٩ أن آساف كان نبيًّا في مؤلفاته الموسيقية.
يحتفل هذا المزمور بانتصار حققه الله من أجل شعبه. والذين يربطون هذا المزمور بهزيمة سنحاريب (سفر إشعياء ٣٦:٣٧) ينسبونه إلى آساف آخر لاحق، أو إلى شخص كان نسلًا روحيًا حقيقيًّا لآساف عاش في زمنَي داود وسليمان.
أولًا. إظهار جبروت الله في أورشليم
أ ) الآيات (١-٣): عظمة الله في صهيون.
١ٱللهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا. ٱسْمُهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ. ٢كَانَتْ فِي سَالِيمَ مِظَلَّتُهُ، وَمَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ. ٣هُنَاكَ سَحَقَ ٱلْقِسِيَّ ٱلْبَارِقَةَ. ٱلْمِجَنَّ وَٱلسَّيْفَ وَٱلْقِتَالَ. سِلَاهْ.
١. ٱللهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا: أعلن آساف بسعادة أن الله معروف في يهوذا وأن ٱسْمَهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ. وسيتلقى الله التسبيح بين شعبه.
· نلاحظ أن ٱللهُ مَعْرُوفٌ لأنه أعلن نفسه. إنه قابل للمعرفة. فليست معرفتنا به ذاتية فحسب. فنحن لا نعبد إلهًا مجهولًا كما فعل الأثينيون القدماء (أعمال الرسل ٢٣:١٧).
· نلاحظ أن ٱللهُ مَعْرُوفٌ في يهوذا. كانت لدى الأمم أفكارهم الخاصة عن الله، لكن الإعلان الحقيقي لله جاء من خلال الشعب اليهودي – أبناء العهد، أحفاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. “ففي تلك الأيام، إذا أردت أن تعرف هوية الله وطبيعته، كان عليك أن تلجأ إلى اليهود وكتابهم المقدس.” بويس (Boice)
٢. كَانَتْ فِي سَالِيمَ مِظَلَّتُهُ: كانت لله نقطة صلة أخرى بإسرائيل. ففي أرضهم، اختار الله أن يجعل مسكنه ويضع خيمة اجتماعه (مِظَلَّتُهُ).
· ربما يكون ذِكر آساف لخيمة الاجتماع إشارة إلى التاريخ أو تعبيرًا شعريًّا. ومع ذلك، فإن من المرجح أن خيمة الاجتماع أُحضِرتْ إلى ساليم، إلى مدينة صهيون عندما جلب داود تابوت العهد هناك (سفر صموئيل الثاني ٦).
· يبدو أن سَالِيم كان الاسم القديم لأورشليم (سفر التكوين ١٨:١٤؛ رسالة العبرانيين ١:٧-٢).
· “كان الحُجّاج الأوائل (الذي جاؤوا من بريطانيا إلى أمريكا) يحبون هذا المزمور. واشتقوا من الآية الثانية اسم واحدة من مستوطناتها في العالم الجديد – ساليم ماساتشوستس.” بويس (Boice)
· يستخدم النص العبري في تعبير ’مَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ‘ وهي كلمة مثيرة للاهتمام. “ليس مسكنًا، بل مَكْمن أو مخبأ. وهذا تعبير جسور بالمقابلة مع تشبيه الله بالأسد (انظر سفر إرميا ٣٨:٢٥؛ مزمور ٥:٢٧).” كيدنر (Kidner)
· “يعني هذا أن صورة الرب في هذا المقطع صورة أسد رابض في جبل صهيون مستعد للانقضاض. وبعبارة أخرى، فإنه ينبغي أن يُحسَب له حساب وأن يُخشى منه.” بويس (Boice)
٣. هُنَاكَ سَحَقَ ٱلْقِسِيَّ ٱلْبَارِقَةَ: أصبحت أورشليم مركز إسرائيل عندما غزاها داود وجلب السلام إلى المدينة (سفر صموئيل الثاني ٦:٥-١٠). وبطرق كثيرة قبل ذلك وبعده، يكسر الله أسلحة الذين يحاربونه ويحاربون شعبه.
· تحدّث آساف عن سلاح مخيف، سهام القِسيّ: “السهام النارية: استخدم القدماء سهامًا تلفّ رؤوسها مواد قابلة للاشتعال، وكانوا يشعلونها عند إطلاقها على المدن لإضرام النار فيها. وكانت تطلق من فتحات الأبراج على المصنوعات الخشبية للجيوش المحاصِرة.” كلارك (Clarke)
· جعلتْ قدرة الله على القتال نيابة عن شعبه “الملكة الأم لسكوتلندا تقول إنها كانت تخشى صلوات جون نوكس (John Knox) أكثر من أي جيش قِوامه ثلاثون ألف جندي محارب. وحالما وطأت قدما ملك السويد أرض ألمانيا، انبطح على الأرض مصلّيًّا. وقد فعل أشياء عظيمة في وقت قليل جدًّا.” تراب (Trapp)
· “كان هذا المزمور من المزامير المفضلة بين مزامير القتال بين المؤمنين بالمسيح في الحروب الدينية. فقد رنّمه الهوجونوتس (Huguenots) وهم يسيرون إلى المعركة في كلويني (Cloigny). ورنّمه المتعاهدون في كراملكوج (Drumclog) في عام ١٦٧٩ عندما هزموا القوات الحكومية بقيادة جون جراهام الدموي (Bloody Claverhouse). وتم ترنيمه في اجتماعات عيد الشكر بمناسبة هزيمة الأسطول الإسباني في عام ١٥٨٨.” بويس (Boice)
· “لأن أسلحتنا الحربية روحية، فإن الله نفسه هو قوّتنا، وهو في وسطنا ومن المؤكد أنه يدافع عنا. فلا يمكن لسلاح ضد المؤمن الواثق أن ينجح.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٤-٦): تسبيح لله المنتصر.
٤أَبْهَى أَنْتَ، أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ ٱلسَّلَبِ. ٥سُلِبَ أَشِدَّاءُ ٱلْقَلْبِ. نَامُوا سِنَتَهُمْ. كُلُّ رِجَالِ ٱلْبَأْسِ لَمْ يَجِدُوا أَيْدِيَهُمْ. ٦مِنِ ٱنْتِهَارِكَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ.
١. أَبْهَى أَنْتَ، أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ ٱلسَّلَبِ: فكّر آساف في جمال جِبَالِ ٱلسَّلَبِ وسخائها، تلك الأماكن البعيدة والبرية بما تكفي لتكون بيتًا للوحوش الكاسرة. وعرف أن الرب أمجد وأعظم من تلك الأماكن الجميلة.
· نتخيل آساف وهو يتمشى في الجبال العالية حيث تعيش الماعز والتيوس البرية والحيوانات البرية الأخرى، وهو يُصعق لجمالها. لكنه بعد ذلك يفكر: إلهنا أمجد وأعظم من هذه الجبال.
· “أنت أكثر سطوعًا وامتيازًا من الجبال، حيث تتجول الحيوانات البرية، وتفترس تلك الحيوانات الأضعف منها.” كلارك (Clarke)
· تقدّم الترجمة السبعونية قراءة مختلفة لجبال السلب. “تترجم الترجمة السبعونية هذا التعبير إلى ’الجبال الخالدة.‘ ومن المرجح أنها الترجمة الصحيحة بدلًا من الترجمة الغامضة ’جبال السلب.‘” كيدنر (Kidner)
٢. كُلُّ رِجَالِ ٱلْبَأْسِ لَمْ يَجِدُوا (فائدة من) أَيْدِيَهُمْ: الله الذي هو أعظم من الجبال ساعد شعبه في المعركة بإرباك أعدائهم الذين غرقوا في نومهم.
· “المناسبة التي تقفز إلى الذهن هنا هي القضاء على جيش سنحاريب على يد ملاك الرب (سفر إشعياء ٣٦:٣٧). وتلمّح الترجمة السبعونية إلى هذا في عنوان المزمور.” كيدنر (Kidner)
· سُلِبَ أَشِدَّاءُ ٱلْقَلْبِ: “جاءوا ليسلبوا، وها هم قد سُلِبوا! وأشداء القلب هم باردون في موتهم. إذ جفف ملاك الطاعون دم حياتهم وانتزع قلبهم منهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- مِنِ ٱنْتِهَارِكَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ (يَسْقُطُ الحِصَانُ وَرَاكِبُهُ كَمَا لَوْ كَانُوا نِيَامًا): “كان لدى إسرائيل خوف خاص من الخيول والمركبات ذات المناجل في عجلاتها. ولهذ فإن السكون المفاجئ لكل قوة العدو في سلاح المركبات كان مدعاة لابتهاج خاص.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. تقديم الإكرام للإله العظيم
أ ) الآيات (٧-٩): مهابة الرب.
٧أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟ ٨مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْمًا. ٱلْأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ، ٩عِنْدَ قِيَامِ ٱللهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ ٱلْأَرْضِ. سِلَاهْ.
١. أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ: فكّر آساف في أهمية إكرام الله وتوقيره – في خوف صحّي- للإله العظيم. وقد أكد هذا الجانب الشخصي منه: أن الله نفسه مهوب. وينبغي أن يُخاف أكثر من الأشياء التي يمكن أن يفعلها.
· أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ: “النص العبري بسيط لكنه توكيدي (Atta nora atta) ’أنت رهيبٌ أنت.‘ ويعمّق التكرار المعنى.” كلارك(Clarke)
٢. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟: يتجاوز احترامنا وتوقيرنا لله إعجابنا لعظمته. فهو مرتبط أيضًا بمعرفتنا ببره وقوّته وسلطته كقاضٍ (ديّان). ونحن نفهم أن الله أفضل صديق وأسوأ عدو.
٣. فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ عِنْدَ قِيَامِ ٱللهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ ٱلْأَرْضِ: يستخدم الله جبروته بشكل أساسي لا ليدافع عن نفسه، بل ليحرر المظلومين. فهو يهتم بالمساكين والمحتاجين، وسيصوّب كل خطأ أو سيجازيه عِنْدَ قِيَامِ ٱللهِ لِلْقَضَاءِ (للدينونة).
· “لاحِظ الغرض من الدينونة، وهو أن يخلّص الذين يسلّمون أمورهم لله. هذا هو الجانب الرئيسي للعدالة في المزامير، حيث تصبح محنة أولئك الذين لا يستطيعون أو لا يريدون أن يردوا على الأشرار عديمي الرحمة همًّا دائمًا.” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (١٠-١٢): إكرام الله الذي يسود الكل.
١٠لِأَنَّ غَضَبَ ٱلْإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ ٱلْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا. ١١اُنْذُرُوا وَأَوْفُوا لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ يَا جَمِيعَ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ. لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ. ١٢يَقْطِفُ رُوحَ ٱلرُّؤَسَاءِ. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ ٱلْأَرْضِ.
١. لِأَنَّ غَضَبَ ٱلْإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ: تأمّل آساف أحكام الله وكيف أنه يستخدم دينونته ليخلّص المظلومين (الآية ٩). ويرى صاحب المزمور في هذه حكمة لا تُضاهى ورعاية إلهية. فهو يعمل كل الأشياء معًا بشكل عجيب حتى إن غضب الإنسان يجلب له المديح (غَضَبَ ٱلْإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ).
· “حتى أكثر الأعمال عدائية ضد حُكمه ستجلب المديح له (انظر أعمال الرسل ٢٣:٢؛ رسالة رومية ٢٨:٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
· الكتاب المقدس والتاريخ زاخران بتحقيق هذا الوعد والمبدأ. فقد امتلأ هامان بالغضب من مردخاي. فاستخدم الله هذا الغضب لجلب التسبيح له. وامتلأ قادة الدين في زمن يسوع بالغضب ضد الله وابنه، فاستخدم الله هذا الغضب لجلب التسبيح له أيضًا. ونرى هذا المبدأ في التاريخ. وبالإيمان، يفترض أن نؤمن بأن هذا هو الحال عندما يُظهر الأشرار غضبهم ضد الله وشعبه.
· غَضَبَ ٱلْإِنْسَانِ: “لن يُهزَم غضب الإنسان فحسب، بل سيصبح خادمًا لمجدك أيضًا. إذ ستصبح أنفاس تهديدات الأشرار الغاضبة بوقًا لصيت الرب الأبدي.” سبيرجن (Spurgeon)
· “رأى المرنم القديم (كما نراه نحن أيضًا) غضب الله وهو يُحْدِث خرابًا في شؤون البشر. لكنه راقب عن قرب فرأى الله وهو يحيط بكل هذا النشاط بحضوره الخاص، ممسكًا إياه بقبضته، ومجبرًا إياه في النهاية على العمل في اتجاه مدحه وتسبيحه.” مورجان (Morgan)
٢. بَقِيَّةُ ٱلْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا: سيزيّن الله نفسه ببقايا غضب الإنسان ضده وضد شعبه. غير أن هذا لا يبرر غضب الإنسان بأيّ حال من الأحوال، لكنه يُظهر عظمة الله الفائقة.
· تعطي ترجمات أخرى معنى آخر لهذا التعبير العبري.
ü سيُكبح الناجون من غضبك.
ü ستتمنطق بفضالة الغضب.
· إذا كان لنا أن نفهم النص العبري بهذا المعنى، عندئذٍ ستكون الفكرة هي أن الله يَعِد بكبح غضب الإنسان. يأتي أولًا الوعد بإخراج الخير من غضب الإنسان، ثم الوعد بكبح ذلك الغضب.
· “عندما بلغ غضب الإنسان حده، رأى المرنم الله يكبح هذا الغضب متمنطقًا به، مانعًا بهذا الإنسان من اتخاذ خطوات أخرى إرادية.” مورجان (Morgan)
· “سُمح لغضب الإنسان للوصول إلى نقطة معيّنة لجلب دليل واضح لقوة الله الأعظم. ثم وضع بهدوء حدًّا لإظهاره مستقبلًا.” ميير (Mayer)
٣. اُنْذُرُوا وَأَوْفُوا لِلرَّبِّ إِلَهِكُمْ: خَلُصَ آساف من المعطيات المطروحة إلى استناج منطقي. فإن كان الله عظيمًا لهذه الدرجة، فإننا مدينون له بنذورنا. ولهذا ينبغي الإيفاء بها.
· “نذْر النذور أو عدم نذْرها مسألة خيار. لكن حالما ننذر، فإننا نكون ملزمين بها. ومن يحتال على الله، إلهه، فإنه تَعِس حقًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. يَا جَمِيعَ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ، لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ: نستطيع بل ينبغي أن نكرم الله بمزيد من نذورنا. وينبغي أن نقدّم بخضوع هدايا له، فنعطيه الأول والأفضل مما لدينا.
· “إن كان هذا مقدار العرفان بالجميل والتكريس لدى بني إسرائيل من أجل تخليص مؤقت من غضب طاغية أرضي، فكم بالأحرى ينبغي أن يرتفع عرفاننا بالجميل وتكريسنا، كمؤمنين بالمسيح، من أجل فداء أبدي من الطاغية العظيم!” هورن (Horne)
٥. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ ٱلْأَرْضِ: يستطيع بل ينبغي لرؤساء الأرض وملوكها أن يروا مهابة هذا الإله الملك العظيم. يجب عليهم أن يحافظوا على نذورهم له جالبين هدايا إكرامًا له. فلا يوجد من هو مستثنى من توقير الإله الملك العظيم وتسبيحه.
· “ما مِن عظيم أمامه. فكل قيصر وكل نابليون يسقط تحت قوّته كما تسقط أغصان الشجرة تحت فأس الحطّاب.” سبيرجن (Spurgeon)