تفسير سفر المزامير – مزمور ٢٥
التماس للعون من المتواضع والموقِّر لله
يتبع المزمور ٢٥، (شأنه شأنه عدة مزامير أخرى) النظام الأكروستي في الشعر العبري (حيث يبدأ كل سطر أو مقطع بحرف هجائي متسلسل، وعندما تُجمع الحروف معًا، فإنها تشكل كلمة معينة). ويوجد بعض الشذوذ عن هذه القاعدة في هذا النمط. ويقترح جيمس مونتجمري بويس (James Montgomery Boice) ثلاثة أسباب لوجود تسعة مزامير تتبع هذا النمط (٩، ١٠، ٢٥، ٣٤، ٣٧، ١١١، ١١٢، ١١٩، ١٤٥). أولًا، يُستخدم هذا النمط الأكروستي كأداة شعرية لإضافة جمال وشكل للمزمور. ثانيًا، يعطي الإحساس بأن موضوع المزمور تمّت تغطيته بشكل تام، كما لو أنه بدأ بالألف وانتهى بالياء. ثالثًا، ربما يكون هذا النظام أداة تُستخدم من أجل التشجيع على التعلم والحفظ.
هذا المزمور معنون ببساطة مَزْمُوْرٌ لِدَاوُدَ. ولا نعرف على وجه اليقين الفترة المحددة التي كتبه فيها. إذ مرّ داود بضيقات في مراحل مختلفة كثيرة من حياته. ويمثل المزمور عرضًا رائعًا لقلب مؤمن تعلَّم تعليمًا حسنًا من خلال الأزمات.
“يُقدَّم داود في هذا المزمور كصورة أمينة مصغرة للمؤمن. إذ نجد هنا ثقته المقدسة، وصراعاته الكثيرة، وتعدّياته الكبيرة، وتوبته المُرّة، وأزماته العميقة. ولهذا نرى ذات قلب الرجل الذي كان بحسب قلب الله.” تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
أولًا. يرفع داود نفسه إلى الله بعد أن ضايقه أعداؤه
أ ) الآيات (١-٢): يطرح داود ثقته على الله.
١إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي. ٢يَا إِلهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، فَلاَ تَدَعْنِي أَخْزَى. لاَ تَشْمَتْ بِي أَعْدَائِي.
١. إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي: هذه صورة مجازية تدل على التسليم، والاستسلام، وانتظار لله الذي وجه داود كلامه إليه – الرب (يهوه)، إله عهد إسرائيل. فكما لو أن داود رفع نفسه على يديه المرفوعتين المبسوطتين للسماء قائلًا: “ها أنا بين يديك يا رب، مستسلم لك بشكل كلي.”
· “يتطلب أن يكون هذا المطمح أو السعي إلى الله حصريًّا. ’الكل أو لا شيء على الإطلاق‘ هو متطلب التكريس الحقيقي.” ماكلارين (Maclaren)
· “الهموم والملذات هي الأثقال التي تضغط النفس إلى الأرض وتثبّتها هناك. وروح الصلاة هي التي تمكننا من أن نطرح هذه الأثقال، ونكسر هذه القيود، ونرفع النفس إلى السماء.” هورن (Horne)
٢. يَا إِلَهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، فَلَا تَدَعْنِي أَخْزَى: عندما صرح داود بثقته بالله وتوكله عليه، بدا أنه يتحدث إلى نفسه أكثر من الله. فأكد لنفسه لا ثقته بالرب فحسب، بل أيضًا بالمكافأة المتوقعة عن هذه الثقة – أن لا يُخزى (فَلَا تَدَعْنِي أَخْزَى) أمام الرب أو أعدائه.
٣. لَا تَشْمَتْ بِي أَعْدَائِي (لا تسمح لهم بالانتصار عليَّ): يعطينا هذا بعض سياقٍ لهذا المزمور. فقد كُتِب، شأنه شأن مزامير كثيرة، في وقت ضيق. إذ واجه داود أعداء أرادوا له الأسوأ.
ب) الآيات (٣-٥): توسُّل إلى الله الذي يعين.
٣أَيْضًا كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لاَ يَخْزَوْا. لِيَخْزَ الْغَادِرُونَ بِلاَ سَبَبٍ. ٤طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. ٥دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهُ خَلاَصِي. إِيَّاكَ انْتَظَرْتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ.
١. أَيْضًا كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لَا يَخْزَوْا: ليست فكرة انتظار الرب سلبية بحيث لا يفعل المنتظر شيئًا. بل هي خدمة نشطة. فليست الفكرة فكرة غرفة للانتظار، بل فكرة نادل يهتم بكل رغبة واحتياج للشخص الذي يخدمه. وشمل داود نفسه بين مُنْتَظِرِي الرب، كما يفعل آخرون أيضًا – وأراد أن يتبرّأ كلهم علنًا ولا يخزوا.
· “ليس هذا التماسًا، حسب ترجمة نسخة الملك جيمس، بل هو تثبيت للثقة.” مورجان (Morgan)
· ليست الفكرة الكتابية للخزي بشكل رئيسي أو الإحراج (مع أنها قد تُستخدم هكذا أحيانًا). بل الفكرة الرئيسية هي “الخذلان أو خيبة الأمل بسبب وضع الثقة في شيء تَبّيَّن في النهاية أنه غير جدير بالثقة.” بويس (Boice). وينعكس هذا على نحو خاص على نصوص مثل رسالة رومية ٥:٥ وسفر إشعياء ٢٣:٤٩.
٢. لِيَخْزَ ٱلْغَادِرُونَ بِلَا سَبَبٍ: بدلًا من أن يُحرَج علنًا خدّام الرب، صلّى داود أن يعاني أعداؤه هذا الخزي.
٣. طُرُقَكَ… عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي: يبيّن هذا أنه رغم أن داود تاق إلى تبرئة علنية، إلا أنه لم يكن متغطرسًا أو متكبرًا. فإن احتاج إلى إرشاد أو تصحيح، فقد أراد أن يحصل عليه من الله، وأن يحصل عليه قبل أي إذلال علني ليحوْل دون إذلال علني.
· “يكشف الملتمِس هنا رغبة جادة في أن يعمل إرادة الله بالصلاة إليه طالبًا أن يعرف طرقه وسُبله وحقّه.” فانجيميرين (VanGemeren)
· يمكننا أن نتأكد من أنه ما من شخص عرَّفه الله طريقه، أو علّمه في سبله، أو قاده في حقّه قد انقاد إلى الخطية أو المساومة التي تؤدي إلى الخزي العلني والعار.
٤. لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ خَلَاصِي. إِيَّاكَ ٱنْتَظَرْتُ ٱلْيَوْمَ كُلَّه: لأن داود حصل على الخلاص من الله، فقد دفعه هذا إلى أن ينتظر الرب أكثر مما فعل في الماضي. كان هذا إظهارًا ملائمًا للتكريس والعرفان بالجميل لله الذي فعل الكثير من أجله.
· ينبغي أن ننظر إلى الخلاص الذي حصل عليه داود بصفته إنقاذًا بمعنى واسع. فمن ناحية روحية، لقد أُنقِذ من اليأس والخطية، الآن وفي الحياة القادمة. غير أن الله أنقذ حياته وصحته مرة تلو الأخرى في هذا الدهر.
ج) الآيات (٦-٧): توسُّل إلى الله إلى أن يتذكر ولا ينسى.
٦اذْكُرْ مَرَاحِمَكَ يَا رَبُّ وَإِحْسَانَاتِكَ، لأَنَّهَا مُنْذُ الأَزَلِ هِيَ. ٧لاَ تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلاَ مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ اذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ.
١. ٱذْكُرْ… يَا رَبُّ: طلب داود من الله أن يتذكر رحمته وصلاحه (إِحْسَانَاتِكَ). أولًا، وصفها بأنها مَرَاحِمُ: وكأنها رحمة فوق رحمة (racham racham حيث يفيد التكرار تكثيف المعنى وتوكيده). ثم استخدم صيغة الجمع للكلمة الرائعة إحسان (إِحْسَانَاتِكَ) (hesed)، وهي تتحدث عن محبة عهد الله العميقة.
· “المحبة الثابتة، أو المحبة الحقيقية هي أمانة أو إخلاص لعهد، ويمثل التكريس الزوجي تمثيلًا قياسيًّا لها.” كيدنر (Kidner)
· “هذه هي المحبة التي يرتبط بها الله في علاقته المواتية بشعبه واعدًا بأن يكون إلههم.” بويس (Boice)
· فكّر داود بهذه المحبة بصيغة الجمع – إِحْسَانَات – كما لو أن محبة عهد الله عظيمة جدًّا حتى إنه لا يمكن تصوُّرها بصيغة المفرد.
٢. لِأَنَّهَا مُنْذُ ٱلْأَزَلِ هِيَ: عبّر داود عن طلبته لله على أساس عمله السابق: “يا رب، أريتني رحمة عظيمة ومحبة عهدِيّة في الماضي. فتذكّر ذلك الآن، وارحمني الآن في ضعفي الحالي.”
· “الترجمة الصحيحة هي ’منذ الأزل‘ (كما هي بالعربية) لا ’من قديم‘ كما في بعض الترجمات. فقد كان داود مؤمنًا راسخًا بعقيدة محبة الله الأزلية. فإحسانات الله (اللطف أو الكرم المتسم بالمحبة) ليس شيئًا مستجدًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لَا تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ: بعد أن طلب داود من الله أن يتذكر في مزمور ٦:٢٥، طلب منه فورًا أن ينسى. أراد من الله أن ينسى خطايا صباه (بمعنى أن يغفرها). وأراد أن يتذكر الله أمانته في أوقات سابقة.
· خَطَايَا صِبَايَ: “رغم أن داود ارتكبها منذ فترة طويلة، إلا أنها لا يُتوجب أن تُذكر بلا ندم.” تراب (Trapp)
· “عندما يتذكر الله رحمته، فإنه ينسى خطايانا.” هورن (Horne)
٤. كَرَحْمَتِكَ ٱذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ: هذه تعابير قوية عن تذلُّل داود وحتى توبته. فقد طلب من الله أن يذكره لا على أساس استحقاق أو ميزة، بل على أساس رحمته. وأراد من الله أن يذكر وينسى كل تلك الأمور من أجل صلاحه (مِنْ أَجْلِ جُودِكَ)، لا من أجل صلاح داود المفترض.
· “لم يتوسل أي سجين محكوم بالإعدام بجدية من أجل حياته بقوة أكبر مما توسل داود من أجل الصفح عن إساءاته، وبشكل خاص في ما يتعلق بأوريّا، إذ كانت ثقيلة جدًّا عليه.” تراب (Trapp)
ثانيًا. الإعلان عن صلاح الله
أ ) الآيات (٨-١١): صلاح الله للودعاء.
٨اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذلِكَ يُعَلِّمُ الْخُطَاةَ الطَّرِيقَ. ٩يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ، وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ. ١٠كُلُّ سُبُلِ الرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ. ١١مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ اغْفِرْ إِثْمِي لأَنَّهُ عَظِيمٌ.
١. الرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذَلِكَ يُعَلِّمُ ٱلْخُطَاةَ: لم يتعلم داود هذه الملاحظة من خلال المنطق البسيط. إنه أمر منطقي أن يدين أو يُهلك الله الخطاة كما هو منطقي أيضًا أن يعلّمهم. غير أن داود قد تعلَّم من خلال المحبة أكثر مما تعلّم من خلال المنطق أن الله صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، وأن هذا الصلاح يمكن أن يكون لفائدة الخطاة بدلًا من هلاكهم.
٢. يُدَرِّبُ (يرشد) ٱلْوُدَعَاءَ فِي ٱلْحَقِّ وَيُعَلِّمُ ٱلْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ: عرف داود أن هنالك نوعًا من الخطاة الذين ينالون تعليمًا وإرشادًا من الله، وهم ٱلْوُدَعَاءُ. وليس كل خاطئ يحصل على هذه الأشياء الصالحة من الله، لكن الذين يحصلون عليها يتضعون أمامه.
· “تحظى الأرواح الوديعة بحظوة لدى الله أبي يسوع الوديع المتواضع، لأنه سيرى فيهم صورة ابنه المولود الوحيد.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. كُلُّ سُبُلِ ٱلرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ: هذا وعد رائع. والشروط هي أن يبقى المرء في عهد الله وفي كلمته (شَهَادَاتِهِ)، بمعنى أنه يعرفها ويطيعها في الوقت نفسه. والوعد هو أن الله سيُظهر باستمرار رَحْمَةً وَحَقًّا في كل ما نحياه ونختبره.
· يمكننا أن نتخيل مؤمنًا محبَطًا يقول: “سبُل الله بالنسبة لي قاسية ورهيبة، على الأقل في هذه اللحظة.” وردُّ داود عليه من معرفته وخبرته هو: “كُلُّ سُبُلِ ٱلرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ للذين يبقون في عهده وفي كلمته. ركز مرة أخرى على عهده وشهاداته، وسترى ذلك بنفسك.”
· سُبُل ٱلرَّبِّ: “أجد أن هذه الكلمة العبرية المستخدمة هنا تدل على آثار ’مسارات عربات،‘ مثل الشقوق والآثار التي تتركها العربات وهي تنحدر في طرقات خضر في طقس ماطر أو تنغرز فيها حتى محاورها. تشبه طرق الله أحيانًا مسارات العربات الثقيلة، وهي تترك آثارًا عميقة في نفوسنا، غير أنها كلها رحمة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “الرحمة والحق هما السبيلان اللذان يسلك الله فيهما دائمًا في ما يتعلق بالبشر. ولهذا كثيرًا جدًّا ما يُظهر لهم رحمة وكثيرًا جدًّا ما يحقق حقّه حتى تُميَّز سبله بطريقة جادة. فكم مرةٍ تعامل مع كل عائلة وفرد، وترك فيهم آثارًا عميقة، وضاعفها فيهم!” كلارك (Clarke)
· كُلُّ سُبُلِ ٱلرَّبِّ: “يقولون إنه لا توجد قاعدة من دون استثناء، لكن يوجد استثناء لهذه القاعدة. فكل معاملات الله مع شعبه متسمة بالرحمة والنعمة والأمانة.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَارَبُّ ٱغْفِرْ إِثْمِي لِأَنَّهُ عَظِيمٌ: مرة أخرى نرى تعبيرًا قويًا عن تذلُّل داود. فقد توقع غفرانًا من أجل الله لا من أجله. فهو يقر بتواضع بعِظَم إثمه.
· خطيتنا عظيمة:
ü خطيتنا عظيمة عندما نضع في اعتبارنا من الذي أخطأنا بحقّه.
ü خطيتنا عظيمة عندما نضع في اعتبارنا أنها ضد ناموس عادل ومنصف.
ü خطيتنا عظيمة عندما نضع في اعتبارنا أن من ارتكبها هم مخلوقين على صورة الله.
ü خطيتنا عظيمة عندما نضع في اعتبارنا كمّيّتها.
· إنه منطق روحي غريب (لكن صحيح): ٱغْفِرْ إِثْمِي لِأَنَّهُ عَظِيمٌ. يمكننا أن نتخيل مجرمًا في محكمة يحتكم إلى القاضي على هذا الأساس: “يا سيدي القاضي، أرجو ألا تحكم عليّ بأني مذنب، لأن جرائمي كثيرة وكبيرة!”
· بدا أن داود عرف الحرية والسلام النابعين من قوله: “يا رب، أنا خاطئ كبير، لكنك مخلص أكبر. أنا أخضع نفسي أمامك طالبًا منك: ٱغْفِرْ إِثْمِي.”
ب) الآيات (١٢-١٤): صلاح الله للإنسان الذي يوقّره.
١٢مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الْخَائِفُ الرَّبَّ؟ يُعَلِّمُهُ طَرِيقًا يَخْتَارُهُ. ١٣نَفْسُهُ فِي الْخَيْرِ تَبِيتُ، وَنَسْلُهُ يَرِثُ الأَرْضَ. ١٤سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ، وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ.
١. مَنْ هُوَ ٱلْإِنْسَانُ ٱلْخَائِفُ ٱلرَّبَّ؟ يُعَلِّمُهُ: يستخدم داود أداة التكرار في الشعر العبري ويطرح فكرة التواضع (مزمور ٩:٢٥) إلى جانب فكرة خوف الله المتسم بالتوقير. وهاتان الفكرتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا. ويمكن لهذا الشخص المتواضع الموقر لله أن يتوقع هبة إرشاد الله وتعليمه.
٢. نَفْسُهُ فِي ٱلْخَيْرِ تَبِيتُ (يسكن في ازدهار): وصف داود البركات الأرضية المادية التي غالبًا ما تأتي إلى الشخص المتواضع الموقر لله. ونحن نحس بأن داود قال هذا بإيمان. فرغم أن الوضع كان صعبًا وسيئًا، إلا أنه وثق بأن الازدهار (ٱلْخَيْرَ) والبركة لنسله ستأتي في الوقت المناسب.
٣. سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ، وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ (وهو يريهم عهده): بعد أن تطرَّق داود إلى البركات المادية التي يمكن أن تأتي إلى الشخص المتواضع الموقر لله، فإنه يتحدث الآن عن أعظم بركة يمكن أن يحصل عليها المرء، وهو سِرُّ ٱلرَّبِّ وفهمٌ أعظم لعهده.
· “التعبير العبري المقابل لفكرة ’الرب يأتمن أسراره‘ هو ’سِرُّ ٱلرَّبِّ‘ ويمكن أن يترجَم هنا إلى ’الدائرة الحميمة‘ (انظر سفر أيوب ١٩:١٩؛ ٤:٢٩؛ سفر الأمثال ٣٢:٣). والذين يفعلون مشيئته هم المؤتمَنون على أسراره، كما كان إبراهيم مؤتمَنًا عليها (سفر التكوين ١٧:١٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
· “ربما يفهم الناس ذلك على أنه صداقة، ويدل على تواصل مألوف، حميمية سرية، وشركة مختارة. وهذا سر عظيم. ولا تستطيع العقول الجسدية أن تحزر ما هو مقصود بهذا، وحتى المؤمنون لا يستطيعون أن يعبروا عنه بكلمات، لأنه يتوجب أن يُحَس بأنه معروف.” سبيرجن (Spurgeon)
- “سواء أترجمنا الكلمة الأولى إلى ’سر‘ أم ’صداقة،‘ فإن المعنى هو نفسه بشكل أساسي. وتميل طاعة يهوه ومخافته الحقيقية إلى تمييز مقاصده، وسيكافأ ذلك أيضًا بهمسات من السماء.” ماكلارين (Maclaren)
· سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ: يذكّرنا هذا بأن هنالك حقائق المعرفة والخبرة التي لا يعرفها إلا الذين لديهم الحياة الجديدة بروح الله: “وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا” (رسالة كورنثوس الأولى ١٤:٢). ويشبه شرح مثل تلك الأسرار لأولئك الذين لا يمتلكون روح الله شرْح الألوان لشخص أعمى أو شرح الألحان الموسيقية لشخص أصم.
· “هنالك نصوص سرية من المحبة بين المسيح والنفس المؤمنة لا يسوغ النطق بها. صداقة سامية، وبركات عميقة.” ميير (Meyer)
ثالثًا. عينان نحو الله من أجل عون
أ ) الآية (١٥): عينان نحو الله، حتى في وسط الضيق
١٥عَيْنَايَ دَائِمًا إِلَى ٱلرَّبِّ، لِأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ ٱلشَّبَكَةِ.
١. عَيْنَايَ دَائِمًا إِلَى ٱلرَّبِّ: قال داود هذا كحقيقة وصلاة من أجل المستقبل في الوقت معًا. فقد عرف أهمية حفاظ تركيز عقله ونفسه على ٱلرَّبِّ.
· “هو ينظر بثقة وينتظر برجاء. ويمكننا أن نضيف إلى هذا نظرة الإيمان والرجاء، نظرة الطاعة للخدمة، ونظرة التوقير المتواضعة، ونظرة إعجاب العجب، ونظرة التأمل الجادة، ونظرة المحبة الرقيقة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ ٱلشَّبَكَةِ: يذكّرنا هذا بأن هذا المزمور كُتب في وقت ضيق أحس فيه داود أنه عالق في شرك. كانت قدماه (رِجْلّيَّ) ما زالتا في ٱلشَّبَكَةِ التي نصبها أعداؤه له.
ب) الآيات (١٦-٢١): تقديم توسُّل من أجل العون مرة أخرى.
١٦اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا. ١٧اُفْرُجْ ضِيقَاتِ قَلْبِي. مِنْ شَدَائِدِي أَخْرِجْنِي. ١٨انْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَتَعَبِي، وَاغْفِرْ جَمِيعَ خَطَايَايَ. ١٩انْظُرْ إِلَى أَعْدَائِي لأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا، وَبُغْضًا ظُلْمًا أَبْغَضُونِي. ٢٠احْفَظْ نَفْسِي وَأَنْقِذْنِي. لاَ أُخْزَى لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. ٢١يَحْفَظُنِي الْكَمَالُ وَالاسْتِقَامَةُ، لأَنِّي انْتَظَرْتُكَ.
١. اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي: نرى هنا أن داود لم يتردد في تكرار طلبته من الله، وقد فعل ذلك بطريقة ذكية بتغيير الفكرة. ففي الآية ١٥، تحدَّث كيف أنه ثبّت انتباهه على الرب. وهنا يطلب من الله أن يلتفت إلى احتياجات خادمه.
٢. وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ… ضِيقَات… شَدَائِد… ذُلِّي وَتَعَبِي: جاء هذا المزمور العذب المريح من وقت عذاب لداود. وقد جاء قدر كبير من العذاب من الأعداء، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا ضده.
· قبل ألف سنة من بولس، عاش داود ما كتبه الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ٨:٤-١٠ “مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا.”
٣. وَٱغْفِرْ جَمِيعَ خَطَايَايَ: فكأنّ داود يقول: “لديّ أعداء كثيرون، ومتاعب كثيرة، لكنها ليست أعظم من جَمِيعِ خَطَايَايَ.”
٤. عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ… ٱنْتَظَرْتُكَ: لن تمنع شدة داود الحالية إياه من الثقة بالله وخدمته. كانت تلك علاقة عميقة لا تتضرر بسهولة أو تنتهي بسبب خيبة الأمل.
ج) الآية (٢٢): طلبة ختامية.
٢٢يَا ٱللهُ، ٱفْدِ إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ.
١. يَا ٱللهُ، ٱفْدِ إِسْرَائِيلَ: لا ندري إن جاء هذا المزمور من وقت سابق لاعتلاء داود عرش إسرائيل أو لاحق لذلك. لكن في الحالتين كان لدى داود اهتمام عميق ببركة شعب الله وخيره ككل، لا بنفسه فقط.
· “إن لم تشفق عليَّ ولم تساعدني، فاشفق على شعبك الذين يعانون من أجلي وفي معاناتي.” بوله (Poole)
٢. مِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ: إنه لأمر جدير بالملاحظة أن داود يفرد مساحة للاهتمام بالآخرين والصلاة من أجلهم وهو في وقت ضيق شديد. ويبيّن هذا أنه شخص تَدَرَّب في طرق الله، كما تبيّن صلاته في الآيات السابقة: ٨-١٤.
· يتمثل واحد من أسوأ جوانب الشدة والمحنة في حياة المؤمن في كيفية تحويل تركيزه إلى نفسه ومشكلاته. لكن داود في تواضعه وتوقيره لله اقتيدَ إلى طريق أفضل.