تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢٤
شكر لله على العون الذي لا يستطيع غيره أن يقدّمه
هذا مزمور معنون ’تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ.‘ يذكر مزمور ١٢٢: ٤ أن الحجاج تجمعوا في أورشليم ليشكروا الله. ونرى داود هنا يقود الشعب لكي يقدموا الحمد لله على عونه في الماضي واثقين بعونه المستمر.
رغم أن هذا المزمور يُنسب إلى داود، إلا أن مفسّرين ربطوه بالمسبيين العائدين من بابل. وقد ردّ جيمس مونتجمري بويس (James Montgomery Boice) على هذا الرأي بشكل جيد. “يبدو أن التعبيرات المستخدمة في هذا المزمور مثل ’قَامَ ٱلنَّاسُ عَلَيْنَا،‘ و’لَجَرَفَتْنَا،‘ و’ٱنْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ ٱلْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِينَ،‘ إلخ. تعبّر عن هجوم عسكري وإنقاذ منه، لا عن سبي.” وإنه أفضل لنا أن نُبقي صلة داود بهذا المزمور، ناظرين إليه على أنه مناشدة لإسرائيل أن تقدم الحمد للرب من أجل إنقاذه الماضي والحاضر.
“في عام ١٥٨٢، رُنِّم هذا المزمور في مناسبة رائعة في أدنبرة. إذ أُطلق سراح الخادم، جون ديوري (John Durie)، من السجن. واستقبله مئتان من أصحابه عند دخوله المدينة. وازداد العدد حتى وصل إلى ألفي شخص بدأوا يرنمون وهم يتقدمون في المسير على طول “الشارع الرئيسي”، مكررين “لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ…إلخ”. وقد رنّموا في أربعة أجزاء بوقار عظيم، حيث كان الجميع ينضمّون إلى ترنيم هذا المزمور المشهور معروف اللحن. وكانوا أنفسهم متأثرين، كما تأثّر أيضًا كل من سمعهم. ويقال إن واحدًا من المضطهِدين الرئيسيين كان أكثر انزعاجًا من هذه الترنيمة من أي شيء آخر رآه في اسكتلندا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن هوريتيوس بونار (Horatius Bonar)
أولًا. امتنان لعون الله
أ ) الآيات (١-٢): عون الله عندما يكون المرء تحت تهديد البشر.
١«لَوْلاَ الرَّبُّ الَّذِي كَانَ لَنَا». لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: ٢«لَوْلاَ الرَّبُّ الَّذِي كَانَ لَنَا عِنْدَ مَا قَامَ النَّاسُ عَلَيْنَا،
١. لَوْلَا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا: دعا داود إسرائيل مرتين في أول آيتين إلى الإقرار بأن العون هو في الرب نفسه. وليس الأمر أن الرب كان موجودًا فحسب، لكنه كان يعمل بنشاط من أجل خير شعبه أيضًا. فهو ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا.
· “إن تعبير ’كَانَ لَنَا‘ (Hayah lanu) هو صيغة الفعل الماضي من عمانوئيل (الله معنا). وهكذا فإن المجتمع يعترف بأن الله كان معهم في تاريخهم الماضي.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “ليس هنالك شرط على الإطلاق في كلمة ’لولا‘ هنا. فلم تكن مسألة كون الرب إلى جانبنا يومًا موضع شك. فالرب يسوع في تجسُّده وموته أخذ مكانه إلى جانبنا إلى الأبد. وهو إلى جانبنا دائمًا، ما دمنا نحفظ سُبله ونسلك في طرقه.” ميير (Meyer)
· “ليس هذا التكرار عبثًا. فعندما نكون في خطر، فإن خوفنا يكون بلا حدود. ولكن حينما يمر الخطر، نتخيّل أنه كان أقل شدة مما كان عليه حقًّا. وهذا هو الوهم الذي يزرعه إبليس فينا، لكي يقلل من نعمة الله ويضبّبها” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن لوثر (Luther)
٢. لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: رأى داود أن من الضروري أن يقر شعب عهد الله بهذا. فلم يكن كافيًا أن يفعله هذا أو عدد صغير معه. فقد كان واجبًا على كل من في إسرائيل أن يعرف ويقر بأن الله هو عونهم الأساسي.
٣. عِنْدَمَا قَامَ ٱلنَّاسُ عَلَيْنَا: لقد انطبق هذا الوضع مرات كثيرة أثناء حكم داود وقبله، لكن المناسبة الأكثر ترجيحًا والمشار إليها هنا هي عندما هدد الفلسطينيون بسحق إسرائيل في بداية حكم داود (٢ صموئيل ٥: ١٧-٢٥). فعندما يقاوم ٱلنَّاسُ شعب الله، فإنه يتدخل من أجل العون.
· يعطينا هذا المزمور، كمزمور لداود، بصيرة عميقة نادرة في فهم الخطر المبكر الذي تعرضت له مملكته، ولاسيما من قِبل الفلسطينيين عندما حطموا مملكة شاول. وتبيّن ٢ صموئيل ٥: ١٧ فصاعدًا مدى خطورة ذلك التهديد وقلة الثقة التي وضعها داود في قدرته على النجاة.” كيدنر (Kidner)
· “يسهل علينا أن نرى كيف يُدمَح مزمور يمتدح حماية الله في الأيام الأولى من تاريخ إسرائيل الوطني في ترانيم حج في الطريق إلى أورشليم التي جعلها داود عاصمة له.” بويس (Boice)
ب) الآيات (٣-٥): الكارثة التي كان يمكن أن تحدث لولا عون الله.
٣إِذًا لاَبْتَلَعُونَا أَحْيَاءً عِنْدَ احْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا، ٤إِذًا لَجَرَفَتْنَا الْمِيَاهُ، لَعَبَرَ السَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا. ٥إِذًا لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا الْمِيَاهُ الطَّامِيَةُ».
١. إِذًا لَٱبْتَلَعُونَا أَحْيَاءً: استمرارًا للفكرة المكررة للتوكيد في أول آيتين، ’لَوْلَا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا.‘ لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ، يخبرنا داود بما حدث. كان يمكن لأعدائهم أن يقضوا عليهم. ولم يكن الرب واحدًا من الحلول الكثيرة الممكنة لمشكلتهم، لكنه كان مخلّصهم الوحيد.
· “هنالك فكرة تتخلل هذا النص كله، وهي أن الفاعل الوحيد في إنقاذهم كان الرب نفسه. فلم يشمّر بشر عن ساعده لعونهم. وما كان بمقدور قدرة بشرية أن تنقذهم من الطوفان المتنامي.” ماكلارين (Maclaren)
· “كثيرًا ما ورّطنا أنفسنا في مشكلات بسبب عصياننا. لكننا لم نستطع أن نخلص أنفسنا منها. فالنجاة كانت تأتي دائمًا بعمله هو.” مورجان (Morgan)
· عِنْدَ ٱحْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا: “لا يصبح الغضب أكثر التهابًا مما يكون عليه عندما يكون شعب الله موضوعه. إذ يصبح الشرر لهبًا، ويحَمّى الأتون سبع مرات عندما يُقذف مختارو الله في وسط النيران.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. إِذًا لَجَرَفَتْنَا ٱلْمِيَاهُ: وصف داود دمارهم المحتمل بشكل شعري. فكان الخطر مثل وحش هائل يبتلع فريسته، أو مثل سيل يجرف كل ما يعترض سبيله.
· “إن استخدام الماء كقوة مدمّرة صورة مجازية شائعة في العهد القديم (انظر مزمور ١٨: ١٦؛ ٤٢: ٧؛ ٦٩: ١-٢، ١٥؛ إشعياء ٨: ٧-٨؛ مراثي إرميا ٣: ٥٤) بسبب الأمطار الغزيرة المدمّرة في هذا الجزء من العالم.” فانجيميرين (VanGemeren)
٣. لَعَبَرَ ٱلسَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا: الصورة هنا هي صورة نهر جارف، لا فيضان متصاعد. وفي هذه الصورة المجازية، كانوا في خطر الانجراف في هذا التيار.
٤. إِذًا لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا ٱلْمِيَاهُ ٱلطَّامِيَةُ: استخدم صاحب المزمور التكرار ليؤكد أن الخطر لم يكن سياسيًّا أو اقتصاديًّا، بل كان متعلقًا بالنفس ذاتها، بالحياة في أعمق مستوياتها. فكان الله مخلّصهم من هذه الأخطار العظيمة.
· وصف داود بلغة شعرية متاعب كثيرة تواجه النفس.
ü في بعض الأحيان تبتلعنا وتلتهمنا متاعبنا.
ü في بعض الأحيان تسحقنا متاعبنا كطوفان.
ü في بعض الأحيان تجرفنا متاعبنا كسيل.
ثانيًا. تسبيح الرب الذي يعين
أ ) الآيات (٦-٧): شكر على العون الذي جاء.
٦مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لِأَسْنَانِهِمْ. ٧ٱنْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ ٱلْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِينَ. ٱلْفَخُّ ٱنْكَسَرَ، وَنَحْنُ ٱنْفَلَتْنَا.
١. مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ: كما في مواضع أخرى من سفر المزامير، فإن مباركتنا لله لا تعني أننا نمنحه بركة من عندنا. بل تعني شكرنا وتسبيحنا له وإعلاننا أنه المبارَك في ذاته. وهذا تعبير قوي للشكر والتسبيح.
· “عندما ننظر إلى الحياة كما يفعل صاحب المزمور هنا، ندرك حالات الحماية الإلهية التي لا عدد لها. لم نكن واعين لها بشكل واضح في ذلك الوقت. وربما كانت لدينا نوبات من الاكتئاب، وكنا نَعُد أنفسنا محرومين. لكن إذا فكّرنا في المخاطر التي أُنقذنا منها عندما كنا على وشك الابتلاع سريعًا، ندرك أن الرب كان موجودًا.” ميير (Meyer)
· “يُذهل المفديون، وهم ينظرون إلى الوراء، لعظمة الخطر الذي تعرّضوا له.” هورن (Horne)
٢. ٱلَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لِأَسْنَانِهِمْ: وصف داود الخطر الذي تعرضوا له بصورة شعرية. فقد أنْقِذوا من وحش ذي أسنان طاحنة. ثم أنْقِذوا من فخ وُضع لعصفور. وبعون الله كان شعب الرب آمنًا من الهلاك وفقدان الحرية.
· فَرِيسَةً لِأَسْنَانِهِمْ: ليست هذه بالضبط الصورة المتضمَّنة في الآية الثالثة. فبين هذين الفكّين نحس بالعذابات البطيئة للهزيمة، مثل تمزيق الفريسة وطحْنها.” كيدنر (Kidner)
· مِثْلَ ٱلْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِينَ: “تشبيه النفس بعصفور تشبيه جميل [مزمور ١١: ١]. فهو يلمّح إلى ارتعادات الضعف، وشعور طائر ضعيف الجناحين بالاضطراب، وبعجز هذا المخلوق اللاهث في كدحه.” ماكلارين (Maclaren)
· “لدى الصيادين أساليبهم الكثيرة في اصطياد الطيور الصغيرة. ولدى إبليس أساليبه الكثيرة في اصطياد النفوس. فبعض النفوس تدمَّر بالصحبة الشريرة، وتدمَّر أُخرى بأطايب الطعام. ويدفع الجوع كثيرين إلى هذا الفخ، ويدفع الخوف آخرين إلى الإسراع نحو الشبكة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “كما أن العصفور لم يقدر أن يخرج من الفخ، كذلك لا تقدر النفس أن تهرب من التجربة. لكن الرب يستطيع أن يخرجها. وهو يعمل على إنقاذنا. اسمعوا هذا، يا عبيد السُّكْر: يستطيع الله أن يحرركم. وأنتم يا من سقطتم في الانحلال الأخلاقي، يستطيع الله أن يحرركم. ومهما كانت الخطية التي اصطادتكم، فإن اليد الكريمة التي سُمِّرت ذات يوم على الصليب قادرة على أن تحرركم.” سبيرجن (Spurgeon)
· “أنقِذْنا، يا الله، من عدونا الروحي وخبثه. خلّصنا من أسنانه عندما ينوي أن يلتهمنا، ومن فخاخه عندما ينوي أن يخدعنا.” هورن (Horne)
· هنالك صورتان شعريتان أخريان قد تزعجان نفوسنا:
ü في بعض الأحيان تطحننا متاعبنا إلى مسحوق.
ü في بعض الأحيان تأسرنا متاعبنا كفخ أو مصيدة.
ب) الآية (٨): الثقة بعون الله المستمر.
٨عَوْنُنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ.
١. عَوْنُنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ: نحس هنا ببعض الثقة في هذا التصريح. تجد الشعوب عونًا مزعومًا من آلهتها المزعومة. ويجد شعب الله عونه في اسم الرب.
· “يُفترض أن تولّد الخبرة الثقة. ولهذا اكتب خبراتك، وافركها مرة تلو الأخرى. ثم أوصلها إلى نتيجتها، كما هنا.” تراب (Trapp)
· “الدرس المستفاد من هذا المزمور العظيم من بدايته إلى نهايته هو أنه ينبغي لنا – متمثّلين بالقديسين هنا – أن ننسب الخلاص، سواء أكان ذا طبيعة زمنية أم روحية، إلى الرب. “ٱلْخَلَاصُ لِإِلَهِنَا ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ.” هورن (Horne)
· “لو لم يساعدنا الرب، لكانت مصيبتنا عظيمة للغاية! لكنه ساعدنا. وتندمج التنهيدة التي ترتجف بالوعي بالخطر الماضي في الترنيمة السعيدة: “مبارك الرب!” مورجان (Morgan)
٢. ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ: لم تكن ثقة باطلة. فنفس الإله ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ قادر على أن يعين شعبه.
· “عندما نعبد الخالق، دعنا نزِدْ ثقتنا بمعزّينا. ألم يخلق كل ما نراه؟ ألا يستطيع أن يحفظنا من الأخطار التي لا نستطيع أن نراها؟” سبيرجن (Spurgeon)