تفسير سفر المزامير – مزمور ١٢٩
مبتلىً لكنه واثق بخلاص الله
هذا المزمور حلقة أخرى في سلسلة المزامير الخمسة عشر المعنونة ’ترانيم المصاعد.‘ فمع مجيء الحجاج إلى أورشليم لكي يتذكروا إنقاذات الله الكثيرة في الماضي (كما في عيد الفصح وعيد المظال)، فإنهم يصلّون بثقة من أجل استمرار حماية الله وهزيمة أعدائهم الكثيرين.
“بينما تميل الشعوب إلى النظر إلى الوراء إلى ما حققته، فإن إسرائيل هنا تفكّر في ما نجت منه. وقد تكون هذه ممارسة مثبّطة للهمة، لأن لصهيون أعداء كثيرين يتمنون لها الشر. لكن المرنمين يستمدون شجاعة من الماضين فيواجهون الله بامتنان وأعداءهم بالتحدّي.” كيدنر (Kidner)
أولًا. صلاح إسرائيل المبتلاة
أ ) الآيات (١-٣): إسرائيل المبتلاة لكن غير المدمّرة.
١«كَثِيرًا مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي». لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: ٢«كَثِيرًا مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي، لكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ. ٣عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ».
١. كَثِيرًا مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي: قدّم صاحب المزمور هذا التصريح كشهادة لإسرائيل (لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ). لقد عانى أنسال إبراهيم وإسحق ويعقوب مِحَنًا كثيرة فريدة شريرة عبر تاريخهم.
· “كَثِيرًا (مرّات كثيرة)، لأنه لم يستطع أن يحدد المرات. وهو يتحدث عن مهاجمي إسرائيل باستخدام واو الجماعة (ضَايَقُونِي)، أي هم، لأن من المستحيل أن يكتب أو حتى يعرف كل أسمائهم.” سبيرجن (Spurgeon)
· “مُنْذُ شَبَابِي: منذ الوقت الذي صرتُ فيه شعبًا، عندما كنتُ في مصر وخرجت منها. هذا هو ما يسمّى شباب إسرائيل (إرميا ٢: ٢؛ حزقيال ٢٣: ٣).” بوله (Poole)
· تتكرر العبارة مرتين لغرض التوكيد بحق. لقد فعل المصريون، والكنعانيون، والفلسطيّون، والآراميون، والأشوريون والبالبليون، واليونانيون، والرومان، والكنيسة الكاثوليكية، وملوك أوروبا، والمسلمون، والقياصرة، والنازيون كلهم ما بوسهم للقضاء على اليهود. ورغم هذا، فإنهم باقون.
· قد يقول المرء إن الإنجاز الرئيسي للشعب اليهودي هو بقاؤهم. “اليهود هم أكثر شعب عرقي متميز احتمالًا على هذا الكوكب. لقد تعرّضوا للافتراء والذمّ والبغض والاضطهاد والطرد والمطاردة والاغتيال على مدى وجودهم الطويل، لكنهم بقوا أحياء من دون أذى.” بويس (Boice)
· “تأتي هذه التكرارات وفق الأسلوب الشعري العبري. وبهذه الطريقة تجعل إسرائيل من أحزانها قصيدة غنائية، ومن تعاساتها موسيقى.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ: هذه سعادة لإسرائيل. لقد اشتعلت كراهية اليهود ضدهم لقرون، لكن أعداء الشعب اليهودي لم ينجحوا أو يقدروا عليهم بشكل نهائي.
· “إنه لأمر عجيب أن لا يقدر إبليس والبشر على قديس! ولا يوجد أي تفسير لهذا إلا في اختيار الله. فلأن الله اختارنا لنفسه وفدانا بتكلفة عظيمة، فإنه لا يسعه أن يسلّمنا إلى إرادة أعدائنا.” ميير (Meyer)
· “هنالك صرخة معركة مسيحية قوية باللاتينية بجوار العلّيقة المشتعلة تقول: ’Nec tamen consumebatur‘ وهي تعني ’غير مستهلكة بعد.‘ ربما يتعرض شعب الله للقمع، لكنه لا يُستهلك أبدًا.” بويس (Boice)
· “يجعل الاستخدام الصحيح لاستعادة الأحداث الماضية إياها أساسًا للرجاء. إذ يمكن للذين مروا بتلك المِحن من دون أن يصابوا بأذىً أن يتأكدوا من أن أي غدٍ سيكون مثل أمس، وأن كل هجومات المستقبل ستفشل كما فشلت هجومات الماضي.” ماكلارين (Maclaren)
· في سياق العهد الجديد، يمكننا أن نكون واثقين بوعد يسوع بأن إستراتيجيات الجحيم لن تقوى على كنيسته (متى ١٦: ١٨). “الكنيسة لا تُقهر… بل ستصمد لأنها مؤسسة على صخرة.” تراب (Trapp)
٣. عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ ٱلْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلَامَهُمْ: وصف صاحب المزمور محنًا كثيرة اختبرتها إسرائيل كما لو أن أعداءها داسوا أجساد شعبها بمحاريث. وهذه صورة حية للألم والإخضاع، حيث ذلّوا أمام أعدائهم.
· “ابتُليت الأمة كما لو أنها تعرّضت لضرب قاس من أعدائها، بحيث تركت كل ضربة علامة حمراء طويلة، أو ربما جرحًا نازفًا في ظهرها وكتفيها. ويمكن تشبيه الجرح بثلم من أثلام الأرض التي تمزّق الأرض من طرف الحقل إلى طرفه الآخر.” سبيرجن (Spurgeon)
· “تُستخدم كلمة Horsu، وهي تعني يحفر أو يحرث، للإشارة إلى القطع أو النحت أو النقش (انظر سفر الخروج ٣٥: ٣٣؛ إرميا ١٧: ١).” هورن (Horne)
· “في حين أن من الواضح وجود شعور بالخطر في ذهن المرنم، إلا أن هنالك غيابًا كاملًا من اليأس.” مورجان (Morgan)
ب) الآية (٤): الإله الذي يُنقذ.
٤ٱلرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ ٱلْأَشْرَارِ.
١. ٱلرَّبُّ صِدِّيقٌ: وعد الله بحفظ شعب عهده، إسرائيل. وتمثّل أمانته في إنقاذهم برهانًا لبرّه. ويعني برّ الله أنه حفظ ويحفظ وعوده لإسرائيل.
· “يمثل بقاء شعبه المبغوض للغاية وذي الجَلَد شهادة صامتة على حافظهم (وهي شهادة مستمرة، كما نحس).” كيدنر (Kidner)
٢. قَطَعَ رُبُطَ ٱلْأَشْرَارِ: كان أعداء إسرائيل أقوياء وأذكياء، لكنهم لم يكونوا أقوى من الله القادر على الإنقاذ. وسيقطع الطرق الشريرة التي تقيّد شعبه وتستعبده إربًا إربًا.
· “رُبُط (حبال)، وهي تدل على النير الذي يُربَط برقبة الحيوان (انظر الآية ٤؛ قارن إرميا ٣٠: ٨).” فانجيميرين (VanGemeren)
ثانيًا. الطلب إلى الله أن يصد الذين يبغضون أورشليم
أ ) الآيات (٥-٧): خزي للذين يبغضون صهيون.
٥فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ. ٦لِيَكُونُوا كَعُشْبِ ٱلسُّطُوحِ ٱلَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ، ٧ٱلَّذِي لَا يَمْلَأُ ٱلْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ وَلَا ٱلْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ.
١. فَلْيَخْزَ وَلْيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ كُلُّ مُبْغِضِي صِهْيَوْنَ: صلى صاحب المزمور لا لكي تُنقَذ إسرائيل من أعدائها فحسب، بل أن يطبِّق الله برّه على أعدائها أيضًا. إذ ينبغي أن يُخزوا وأن يُرَدوا على أعقابهم.
· يجد بعضهم عثرة في صلاة صاحب المزمور ضد أعداء إسرائيل، مع أنهم لا توجد عثرة في هذا الأمر على الإطلاق. “إنه أمر مذهل في هذه الحالة أن نرى مدى اعتدال هذه اللعنات. فصاحب المزمور لا يطلب أن يرسَل هؤلاء الأشخاص الذين آذوا إسرائيل إلى الجحيم أو حتى أن يختبروا نفس المحن التي ألحقوها بالآخرين. فهو لا يطلب إلا أن تفشل خططهم.” بويس (Boice)
· “في صميم الوطنية السامية والمقدّسة، لا بدّ أن يكون هنالك غضب إلهي على كل ما يقاوم خطط الله. فأن تبغض صهيون يعني أن تبغض الله. ويعني التسامح مع أولئك الأشخاص التحالف مع الشر.” مورجان (Morgan)
· “هذه أمنية مناسبة، وهي لا تحتوي ضِمنها على أي أثر من حقد شخصي. فنحن نرغب في رجاء البشر كبشر، وسقوط الخونة. فلتفشل مؤامراتهم وترتد سياساتهم عليهم. فكيف يمكننا أن نتمنى الازدهار لمن يريدون أن يدمروا ما هو أعز شيء على قلوبنا؟” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِيَكُونُوا كَعُشْبِ ٱلسُّطُوحِ ٱلَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَعَ: غالبًا ما يذبل العشب الذي ينمو في الشتاء (وبشكل خاص على سطوح البيوت في الشرق الأوسط القديم) عندما يصبح الطقس حارًّا وجافًّا. وقد صلى صاحب المزمور أن يكون الموسم الأخضر الحالي لأعداء إسرائيل قصير الأجل.
· “تصف الصورة النابضة للعشب على سطوح البيوت الطينية، والذي يذبل سريعًا جدًّا لأنه لا عمق له في الأرض، النجاح قصير الأجل وانقراض المؤامرات على صهيون والمتآمرين.” ماكلارين (Maclaren)
· “وهكذا، في حين أن سعادة أبناء صهيون متجذرة ومؤسسة في المسيح، فإنه لا يوجد لأعدائها هذا الأساس على الإطلاق.” هورن (Horne)
· “العشب على سطح البيت أمر تافه لا قيمة له في العالم. فلا يفتقر البيت عندما يجف آخر نصل في العشب. وبنفس الطريقة، فإن مقاومي المسيح سيزولون، ولن يندبهم أحد. وقد قال أحد الآباء عن الإمبراطور المارق جوليان (Julian): ’ستزول هذه الغيمة سريعًا.‘ وهكذا كان. لكل فلسفة تشكيكية نفس التاريخ تقريبًا، ويمكننا أن قول الأمر نفسه عن كل بدعة.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. ٱلَّذِي لَا يَمْلَأُ ٱلْحَاصِدُ كَفَّهُ مِنْهُ وَلَا ٱلْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ: كان عشب الآية السابقة عديم الفائدة للحاصد أو لمن يجمع الحبوب (الذي يربط الحزم). أراد كاتب المزمور أن ينكشف عدم جدوى أعداء إسرائيل الأشرار وأن يتضح للجميع.
· “بينما الكنيسة باقية من جيل إلى جيل، فإن الممالك والإمبراطوريات التي اضطهدتها ذبلت وتلاشت من ذاتها.” هورن (Horne)
· “ادرس فصلًا من ’كتاب الشهداء‘ وانظر إن كنت لا تحس بالميل إلى قراءة مزمور انتقامي حول المطران بونر وماري الدموية.” (سبيرجن)
ب) الآية (٨): إنكار البركة على مبغضي صهيون.
٨وَلاَ يَقُولُ الْعَابِرُونَ: «بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ».
١. وَلَا يَقُولُ ٱلْعَابِرُونَ: صلى صاحب المزمور أن لا يتمتع أعداء إسرائيل ببركة الرب عليهم. وصلّى أن لا تتحقق فيهم الصورة الجميلة السعيدة الموجودة في سفر راعوث ٢: ٤.
٢. بَارَكْنَاكُمْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ: بركة الله هي أعظم شيء يمكن لأي إنسان أن يتمتع به، حيث تعطي خيرًا لكل جانب من جوانب حياته. فصلى صاحب المزمور أن لا يعطى أي جانب من هذا الخير للذين يبغضون أورشليم وإسرائيل.
- “في أوقات الحصاد يبارك الرجال بعضهم بعضًا باسم الرب. لكن لا يوجد في مسار الرجل الفاجر أو سلوكه ما يوحي بإعطاء البركة أو تلقّيها.” سبيرجن (Spurgeon)