تفسير سفر المزامير – مزمور ١٠٧
التعلم من إنقاذ الله إلى عودة المسبيين
يتغنى هذا المزمور بإنقاذ الله في أربع صور رائعة. أعطى ديريك كيدنر (Derek Kidner) هذا المزمور عنوانًا يقول “الله الذي يهب إلى الإنقاذ.” وتبيّن الصور الأربع كيف أن قصة كل واحد منّا مختلفة، وهي نفسها في الوقت نفسه.
“انظر إلى الصور المتدرج في المقاطع الأدبية لهذا المزمور: تكتنف المحبة القافلة المنهَكة في الصحراء، وتزور بيت السجن بالمسبيين الذي فيه، وتسهر عند أسِرَّة الألم، وتلاحظ تأرجُح السفينة التي تدفعها العاصفة، وتجلب الجنود المتعبين من البرية إلى التربة المثمرة.” ف. ب. ماير (F.B. Meyer)
أولًا. إهداء الترنيمة
أ ) الآية (١): مهداة إلى الله في اعتراف بالجميل.
١اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
١. اِحْمَدُوا الرَّبَّ: يبدأ هذا المزمور في الترجمة الإنجليزية بكلمة (oh) وهي تستخدم لغرضي النداء والتعجب. ويرجو صاحب المزمور هنا بعاطفة قوية من القرّاء أن يقدموا الحمد، معطيًا سببًا لذلك. وهذا الحمد موجه إلى الرب لأَنَّهُ صَالِحٌ. وستكشف بقية المزمور صلاحه.
٢. لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ: صار لهذه العبارة في المزامير صفة طقسية في العبادة. وهي تُستخدم ما يزيد عن ثلاثين مرة. وهي إعلان ملائم من شعب الله تقديرًا له مسبّحين إياه على مراحمه العظيمة – محبة العهد الإلهي.
· “تقول الترجمة الإنجليزية ’تدوم رحمته إلى الأبد،‘ وهذا أمر ملائم، لكن كلمة ’تدوم‘ تقيّد المعنى إلى حد ما. وإنه أفضل أن نقول ’لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ‘ (حسب الترجمة العربية). فلم تكن لرحمته بداية، ولن تعرف نهاية أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٢-٣): مهداة إلى الله في ضوء اجتماع شعب الله وعودتهم.
٢لِيَقُلْ مَفْدِيُّو الرَّبِّ، الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ، ٣وَمِنَ الْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ، مِنَ الْمَشْرِقِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، مِنَ الشِّمَالِ وَمِنَ الْبَحْرِ.
١. لِيَقُلْ مَفْدِيُّو الرَّبِّ: دعا صاحب المزمور على نحو خاص شعب الله – الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ برحمته الدائمة – إلى الإعلان أنهم مفديون. إذ سيكون من الجحود أن يلزموا الصمت حول هذا العمل العظيم. وسيذكر أربعة جوانب متميزة من إنقاذ الفداء: للتائهين، وللمذنبين، والمرضى، والذين تلطمهم العواصف. وينبغي لمفديي الرب أن يعلنوا هذا.
· “أعطانا موسى في الشريعة فكرة واضحة حول ما ينبغي أن نفهمه من الكلمة العبرية (goel) والتي تترجم هنا إلى ’فدى.‘ فإذا بيع أحد كعبد، أو أُخذ أسيرًا، فإن لدى وليِّه – الأقرب إليه من حيث علاقة الدم – الحق والالتزام بافتدائه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن رومين (Romaine)
٢. فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ: يمكن أن يُفدى المرء من العالم، أو الجسد، أو إبليس، أو فخاخ لا حصر لها. لكن ما خطر ببال صاحب المزمور هو الافتداء مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ. ويرجّح أنّ هذا مرتبط بسبي شعب الله.
٣. وَمِنَ الْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ: ستكون هذه عبارة ملائمة من فم دانيال، أو نحميا، أو عزرا الذين سنحت لهم الفرصة لجمع بقية شعب الله من أراضي السبي.
- مِنَ البَحْرِ: “هذا هو ما يقوله النص العبري، مع أن الترجمة الإنجليزية تقول ’من الجنوب.‘” بوله (Poole)
ثانيًا. صلاح الله المنظور في إنقاذ المسبيين العائدين
أ ) الآيات (٤-٩): خلاص للذين تاهوا في البرية.
٤تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيق. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ. ٥جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضًا أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ. ٦فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ، ٧وَهَدَاهُمْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ. ٨فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٩لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَةً وَمَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً خُبْزًا،
١. تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ: عندما جمع الله شعبه (في الآيتين ٢-٣)، كان لا بد أن يأتوا إلى الأرض الموعودة من كل اتجاه. فقد جاء بعضهم من الْبَرِّيَّةِ، حيث تَاهُوا في قَفْرٍ.
· تَاهُوا: “لم يكن مرورهم عبر البرية ارتحالًا كما يفعل الناس في طريق إلى مكان مأهول. بل كان تيهًا من طريق إلى طريق (بِلاَ طَرِيق)، أي في متاهة لا نهاية لها من القفر.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هاموند (Hammond)
· “تاهوا في أسوأ مكان ممكن، كما هو الخاطئ التائه في خطيته، حيث يذهب هنا وهناك في بحث عبثي وإعادة بحث عبثي، كما هو الخاطئ التائه في خطيته عندما يستيقظ ويرى حالته الضائعة. لكنه ينتهي إلى لا شيء.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضًا أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ: في محنة البرية، صرخ المفديون إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فاستجاب لهم (فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ).
٣. وَهَدَاهُمْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا: قاد الرب مفدييه، بطريقة أفضل من كل أنظمة الملاحة الحديثة، إلى المكان الصحيح، إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ.
· “إنقاذه ممتلئ بالمفاجآت، حيث يلبي كل احتياجات شعبه. إذ قوّم طريقهم، وقادهم إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ، ووفر لهم سكنًا وطعامًا وشرابًا.” فانجيميرين (VanGemeren)
٤. ليَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ: يفترض أن صلاح الله للعائدين عبر البرية أن يعطي كل إنسان سببًا لحمده، من أجل رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ويفترض أن نكون قادرين على أن نشكر الله على ما هو أكثر من مجرد عمله في حياتنا الشخصية، فنشكره على ما يفعله في حياة الآخرين.
٥. أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَة (توّاقة): يتحدث المزمور عن الجياع والعطاش في البرية. لكن هنالك اشتهاء أو توقًا في نفس الإنسان. ويصبح التوجيه الحرفي والإنقاذ للمفديين في البرية صورة لكيفية تخليص النفس التائهة والعطشانة والجائعة، حيث يملؤها خبزًا.
· يبدو أن مريم أم يسوع اقتبست الآية ٩، “لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَةً” في لوقا ١: ٥٣ “أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ.” وهذا واحد من الاقتباسات والتلميحات الكثيرة الموجودة في لوقا ١: ٤٦-٥٥، حيث يبيّن هذا أنها كانت امرأة تعرف كلمة الله وتحبها.
ب) الآيات (١٠-١٦): إنقاذ للمسبيين.
١٠الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ. ١١لأَنَّهُمْ عَصَوْا كَلاَمَ اللهِ، وَأَهَانُوا مَشُورَةَ الْعَلِيِّ. ١٢فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ. ١٣ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ١٤أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ. ١٥فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ١٦لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ، وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ.
١. الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ: عندما جمع الله شعبه (في الآيتين ٢-٣)، كان عليهم أن يأتوا إلى الأرض الموعودة من كل اتجاه. فجاء بعضهم من سجون وسلاسل.
- بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ: “أو بالحديد المؤلم، أو في حبال الضيق أو جِبالة الذل كما يدعى في سفر أيوب ٣٦: ٨، وبشكل خاص قيود الحديد.” بوله (Poole)
٢. لأَنَّهُمْ عَصَوْا كَلاَمَ اللهِ: فهِم صاحب المزمور أن بعضهم كان مسجونًا بسبب التمرد على الله. ولا ينبغي أن يُفهم هذا على أن صاحب المزمور اعتقد أن كل واحد مسجون من شعب الله سُجن لأنه أَهَانَ مَشُورَةَ الْعَلِيِّ، مع أن هذا صحيح على الأقل بمعنى ما.
· أشار الرسول بولس إلى أنه أسير الرب (أفسس ٤: ١). كان هؤلاء أسرى الرب أيضًا، لكن بمعنى مختلف تمامًا.
· “دفعهم إلى أيدي أعدائهم. لأنهم رفضوا أن يخضعوا لله، سلّمهم الله إلى عبودية أشخاص أشرار. تركهم الله لأنهم تركوه.” كلارك (Clarke)
٣. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ: كان سجنهم صعبًا مع الأشغال الشاقّة القسرية.
· “في السجون الشرقية، كثيرًا ما كان الرجال يُجبرون على العمل مثل ثيران الحقول. لم تكن لديهم حرية، ولهذا لم تكن لديهم راحة. ومن شأن هذا أن يخضع أشد القلوب صلابة، ويجعل المتكبر والمتباهي يغني لحنًا آخر.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ: في سلاسلهم وضيقهم، توسّل شعب الله المسجونون إليه من أجل العون، فاستجاب لهم. فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ، وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ. فكان هذا نعمة ورحمة من الله. إذ كان هؤلاء السجناء تحت تأديب الرب، لكن عندما صرخوا إليه، استجاب في رحمته.
· “هذه تعزية لأكبر الخطاة. فإذا وجدوا فيهم قلبًا مصلِّيًا، فسيجد الله قلبًا شفوقًا. وسيقبل كل المتمردين بكل عذوبة إذا عادوا أخيرًا من خلال الصليب.” تراب (Trapp)
٥. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ: تتكرر اللازمة (وردت في الآية ٨). إذ يفترض أن من شأن رؤية قوة الله الكريمة وهي تعمل أن تحرّك الناس إلى تقديم الشكر له. لقد كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ، وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ لكي يستطيع شعبه الرجوع عندما يجمعهم.
· “كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ حتى يطلق الأسرى. ومن ناحية روحية، كسّر الرب يسوع أقوى القيود الروحية وأطلقنا أحرارًا فعلًا. إذ يذوب النحاس والحديد بسرعة أمام لهب حياة يسوع. ولن تقوى أبواب الجحيم علينا، ولن تقدر قضبان القبر أن تحتجزنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ج ) الآيات (١٧-٢٢): النجاة للمرضى والقريبين من الموت.
١٧وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَمِنْ آثامِهِمْ يُذَلُّونَ. ١٨كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ، وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ. ١٩فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ٢٠أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٢١فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٢٢وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ الْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ.
١. وَالْجُهَّالُ (والحمقى) مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَمِنْ آثامِهِمْ يُذَلُّونَ (يُبتَلون): عندما جمع الله شعبه (في الآيتين ٢-٣)، كان عليهم أن يأتوا إلى الأرض الموعودة من كل اتجاه. جاء بعضهم من مرض ومحنة وذل، فأنقذهم الرب وفداهم، رغم أن ضيقتهم كانت بسبب حماقتهم (وَمِنْ آثامِهِمْ يُذَلُّونَ).
· يُذَلُّونَ (يُبتَلون): “يدل الفعل هنا أن المحنة التي أصيبوا بها هي من فِعلهم أنفسهم. وفي مثل هذا السياق، يمكن أن تذكرنا الآية ١٨ بتعاطي المخدرات في عصرنا الحديث. وهذا مجرد مثل بسيط لتصميم الإنسان على إيذاء نفسه.” كيدنر (Kidner)
· “الخطية هي أساس كل حزن، لكن بعض الأحزان تأتي نتيجة فورية للإثم. إذ يبتلي الناس أنفسهم بمسار من التعديات. وهم حمقى بسبب جلبهم هذه الآلام على أنفسهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. اقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ: وصف صاحب المزمور أولئك المرضى جدًّا والقريبين من الموت. فقدوا كل شهية للأكل (كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ)، وبددوا حياتهم.
· “ضيقتهم هنا هي المرض حتى الموت عندما يعافون كل طعام ولذة. وهم يكرهون الطعام كما لو أنهم يشعرون بأن موتهم قريب.” فانجيميرين (VanGemeren)
· حسب القياس التمثيلي الروحي، عندما لا تكون لدى نفس مريضة شهية للبن الروحي أو الطعام القوي الروحي في كلمة الله، يبيّن هذا أن موته الروحي قريب.
· “يمكننا أن نصلي حول آلامنا وضعفاتنا الجسدية، ويمكننا أن نبحث عن حلول أيضًا. فعندما لا تكون لدينا شهية للطعام القوي، يمكن أن تكون لدينا شهية للصلاة.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ: تكررت هذه العبارة (في الآيتين ٦ و ١٣). وحتى عندما يكون شعب الله في ضيق بسبب سوء أفعالهم، فإن الله يستجيب عندما يصرخون إليه.
٤. أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ: حصلوا على شفاء بقوة كلمة الله. ويذكّرنا هذا بأن يسوع كان يشفي الناس بكلمة واحدة منه. نجّى الله هؤلاء المرضى والمبتلين من تهلكاتهم بكلمة الله القوية.
· “عندما وصل جورج ويشارت إلى داندي حيث كان الطاعون مستعرًا [١٥٤٥]، قام بترتيبات للوعظ. ولهذا الغرض، اختار مركزه عند رأس البوابة الشرقية، حيث كان المصابون واقفين في الخارج، والسليمون في الداخل. كان النص هو مزمور ١٠٧: ٢٠ “أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ” إلخ، حيث تحدث عن مزايا كلمة الله وتعزيتها، والعقاب المتأتي عن ازدرائها، واستعداد الله في رحمته لقبول الذين يلجؤون إليه، والبركة التي سيحصل عليها الذين يُخرجهم الرب من هذه التعاسة، إلخ. وبهذه العظة، رفع قلوب السامعين حتى إنهم لم يضعوا للموت اعتبارًا، بل رأوا أنهم سيكونون أكثر سعادة إذا غادروا من أن يبقوا على الأرض، واضعين في اعتباره أنهم لم يكونوا يعرفون إن كان سيكون لديهم معزٍّ كهذا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن صموئيل كلارك (Samuel Clarke)
· “كل ما يحتاج الله إليه لكي يخلّصنا هو أن يرسل كلمته. وقد فعل هذا بإرسال ابنه الحبيب، الكلمة المتجسد. وهو يرسل إلينا كلمته على شكل أسفار مقدسة. وهو يرسلها لنا في عظات خدامه. لكننا نريد، أكثر من أي شيء آخر، أن تدخل الكلمة إلى القلوب بقوة الروح القدس.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ: ومرة أخرى، يشجع صاحب المزمور كل البشر على أن يقدموا الحمد لله على خلاصه.
د ) الآيات (٢٣-٣٢): نجاة لأولئك الذين أبحروا في بحار خطرة.
٢٣اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ، الْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، ٢٤هُمْ رَأَوْا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ. ٢٥أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحًا عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ. ٢٦يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ، يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ. ٢٧يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ. ٢٨فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. ٢٩يُهْدِئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا. ٣٠فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ. ٣١فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٣٢وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ.
١. اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ: عندما جمع الله شعبه (الآيتان ٢-٣)، كان لا بد أن يأتوا إلى الأرض الموعودة من كل اتجاه. فجاء بعضهم من الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ.
٢. هُمْ رَأَوْا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ: وفي البحر، يرى المسبيون العائدون عظمة الله والعواصف العظيمة التي ترفع أمواج البحر عاليًا إلى السماء ثم تهبط إِلَى الأَعْمَاقِ. ولهذا ليس غريبًا أن تذوب أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاء بسببِ ضيقتهم.
· “كنتُ في عرض البحر أثناء هذه العاصفة وتحت هذه الظروف التي أصفها. وبعد أن صرخت إلى الرب، نجّاني لكي أصف العاصفة وأروي قصة رحمته. ولا يستطيع إلا شخص موحى إليه من الله أن يبيّن الأمور كما هي، أو الظروف الحقيقية التي واجهها، والتي يتحدث عنها صاحب المزمور بشكل ملائم، أو أن ينطق بالمخاطر الألف والمخاوف الكثيرة التي اختبرها الذين لهم علاقة بالعواصف في البحر، حيث تتجمع رياح السماء لتهيج سفينة مجنونة بالفعل بين أكثر الصخور ضخامة على شاطئ محمي من الرياح. ليت الرب يحفظ القارئ من مثل هذه الظروف!” كلارك (Clarke)
· وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ: “تمنع الحركة العنيفة للسفينة أن تثبت على ’رجليها،‘ وتطرد كل مخاوفها كل قدرة على استخدام عقلها، ولهذا فإنها تبدو كشخص سكران.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ: “لم تعد مهارتهم في الملاحة فعالة، فيئسوا. عجزوا عن تفكير حكيم يخلّصهم (وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ).” فانجيميرين (VanGemeren)
· وصف تراب (Trapp) الذي عاش في القرن السابع عشر هذه الأعمال والعجائب: “هنالك وحوش في البحر، مثل الحيتان والدوّامات، وتغيُّر الطقس وما شابه، وهي ليست قليلة. والمد والجَزْر واللآلئ والجُزُر، إلخ… هذه عجائب ربما تقنع أكثر الملحدين عنادًا.”
٣. فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ: ومرة أخرى، يصف صاحب المزمور كيف أن شعب الله يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ وكيف أنه مِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ.
· “لا يسعنا إلا أن نفكر في أن هنالك سفينة نبحر عليها جميعًا. وهنالك بحر مضطرب نبحر فيه جميعًا. وتوجد عواصف كثيرًا ما نواجهها. وهنالك مرفأ أو ملاذ نرغب جميعًا أن نراه وندخله.” هورن (Horne)
٤. يُهْدِئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا: يعمل الله ما لا يستطيع آخرون أن يفعلوه، أن يُهْدِئَ الْعَاصِفَةَ بكلمة منه. ويذكّرنا هذا بما فعله يسوع لتهدئة بحر الجليل العاصف بكلمته وإرادته.
· رغم أن البحر هائج، إلا أنه يطيع أمر الله. لاحظ تراب (Trapp) أنه “إذا لم نهدأ عندما يقول الرب ’اهدأ‘ فإن كل نقطة في البحر ستكون شاهدة على تمردنا وعصياننا الرهيب.”
٥. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ: للمرة الرابعة والأخيرة، يحث صاحب المزمور كل بشر (بَنِي آدَمَ) على أن يَحْمَدُوا الرَّبَّ على إنقاذه. كما يشجع شعب الله على أن يَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ ويُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ.
· فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ: “دعهم لا يخجلوا أو يخافوا من الحديث عن عجائب الله وتسبيحاته أمام أعظم الناس.” بوله (Poole)
ثالثًا. عظمة الله تُرى في التحولات التي يجريها
أ ) الآيات (٣٣-٣٨): عمل الله في تغيير الأرض.
٣٣يَجْعَلُ الأَنْهَارَ قِفَارًا، وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ مَعْطَشَةً، ٣٤وَالأَرْضَ الْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا. ٣٥يَجْعَلُ الْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضًا يَبَسًا يَنَابِيعَ مِيَاهٍ. ٣٦وَيُسْكِنُ هُنَاكَ الْجِيَاعَ فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ. ٣٧وَيَزْرَعُونَ حُقُولاً وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا، فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ. ٣٨وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدًّا، وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ.
١. يَجْعَلُ ٱلْأَنْهَارَ قِفَارًا: يستطيع الإله الذي يتمتع بسلطان على البحار العاصفة على أن يحوّل الخليقة نفسها. ويمكن أن يكون هذا التغيير من حسن إلى سيئ (ٱلْأَرْضَ ٱلْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً) إن كان الهدف دينونة على الأشرار.
· “كان سهل الأردن، قبل انقلاب سدوم وعمورة، مسقيًّا في كل موضع ’كجنّة الرب‘ (سفر التكوين ١٣: ١٠)، لكنه صار منذئذ أرض ملح وكبريت وعُقم دائم.” هورن (Horne)
· كتب تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) في القرن التاسع عشر قبل أن تجمع إسرائيل كأمة مرة أخرى: “لقد حدث هذا في حالات كثيرة، ولاسيما في حالة بلد صاحب المزمور حيث كان ذات يوم فخر الأراضي، لكنه صار الآن صحراء.”
٢. يَجْعَلُ ٱلْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ: يمكن أن تُستخدم قوة الله على التغيير لتغيير مما هو سيئ إلى ما هو حسن أيضًا. إذ يمكن أن تحوّل أَرْضًا يَبَسًا يَنَابِيعَ مِيَاهٍ، إلى أماكن إثمار وحضارة.· “تنسب ترنيمة التسبيح إلى الرب قوة تغيير الأشياء. وسلطته هي بلا حد… إذ يستطيع أن يقلب حالة أي شيء، ولهذا يستطيع أن يقلب طريقة حياة الجميع.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدًّا: اعتمد صاحب المزمور على الله لا من أجل عودة شعب الرب من السبي فحسب، بل أيضًا من أجل مباركة الأرض وتحويلها الحسن عند عودتهم هذه. وهكذا، فإن بركات الرب مستمرة.
· “تُرى الأشياء التي تبدو متناقضة على أنها أدلة على ثبات. فالله يحوّل الأماكن المثمرة إلى قفر، والقفر إلى مكان مثمر. وهو يبارك ويكثِّر.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٣٩-٤٢): عمل الله في تغيير حالة المقموعين والمبتلين.
٣٩ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ الشَّرِّ وَالْحُزْنِ. ٤٠يَسْكُبُ هَوَانًا عَلَى رُؤَسَاءَ، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيق، ٤١وَيُعَلِّي الْمِسْكِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَيَجْعَلُ الْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ. ٤٢يَرَى ذلِكَ الْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ، وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ.
١. يَسْكُبُ هَوَانًا عَلَى رُؤَسَاءَ: وبالطريقة التي يستطيع بها الله أن يحوّل نهرًا إلى قفر، يستطيع أن يأخذ رُؤَسَاءَ هذا العالم ويَسْكُبُ هَوَانًا عليهم، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلَا طَرِيقٍ في البرية. وينطبق هذا على نحو خاص على الرؤساء الذين يُبقون شعب الله تحت القمع والذل والابتلاء والأسى.
٢. وَيُعَلِّي ٱلْمِسْكِينَ: وبنفس الطريقة التي يحوّل بها القفر إلى غدير، فإنه يستطيع أن يُعَلِّي ٱلْمِسْكِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ، ويجعل عائلاتهم مِثْلَ قُطْعَانِ ٱلْغَنَمِ.
· “يتأمل القسم الأخير من المزمور في أعمال الله السيادية التي ترفع شعبه أحيانًا، وتذلّهم أحيانًا.” بويس (Boice)
٣. يَرَى ذَلِكَ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ: يفرح ٱلْمُسْتَقِيمُونَ لأن الله يعرف كيف يذل المتكبرين والظالمين، وكيف يعَلّي المساكين والمبتلين. وعندما تعمل أحكام الله بهذه الطريقة، فإن الناس يلاحظون ذلك وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ.
· وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ: وكما يقال في سفر أيوب ٥: ١٦ “تسد الخطية فاها.” وسيكون يومًا رائعًا ذاك الذي يصمت فيه الإثم والظلم.
ج) الآية (٤٣): الخاتمة: حكمة وفهم.
٤٣مَنْ كَانَ حَكِيمًا يَحْفَظُ هَذَا، وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ.
١. مَنْ كَانَ حَكِيمًا يَحْفَظُ (يلاحظ) هَذَا: يدعونا صاحب المزمور إلى النظر إلى الطريقة التي يعمل بها الله في العالم، سواء أكان هذا في الاستجابة للذين يصرخون إليه أم في قدرته على الإذلال والرفع. وتتطلب منا الحكمة أن نلاحظ ذلك (مَنْ كَانَ حَكِيمًا يَحْفَظُ هَذَا).
· “يُطلَب من القارئ أن يتعرف بنفسه على الصورة الرباعية للمحنة والخلاص، وأن يمتدح ثبات الله ببصيرة جديدة.” كيدنر (Kidner)
· “إنها ترنيمة عظيمة حول رحمة الله. لنصغِ إلى رسالتها، ثم نصرخ إلى الله في ضيقتنا. وعندما نجد خلاصًا من خلال صلاحه، ينبغي أن نقدم له الشكر والتسبيح.” مورجان (Morgan)
· “تحوِّلت خاتمة هذا المزمور من مزمور شكر وتسبيح إلى مزمور حكمة. إذ سيكون المستقيمون حكماء بدراسة أعمال الرب في شؤون البشر.” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. وَيَتَعَقَّلُ (يفهم) مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ: نحن نتعقل أو نفهم رحمة (حِسِد) (أي مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ أو محبته الكريمة، أو المتسمة بالإخلاص، أو محبته العهدية) من خلال تصريحات ووعود في كلمة الله. لكننا نفهمها أيضًا بالكيفية التي يتصرف بها مع البشر وفي التاريخ – هذا إذا كانت لدينا الحكمة لنرى لذلك. وبهذه الحكمة، سنفهم مراحم الله (وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ).
· وَيَتَعَقَّلُ: “كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله. وكلما زاد حبهم له، زادوا فهمًا، وزادوا فرحًا. كيف يستطيع الإنسان أن يتأمل لغز العالم ويحتفظ بسلامة عقله من دون هذا الإيمان؟ سيختبر ذلك كل من يمتلك إيمانًا.” ماكلارين (Maclaren)