تفسير سفر المزامير – مزمور ٧٥
القاضي (الديّان) البار يَرفع ويُنزِل
هذا المزمور معنون لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لَا تُهْلِكْ». مَزْمُورٌ لِآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ. ويعتقد بعضهم أن إمام المغنّين أو الموسيقيين هو الرب نفسه، بينما يفترض آخرون أنه إشارة إلى قائد الجوقات أو الموسيقيين مثل هيمان المرنم (أخبار الأيام الأول ٣٣:٦؛ ٦:٢٥). وقد استُخدِم لحن «لَا تُهْلِكْ» في المزامير الداودية ٦٧ و ٥٨ و ٥٩. وقد خدم الكاتب آساف المرنم والموسيقي العظيم في عهدي داود وسليمان (أخبار الأيام الأول ١٧:١٥-١٩، ٥:١٦-٧، أخبار الأيام الثاني ١٣:٢٩). ويضيف أخبار الأيام الأول ١:٢٥، أخبار الأيام الثاني ٣٠:٢٩ أن آساف كان نبيًّا في مؤلفاته الموسيقية.
أولًا. توبيخ الله للمتكبرين
أ ) الآية (١): شكر لله القريب منا.
١نَحْمَدُكَ، يَا ٱللهُ نَحْمَدُكَ، وَٱسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ.
١. نَحْمَدُكَ: كتب آساف هذا المزمور من منظور الجماعة. فهم يقولون معًا: نعطي لك الشكر (نَحْمَدُكَ). وتتكرر الفكرة لغرض التوكيد. إذ يُسْعِد شعب الله أن يحمدوه.
· “ينبغي أن نحمد الله مرارًا وتكرارًا. وأمّا العرفان بالجميل المقيَّد فهو جحود. إذ ينبغي أن يقابَل صلاح الله غير المحدود بتشكرات غير محدودة.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَٱسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ (عجائبك تعلن أن اسمك قريب): كان لعرفانهم بالجميل أساس وسبب وجيه. فهم يحمدون الله لا على أعماله العجيبة، بل من أجل ما تعلنه هذه الأعمال. فهي تعلن أنه في معدنه الأدبي وصفاته (اسمك) قريب من شعبه.
· نحن شاكرون على أعمال الله العجيبة بيننا، لكن ليس من أجل الأعمال نفسها، بل لأنها تذكّرنا دائمًا بمحبته وصلاحه ورحمته وحكمته تجاه شعبه. وإنه لأمر رائع أن نعرف ونختبر أيضًا أن اسمه قريب.
· “يقال إن اسم الله قريب لأنه لفت أنظار الجميع، ولأنه في كل فكر وعلى كل لسان، بالمقابلة مع ما هو غامض أو غير معروف، والذي يقال عنه إنه بعيد جدًّا.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن فينيما (Venema)
· “يكمن سبب الابتهاج في حضور الله الواضح المعلن والمحتفل به في قصص أفعال الله القديرة. وتكمن تعزية توكيد قُرْب الله من شعبه في تذَكُّر تاريخ الخلاص وإعادة سرده.” فانجيميرين (VanGemeren)
· “اسم الله جزء من عطائه الذاتي. فهو إعلان لهويته وطبيعته (سفر الخروج ١٤:٣٤-١٥) ودعوة إلى أن ندعوه (أعمال الرسل ٢١:٢).” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (٢-٣): الله يتكلم عن دينونته.
٢لِأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَادًا. أَنَا بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي. ٣ذَابَتِ ٱلْأَرْضُ وَكُلُّ سُكَّانِهَا. أَنَا وَزَنْتُ أَعْمِدَتَهَا. سِلَاهْ.
١. لِأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَادًا. أَنَا بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي: جاءت السطور السابقة من منظور جماعة الله. وأما هذه السطور فتأتي من منظور الله نفسه. فالله يعلن أنه سيدين (أَقْضِي)، وأن أحكامه ستكون مستقيمة (بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي). فكما فهم إبراهيم، فإنه لا مفر من أن يقضي القاضي الأرض كلها بالعدل (سفر التكوين ٢٥:١٨).
٢. لِأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَادًا: لدى الله في دينوناته أو أحكامه الحق في اختيار الوقت الملائم لتنفيذها. وغالبًا ما نحس بأننا نعرف الوقت الملائم لدينونات الله. وغالبًا ما ننزعج عندما يبدو أن الله لا يشاركنا منظورنا. ويفترض أن يكون للإيمان ثقة متسمة بالتواضع باستقامة دينونات الله (أحكامه) ووقتها الملائم.
· “يبيّن هذا وقت النشاط الإلهي وأسلوبه. فتوقيته هو التوقيت المضبوط (الميعاد المعيَّن)، أي أن الله لا يتحرك قبل الأوان أبدًا، ولا يتحرك بعد فوات الأوان أبدًا. وهذه رسالة عظيمة.”مورجان (Morgan)
· “لو كانت الدينونة في أيدينا، لقمنا بتفجيرها في وجه أي شيء لا يرضينا عند رؤيته. لكن الله يسمح أحيانًا للشر بأن يمضي من دون كبح لفترة طويلة، عالمًا أنه حدّد وقتًا ملائمًا لإسقاطه.” بويس (Boice)
٣. ذَابَتِ ٱلْأَرْضُ وَكُلُّ سُكَّانِهَا: أعلن الله قوة دينوناته العظيمة. وعندما تُطْلق، فإن الناس والأشياء إما أن تنحل (تذوب)، وإما أن ترسخ بحزم.
· “ربما يكون هنالك انحلال واضح وحقيقي جدًّا لكل منظمة بشرية أو نظام، لكن أعمدة الحق الحقيقية راسخة من الله، وهي غير قابلة للهدم. وهذا الاقتناع هو قلعة الروح.” مورجان (Morgan)
٤. سِلاهْ: الصواب والتوقيت وقوة دينونات الله كلها جديرة بالتأمل العظيم.
ج) الآيات (٤-٥): الله يخاطب المتكبرين.
٤قُلْتُ لِلْمُفْتَخِرِينَ: لَا تَفْتَخِرُوا. وَلِلْأَشْرَارِ: لَا تَرْفَعُوا قَرْنًا. ٥لَا تَرْفَعُوا إِلَى ٱلْعُلَى قَرْنَكُمْ. لَا تَتَكَلَّمُوا بِعُنُقٍ مُتَصَلِّبٍ.
١. قُلْتُ لِلْمُفْتَخِرِينَ: لَا تَفْتَخِرُوا: بناءً على السطور السابقة، إنه أفضل أن نعُد هذا تسجيلًا من آساف لكلام الله من منظوره. ففي ضوء دينونات الله العظيمة، يوجه الله تحذيرًا للمتكبرين (لِلْمُفْتَخِرِينَ) من أن يفتخروا بعد ’لَا تَفْتَخِرُوا‘ وأن يمجدوا قوّتهم (لَا تَرْفَعُوا قَرْنًا).
· “إنّ تباهي المرء بقوته ضد السماء معادل لرفع قبضته في وجه الله تحدِّيًا له.” بويس (Boice)
· إِلَى ٱلْعُلَى قَرْنَكُمْ: “هذه استعارة من ثور عنيد غير مروض يرفض أن يحني رأسه ليقبل النير، لكنه يرفع رأسه وقرنيه ليتجنب ذلك.” بوله (Poole)
٢. لَا تَتَكَلَّمُوا بِعُنُقٍ مُتَصَلِّبٍ: صورة العنق المتصلب مأخوذة من عالم الزراعة، حيث يمكن أن يقاوم الثور وضع النير عليه لأغراض الفلاحة وأية أعمال أخرى. فحذّر الله المتكبرين والأشرار من أن يقاوموه بنفس الطريقة.
· “الوقاحة أمام الله جنون، ولا شك أن عنق الكبرياء الوقح الممتد تستفز الفأس. وسيجد الذين يرفعون رؤوسهم عاليًا أنها ستُرفع أكثر إلى أعلى (عندما تُقطع)، كما حدث مع هامان الذي عُلِّق على المشنقة التي نصبها لرجل بار.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا: أسباب للتواضع
أ ) الآيات (٦-٧): تواضعْ لأن الترفيع يأتي من فوق.
٦لِأَنَّهُ لَا مِنَ ٱلْمَشْرِقِ وَلَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ وَلَا مِنْ بَرِّيَّةِ ٱلْجِبَالِ. ٧وَلَكِنَّ ٱللهَ هُوَ ٱلْقَاضِي. هَذَا يَضَعُهُ وَهَذَا يَرْفَعُهُ.
١. لِأَنَّهُ لَا مِنَ ٱلْمَشْرِقِ وَلَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ: أمِلَ آساف أن يعلّم المتكبرين (المفتخرين) الذين سبق أن حذّرهم في الآية السابقة. إذ يفترض أن يعْلموا أن تمجيدهم ونجاحهم وقوّتهم لم تأتِ من الأرض أو من مبادرة بشرية. ولهذا ينبغي أن يكفّوا عن ثقتهم المتكبرة بالذات.
· “اعتاد الطموحون أن ينظروا إلى الأمور هكذا، وإلى كيفية تعزيز أنفسهم، لكن هذا كله بلا جدوى.” تراب (Trapp)
· “كلمة ’يرفع‘ هنا معبّرة للغاية. فهي تعني الرغبة في تعزيز الذات، ويمكن أن تعلّمنا أن خططنا الداخلية وخططنا الخارجية لا يمكن أن تحقق لنا تعزيزًا أو تقدُّمًا، ما لم تكن مرتكزة على مخافة الله ومحبته.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيتمان (Bateman)
٢. وَلَكِنَّ ٱللهَ هُوَ ٱلْقَاضِي: ينبغي لكل شخص ناجح وكل شخص مرتفع بطريقة ما أن ينظر إلى الله بعِرفان للجميل. فالله وراء كل ذلك: هَذَا يَضَعُهُ وَهَذَا يَرْفَعُهُ. والفكر والقلب المتواضعان أكثر الاستجابات ملاءمةً، بدلًا من كلمات التباهي، أو احتفال المرء بقوّته، أو مقاومته لله.
· “الترفيع في أي اتجاه، في مراكز المسؤولية أو التأثير أو الاعتبار هو هبة الله وعمله.” ميير (Meyer)
· لا يعني هذا أن العمل الجاد، والتحضيرات، والعادات الجيدة، والجوانب البشرية الأخرى لا تسهم في النجاح. لكنها هي هبات وقدرات من الله، ولهذا ينبغي النظر إليها بتواضع وعرفان بالجميل لله.
· “تبرز إمبراطورية وتسقط أخرى بإشارة من يده. هنا زنزانة، وهناك عرش. وإرادته هي التي تعيّن هذه وذاك. تستسلم آشور لبابل، وبابل للماديين. والملوك مجرد دمى بين يديه. وهم يخدمون مقاصده عندما يصعدون وعندما يسقطون.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٨-٩): تواضعْ لأن الأشرار سيدانون بينما الأبرار سيسبّحون.
٨لِأَنَّ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَأْسًا وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنةٌ شَرَابًا مَمْزُوجًا. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ، يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ ٱلْأَرْضِ. ٩أَمَّا أَنَا فَأُخْبِرُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. أُرَنِّمُ لِإِلَهِ يَعْقُوبَ.
١. لِأَنَّ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ كَأْسًا: استخدم آساف الكأس هنا كاستعارة لدينونة الله. والفكرة هنا هي أن الله يُظهر دينونته على الأشرار، وهم مجبَرون على اجتراع الكأس المرّة.
· “هنالك مقابلة غير جذابة بين صورتين: صورة الاحتفال والضيافة عندما يقدم المضيف كأس خمر لضيفه، وصورة إجبار الله للأشرار على تجرُّع كأس الدينونة رغمًا عنهم.” ماكلارين (Maclaren)
· “سخروا من وليمة محبته، ولهذا سيُجرَّون إلى طاولة عدالته، وسيُجبرون على شُرب ما يستحقونه.” سبيرجن (Spurgeon)
· “سيُجبر الذين شربوا عن طيب خاطر وبلا قيد كأس الخطية، على شُرب كأس الدينونة. لن تكون رشفة أو رشفتين في دورهم. بل سيجرعون الكأس كلها، بما فيها العَكَر. سيشربون حتى كل ما في القاع، حيث لا يوجد قاع. لقد أحبوا مواسم الجفاف الطويلة، وسيكون لديهم موسم طويل بما يكفي – إنه قاع أبدي.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن كاريل (Caryl)
· مَلآنةٌ شَرَابًا مَمْزُوجًا: يشير هذا التعبير ’شَرَابًا مَمْزُوجًا‘ إلى التوابل التي يمكن أن تضاف من أجل طعم لاذع. ولهذا تقول إحدى الترجمات: ’حارّة بالبهارات.‘” كيدنر (Kidner)
٢. أُرَنِّمُ لِإِلَهِ يَعْقُوبَ: بالمقابلة مع أشرار الأرض، تحدّث آساف عن شعب الله الذين يعلنون أحكامه ويبتهجون بها.
ج) الآية (١٠): تواضعْ لأن الله سيُنزِل الأشرار ويعلّي الأبرار.
١٠وَكُلَّ قُرُونِ ٱلْأَشْرَارِ أَعْضِبُ. قُرُونُ ٱلصِّدِّيقِ تَنْتَصِبُ.
١. وَكُلَّ قُرُونِ ٱلْأَشْرَارِ أَعْضِبُ (أقطع): سبق أن استخدم آساف رمز القرن في مرحلة مبكرة (في الآيتين ٤-٥) في التعبير عن القوة والهيمنة (كما في قرن الثور). وهو ينهي هذا المزمور بكلمة أخرى من منظور الله ناذِرًا أن يُنزل قرن المتكبرين والأشرار (كما في الآية ٧).
· قُرُونِ ٱلْأَشْرَارِ: “كرامتهم وقوّتهم التي جعلوها أداة للأذى وقمع الصالحين. وهذه استعارة مأخوذة من وحوش بغيضة ذات قرون.” بوله (Poole)
٢. قُرُونُ ٱلصِّدِّيقِ تَنْتَصِبُ: ليس عمل الله في الدينونة موجهًا ضد الأشرار وكبريائهم فحسب، لكنه يتضمن مكافأة الأبرار أيضًا. فكما أن من المؤكد أنه سيقطع كبرياء الأشرار، كذلك سيرفع قوة الأبرار.
· “سأقطع كل قوتهم وتأثيرهم، وسأمجّد وأنشر قوة الأبرار.” كلارك (Clarke)