تفسير سفر المزامير – مزمور ٥
صلاة صباحية
عنوان هذا المزمور هو “لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ذَوَاتِ ٱلنَّفْخِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ.” ويشير هذا العنوان إلى أن المزمور موجه إلى “ِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ” أو الموسيقيين، والذي يفترض بعضهم أنه الرب نفسه، بينما يفترض آخرون أنه قائد للجوقات أو قائد الموسيقيين في زمن داود، مثل المرنم (المغني) هيمان أو آساف (أخبار الأيام الأول ٣٣:٦؛ ٥:١٦-٧؛ ٦:٢٥). ويخبرنا العنوان أيضًا أن المزمور كُتِب عمدًا لتصاحبه آلات نفخ «ذَوَاتِ ٱلنَّفْخِ». ويبيّن هذا المزمور مجيء داود إلى الرب في الصباح ليتلقى القوة والفرح اللازمين له عبر يومه في مواجهة خصومه.
أولًا. الاقتراب إلى الله في الصباح
أ ) الآيات (١-٣): داود يقترب إلى الله
١لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمَّلْ صُرَاخِي. ٢اسْتَمِعْ لِصَوْتِ دُعَائِي يَا مَلِكِي وَإِلهِي، لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. ٣يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ.
١. أَصْغِ… تَأَمَّلْ… ٱسْتَمِعْ: يتوق داود إلى لقاء بالله. وهو في استخدامه الأسلوب العبري في التوازي، يكرر الفكرة نفسها ثلاث مرات: “لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ.”
٢. إِلَيْكَ أُصَلِّي: صلى داود لله. وقد يبدو هذا أمرًا ابتدائيًا، لكنه جانب أساسي من الصلاة. فغالبًا ما نأتي إلى الصلاة ممتلئين جدًّا بطلباتنا أو مشاعرنا بحيث لا نركز بوعي على الله ونستشعر حضوره. كان داود رجل صلاة عظيمًا لأن صلواته كانت تركز على الله.
· “ليس قدْر كبير مما يدعى صلاة، سواء أكانت عامة أم خاصة، موجهًا إلى الله. فلكي تكون صلاة ما لله حقًا، يتوجب أن يكون هنالك اقتراب محدد وواعٍ إلى الله عندما نصلي. يتوجب أن يكون لدينا إدراك محدد ونابض بالحياة أن الله ينحني ليستمع ونحن نصلي.” توري (Torrey)
٣. بِٱلْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي: تعمّد داود أن يجعل صلاته في الصباح (بِٱلْغَدَاةِ)، لأنه أراد أن يكرم الله في بداية يومه، ويلوّن كل نهاره بتكريسه لله.
· كان هدسون تايلور، وهو المرسل العظيم إلى الصين، يجد صعوبة في أن يقضي وقتًا مع الله وحده. فبدأ يوقظ نفسه في الثانية صباحًا، واستخدم تلك الساعات أثناء نوم الآخرين ليتواصل مع الله.
· “ماذا يمكن للخاطئ الكسول أن يفكر عن نفسه عندما يقرأ، حول اسم يسوع المقدس، كيف أنه كان يستيقظ قبل وقت طويل من ابتداء النهار، وينطلق إلى مكان عزلة ليصلي هناك؟” هورن (Horne)
· “هذا أكثر وقت ملاءمة للاجتماع مع الله. فساعة في الصباح تساوي في قيمتها ساعتين في المساء. وبينما يكون الندى على العشب، دع النعمة تتساقط على نفسك.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. بِٱلْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلَاتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ: يخبرنا داود ما ينبغي أن نفعله قبل الصلاة وبعدها. فقبل الصلاة علينا أن نوجه صلاتنا. وبعدما نصلي نرفع أنظارنا إلى السماء بتوقع، مؤمنين حقًّا أن الله سيستجيب لنا.
· ليست الفكرة وراء كلمة ’أُوَجِّهُ‘ التهديف، بل الترتيب. “إنها الكلمة المستخدمة للإشارة إلى ترتيب الحطب وقطع الذبيحة للمحرقة على المذبح. وهي تستخدم أيضًا لوضع خبز الوجوه على المائدة. وهذا هو معناها: سأرتب صلاتي أمامك. سأضعها على المذبح في الصباح، كما يضع الكاهن الذبيحة الصباحية.” سبيرجن (Spurgeon)
· “إنه لخطأ واضح أن نصلي بطريقة عشوائية. فهنالك قدر كبير من العشوائية في صلواتنا جميعًا. فنحن لا نعود المرة تلو الأخرى إلى نفس الطلبة، مؤكدين إياها بتواضع وتوقير، مقدمين حججًا مدافعين عن قضيتنا، كما فعل إبراهيم في صلاته من أجل سدوم وعمورة.” ميير (Meyer)
· “ألا نفوِّت الكثير من عذوبة الصلاة وفاعليتها بسبب نقص في التأمل المتأني قبلها والتوقع الآمِل بعدها؟ دعوا التحضير المقدس يربطنا بالتوقع الصبور، وعندئذِ سنرى استجابات أكثر لصلواتنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٤-٨): مقارنة بين الرجل الشرير والرجل التقي
٤لأَنَّكَ أَنْتَ لَسْتَ إِلهًا يُسَرُّ بِالشَّرِّ، لاَ يُسَاكِنُكَ الشِّرِّيرُ. ٥لاَ يَقِفُ الْمُفْتَخِرُونَ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ. أَبْغَضْتَ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ. ٦تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ. ٧أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ بِخَوْفِكَ. ٨يَا رَبُّ، اهْدِنِي إِلَى بِرِّكَ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ.
١. لَسْتَ إِلَهًا يُسَرُّ بِٱلشَّرِّ: يتأمل داود هنا طبيعة الله البارة. وأعمالنا تَهُم إلهاً يبغض كُلَّ فَاعِلِي ٱلْإِثْمِ.
· مع اقتراب داود إلى الله، صار أكثر وعيًا بقداسة الله وإثم الإنسان. “هذه طريقة جيدة لتقيس إن كنت تصلي جيدًا، ولتعرف وأنت تصلي، إن كنت تقترب إلى الله أم أنك مجرد تقول كلمات بلا معنى. فإن كنت تقترب إلى الله، ستصبح أكثر حساسية تجاه الخطية، وهو أمر محتوم بما أنك تقترب إلى إله قدوس.” بويس (Boice)
٢. أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ: هذه هي ثقة داود. ليس الأمر أنه بار بينما الآخرون خطاة. لكن أساس ثقته هي رحمة الله.
٣. أسْجُدُ … بِخَوْفِكَ: لا ترتكز عبادة داود على مشاعره، بل على توقيره لإله بار رحيم.
٤. سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ: يعكس هذا اعتماد داود الدائم على الله. فهو محتاج إلى أن يقوده الله ويجعل طريقه مستقيمًا (سَهِّلْ). سلك داود في الطريق الصحيح، لكنه كان متواضعًا حول ذلك. فقد عرف أن قوة الله وعمله كانا وراء ابتعاده عن طريق الأشرار.
ثانيًا. وصفٌ ومصير
أ ) الآيات (٩-١٠): وصف الأشرار ومصيرهم.
٩لأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ. جَوْفُهُمْ هُوَّةٌ. حَلْقُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا. ١٠دِنْهُمْ يَا اَللهُ! لِيَسْقُطُوا مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ. بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ طَوِّحْ بِهِمْ، لأَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَيْكَ.
١. لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ: يركز داود على ما يقوله الأشرار كدليل على شرّهم. فقد فهِمَ داود ما قاله يسوع لاحقًا في متى ٣٤:١٢ “مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ.” إذ لا بد أن يَظهر برّنا أو شرّنا عاجلًا أم آجلًا في كلامنا.
· أحس داود بلسعات الكلمات الشريرة والأكاذيب ضده. غير أن هذه الصلاة تبيّن أن شيئًا جيدًا أتى من هجمات الأعداء هذه. “وهكذا، فإن أعداء الرجل، الذين يجبرونه على اللجوء إلى الصلاة بحرارة أكبر، وعلى مراقبة سلوكه بدقّة، يصبحون في الغالب أفضل أصدقائه.” هورن (Horne)
٢. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا (في النفاق): “اِحذر دائمًا من الذين ينافقونك، وبشكل خاص عندما يخبرونك أنهم لا ينافقونك، وأنهم يعرفون أنك لا تحتمل النفاق، لأنك عندئذٍ تكون قد تعرضت للنفاق بشكل بشع جدًّا. فاحترز من لسان المنافق المرائي.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِيَسْقُطُوا مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ (بمشورتهم): يصلي داود أن يلقى الأشرار النهاية التي يستحقونها. فبصفتهم متمردين على الله، فهم يستحقون حكم “مذنب.”
ب) الآيات (١١-١٢): وصف الأبرار ومصيرهم.
١١وَيَفْرَحُ جَمِيعُ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ. إِلَى الأَبَدِ يَهْتِفُونَ، وَتُظَلِّلُهُمْ. وَيَبْتَهِجُ بِكَ مُحِبُّو اسْمِكَ. ١٢لأَنَّكَ أَنْتَ تُبَارِكُ الصِّدِّيقَ يَا رَبُّ. كَأَنَّهُ بِتُرْسٍ تُحِيطُهُ بِالرِّضَا.
١. وَيَفْرَحُ جَمِيعُ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ: ليست كلمات الأبرار هي التي تجعلهم أبرارًا. فالأبرار هم الذين يثقون بالرب ويحبون اسمه. لكن برهم واضح في كلامهم. وهم يفرحون، بل يهتفون فرحًا، وهم فرحون في الرب.
· “ربما تكون لمسة حماسة خلاصًا بالنسبة لديانة كثيرين. فبعض المؤمنين بالمسيح أشخاص صالحون بما يكفي: إنهم مثل الشمعة، لكنهم لا يضيئون. ليت هنالك لمسة من اللهب! لأنه عندئذٍ سيبعثرون أنوارهم ويكونون مفيدين لعائلاتهم. فليهتفوا فرحًا. ولِمَ لا؟ فلا يعترض الأشخاص المولعون بالترتيب. قال أحدهم لي قبل أيام: ’عندما تعظ، أحس بأني مدفوع إلى الهتاف.‘ صديقي، اهتف واصرخ إذا أحسستَ بأنك مجبور على ذلك. (وهنا صرح أحدهم: هللويا! مجدًا!) يهتف صديقي ’هللويا! مجدًا!‘ وأنا أقول أيضًا: ’هللويا! مجدًا!‘ لا يلزم أن تكون تلك الصرخة في اجتماع عام للعبادة لئلا تعيق الاستماع التقي. لكن توجد أوقات وأماكن يمكن فيها لهتافات مجيدة من الفرح الحماسي أن تبث الحياة في جميع الأرجاء. وأما الأشرار فليسوا متحفظين أبدًا في تجديفهم كما نحن في تسبيحنا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَيَفْرَحُ جَمِيعُ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ: هذا تصريح، وأمر، وصلاة، ووعد.
· لديك تصريح بالفرح. “لديك تذكرة للدخول إلى مآدب الفرح. يمكن أن تفرح قدر ما تشاء. لديك تصريح إلهي بالهتاف فرحًا.” سبيرجن (Spurgeon)
· لديك مذكِّرة، أمر بالفرح: “تعالوا أيها النائحون، واسعَدوا. أيها المتذمرون غير القانعين، اخرجوا من أماكنكم التعيسة. ادخلوا قصر الملك. اتركوا جبال الروث التي تعيشون فيها، واصعدوا إلى عروشكم.” سبيرجن (Spurgeon)
· ينبغي أن تصلي من أجل الفرح، لنفسك وللآخرين معًا – ولا سيما خدام الرب. “إذا فقدت فرحك في ممارسة دينك، ستكون عاملًا سيئًا. ولن تقدر أن تحمل شهادة قوية. ولن تقدر أن تحتمل محنة شديدة، ولن تقدر أن تحيا حياة قوية. وبقدر احتفاظك بفرحك، ستكون قويًا في الرب ومن أجل الرب.” سبيرجن (Spurgeon)
· لديك وعد بالفرح: “يَعِد الله المؤمنين بالفرح والسرور. يُزرَع النور من أجلهم. وسيحوّل ليلهم إلى نهار.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. أَنْتَ تُبَارِكُ ٱلصِّدِّيقَ يَارَبُّ. كَأَنَّهُ بِتُرْسٍ تُحِيطُهُ بِٱلرِّضَا: هذه أعظم النِعم – رضا الرب. إن معرفتنا بأن الله ينظر إلينا برضا وسرور أعظم معرفة في العالم. هذا هو وضعنا في النعمة.
· لا يحمي الترس مجرد أية ناحية من الجسم فقط. فهو كبير جدًّا ليغطي أية ناحية وكل ناحية من الجسم. إنه ترس فوق ترس. هكذا يحمينا رضا الله، والذي هو وضْعنا في النعمة، بشكل كامل.
· عندما كان مارتن لوثر في طريقه إلى مواجهة كاردينال من الكنيسة الكاثوليكية للرد على ما وصفته الكنيسة بالتعاليم الهرطوقية، راح أحد خدام الكاردينال يعذّبه بسؤال: أين يمكنك أن تجد مأوى إذا هجرك راعيك، ناخب ساكسونيا؟” أجابه لوثر: “تحت ملجأ السماء.”