تفسير سفر المزامير – مزمور ٨٦
عون من الإله العظيم
عنوان هذا المزمور هو صَلَاةٌ لِدَاوُدَ. لا يمكننا أن نتتبع هذا المزمور إلى فترة زمنية محددة من حياة داود، لأن هنالك نقاطًا كثيرة ممكنة من ظروفه العامة يمكن ربطه به. ويتميز هذا المزمور باستخدام داود كلمة “أدوناي” (السيد) سبع مرّات لدى الإشارة إلى الله.
“هنالك أربعة مزامير أخرى تدعى بهذا الاسم، ’صلاة‘ أو بالعبرية ’تفيلة‘ (Tephillah) لكن تستحق أن تميَّز من الصلوات الأخرى لأنها صَلَاةٌ لِدَاوُدَ، وهي تحمل مذاق داود، بينما يحمل المزمور التسعون مثلًا اسم: صلاة لموسى. وفي مزمورنا هذا، يتوسل رجل الإخلاص، والولاء، والتجارب، والأخطاء، والقلب العظيم، ويتضرع، وينشج، ويثق من خلال كل آيات هذا المزمور.” شارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)
أولًا. توسُّل للعون مع إبداء السبب
أ ) الآية (١): ساعدني بسبب احتياجي العظيم.
١أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ. ٱسْتَجِبْ لِي، لِأَنِّي مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا.
١. أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ: استخدم داود هذا التعبير اللغوي للحديث عن احتياجه الشديد. والفكرة – وهي مجازية بطبيعة الحال – هي أن الله في السماء يميل رأسه إلى الأرض ليستمع إلى توسل داود من أجل العون – صرخة داود: ٱسْتَجِبْ لِي.
· “عندما تكون صلواتنا متواضعة بسبب إذلالنا، أو ضعيفة بسبب مرضنا، أو بلا أجنحة بسبب قنوطنا، ينحني الرب المرتفع بلا حدود نحوها، ويحترمها.” سبيرجن (Spurgeon)
· بعد أن قدم داود هذه الطلبة، أعطى بعض الأسباب التي توجب الاستجابة إلى صلاته. فكّر داود بعناية في صلاته، وقدّم كُلًّا من طلبات وأسباب لله. “والمزمور فريد في أسلوبه في الحث والالتماس على أساس حقيقة ما معروفة.” مورجان (Morgan)
٢. لِأَنِّي مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا: كان هذا أول سبب من بين عدة أسباب تدعو إلى الاستجابة للطلبة المقدمة في الشطر الأول. احتكم داود إلى تعاطف الله ورأفته. فلا يمكن لإله قاسي القلب أن يهتم بأمر إنسان مِسْكِينٍ وَبَائِسٍ، بل ربما يحتقره. غير أن داود عرف أن الله ممتلئ بالرأفة، وأنه يتأثر بحقيقة كون داود مِسْكِينًا وَبَائِسًا، وهو أمر اعترف داود نفسه به.
· إنه لأمر ذو دلالة أن داود بدأ توسّله بهذا. إذ كان فهْمه لمحبة الله ورأفته أمرًا أساسيًّا.
· لم يكن داود خائفًا من أن يتواضع، كما نفعل أحيانًا. “قد يبدو أن اعترافه بأنه مسكين وبائس أمر مهين، وأن كونه عبدًا أمر غير جدير به. إذ نريد أن نكون أشخاصًا يستحقون شيئًا من الله بسبب هويتنا أو طبيعتنا.” بويس (Boice)
ب) الآية (٢): ساعدني لأنّ لي صلة بك.
٢ٱحْفَظْ نَفْسِي لِأَنِّي تَقِيٌّ. يَا إِلَهِي، خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ.
١. ٱحْفَظْ نَفْسِي: جعلت مشكلة داود إياه في حالة يأس. إذ أحس بأنه من دون عون الله سيهلك. فبالنظر إلى الأشخاص الكثيرين ضده (كما في الآية ١٤)، كان لديه ما يدعوه إلى القلق.
· غير أننا لا نجد تفاصيل حول طبيعة احتياج داود. نعرف أن هذا الاحتياج كان صعبًا، وأحس بأنه كان يهدد حياته. غير أننا لا نعرف إن كان هذا الخطر جاء من الملك شاول، أم من الفلسطينيين، أم من القتلة، أم من بين عشرات الأمور. وهذا أمر جيد، لأنه يسمح لنا بأن نرى احتياجنا في احتياج داود، وبأن نقترب إلى الله على نفس الأساس، مهما كان احتياجنا.
٢. لِأَنِّي تَقِيٌّ: لم يكن هذا ادّعاء بقداسة مطلقة. إذ عرف داود بأنه كان خاطئًا، وأنه أخطأ وسيخطئ، لكنه عرف أيضًا أنه كرجل بين أشخاص آخرين – وبشكل خاص أولئك الذين كانوا ناصبوه العَداء، كان رجلًا تقيًّا.
٣. يَا إِلَهِي، خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ: بنى داود توسُّله على ثلاثة أفكار متشابهة كلها متجذرة في حقيقة وجود رباط أو صلة بينه وبين الله.
· لِأَنِّي تَقِيٌّ: أنا متصل بك أخلاقيًّا، يا رب. فأنا أعتنق قداستك في حياتي.
· أنتَ إِلَهِي: أنا متصل بك بعبادة وإكرام.
· خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ: أنا مرتبط بك بالثقة والإيمان.
ü نرى في هذا كله أن صلاة داود كانت عاقلة ومدروسة جيدًا. فعندما جاء إلى عرش الله، كان يجيء بتفكير متأنٍّ.
ج) الآيات (٣-٤): ساعِدْني لأني أصرخ إليك.
٣ٱرْحَمْنِي يَا رَبُّ، لِأَنَّنِي إِلَيْكَ أَصْرُخُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٤فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ، لِأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي.
١. ٱرْحَمْنِي يَا رَبُّ، لِأَنَّنِي إِلَيْكَ أَصْرُخُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ: طلب داود رحمة لأنه اعتمد على الله كليًّا. فصرخ إلى الله ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، لأنه لم يستطع ولم يُرِد أن يعتمد على أي شخص آخر في الحصول على العون.
· “لئلا يظنّ أحد بسبب كلامه السابق (لِأَنِّي تَقِيٌّ) أنه صاحب استحقاق. فهو يسترحم بإصرار وثبات.” تراب (Trapp)
· قد يصرخ كثيرون إلى الله لفترة من الوقت، وبعد ذلك يفكرون في كيفية تلبية احتياجهم بعيدًا عن الله. لكن هذا لا يصح على داود. فقد اعتمد على الله وحده.
· يَا رَبُّ (يا سيّد): هذه أول مرة من سبع مرات يستخدم فيها داود كلمة أدوناي (سيد) في هذا المزمور. ويخطئ بعض المترجمين باستخدام حروف صغيرة باللغة الإنجليزية في الإشارة إلى أدوناي (سيد)، بالمقابلة مع استخدام الحروف الكبيرة لدى استخدام كلمة يهوه. “اسم الله المهيمن هنا هو أدوناي، السيد أو الرب، وهو يشير إلى ربوبية مطلقة. وبهذا الاستخدام، يبيّن صاحب المزمور إحساسه بالخضوع والولاء.” مورجان (Morgan)
٢. فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ، لِأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي: السبب هو نفسه كما في الآية السابقة. وهو تعبير يدل على ثقة واعتماد على الله. لكن الطِّلبة صيغت بصورة جميلة: فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ. أحس داود أنه لا يستطيع أن يجد فرحًا في نفسه إلا عندما يلبّي الرب حاجته.
د ) الآية (٥): ساعِدْني لأنك منعم وكريم.
٥لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ، وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ لِكُلِّ ٱلدَّاعِينَ إِلَيْكَ.
١. لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ: وجّه داود هذا التوسل لله بناءً على كرمه ونعمته، عالمًا أنه صالح ومستعدٌّ لأن يغفر. لا ينبغي لأحد أن يشك في صلاح الله واستعداده للغفران.
· “رغم أن معظم الناس يغفرون في نهاية الأمر، إلا أنهم غير مستعدين فورًا لذلك. لا يغفرون بسهولة، إلا إذا ضُغط عليهم. وهم يغفرون في نهاية المطاف. لكن الله مستعد لأن يغفر.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
· “أعمتنا الخطية، فلا نستطيع أن نصدّق أن الله مستعد لأن يغفر. ولهذا نعتقد أنه يتوجب علينا أن نحثه على الغفران بالدموع، وبوعود التعويض والمراعاة الدينية … لكن ثبّت هذه الحقيقة في قلبك. قُلها مرارًا وتكرارًا: إنه مستعد لأن يغفر. إنه مستعد لأن يغفر.” ميير (Meyer)
· ينتظر كثيرون قبل أن يتوبوا ويطلبوا الغفران، لأنهم يعتقدون أن الوقت يجعل الله أكثر تسامحًا. وهذا غير ممكن. فالله مستعد لأن يغفر الآن.
· “لقد سقطت مئة مرة، وأنت خجل من أن تأتي إلى الله مرة أخرى. يبدو أنه كثير جدًا أن تتوقع منه أن يقبلك مرة أخرى. لكنه سيفعل ذلك. فهو مستعد لأن يغفر.” ميير (Meyer)
٢. وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ لِكُلِّ ٱلدَّاعِينَ إِلَيْكَ: عندما دعا داود الله أن يساعده، توقع منه رحمة كثيرة. ولا بد لهذا التوقع الإيماني أن يُستجاب له.
ه ) الآيات (٦-٧): الثقة بالاستجابة لهذا التوسل من أجل العون.
٦اِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلَاتِي، وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٧فِي يَوْمِ ضِيْقِي أَدْعُوكَ، لِأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي.
١. اِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلَاتِي، وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي: مرة أخرى، طلب داود من الله أن يصغي إليه. كان واثقًا بأن الإله المحب الرحيم سمع توسّله، وأنه سيستجيب له بشكل مُواتٍ.
· كرر داود الفكرة الموجودة في الآية الأولى. وكان لهذا التكرار قصد. “يكرر ويضاعف طلباته لكي يريح عقله المضطرب وينتصر مع الله في الوقت نفسه. ويُسر الله تمامًا بالاستماع إلى صلاة شعبه المثابِرة.” بوله (Poole)
٢. فِي يَوْمِ ضِيْقِي أَدْعُوكَ، لِأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي: يبيّن هذا ثقة داود الرائعة بالله. عرف داود أن الله ليس صديقًا في أيام الرخاء فحسب، بل يمكن الاعتماد عليه في يوم الضيق أيضًا.
· شدد آدم كلارك (Adam Clarke) على الضمير المتصل ، الياء، في الآيتين ٦ و ٧. “انتبه لي أنا. هنالك ملايين تدعوك وتناشدك العون والرحمة، لكن من الذي في احتياج أكبر مني؟”
· تَسْتَجِيبُ لِي: “تثبّت خبرتنا اعتقادنا أن الإله الحي، يهوه، يساعد بالفعل الذين يدعونه. ولهذا نصلي إليه ونتعمّد أن نصلي إليه، لا لأننا منبهرون بالصلاة بحد ذاتها – لأن الصلاة من أجل الصلاة وحدها حماقة وخرافة، كما يؤكد الفلاسفة العبثيون – بل لأننا نجد أنها وسيلة عملية وفعّالة للحصول على العون من الله في وقت الحاجة.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. الاعتماد على الله الذي يعين شعبه
أ ) الآيات (٨-١٠): عظمة الله.
٨لَا مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلْآلِهَةِ يَا رَبُّ، وَلَا مِثْلَ أَعْمَالِكَ. ٩كُلُّ ٱلْأُمَمِ ٱلَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ، وَيُمَجِّدُونَ ٱسْمَكَ. ١٠لِأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ ٱللهُ وَحْدَكَ.
١. لَا مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلْآلِهَةِ يَا رَبُّ: يتناقض فهم داود لله في هذا المزمور- الإله السميع، القدوس، الجدير بالثقة، الرحيم، الرحيم، الصالح، المستعد للمغفرة – مع الفهم المعاصر للآلهة الوثنية، مثل البعل وعشتروت وداجون. إذ كان ينظر إليها على أنها ممتلئة بالمرارة، ومنتقمة، وماكرة، ومنحرفة جنسيًّا. وعرف داود أن الرب مختلف عنها.
· “أنا لا أدعو صنمًا أصمّ وعاجزًا، وإلا لكنتُ أُطلق صرخات قلبي عبثًا، كما فعلوا في سفر ملوك الأول ١٨: ٢٦-٢٩. لكني أدعو العليّ المنعم.” بوله (Poole)
٢. وَلَا مِثْلَ أَعْمَالِكَ: عرف داود أنه عندما يفعل الله شيئًا، فسيكون مجيدًا. إذ ستكون له بصمة مجيدة عليه، ولا يمكن أن يقارن بأعمال البشر.
· “يرجّح أن الأعمال التي يشار إليها هنا هي أعمال الخليقة، لا الأعمال التي عملها لاحقًا – ١٠أ).” كيدنر (Kidner)
٣. كُلُّ ٱلْأُمَمِ ٱلَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ: أدرك داود أن الله خالق كل الأمم وسيدها، لا إله إسرائيل وسيدها وحدها. ففي عصر كانت فيه الآلهة وطنية أو إقليمية، عرف داود أن إلهه، الإله الحيّ، الإله الحقيقي، مختلف.
٤. لِأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ ٱللهُ وَحْدَكَ: فهِم داود أن الرب لم يكن واحدًا بين آلهة كثيرة، أو حتى الأفضل بين آلهة كثيرة. فهو الله وحده، وليس آخر.
· “العجائب، أو الأعمال العجيبة، والمترجمة بشكل مختلف في ترجمات مختلفة في المزامير، تعبير شائع عن معجزات خلاص الله.” كيدنر (Kidner)
· “إنها أعمال يصنعها، لا أفعال فعلها (مع أن المعنى الثاني صحيح أيضًا). “لاحِظ أن صيغة الفعل هي في المضارع. فالرب يصنع العجائب، وهي تظهر أمام عيوننا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١١-١٢): اعتماد على الإله العظيم مدى الحياة.
١١عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ. أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ. ١٢أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلَهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ.
١. عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ: لأن داود عرف هوية الله وطبيعته – لا بشكل كامل، لكن بفهم عظيم – فإن رد فعله الطبيعي هو أن يُخضِع نفسه لهذا الإله المنعم الكريم ويطلب أن يعلّمه.
· ومرة أخرى، يبيّن هذا أن داود فهِم أن هذا الإله المذهل كان مهتمًّا به. وسيسمع هذا الإله الجليل الذي تعبده وتمجده كل الشعوب توسُّل المسكين البائس (الآية ١) الذي يطلب من الله: “عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ.”
· تبيّن هذه الآية تحوُّلًا خفيًّا في المزمور. ففي القسم الأول (الآيات ١–٧)، طلب داود باستماتة عونًا من الله. وبهذا فكّر بعمق بطبيعة الله وما يفعله. لم تجعل هذه الأفكار داود يتراجع عن طلب العون، لكن جعلته يقول: “أحتاج إلى أن أتعلّم من هذا الإله العظيم. عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ.”
· يمكننا القول إن احتياج داود العظيم بيّن احتياجه إلى أن يتعلم. فقد أوصله هذا إلى القول: “لا تتركني لطريقي يا رب. علّمْني طريقك.”
· “قد يهتم معظمنا أثناء الصلاة بكيفية الإنقاذ والعون والإرشاد، وما إلى ذلك. لكننا لا نهتم بنفس القدر بتعلّم طريق الله فنأخذ عونًا لنخدمه بقلب موحَّد.” بويس (Boice)
٢. أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ: أعطى هذا التصميم نزاهة لطلبة داود. أراد أن يتعلم لكي يستطيع أن يحيا، لكي يتمكن من أن يسلك في حق الله. ولا يعني هذا إشباعًا لفضول فكري أو محاولة كسب جدال، بل يساعده في أن يحيا.
· “يغطي السلوك في كلمة الله كل تفاعلات الإنسان أو سلوكه. فأن تسلك في شيء يعني أنك تنوي أن تصل إلى ملئه. فحين يسلك إنسان في الكبرياء، فإنه أكثر من مجرد شخص متكبر. إذ يعني ذلك أن الكبرياء طريقه ومبدؤه، وأنه تحت تأثيره كلّيًّا.” سبيرجن(Spurgeon) نقلًا عن جي(Jay)
٣. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ: عرف داود أنه لا يستطيع أن يسلك في حق الله إلا بقلب موحّد. فلا يمكن للقلب المقسم إلى ولاءات مختلفة وآلهة متعددة أن يسلك في حق الله.
· “عقولنا ميالة إلى الانقسام بين موضوعات مختلفة، مثل الأنهار التي ترشح وتبدد قوّتها في ألف قناة. ينبغي أن تكون أقوى رغبة لدينا هي أن نسكب فيضانات الحياة في قناة واحدة، وأن توجَّه هذه الحياة نحو الرب وحده.” سبيرجن (Spurgeon)
· وَحِّدْ قَلْبِي: ضُمَّ كل مقاصدي وقراراتي وعواطف قلبي معًا، حتى أخاف اسمك وأمجّده. هذه صلاة مهمة جدًّا. فالقلب المنقسم لعنة، والعواطف المشتتة وباء تعيس. فعندما لا يكون القلب في وحدة مع ذاته، لا يمكن أن يواصل عمل الدين. وتردُّد العقل وانقسام العواطف أمرٌ يشوّه أي عمل. يتوجب أن يكون القلب واحدًا، والعمل واحدًا. فإن كان هذا ناقصًا، فسيكون العمل خطأ. وهذه صلاة تلائم كل مؤمن بالمسيح.” كلارك (Clarke)
· يمكننا القول إن القلب الموحّد هو الهدف. والطريق إلى الهدف هو “علِّمْني طرقك يا رب، وسأسلك في حقك.” ولهذا أشار داود إلى أن هذا لا يمكن أن يحدث بجهده الذاتي. إذ طلب من الله أن يوحّد قلبه عندما تعلَّم من الله وسلك في حقه. فبما أن الرب (يهوه) هو الله وحده (الآية ١٠)، أراد داود يكون قلبه لله وحده.
· وفي الوقت نفسه، فإن فكرة القلب الموحد تشكل وعدًا من وعود العهد القديم للعهد الجديد، كما في حزقيال١٩:١١ “وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا.” وكجزء من هذا العهد الجديد، لدينا سبب لنصلي إلى الله أن يضع فينا قلبًا موحَّدًا.
٤. طريق… حق… وحِّدْ: إنه طريقنا وحقّنا وحياتنا (يوحنا٦:١٤). هو طريقنا. نقول: علّمْني طريقَك. ونقول: سنسلك في حقك. وهو حياتنا. ونقول: وحِّدْ قلبي لأخاف اسمك.
٥. أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلَهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي: هذا هو ما أراد أن يفعله داود بقلبه الموحّد. أراد أن يسبّح الله به. وكما لاحظنا في مرحلة مبكرة من المزمور، عرف داود أن الرب جدير بمثل هذا التسبيح، لكنه عرف أنه لا يستطيع أن يسبّح الله إلا عندما يفعل هذا بقلب موحّد.
· أراد داود أن يفعل هذا بقلب موحّد. لكن ربما فهم أيضًا أن التسبيح طريقة واحدة من طرق توحيد القلب. فعندما نركز بوعي على اهتمام الفكر والعواطف والمحبة بطبيعة الله وما فعله من أجلنا، يتوحد قلبنا بشكل رائع.
· “هذه بداية معطاة من الله (ووسيلة عملية) للاستجابة لصلاته عندما يكون كل قلبه مستغرقًا في التسبيح.” كيدنر (Kidner)
· “رغم أنه لا يوجد شيء يمكن أن يضيف إلى مجد الله الجوهري، غير أن التسبيح يرفعه في عيون الآخرين. فعندما نسبّح الله، فإننا نذيع اسمه وصيته، ونعرض شهادات وتذكارات عن تفوّقه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن واتسون (Watson)
· يَا رَبُّ إِلَهِي: “هذه هي المرة الثانية التي يدعو فيها داود الرب ’إلهي.‘ كانت الأولى في عذاب الصلاة (الآية٢). وهو الآن يقولها في نشوة التسبيح.” سبيرجن (Spurgeon)
ü إنه إلهنا في أوقات الضيق – نعتمد عليه.
ü إنه إلهنا في أوقات الابتهاج – نحن نسبّحه.
ج) الآيات (١٣-١٥): الاعتماد على نعمة الله وكرمه.
١٣لِأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ ٱلسُّفْلَى. ١٤اَللَّهُمَّ، ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ ٱلْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي، وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ. ١٥أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْحَقِّ.
١. لِأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ ٱلسُّفْلَى: فكّر داود في إنقاذ الله له في ماضي حياته. فالإله الرحيم الذي أنقذه من قبل يمكن أن ينقذه ثانية.
· رَحْمَتُكَ عَظِيمَةٌ: الرحمة هنا في النص العبري هي ’حِسِدْ‘ وهي تدل على محبة العهد، وهي المحبة الموعودة في علاقة عهد.
· “في ما يتعلق بإنقاذه من أعماق الهاوية (نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ ٱلسُّفْلَى)، يمكن أن يؤخذ هذا على أنه إما في الماضي أو في المستقبل.” كيدنر (Kidner)
٢. ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ ٱلْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي: عاش داود حياة طويلة جدًّا من الخطر والمغامرات حتى إننا لا نستطيع أن نرجع هذه الإشارة إلى نقطة محددة من حياته. وربما تكرر هذا في عدة نقاط. ومن الواضح أن الخطر كان حقيقيًّا وجليًّا.
٣. وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ: كان الأمر واضحًا بالنسبة لداود. فالرجال العُتاة (العنيفون) المتكبرون غير مستسلمين لله. فلو جعلوا الله أَمَامَهُمْ، لكانوا قد تمتعوا بشيء من الرأفة والرحمة واللطف وطول الروح والحق.
٤. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ.. وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ: عرف داود أن شر الإنسان لا يلغي صلاح الله. فالله إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْحَقِّ، رغم كبرياء البشر وعُنفهم.
· أَمَّا أَنْتَ: “يا للمقابلة! فنحن نبتعد عن غطرسة المتكبرين وتهديداتهم وتوعُّدهم وتبجُّحهم – رغم ضعفهم وتفاهتهم – إلى مجد الرب وصلاحه.” سبيرجن (Spurgeon)
· قارن كلمات هذا المزمور مع صياغة خروج ٣٤: ٦-٧، حيث تلقى موسى إعلانًا عظيمًا عن الله: “الرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلْإِحْسَانِ وَٱلْوَفَاءِ. حَافِظُ ٱلْإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ.”
· يبدو مرتين أن داود اقتبس كلمات وأفكارًا من لقاء موسى مع الرب، كما هو مدون في سفر الخروج ٣٤: ٦-٧. ونحن نرى هذا في الآية الخامسة من المزمور: “أَنَّكَ أَنْتَ يَارَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ، وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ لِكُلِّ ٱلدَّاعِينَ إِلَيْكَ.” ونرى ذلك أيضًا في الآية ١٥: أَمَّا أَنْتَ يَارَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْحَقِّ.
· “يبدو أن داود وقف في شقّ الصخرة مع موسى، وسمع اسم الرب يعلَن بصفته المشرّع العظيم، لأنه اقتبس في موضعين من هذا المزمور نص سفر الخروج ٦:٣٤ حرفيًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
· يمكننا أن نقول إن داود قرأ كتابه المقدس، وتعلَّم عن طبيعة الله، ثم أخذ هذه المعرفة إلى الصلاة، وطلب من الله أن يستجيب لصلاته بناءً على إعلانه الذاتي في كلمته.
د ) الآيات (١٦-١٧): توسُّل آمِلٌ للعون.
١٦ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي. أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ، وَخَلِّصِ ٱبْنَ أَمَتِكَ. ١٧ٱصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ، فَيَرَى ذَلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا، لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي.
١. ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي: من خلال ذلك كله، لم يقترب داود إلى الله على أساس ما كان يستحقه. فكل شيء حصل عليه، كان يحصل عليه على أساس الرحمة.
٢. أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ: سيثبّت بولس لاحقًا استجابة الله لداود: “تقوّوا في الرب وفي شدة قوّته.” (أفسس ٢٠:٦) فالله يعطي قوّته لعبده!
٣. وَخَلِّصِ ٱبْنَ أَمَتِكَ: لا يخبرنا صموئيل الأول والثاني الكثير عن أم داود، لكن هذه الإشارة الموجزة إليها توحي بأنها كانت امرأة تقية خدمت الله، ولهذا يمكن الإشارة إليها على أنها أَمَتُكَ.
· يخبرنا الكتاب المقدس في عدة مواضع (مثل سفر التكوين ١٤:١٤ وسفر إرميا ١٤:٢) عن فكرة عبد مولود في بيت سيده، عبد لأن أمه كانت عبدة. فقد ولِد في عبودية. ربما كانت هذه هي فكرة داود هنا. فقد أراد أن يعبّر عن انتمائه إلى الله منذ بداية حياته، وهو يتوسل بصفته ٱبْنَ أَمَتِكَ.
٤. ٱصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ: يبدو أن داود يقول هنا: أنا لا أتوقع الكثير، أو الجواب الكامل، الآن. لكن أرِني علامة على استجابتك الصالحة (آيَةً لِلْخَيْرِ). أعطني إشارة ما إلى عونك وقوّتك فَيَرَى ذَلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا.
· داود رائع في تواضعه هنا. فهو لا يطالب باستجابة كاملة الآن. وهو رائع أيضًا في بشريته، طالبًا علامة (آية) على الخير في الوقت الحالي.
· من الخطأ في بعض الأحيان أن تطلب من الله: أرني آيَةً لِلْخَيْرِ. فهذا خطأ عندما تكون نظرتنا: ’يا رب، برهن لي أنك تحبني‘ أو ’سأصدّقك عندما تريني علامة، لكن إذا لم تفعل، فلن أصدِّقك.‘ غير أن هنالك أوقاتًا ملائمة عندما نصرخ إلى الله قائلين: أرني آيَةً لِلْخَيْرِ.
ü الاستجابة للصلاة هي آيَةً لِلْخَيْرِ. (الآية ١: أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ. ٱسْتَجِبْ لِي).
ü الحفاظ على المعدن الأدبي آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ٢: لأني تقي).
ü الخلاص من الضيق آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ٢: خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ).
ü الفرح في حياة مستسلمة لله آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ٤: فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ، لِأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي).
ü الإحساس بالغفران آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ٥: (لِأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ).
ü الثقة بالله آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ٧: لِأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي).
ü معرفة عظمة الله والإعلان عنها آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ١٠: لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ).
ü مع رجال فخورون وعنيفون كأعداء، إنها آيَةً لِلْخَيْرِ (الآية ١٤: اَلَّلهُمَّ، الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ الْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي، وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ).
· يفهم بعضهم – مثل آدم كلارك (Adam Clarke) – هذا التعبير على نحو مختلف. “اصنع معي علامة. ثبِّت علامة اسمك المشرّفة عليَّ لكي أُعْرَف بأني خادمك. يبدو أنه يوجد تلميح إلى وَسْم عبد للتحقق من هوية مالكه.” وربما يمكننا القول: “ضع علامة صلاحك عليّ لكي يرى الجميع أني لك وأنك ستنقذني.”