تفسير سفر المزامير – مزمور ١٣١
رضا داود المتواضع في الرب
هذا المزمور معنون تَرْنِيمَةُ ٱلْمَصَاعِدِ – لِدَاوُدَ. وقد اقترح المفسرون مناسبتين محتملتين لتأليفه. فقد تكون الأولى عندما كان شاول يطارد داود. وربما تكون الثانية هي استجابة ميكال، زوجة داود، عندما اتهمته بالسفاهة والابتذال بعد أن رقص في موكب دخول تابوت العهد إلى أورشليم (٢ صموئيل ٦: ١٦-٢٣).
ومهما كانت المناسبة، فإن هذا المزمور القصير إنكار جميل للكبرياء والغطرسة والطموح الأناني. “وهو واحد من أقصر المزامير التي يمكنك أن تقرأها، لكنه واحد من المزامير التي يمكن أن تطول دراستها. يتحدث المزمور عن طفل صغير، لكنه يتضمن خبرة رجل في المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
أولًا. يعلن داود قلبه المتضع
أ ) الآية (١أ): يشجب داود الكبرياء والغطرسة.
١يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ.
١. يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي: تعلَّم داود أن يرفض الكبرياء. وقد جاء أمام الرب بتواضع واعٍ. إذ فهِم المبدأ المشروح في سفر الأمثال والمقتبس مرتين في العهد الجديد: “كَمَا أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِٱلْمُسْتَهْزِئِينَ، هَكَذَا يُعْطِي نِعْمَةً لِلْمُتَوَاضِعِينَ” (أمثال ٣: ٣٤؛ يعقوب ٤: ٦؛ ١بطرس ٥: ٥).
· “يبدأ المزمور بإشارة توكيدية إلى يهوه، يَا رَبُّ. وفي حضور إله العهد، اختبر صاحب المزمور روعة الخضوع الكامل لله.” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ: تعلَّم داود أن يرفض الغطرسة. فتحت تأثير الكبرياء نصبح متغطرسين ونحتقر الآخرين. ومع أن داود أنجز أشياء عظيمة وكانت أمامه أشياء عظيمة أخرى لينجزها، إلا أنه لم يفكّر في أنه أفضل من الآخرين.
· “الغطرسة تعبير عن الكبرياء. فالمتكبرون هم المتغطرسون. لكن الغطرسة تتخطى الكبرياء في أنها تحتقر الآخرين.” بويس (Boice)
ب) الآية (١ب): داود يشجب الطموح الأناني.
١وَلَمْ أَسْلُكْ فِي ٱلْعَظَائِمِ، وَلَا فِي عَجَائِبَ فَوْقِي.
١. وَلَمْ أَسْلُكْ فِي ٱلْعَظَائِمِ: تعلَّم داود أن يرفض الطموح الأناني، واختار ألّا يسعى إلى أمور أكبر منه. فلم يضع تركيزه على ترقية مكانته أو مركزه فوق ما عيّن له الله في الوقت الحالي. وقد علّمنا يسوع أن نقبل المكانة الأدنى (لوقا ١٤: ٨-١١) وأن ننتظر بصبر أن يرفعنا الله في حكمته وتوقيته.
· هنالك تطلّعات تقية (فيلبي ٣: ١٢-١٤)، في حين أن هنالك طموحات أنانية (٢ كورنثوس ١٢: ٢٠؛ غلاطية ٥: ٢٠؛ فيلبي ١: ١٦؛ ٢: ٣). ومن طرق التفريق بينهما البحث عن التركيز على الله (المتعلق بالتطلعات الروحية) أو التركيز على الذات (الطموح الأناني).
· “كثيرًا ما نشغل أنفسنا في أمور عظيمة بأن يكون لدينا طموح عالٍ للقيام بشيء رائع جدًّا في الكنيسة، ولهذا لا يتم إلا القليل. فإن أكبر مدمر للأعمال الصالحة هو الطموح في أن نعمل أعمالًا عظيمة.” سبيرجن (Spurgeon)
· “يصعب الإقرار بأن الطموح الجامح خطية، لأن لديه صلة سطحية بفضيلة التطلع – نفاد صبر من الأداء المتوسط أو الرديء، وعدم الرضا عن الأشياء المخلوقة إلى أن نكون مع الخالق، مع النضال المتسم بالرجاء من أجل ما هو أفضل ما لدى الله من أجلنا.” بويس (Boice) نقلًا عن بيترسون (Peterson)
· “الشاب القانع ببدء الوعظ في غرفة صغيرة في قرية لاثني عشر شخصًا هو الذي سيربح نفوسًا. وأما الأخ الآخر الذي لا يضع في اعتباره الوعظ إلا أمام خمسة آلاف شخص، فلن يفعل شيئًا. بل لن يستطيع أن يفعل شيئًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· “أيها الأخ، املأ مجالك، واقنع به. وإذا نقلك الله إلى مجال آخر، فكن سعيدًا بهذا الانتقال. وإذا نقلك إلى محال أصغر، فكن مستعدًّا للذهاب إلى مكان أقل بروزًا كما لو أنه أكبر. ولا تُقحم إرادتك في هذا الأمر.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. عَظَائِم… عَجَائِب فَوْقِي: يمكن أن تنطبق هذه على بعض المساعي الفكرية أو الذهنية التي صارت تعبيرات عن الكبرياء. يمكننا أن نطالب في كبريائنا أن نعرف جوانب من إرادة الله أو فكره. كانت تلك خطية أيوب التي تاب عنها (أيوب ٤٠: ١-٥؛ ٤٢: ١-٦).
· فهِمَ داود مبدأ تثنية ٢٩: ٢٩. فالسرائر (الأسرار) تخص الله، وأما تلك الأمور المعلنة فهي لنا ولأبنائنا حتى نعمل بكلام شريعة الله.
ثانيًا. يعلن داود قلبه القانع
أ ) الآية (٢): قناعة مثل الطفل المفطوم.
٢بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ.
١. بَلْ (فعلًا) هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي: بدلًا من أن يسعى داود وراء مساعٍ متّسمة بالكبرياء، قرر أن يجد رضًا وصفاء للنفس، قانعًا بالله وأعماله. وأما الذين يحسّون دائمًا بأنهم مدفوعون إلى أن يفعلوا وينجزوا أكثر في علاقتهم بالله، فعليهم أن يتعلموا شيئًا مما تعلَّمه داود هنا.
· صاغ داود هذا مع توكيد لما فعله. وبطبيعة الحال، كان هذا عمل الله داخله، لكنه كان مرتبطًا بشكل حيوي بإرادته وخياراته الخاصة. فالله لم يفعل هذا عنه. فالله استخدم عملية اختيار داود. إذ يتوجب أن نختار أن نهدّئ ونسكّت نفوسنا.
· “ما أعجب القناعة الهادئة بالله! لقد استمتع بمسيرته مع الله، حيث سكّت نفسه (سيطر عليها) وهدّأها، أي وجد راحة (انظر مزمور ٦٢: ١، ٥).” فانجيميرين (VanGemeren)
٢. كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ: يعانق الطفل الرضيع أمه مع فكرة الحصول على الطعام والإشباع الفوري. وأما الطفل المفطوم فيعانق أمه مدفوعًا برغبة في المحبة والقرب والرفقة. وكانت تلك رغبة صاحب المزمور المتواضعة في الاقتراب إلى الله.
· ليس الله كائنًا جنسيًّا على الإطلاق. فهو ليس مذكّرًا أو مؤنّثًا. لكنه يقدَّم لنا كأب. وهذا هو أحد النصوص القليلة التي يقدَّم فيها الله كأم. ومن بين النصوص الأخرى التي تشير إليه كأم إشعياء ٤٩: ١٥؛ ٦٦: ١٣.
· “كان الفطام واحدة من المشكلات الأولى التي واجهناها عند مجيئنا إلى العالم. وكان أمرًا فظيعًا لقلوبنا الصغيرة. وقد تغلّبنا عليها بطريقة وأخرى.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ: تتكرر العبارة للتكرار. قد تبدو عملية الفطام غريبة وفظيعة للطفل، لكنها أمر طبيعي لتطوره. إذ يدرك الفطيم أن حرمانه من هبات الأم لا يعني حرمانه من وجودها. فهو يتعلم أن يحب الأم نفسها بدلًا من من الهبات التي يحصل عليها منها.
· تُعَد عملية الفطام أمرًا طبيعيًّا، لكن ربما يَعُدها الطفل معركة إن ما كتبه داود هنا عن القناعة بالله أمر لم يأتِ بشكل طبيعي، لكن من خلال الانتصار على ما يأتي بشكل طبيعي وعلى العادات المرتبطة بالخبرة السابقة.
· كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ: “الفطيم نحو أمه هو الطفل الذي تعلّم أن يكون مستقلًّا عما بدا أنه لا غنى عنه، وكان كذلك بالفعل في وقت ما.” مورجان (Morgan)
· “لم يعد غاضبًا من أمه، لكنه يدفن رأسه في حضنها بعد تألُّمه وانكسار قلبه. وهو يفطم على أمه لا عنها.” سبيرجن (Spurgeon)
· “عمَّ هو مفطوم؟ إنه مفطوم عن الاكتفاء الذاتي، والإرادة الذاتية، والسعي إلى إشباع الذات، ومن خلائق العالم وأمورها، ليس من جهة استخدامها، بل من جهة الاعتماد عليها من أجل سعادته ونصيبه.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن جي (Jay)
· عندما يسمح الله لأشياء أو لظروف في حياتنا بأن تفطمنا عن أشياء كنا نعتمد عليها، فإنه لا ينبغي لنا أن نحتقر الأمر. “طوبى لهذه البلايا التي تُخضع عواطفنا، وتفطمنا عن الاكتفاء الذاتي، وتعلّمنا الرجولة المسيحية، وتعلّمنا أن نحب الله لا عندما يعزينا فقط، بل عندما يمتحننا أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (٣): حث إسرائيل على نفس القناعة.
٣لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ ٱلرَّبَّ مِنَ ٱلْآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ.
١. لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ ٱلرَّبَّ: لا يستطيع شعب الله أن يتعلموا ويحيوا الدرس الذي رنمه داود في مزموره القصير إلاّ إذا وضعوا رجاءهم في الرب وحده. فما من شيء أو شخص آخر يمكنه أن يعطيهم نفس التوكيد والاطمئنان.
· “انظر كيف أن الشخص المفطوم عن الذات يفكر في الآخرين بمحبة! إذ يفكر داود في شعبه، ناسيًا نفسه في اهتمامه بإسرائيل.” سبيرجن (Spurgeon)
· يُكشف عن سر الانتصار على الطموح المحموم في مناشدة داود إسرائيل أن تضع رجاءها في الرب.” مورجان (Morgan)
· هذه شهادة خبرة داود الذي أراد لشعب الله بشكل عام أن يتمتعوا بها. “افعلوا ما فعلت أنا. أنا اتكلت على إله العدالة والرأفة. وبعد أن تعانوا لبعض الوقت، سيشمّر عن ساعده وينقذكم.” كلارك (Clarke)
· “تنقلنا الآية الأخيرة من التأمل في داود إلى اتِّباع مثاله أو مثال ابنه الأعظم، ليس من خلال الاستبطان، لكن من خلال الفطام من الطموحات غير الجوهرية إلى الطعام القوي الوحيد الذي يمكن أن يكون لنا. “طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ (يوحنا ٤: ٣٤).” كيدنر (Kidner)
· “دع شعبه يرجوا ويثقوا، لا بأنفسهم، أو بحكمتهم، أو بقوتهم، لكن بالرب وحده الذي سيرفعهم.” هورن (Horne)
٢. مِنَ ٱلْآنَ وَإِلَى ٱلدَّهْرِ: لا بد أن يكون لقرار المرء بوضع ثقته في الرب نقطة بداية، وينبغي أن تكون الآن. ومن هذه النقطة، ستستمر إلى الأبد.
· وَإِلَى ٱلدَّهْرِ: “يأخذ الفطام الطفل من حالة مؤقتة إلى حالة سيستمر فيها إلى بقية حياته. ويعني ارتفاعه فوق العالم الدخول إلى وجود سماوي لا ينتهي أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· سيستمر إلى الأبد، لكن له نقطة بداية. “إن كان هنالك شخص غير مجدّد هنا لا يستطيع أن يفهم هذا كله، فإني أصلي إلى الرب أن يجعله طفلًا أولًا، وبعد ذلك طفلًا مفطومًا.” سبيرجن (Spurgeon)