تفسير سفر المزامير – مزمور ٥٨
كلمات إلى القُضاة الأشرار وضدهم
عنوان هذا المزمور هو لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى ’لَا تُهْلِكْ!‘ مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ. وتشير عبارة ’لَا تُهْلِكْ!‘ إلى لحن، أو إلى تصميم داود على عدم قتل شاول، أو إلى تضرُّع من داود ألّا يسمح لأعدائه بأن يقتلوه.
لاحظنا أن كلمة ’مُذَهَّبَة‘ (Michtam) تعني ’ذهبي،‘ وأنها تشير إلى مزامير ذهبية (مذهّبة). ويقدم بعض المفسرين معنى بديلًا لهذه الكلمة، قائلين إنها تدل على نقش. وقد استخدم أحد المفسرين هذه الفكرة ليتصور داود وهو يكتب هذه المزامير على جدران الكهوف التي كان يلجأ إليها.
“المعنى الصحيح لكلمة ’مُذَهَّبَة‘ هو ’ينقش‘ أو أن يختم معدنًا. ولهذا فإن معناها الحرفي هو ’نقش‘ أو ’نحت.‘ ومن هنا تترجمها الترجمة السبعونية إلى (Stelographia) أي ’نقش على عامود.‘ ويمكنني أن أجازف بتخمين يوافق هذا الرأي. ويبدو من عناوين أربعة من هذه المزامير أنها كُتبت بينما كان داود هارًبا أو مختبئًا من اضطهادات شاول. فما الذي يمنعنا من التخيل أنها نُقشت على الصخور أو جوانب الكهوف التي كثيرًا ما شكلت ملجأ لداود؟ وينسجم هذا الرأي مع المعنى اللفظي لهذه الكلمة، ويشرح الترجمة السبعينية.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جِب (Jebb)
أولًا. مخاطبة الحكام الأشرار
الآيات (١-٢): تحدٍّ للقضاة الأشرار.
١أَحَقًّا بِالْحَقِّ الأَخْرَسِ تَتَكَلَّمُونَ، بِالْمُسْتَقِيمَاتِ تَقْضُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ ٢بَلْ بِالْقَلْبِ تَعْمَلُونَ شُرُورًا فِي الأَرْضِ ظُلْمَ أَيْدِيكُمْ تَزِنُونَ.
١. بِالْمُسْتَقِيمَاتِ تَقْضُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ (أتَقْضُونَ بِالعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ؟): يوجّه داود هذا المزمور ضد الحكام الذين كانوا بمعنى ما قُضاة. ويعتقد كثيرون أنهم كانوا قضاة متحالفين مع شاول الذي أصدر حكمًا بالموت على داود بتهمة الخيانة. فتحدّى داود هؤلاء الحكام وصواب قراراتهم.
· نتصور داود طريدًا، ربما في كهف عدلام، ثم يصل رسول ويخبره أن قادة محاكم مقربين إلى شاول اجتمعوا وحكموا بأنه خائن وأن عقابه العادل هو الموت. وعندئذ يسخط داود ويُطلق هذا المزمور.
· “بعد أن حاول شاول أن يقتل داود، اضطر الثاني إلى الهرب من القصر، ولجأ إلى صحارى اليهودية. ويفترض الأسقف باتريك أن شاول، عندما افتقد داود، دعا مجلسًا تملّق أعضاؤه الملك ليحصلوا على رضاه، فاجتمعوا وحكموا على داود بالخيانة في محاولته اعتلاء عرش إسرائيل. فكانت معرفة داود بهذا الخبر سببًا لكتابة هذا المزمور.” كلارك (Clarke)
· كان لجون تراب (John Trapp) رأيه الخاص. “هنا تحدَّث داود إلى أبنير وبقية القادة الذين، في سعيهم إلى استرضاء الملك، أعلنوا أن داود متمرد، وأدانوه غيابيًّا بصفته عدوًّا للدولة.” (تراب)
· “بدلًا من أن نَقْصُر معنى ’القضاة‘ على مجال النزاعات القانونية، ربما يَحْسُن بنا أن نتبع استخدام جذر الكلمة العبرية في مزمور ١١:٥٨ وفي مزمور ٩:٩٨ب. وهو يعني ’يحكم‘ أو ’يقود.‘” فانجيميرين (VanGemeren)
· كان داود ساخطًا على الفساد، ربما لأنه أحس بلسعته. فعادة البشر هي أن لا يأبهوا بالفساد الإداري والقانوني إلى أن يؤذيهم شخصيًّا.
٢. أَحَقًّا بِٱلْحَقِّ ٱلْأَخْرَسِ تَتَكَلَّمُونَ؟ (لِمَاذَا تَصْمِتُونَ عَنِ العَدلِ أيُّهَا القَادَةُ العِظَامُ؟): ربما يوجد سؤال حول أفضل ترجمة لتعبير ’ٱلْأَخْرَسِ‘ هنا. فإذا أخذنا النص كما هو، فإن داود يتحدى الذين كان يفترض أن يدافعوا عنه وعن الأبرياء الآخرين، لكنهم بقوا صامتين (ٱلْأَخْرَسِ).· “يعبّر الاستجواب هنا عن التعجب كما لو أنه شيء لا يكاد يصدَّق. فهل يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ هل هذا معقول؟ هل أنتم صامتون حقًّا يا من يفترض أن منصبكم يحتّم عليكم أن تتكلموا نيابة عن الله وضد خطايا البشر؟” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن ألكزاندر (Alexander)
· “تكمن المشكلة في أن هؤلاء القضاة لم يرفعوا أصواتهم ليبيّنوا المسار الصحيح للأمور بينما كان هنالك تخطيط للشر.” بويس (Boice)
· تتبع بعض الترجمات تقليدًا مختلفًا للمخطوطات وتترجم كلمة ٱلْأَخْرَسِ إلى ’الحكام.‘
٣. بَلْ بِٱلْقَلْبِ تَعْمَلُونَ شُرُورًا: بعد أن شكّك داود في كلام أعدائه وعدالتهم، يتفحّص هنا نيّاتهم وأعمالهم. كانوا ينوون أن يفعلوا الإثم، وهم بهذا ينشرون العنف في الأرض.
· “لا يقول صاحب المزمور إنه كان إثم أو شر في قلوبهم، بل كانوا يعملون شُرُورًا هناك. فالقلب هنا مَشْغل، مَصنع تحت الأرض. فهناك كانوا يخترعون ويزيفون ويصوغون مقاصدهم الشريرة، ويكيّفونها في أعمال.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
· قال داود إنهم يقيسون عنفهم تجاه الآخرين (ظُلْمَ أَيْدِيكُمْ تَزِنُونَ)، وينفّذونه بعد تفكير متأنٍّ ومداولات. وكما يفكر القضاة الأبرار في القانون، ويوازنون الأدلة، ويزنون القضية، كذلك ينفّذ الأشرار الظلم بحقد ورغبة في الأذى بشكل مدبَّر وبدمٍ بارد.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٣-٥): وصف للحكام الأشرار.
٣زَاغَ الأَشْرَارُ مِنَ الرَّحِمِ. ضَلُّوا مِنَ الْبَطْنِ، مُتَكَلِّمِينَ كَذِبًا. ٤لَهُمْ حُمَةٌ مِثْلُ حُمَةِ الْحَيَّةِ. مِثْلُ الصِّلِّ الأَصَمِّ يَسُدُّ أُذُنَهُ، ٥الَّذِي لاَ يَسْتَمِعُ إِلَى صَوْتِ الْحُوَاةِ الرَّاقِينَ رُقَى حَكِيمٍ.
١. زَاغَ ٱلْأَشْرَارُ مِنَ ٱلرَّحِمِ: يشخص داود مشكلة القضاة. فهم أشرار من أصولهم، في طبيعتهم، من ولادتهم. وقد فهِم داود أن هذا الأمر ينطبق على كل البشر، بمن فيهم هو نفسه (مزمور ٥:٥١).
· “الوصف في الآيات ٣ فصاعدًا، وهو المقتبس في رسالة
رومية ١٠:٣ فصاعدًا، كافٍ لينبّه القارئ إلى أنه ليس أمام صورة فوتوغرافية، بل مرآة.” كيدنر (Kidner)
· “قال ج. ك. تشيسترسون (G.K. Chesterson) إن عقيدة الخطية الأصلية هي الفلسفة الوحيدة التي تمّ التحقق من صحتها تجريبيًّا على مدى ٣٥ قرنًا من التاريخ البشري.” بويس (Boice)
· “إننا آثمون بالفعل بطبيعتنا وبلطخة الولادة التي نجلبها إلى العالم معنا والتي تجعلنا غرباء متباعدين عن الله.” تراب (Trapp)
· “في الآيات القليلة التالية، تكوَّم صور بلاغية فوق صور بلاغية بطريقة موحية بعاطفة شديدة.” ماكلارين (Maclaren)
٢. ضَلُّوا مِنَ ٱلْبَطْنِ، مُتَكَلِّمِينَ كَذِبًا: كانت طبيعتهم الفاسدة واضحة في مرحلة مبكرة من حياتهم، ولاسيما في كلامهم. فلا يعلّم أحد الطفل كيف يكذب. ومع بعض الغُلُوّ الشعري، يمكننا القول إنهم مولودون وهم يتكلمون بأكاذيب.
· “عدم الصدق أصدق برهان على الحالة الساقطة. وبما أن الزيف شمولي، فإن البشرية كلها فاسدة.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لَهُمْ حُمَةٌ مِثْلُ حُمَةِ ٱلْحَيَّةِ: ليست أكاذيبهم غير مؤذية (ليست أكاذيب بيضاء!)، بل هي مثل السم. فلكلام القضاة والحكام قوة خاصة لقمع الآخرين، فسُمُّهم مميت. وكلماتهم خطرة مثل سم حية الكوبرا القاتلة التي لا يمكن التنبؤ بحركاتها.· “الأشرار خطرون مثل الكوبرا السامة التي تلدغ مدربها عندما يلمسها أو يتعامل معها.” فانجيميرين (VanGemeren)
ثانيًا. مخاطبة الله الذي يدين الأشرار
أ ) الآيات (٦-٨): داود يناشد الله تدمير الأشرار.
٦اَللَّهُمَّ، كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ. اهْشِمْ أَضْرَاسَ الأَشْبَالِ يَا رَبُّ. ٧لِيَذُوبُوا كَالْمَاءِ، لِيَذْهَبُوا. إِذَا فَوَّقَ سِهَامَهُ فَلْتَنْبُ. ٨كَمَا يَذُوبُ الْحَلَزُونُ مَاشِيًا. مِثْلَ سِقْطِ الْمَرْأَةِ لاَ يُعَايِنُوا الشَّمْسَ.
١. اَللَّهُمَّ، كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ: صلى داود أن ينتقم الله من القضاة الخطرين. كانت قوة الأفاعي والأسود في أنيابهم. ولهذا طلب داود أن ينتزع الله منهم لدغتهم المميتة.
· “قد تبدو الطبيعة الافتصاصية لهذه الصلاة غريبة على آذاننا، لكن الطبيعة الجذرية للشر تتطلب استجابة من إله العدالة.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “إذا لم يكن لديهم القدرة على فعل الخير أو الصلاح، فعلى الأقل، جرِّدْهم من قدرتهم على الشر.” سبيرجن (Spurgeon)
· أَسْنَانَهُمْ: “أي الأنياب الكبيرة التي تسمى طواحين، وهي أكثر حدة وقوة من الأسنان الأخرى. وهي تُستخدم في تكسير الطعام وتقطيعه قبل تناوله.” بوله (Poole)
٢. كَمَا يَذُوبُ ٱلْحَلَزُونُ مَاشِيًا: طلب داود التشتت السريع والكامل لهؤلاء الأشخاص وقوّتهم – كَمَا يَذُوبُ ٱلْحَلَزُونُ.
· “دعهم يتلاشوا مثل المياه التي تجري أحيانًا في الصحراء، لكنها سرعان ما تتبخر بسبب الشمس أو بفعل امتصاص الرمال لها.” كلارك (Clarke)
· “في واقع الأمر، لا تذوب الحلزون عندما يزحف على الأرض تاركًا ذنبه اللزج وراءه، لكن يبدو كذلك.” بويس (Boice)
٣. مِثْلَ سِقْطِ ٱلْمَرْأَةِ: استخدم داود صورة قاسية صادمة في صلاته من أجل موت أعدائه. وهو هنا يتمنى لو أنهم لم يولَدوا ليروا شمس النهار.
· “لا تنضج حياتهم أبدًا، ولا تتحقق أهدافهم. وإنجازهم الوحيد هو أنهم جلبوا التعاسة والرعب لآخرين. ومن أمثال ذلك هيرودس ويهوذا وآلفا وبونر. ألم يكن أفضل لو أن هؤلاء لم يولدوا؟” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٩-١١): ثقة داود بدينونة الله.
٩قَبْلَ أَنْ تَشْعُرَ قُدُورُكُمْ بِالشَّوْكِ، نِيئًا أَوْ مَحْرُوقًا، يَجْرُفُهُمْ. ١٠يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ إِذَا رَأَى النَّقْمَةَ. يَغْسِلُ خُطُواتِهِ بِدَمِ الشِّرِّيرِ. ١١وَيَقُولُ الإِنْسَانُ: «إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَرًا. إِنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ قَاضٍ فِي الأَرْضِ»
١. قَبْلَ أَنْ تَشْعُرَ قُدُورُكُمْ بِٱلشَّوْكِ: هذه السطور العبرية صعبة، لكن ربما تكون الفكرة هي أن داود وضع في اعتباره مدى سرعة احتراق حزمة من الأشواك الجافة في نار تحت أواني الطبخ. وهو يصلي هنا أن تأتي الدينونة على الأشرار كوميض نار.
٢. ٱلصِّدِّيقُ إِذَا رَأَى ٱلنَّقْمَةَ: فكّر داود بسعادة الأبرار عند دينونة الأشرار، كما لو أن الأبرار يسيرون في ميدان الانتصار في معركة الله (يَغْسِلُ خُطُواتِهِ بِدَمِ ٱلشِّرِّيرِ).
· “إن كان صوابًا لله أن يُهلك، فلا يمكن أن يكون خطأ لخدامه أن يبتهجوا بما يفعلونه. لكن عليهم أن يحْذروا من أن تكون عاطفتهم مختلطة بالإشباع الأناني، وغير مختلطة بالشفقة الرزينة على فاعلي الشر الذين كانوا هم أنفسهم ضحية له.” ماكلارين (Maclaren)
· “إنها لعاطفة مريضة وضعْفٌ شرير أن يكون لدينا تعاطف أكبر مع الظالمين الفاسدين من تعاطفنا مع غضب الله.” مورجان (Morgan)
· في ما يتعلق الأمر بالابتهاج بانتصار الله على الذين يقمعون الآخرين بشرّهم، “يتفوق العهد الجديد في استخدام هذه اللغة في حديثه عن يوم الحساب (مثلًا، رؤيا يوحنا ٩:١٤ فصاعدًا؛ ١١:١٩ فصاعدًا)، مع التنصل من الأسلحة الجسدية في الحرب الروحية (رؤيا يوحنا ١١:١٢).” كيدنر (Kidner)
· “من الصعب، لكن ليس مستحيلًا، أن نأخذ كل ما يعبّر عنه هذا المزمور ونخففه ببعض من روح ذاك الذي بكى على أورشليم وأعلن دينونتها ودمارها.” ماكلارين (Maclaren)
٣. إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَرًا (مكافأة). إِنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ قَاضٍ فِي ٱلْأَرْضِ: رغب داود في أن يرى العالم أن هنالك نظامًا أخلاقيًّا يحكمه الله، حيث يكافَأ البر (إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَرًا) ويعاقَب الشر. وقد تاق داود إلى العدالة التي أنكرها عليه الأشرار.
· “سيُجبر كل البشر برؤيتهم للدينونة النهائية على أن يروا أن هنالك إلهًا، وأنه هو الحاكم البار لهذا الكون. وسيظهر شيئان بوضوح – أن هنالك إلهًا، وأن هنالك مكافأة للبر.” سبيرجن (Spurgeon)
· إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَرًا (مكافأة): “نعم، يا من أنت ابنٌ لله. هنالك مكافأة لك. فلم تغسل يديك في النقاوة عبثًا. لكنها تأتي في صورة المكافآت الأرضية من مال ومكانة في هذا الدهر، وإلا فستكون زائلة قابلة للهلاك. فالله يعطيك بالفعل مما هو أبدي وإلهي – فرحًا وسلامًا وبركة. وذات يوم ستبرَّأ بشكل كامل.” ميير (Meyer)