تفسير سفر المزامير – مزمور ١٣٤
الرب يباركك من صهيون
هذا آخر مزمور في سلسلة المزامير الخمسة عشر المعنونة ’ترنيمة المصاعد.‘ وهو دعوة إلى الكهنة واللاويين في الهيكل إلى الاستمرار في خدمة تسبيحهم بالرد على مباركة الشعب لهم ببركة.
اقترح تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) أن المشهد كان لحجاج يغادرون أورشليم في ظلمة الصباح الباكر، وهم ينادون على الكهنة واللاويين وهم واقفون في نوبتهم عند الهيكل. ثم يتلقى الحجاج بركة جوابية منهم.
أولًا. البركة المرفوعة إلى الرب
أ ) الآية (١): دعوة إلى الخدام إلى مباركة الرب.
١هُوَذَا بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ ٱلرَّبِّ، ٱلْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ بِٱللَّيَالِي.
١. هُوَذَا بَارِكُوا ٱلرَّبَّ: كما هو الحال في عدة مواضع أخرى من سفر المزامير، فإن مباركتنا للرب هنا لا تعني أن يمنح شخص أعلى بركة لشخص أدنى. فالله أعظم من الإنسان بما لا يُحَد، ولا يمكن لإنسان أن يعطي بركة لله. والفكرة هنا هي أنه أمر يُكرم الرب عندما تسبّحه خلائقه وتشكره بشكل ملائم.
· هُوَذَا: “أعتقد أن الكلمة العبرية Hinneh تعني انتبه. كن متيقظًا.” كلارك (Clarke)
· بَارِكُوا ٱلرَّبَّ: أي تكلموا حسنًا عن اسمه. أخبِروا بالعجائب التي صنعها، وبيّنوا أن اسمه مرتفع.” كلارك (Clarke)
· “لا تَقْنَعوا بالتسبيح مثل ذاك الذي تقدمه له أعماله. لكن عليكم، كقديسيه، أن ’تباركوه.‘ هو يبارككم، ولهذا كونوا متحمسين لمباركته.” سبيرجن (Spurgeon)
· لا تقفوا مثل الأصنام، صامتين وخاملين. بل وظِّفوا قلوبكم وألسنتكم في الترنم بتسابيح للرب.” بوله (Poole)
٢. يَا جَمِيعَ عَبِيدِ (خدّام) ٱلرَّبِّ: لعبيد الله سبب خاص لمباركة الرب وتسبيحه. فإذا لم يسبّحه خدامه (عبيده)، فمن سيفعل ذلك؟
· هم يشتركون مع الله في عمله. وهذه بركة خاصة.
· هم يتمتعون بالقرب الذي يلازم العمل معه.
· هم ينالون قوة خاصة وهم يخدمونه.
· لديهم تحديات إيمانية مثيرة.
ü بما أن هذا موجَّه إلى خدام الرب، يبيّن هذا المزمور أنه ينبغي إضافة التسبيح إلى عملنا. يمكننا أن نتخيل حارسًا من حراس الهيكل يسأل: ’ألا يكفي أني أقوم بعملي واقفًا طوال الليل وأنا أحرس؟‘ والجواب هو: “لا، ليس هذا كافيًا. فأضِفْ إلى عملك تسبيحًا. بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ ٱلرَّبِّ.
- “لا ينبغي أن يخدم أحدكم بدافع الإجبار، لكن ينبغي أن تباركوه لسماحه لكم بأن تخدموه، ولأنه أهّلكم للخدمة، ولأنه قبِل خدمتكم.” سبيرجن (Spurgeon)
ü “الذين شقّوا طريقهم إلى أورشليم للعبادة، وأكملوا نذورهم هم الآن عائدون إلى ديارهم مرنمين هذه الترنيمة. ولن يتمكنوا من العبادة في الهيكل مرة أخرى إلا في السنة القادمة في رحلتهم. ولدى مغادرتهم المدينة، فإنهم يتشجعون بمعرفة أن الكهنة سيبقون هناك ليمثّلوهم في الهيكل، ولهذا فإنهم سيعبدون الله باستمرار.” بويس (Boice)
ü فهِم مورجان (Morgn) أيضًا أن أولئك الكهنة واللاويين، خدام الرب، يمثّلون كل مجتمع شعب الله. وقد طبّق هذا المبدأ على العبادة المسيحية في عصر حديث. فأية مجموعة صغيرة مجتمعة تمثل بطريقة ما جسد المسيح الكبير القوي.
٣. ٱلْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ بِٱللَّيَالِي: خطر ببال المرنم الكهنة واللاويون الذين لديهم واجبات خاصة في الهيكل، بما في ذلك نوبات الحراسة في بيت الرب.
· “نقرأ في ١ أخبار ٩: ٣٣ أن المرنمين اللاويين كانوا يعملون ليل نهار، وبلا شك، حتى النهاية لكي يُشْبه المَقْدِس الأرضي نوعًا ما ذاك السماوي، حيث يخبرنا يوحنا إن المفديين مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ ٱللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي هَيْكَلِهِ” (رؤيا ٧: ١٥).” هورن (Horne)
· ٱلْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ: غالبًا ما تُحدَّد خدمة الكهنة واللاويين بالفعل ’يقف‘ (انظر مزمور ١٣٥: ٢؛ تثنية ١٠: ٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
· “… ليس نهارًا، بل على نحو الخصوص ليلًا أيضًا عندما تكون نوبتهم أكثر ضرورة (انظر خروج ٢٧: ٢١؛ لاويين ٨: ٣٥؛ ١ صموئيل ٣: ٣. وعندما تحرس ليلًا بينما الآخرون نيام، فإنك تطلق تسابيح والآخرون صامتون.” بوله (Poole)
· “حتى عندما وُضع بولس وسيلا في زنزانة وهما ينزفان بسبب الضربات التي تلقاهما، رنّما تسابيح لله ليلًا (أعمال الرسل ١٦: ٢٥).” بويس (Boice)
· بِٱللَّيَالِي (ليلًا): “إنه أمر سهل نسبيًّا أن نبارك الرب نهارًا عندما تكون أشعة الشمس مثل ابتسامته على وجه الطبيعة، وعندما يكون العالم ممتلئًا بالموسيقى، وعندما تنساب حياتنا بهدوء وسلام. فلا يحتاج المرء إلى نعمة كثيرة لكي يباركك الرب عندئذِ. لكن عندما يغمر الليل الأرض، ويُسكِت بيوت الناس إلى عزلة. وعندما نقف في الظلال التي تكمن حولنا في المَقْدِس، مواجهين أسرار الرعاية الإلهية، والتاريخ، والحياة، والموت… أمور لا يمكن تفسيرها، عندئذ تتعثّر الأغنية على شفاهنا، وتخنق كلامنا.” ميير (Meyer)
ب) الآية (٢): مباركة الله بأيدٍ مرفوعة.
٢ٱرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ ٱلْقُدْسِ، وَبَارِكُوا ٱلرَّبَّ.
١. ٱرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ: لم يكن رفع الأيدي الوضعية الجسمية الوحيدة للصلاة بين قدماء العبرانيين. وكان ملائمًا للتسبيح أيضًا. ويفيد أيضًا معنى توقُّع الحصول على شيء من الله بامتنان، والإحساس بالاستسلام له.
· “كان رفع الأيدي في الصلاة إيماءة. إذ كان بمنزلة توقُّع منهم لنوال بركات من الله وإشارة إلى أنهم تلقّوا نفس هذه البركات.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيرس (Pierce)
٢. ٱرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ ٱلْقُدْسِ (في المكان المقدَّس): ربما تُستخدم كلمة ’القُدْس‘ هنا بشكل أكثر عمومية للإشارة إلى منطقة الهيكل ككل. غير أنه كان للكهنة واللاويين وحدهم إمكان الوصول إلى القدس (بناية الهيكل) نفسه.
· “ربما يتحدث هذا عن العبادة ’في قداسة،‘ كما تشير ١ تيموثاوس ٢: ٨: ’رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً (مقدسة).‘” كيدنر (Kidner)
· “يقرؤها أحدهم من النص العبري: ارفعوا أيديكم، أيها القُدس، أي، يا رجال القُدس.” تراب (Trapp)
٣. وَبَارِكُوا ٱلرَّبَّ: تتكرر الفكرة للتوكيد. ينبغي لشعب الله أن يقدموا له الشكر والكرامة والتسبيح والمجد.
· “يُحَضُّ هؤلاء على ملء الليل بالصلاة واليقظة، وعلى ترك قلوبهم ترتفع في مباركة للرب. وينبغي لصوت التسبيح أن يتردد عبر الليل الصامت ويطفو فوق المدينة النائمة.” ماكلارين (Maclaren)
ثانيًا. البركة الآتية من الرب
أ ) الآية (٣): بركة الخالق.
٣يُبَارِكُكَ ٱلرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ.
١. ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ: نظر صاحب المزمور إلى الله بصفته خالق كل الأشياء. فناشدَ إله كل قوة وتصميم وحكمة بالصلاة الآتية.
· يرى معظم المفسرين في هذا إشارة إلى البركة الكهنوتية الموصوفة في سفر العدد ٦: ٢٣-٢٧.
· “تمتد البركة إلى كل الحياة، أينما يذهب أو يسكن شعب الله، لأن الرب، إله العهد هو ٱلصَّانِعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ، أي ملك الكون. (انظر مزمور ١٢١: ٢).” فانجيميرين (VanGemeren)
· “هل من الممكن أن يخلق السماوات والأرض ولا أن يبارك النفس التي لم يخلقها فحسب، بل فداها أيضًا؟ لا يستطيع ألّا يبارك الذين يباركونه.” ميير (Meyer)
٢. يُبَارِكُكَ ٱلرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ: الفكرة هنا هي أن البركة تأتي من إله كل خليقة تتدفق من صهيون إلى كل واحد من شعبه أينما كان. وهذه خاتمة جميلة وملائمة لترانيم المصاعد. لقد جاء الشعب إلى صهيون في حج لمباركة الرب مرنمين ترانيم المزامير ١٢٠-١٣٤ بفكرة أن بركة الرب ذهبت مع كل واحد من صهيون. فلا تبقى البركة في أورشليم، بل تتدفق منها.
· يُبَارِكُكَ: يستخدم النص العبري (كما هو في النص العربي) صيغة المخاطب المفرد، لا الجمع. لأن الفكرة مستمدة من عدد ٦: ٢٣-٢٧، وأيضًا لأن بركة الرب لا تأتي إلينا كمجتمع فحسب، بل كأفراد أيضًا. فالرب يحب ويبارك كل واحد.
· “لا يستطيع صهيون أن يباركنا. ولا يملك أكثر الخدام قداسة إلا أن يتمنوا لنا البركة. لكن الرب يستطيع أن يبارك، وهو يبارك بالفعل كل واحد منتظر من شعبه.” سبيرجن (Spurgeon)
· إن التصور الروحي لله مختلف عن التصورات الوثنية. فقد فهِم صاحب المزمور أن قوة الله وتأثيره لا يقتصران على أورشليم. فليس الإله الذي صنع السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ إلهًا محليًّا. إذ يستطيع أن يبارك في صهيون ومِنْ صِهْيَوْنَ.
“وهكذا، فإن الفكرة هي إذا باركنا الله في عبادتنا كما يتوجب علينا، عندئذٍ سيباركنا أيضًا بوفرة في حياتنا اليومية. وهذا هو هو الهدف النهائي الوحيد لأي مؤمن بالمسيح – أن يبارِك الله وأن يبارَك منه.” بويس (Boice