تفسير سفر المزامير – مزمور ١٧
ملجأ تحت ظل جناحيه
عنوان هذا المزمور ببساطة هو “صَلَاةٌ لِدَاوُدَ.” ولا نستطيع أن ننسب هذا المزمور إلى فترة محددة في حياة داود، لأنه توجد نقاط كثيرة محتملة يمكن أن يرتبط بها المزمور بظروفه العامة. والمزمور رائع في تعبيره عن ثقة داود بالله، وغياب الحديث عن ثقته بنفسه، وعن الرجاء السماوي المجيد.
أولًا. تضرُّع إلى الله ليسمعه في وقت الأزمة.
أ ) الآيات (١-٢): داود يقدم قضيته للرب.
١اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ. أَنْصِتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ. ٢مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ الْمُسْتَقِيمَاتِ.
١. اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ (لقضيتي العادلة): كما هو شائع في المزامير، صلّى داود مرة أخرى في وقت أزمة. وهو يبدأ تضرعه لله بإعلان عدالة قضيته. واعتقد أن لدى الله كل سبب يدعوه إلى أن ينصت إلى صراخه، لأن قضيته عادلة.
· إنه لأمر ممكن تمامًا أن يعتقد أحدهم أن قضيته عادلة بينما هي ليست كذلك، أو أن يكون هنالك طرفان متنازعان وكل واحد منهما مقتنع بأن قضيته عادلة. فلا نستطيع أن نطبق كلمات داود علينا بشكل آلي فنحكم فورًا أن قضيتنا عادلة مثل قضية داود.
· ومع هذا، يمكننا أن ننظر إلى قضيتنا من دون تحيز وبهدوء قدر الإمكان، ناظرين إليها من منظور الآخرين حسب قدرتنا، وأن نكون مهتمين بما هو عادل أكثر مما هو في صالحنا.
· “الصراخ هو أول ما نطلقه في حياتنا. وهو بطرق كثيرة أكثر الأصوات البشرية طبيعيةً. فإن كانت صلاتنا أكثر شبهًا بصراخ الطفل الرضيع وأكثر طبيعيةً من صراخ الشخص الأكثر ذكاء وجديّةً وأناقةً في انتقاء كلماته، فإنها لن تكون أقل بلاغة عند الله. فهنالك قوة عظيمة في صرخة الطفل تتغلب على قلب الأب أو الأم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَصْغِ إِلَى صَلَاتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلَا غِشٍّ: كما كان داود مقتنعًا بعدالة قضيته، حرص أيضًا على أن يتكلم عنها بصدق وأمانة. والفكرة هنا هي أن داود لم يلجأ إلى الغش ليستحق مشكلته الحالية، وأنه لم يكن يحجب حقائق من شأنها أن تنسف قضيته.
· صلى داود في مزمور ٢٣:١٣٩-٢٤ قائلًا: “ٱخْتَبِرْنِي يَا ٱللهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا.” كانت هذه الصلاة الرائعة – أن يعرف المرء قلبه ودوافعه وخطاياه – هي الصلاة التي اعتاد داود أن يرفعها قبل أن يصلي هذا المزمور. وهو يأتي إلى الله هنا بثقة ما من خلال ضمير ممتحَن.
· مِنْ شَفَتَيْنِ بِلَا غِشٍّ: “لهم صوت يعقوب لكن يدا عيسو؛ يتحدثون بلسان القديسين، لكنهم يمارسون ممارسة الشياطين؛ صلواتهم طويلة، لكن قلمّا يصلّون.” سبيرجن (Spurgeon) نقلًا عن بيلز (Bales)
٣. مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي: لم يُرد داود أن تأتي تبرئته من عنده. كانت لديه في صراعه الطويل مع الملك شاول عدة فرص لتصويب الأمور بنفسه، لكنه رفض ذلك، وانتظر إلى أن جاءت التبرئة (قَضَائِي) من قُدَّامِ الله.
· كانت تلك طريقة مهمة وضع بها داود المسألة بين يدي الرب. “يا رب، أنا أرفض أن أتولى الأمور بنفسي. سأنتظر تبرئتي مِنْ قُدَّامِكَ (مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي). فأنا أريد أن أعرف أن هذا هو عملك أنت، لا عملي.”
٤. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ ٱلْمُسْتَقِيمَاتِ: صاغ داود طِلبته بطريقة تؤكد عدالة الله أكثر من قضيته الخاصة. صحيحٌ أنه اعتقد أن قضيته عادلة، لكنه تحدّث بطريقة تعطي أهمية أكبر للحق (ٱلْمُسْتَقِيمَاتِ).
· كانت فكرة داود شيئًا كهذا: “يا رب، أعتقد أن قضيتي عادلة، وأنا فتشتُ قلبي عن أيّ غش. غير أني أنتظر تبرئتك أنت، وأنا أريدك أن تفعل وتعزز ما هو صواب. فإن لم أكن إلى جانبك، فحرِّكْني لكي أكون كذلك.”
· “لا أرغب في شيء غير معقول أو غير عادل، لكني أرغب في أن تقضي بعدل بيني وبين أعدائي، وأن تبرئ شرفي وأمانتي بأن تفي بوعدك لي.” بوله (Poole)
ب) الآيات (٣-٤): تضرُّع من قلب ممتحَن.
٣جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلاً. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُومًا. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي. ٤مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ النَّاسِ فَبِكَلاَمِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ مِنْ طُرُقِ الْمُعْتَنِفِ.
١. جَرَّبْتَ قَلْبِي (امتحنتَ): دعا داود الله إلى أن يمتحنه في الآيتين السابقتين. وهو هنا يتحدّث عن نجاحه في ذلك الامتحان (مَحَّصْتَنِي. لَا تَجِدُ فِيَّ ذُمُومًا).
· يفترض كلارك (Clarke) – ويرجح أنه على صواب – أن هذا المزمور يأتي في سياق إيذاء شاول لدواد. “رأيتني في أكثر أماكن اعتزالي سرّيّةً، وأنت تعرف إن كنت قد خططتُ للأذى لأولئك الذين يتمنون أن ينتزعوا حياتي.” كلارك (Clarke)
· يحتاج الأمر إلى بعض الصبر والنضج لكي نسمح لله بأن يفحص قلوبنا بهذه الطريقة. ويتوجب علينا أن نقبل حقيقة إمكان كوننا على خطأ وأن شخصًا يمكن أن يكون على حق في هذه المسألة. ويتوجب أن نكون أكثر اهتمامًا بعدالة الله ومقاييسه للصواب والخطأ من ربح قضيتنا. يتوجب أن نأتي إلى الله وكلمته بقلب مستعد للتبكيت والتصحيح.
· هنالك ثلاثة أسئلة ينبغي طرحها على الجميع: “هل أنا أسمح لله بفحص قَلْبِي؟ هل أنا مستعد لأن أسمح لله بتقويمي؟ هل أنا مستعد لأن أستمع للآخرين عندما يقولون لي إنني ربما أكون على خطأ؟”
· لقد سمح داود لله فعلًا بأن يمتحن قلبه، ولهذا جاء إلى الصلاة بثقة. “إن الخطية المجاهر بها والخطية غير المعترف بها عائق كبير للصلاة. وحياة الاستقامة أساس قوي للتضرع.” بويس (Boice)
· يقترح بويس (Boice) الأسئلة التالية لفحص القلب قبل الصلاة:
ü هل نحن غير مطيعين؟
ü هل نحن أنانيون؟
ü هل نحن نهمل واجبًا مهمًّا؟
ü هل يوجد خطأ ينبغي لي أن أصححه؟
ü هل أولوياتنا صحيحة؟
٢. لَا يَتَعَدَّى فَمِي (فَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى ألَّا أُخْطِئَ بِفَمِي): صمّم داود ألّا يتكلم بطريقة آثمة حول أزمته. كان يمكنه أن يتكلم بطريقة يخدع بها آخرين أو حتى نفسه، فيعزز قضيته الخاصة على حساب عدالة الله. غير أنه نوى ألاّ يفعل ذلك.
· “ليست المجاهرات القوية بنظافة قلب داود وطاعته الخارجية التي تلت ذلك إنكارًا لأية خطية بقدر ما هي تعهُّد بتكريس مخْلص وخضوع صادق للحياة لشريعة الله.” ماكلارين (Maclaren)
٣. بِكَلَامِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ مِنْ طُرُقِ ٱلْمُعْتَنِفِ (لَكَي أتَجَنَّبَ دُرُوبَ العُنْفِ): كان هذا سببًا وراء مهارة داود في هذا التحليل القوي للنفس. إذ أطاع الكلمة وعاش بِكَلَامِ شَفَتَيّ الله. فقد عرف كلمة الله وأَحَبَّها وعاشها.
· كانت هذه هي الكلمة التي جرّبتْ (امتحنتْ) داود فلم تجدْ شيئًا. كانت هذه هي الكلمة التي أعطته حكمة وقوة لكي يتجنب العنف (يتحفّظ مِنْ طُرُقِ ٱلْمُعْتَنِفِ).
· تعلَّم داود هذا الدرس وعرَضَه مرة تلو الأخرى أثناء أزمته الطويلة مع الملك شاول. فكان على داود أن يحمي نفسه وعائلته ورجاله من شاول من دون أن يصبح هو نفسه مُعْتَنِفًا (عنيفًا) مثل شاول.
ثانيًا. تضرُّع للحماية
أ ) الآية (٥): أَمسِكْ (ثبّتْ) خطواتي.
٥تَمَسَّكَتْ خُطُوَاتِي بِآثَارِكَ فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ.
١. تَمَسَّكَتْ (ثبِّتْ) خُطُوَاتِي: شعر داود بأنه في خطر السقوط أو الانزلاق إلى كارثة. فاحتاج إلى أن يثبّت خطواته لئلا تزل قدماه (تَمَسَّكَتْ خُطُوَاتِي بِآثَارِكَ فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ).
· “تقدّم لنا كلمة الله التوجيه أو الوجهة، لكن لا بدّ لنعمة الله من أن تمكّننا من اتِّباع ذلك التوجيه، ولا بد من أن نحصل على تلك النعمة بالصلاة.” هورن (Horne)
· “ماذا؟ أن ينزلق في طريق الله؟ نعم. الطريق صالحة، لكن أقدامنا شريرة، ولهذا فإننا ننزلق، حتى ونحن في طريق الملك.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. بِآثَارِكَ (في سُبُلِك): يبيّن هذا التواضع الكبير في صلاة داود. يريد التأييد والدعم، لكن في آثار (سبل) الله. ويتضمن هذا صلاة غير منطوقة: “يا رب، إن لم أكن في سُبُلك، فأرجو أن تضعني هناك. أريد أن أكون في سبلك (آثارك)، لا في سُبُلي.”
ب) الآيات (٦-٩): احفظني سالمًا بقوّتك.
٦أَنَا دَعَوْتُكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي يَا اَللهُ. أَمِلْ أُذُنَيْكَ إِلَيَّ. اسْمَعْ كَلاَمِي. ٧مَيِّزْ مَرَاحِمَكَ، يَا مُخَلِّصَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ، بِيَمِينِكَ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ. ٨احْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ الْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ اسْتُرْنِي ٩مِنْ وَجْهِ الأَشْرَارِ الَّذِينَ يُخْرِبُونَنِي، أَعْدَائِي بِالنَّفْسِ الَّذِينَ يَكْتَنِفُونَنِي.
١. أَنَا دَعَوْتُكَ لِأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي (لأنك مستعد لأن تسمعني): إن ثقة داود الهادئة في وسط الأزمة أمر مشجع. ومع أن المشكلات لم تختفِ بعد، إلاّ أنه كان ما زال واثقًا بأن الله سيسمعه (تَسْتَجِيبُ لِي) عندما يدعوه.
· يشرح بويس (Boice) كيف أن هذا المزمور نمط عظيم للصلاة: “يقدم المزمور مثالًا للطريقة التي يستخدم بها صاحب المزمور حججًا في تقديم التماسه إلى الله. وهو لا يطلب ما يريده أو يحتاج إليه فحسب. بل يقدم حججًا لدعم قضيته، شارحًا لله كيف ينبغي أن يجيب.”
· نحن لا نقدم في الغالب مثل هذه الحجج في الصلاة لأننا نستطيع، من خلال حججنا الذكية المقنعة، أن نقتع الله بأن يفعل شيئًا لا يريد أن يفعله. وبدلًا من ذلك، “لأن الحجج تجبرنا على أن نفكر بعناية بشكل وافٍ في ما نطلبه ونشحذ طلباتنا.” بويس (Boice)
٢. مَيِّزْ (أَظهِرْ) مَرَاحِمَكَ (العجيبة)… بِيَمِينِكَ: هذا أول ظهور لكلمة ’مَرَاحِم‘ الرائعة في المزامير. فقد طلب داود أن يُظهر الله له هذه المحبة الخاصة بقوّته الخاصة (بِيَمِينِكَ).
· يُعلّق كيدنر (Kidner) على كلمة ’مَرَاحِم‘ هكذا: “’المحبة الثابتة‘ أو ’المحبة الحقيقية‘ و’الوفاء لعهد‘. ونجد قياسًا تمثيليًّا لهذه المحبة والوفاء للعهد في عهد الزواج.”
· “هذه هي المحبة التي يدخل بها الله في علاقة مواتية مع شعبه، واعدًا بأن يكون إلههم.” بويس (Boice)
· غير أن داود تحدَّث المزيد عن المراحم هنا. إذ تحدّث عن المراحم العحيبة، وأنها عند يمين الله (بِيَمِينِكَ). “إن عَجَبَ هذه المحبة الاستثنائية هو أن الله يجعلها شيئًا عاديًّا، وأنه يعطينا مراحمه العجيبة مرات كثيرة حتى إنها تصبح بركة يومية، ومع هذا تبقى عجيبة.” سبيرجن (Spurgeon)
· يتوقع كثيرون منا أن يعطيهم الله مراحم معتدلة فقط. فنحن نمارس صلواتنا، وإيماننا، ونجعل توقعاتنا صغيرة. ويبيّن داود لنا نمطًا يمكننا بموجبه أن نطلب من الله مراحم عجيبة.
· “ألا ترى أنك كنت خاطئًا عجيبًا؟ كنت جحودًا عجيبًا. وجعلت خطاياك تتفاقم بشكل عجيب. ورفستَ دموع أمك بشكل عجيب. وتحدّيت مشورة أبيك بشكل عجيب. واستهزأت بالموت بشكل عجيب. وقطعت عهدًا مع الموت وتحالُفًا مع الجحيم بشكل عجيب؛ فيقول ’نعم. لن يرحمني الله أبدًا. إنه كثير جدًّا عليّ أن أرجو، وإنه لعجبٌ أن أتوقع!‘ أيها الشاب، عندي صلاة جديدة لك. قل: ’يا رب، أرِني مراحمك العجيبة.‘ سبيرجن (Spurgeon)
٣. ٱحْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ ٱلْعَيْنِ: كان يُستخدم تعبير “حَدَقَةِ ٱلْعَيْنِ” إلى شيء ثمين، شيء سهل التعرض للأذى، شيء يحتاج إلى حماية. وهكذا أراد داود أن يحميه الله وكأنه شيء ثمين هشٌّ قابل للكسر بسهولة.
· “لم يكن أي جزء من الجسد أثمن وأرقّ وأكثر احتياجًا إلى الحماية مثل العين. ولا يوجد جزء من العين محتاج إلى الرعاية والحماية مثل حدقة العين. وهي مركز العين، وتدعى البؤبؤ، وتُدعى في العبرية ’ابنة العين.‘ وقد وضع الخالق كليّ الحكمة العين في موضع محمي جدًّا. فهي محاطة بعظام كما كانت أورشليم بجبال. وفضلًا عن ذلك، أحاطها خالقها بأستار كثيرة من الغطاء الداخلي، إضافةً إلى طوق الحاجبين، وستارة الجفنين، وسياج الرموش. وعلاوة على ذلك، أعطى الله قيمة عالية للإنسان بسبب عينيه. وهي سريعة جدًّا في إدراك وجود الخطر حتى إنه لا يتلقّى أي جزء من الجسد عناية أكبر مثل جهاز النظر.” سبيرجن (Spurgeon)
· يُستخدم هذا المجاز في سفر التثنية ١٠:٣٢ وسفر الأمثال ٢:٧ وسفر زكريا ٨:٢ أيضًا. ويعني أن نُحفظ كحدقة العين ما يلي:
ü أن تُحرس بحرّاس كثيرين وحمايات كثيرة
ü أن تكون في أمان وسلام دائمًا
ü أن تُحفظ من الأشياء الصغيرة مثل الغبار والحصى
ü أن تُحفظ كشيء حساس ورقيق
ü أن تُحفظ صافيًا وبلا إعاقة
ü أن تُحفظ كشيء جميل ومفيد بشكل بارز
٤. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ ٱسْتُرْنِي: هذا مجاز قوي آخر. وهو يصور كيف تحمي الدجاجة صغارها من كل مفترس، ومن العناصر، ومن الأخطار بجمعهم تحت جناحيها.
· استُخدم هذا المجاز في ثلاثة مزامير أخرى أيضًا (مزمور ٧:٣٦؛ ١:٥٧؛ ٧:٦٣). واستخدم يسوع نفس الصورة المجازية ليبيّن محبته لأورشليم واهتمامه بها في متى ٣٧:٢٣.
· “كما يحمي الطائر فراخه بشكل تام من الشر، ويُظهر معزته لها بدفء قلبها بتغطيتها بجناحيه، كذلك تفعل معي، أيها الإله المتنازل، لأني ذرّيتك، وأنت تحبني بشكل كامل كأب.” سبيرجن (Spurgeon)
- إذا أخذنا هاتين العبارتين القويتين معًا، فإنهما تصوران اهتمام الله بشعبه. “إن الذي سيّج هذا الجزء الثمين الرقيق وحماه، أي حدقة العين، ووفّر الأمان لفراخ عاجزة تحت جناحي أمها، يُتضرَّع إليه الآن أن يقدم نفس الرعاية والاهتمام والمحبة الأبوية لنفوس مختاريه.” هورن (Horne)
٥. مِنْ وَجْهِ ٱلْأَشْرَارِ ٱلَّذِينَ يُخْرِبُونَنِي، أَعْدَائِي بِٱلنَّفْسِ ٱلَّذِينَ يَكْتَنِفُونَنِي: كان التهديد في حياة داود حقيقيًا. فلم يواجه قمعًا جعل حياته صعبة فحسب، لكنه واجه أيضًا أعداء مميتين (أَعْدَائِي بِٱلنَّفْسِ) أرادوا أن ينهوا حياته.
· وفي وسط هذه التهديدات الحقيقية، فعل داود الصواب. إذ صلى. “إن المخاوف التي تحولت إلى صلاة تم قهرها بالفعل بأكثر من النصف.” ماكلارين (Maclaren)
· يستشهد بويس (Boice) بمعلم للكتاب المقدس كان معتادًا أن يصلي صلاة معينة عندما يحس بهجوم: “يا رب، أملاكك في خطر!”
ج ) الآيات (١٠-١٤): اهزم أعدائي المتكبرين المتغطرسين.
١٠قَلْبَهُمُ السَّمِينَ قَدْ أَغْلَقُوا. بِأَفْوَاهِهِمْ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْكِبْرِيَاءِ. ١١فِي خُطُوَاتِنَا الآنَ قَدْ أَحَاطُوا بِنَا. نَصَبُوا أَعْيُنَهُمْ لِيُزْلِقُونَا إِلَى الأَرْضِ. ١٢مَثَلُهُ مَثَلُ الأَسَدِ الْقَرِمِ إِلَى الافْتِرَاسِ، وَكَالشِّبْلِ الْكَامِنِ فِي عِرِّيسِهِ. ١٣قُمْ يَا رَبُّ. تَقَدَّمْهُ. اِصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ، ١٤مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ.
١. قَلْبَهُمُ ٱلسَّمِينَ قَدْ أَغْلَقُوا: يبدأ داود هنا بوصف أعدائه المميتين الذين اضطهدوه. كانوا غير حسّاسين (ذوي قَلْبٍ سَمِينٍ) وكانوا يتكلمون بِٱلْكِبْرِيَاءِ.
· “المعنى الواضح هنا هو أن الكبرياء هي طفل الوفرة، مولودة من الانغماس في الذات، وهي تقسّي قلوب الناس على خوف الله ومحبة القريب… ليحترس كل شخص من تدليل الجسد، لأنه سيربي عدوًّا من هذا النوع ضده.” هورن (Horne)
٢. فِي خُطُوَاتِنَا ٱلْآنَ قَدْ أَحَاطُوا بِنَا. نَصَبُوا أَعْيُنَهُمْ لِيُزْلِقُونَا إِلَى ٱلْأَرْضِ. مَثَلُهُ مَثَلُ ٱلْأَسَدِ: يصف داود أعمال أعدائه الخطرين المفترسين كالوحوش. فهم مستعدون لأن يقضوا عليه كما يلتهم ٱلْأَسَد فريسته.
٣. قُمْ يَا رَبُّ. تَقَدَّمْهُ (واجِهْهُ). اِصْرَعْهُ (اطرحه أرضًا): أعلن داود اعتماده على الله في حمايته. وليس السبب في ذلك هو خوفه من أعداء شبيهين بالأسود، لأن داود انتصر في صباه على دب وأسد (صموئيل الأول ٣٣:١٧-٣٧). بل لأنه أراد أن يرى أعداءه مهزومين من الله، لا بيده البشرية.
· تَقَدَّمْهُ (واجِهْهُ): “تعني بالعبرية ’امنعْ وجهه‘ أي انطلق ضده وقابلْه وواجِهْه في المعركة، كما اعتاد الأعداء أن يفعلوا.” بوله (Poole)
· ليس لهذا المزمور صلة راسخة بأي حدث معيّن مدوّن في حياة داود. لكنه ليس صعبًا أن نرى أنه ينتمي إلى فترة مطاردة شاول لداود. وأثناء تلك الفترة، رفض داود أن يقتل شاول عندما سنحت له الفرصة، لأنه عرف أنه يتوجب على الله نفسه، لا داود، أن يضرب شاول.
٤. نَجِّ نَفْسِي مِنَ ٱلشِّرِّيرِ… مِنَ ٱلنَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ ٱلدُّنْيَا: أدرك داود أن إحدى سمات أعدائه تتمثل في أنهم يتطلعون إلى هذه ٱلدُّنْيَا أكثر من تطلُّعهم إلى الأبدية.
· ربما كان لديهم بعض الرضا في هذه الدنيا: بِذَخَائِرِكَ تَمْلَأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلَادًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لِأَطْفَالِهِمْ. يشرح سبيرجن (Spurgeon) هذا الأمر هكذا: “تحصل شهواتهم الحسية المكسب الذي تاقوا إليه. فالله يعطي الخنازير القش الذي تتضور إليه هذه الخنازير. والرجل الكريم لا يحرم الكلاب من عظامها. ويعطي إلهنا الكريم حتى أعداءه ما يكفي ليشبعوا، إذا لم يكونوا عاقلين ليقْنعوا.”
د ) الآية (١٥): ثقة مستقرة في الصلاة.
١٥أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.
١. أَمَّا أَنَا: يضع داود هنا نفسه في مقابلة بأعدائه الذين لا يتطلعون إلاّ إلى هذه الحياة فقط، ولا يتطلعون إلى الأبدية.
· “ترتفع هذه الآية الرائعة من الأراضي المنخفضة المزدهرة في الآية ١٤، حيث كل شيء كان محدودًا بالأرض.” كيدنر (Kidner)
· “لا أحسدهم على سعادتهم، لكن آمالي وسعادتي كلها من طبيعة مختلفة. لا أضع نصيبي في كنوز أرضية زمنية، كما يفعلون هم، لكن في رؤية وجه الله.” بوله (Poole)
· “هنالك رائحة الأتون في هذا المزمور، لكن توجد أدلة على أن الذي خرج منه خرج سالمًا من ألسنة النار.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. أَنْظُرُ وَجْهَكَ: كان داود واثقًا، لا بوجود حياة أخرى بعد الموت فحسب، لكن أيضًا بأنه سينظر وجه الله. فليست الفكرة مجرد اتصال بالله، بل بشركة لا يعوقها شيء معه.
٣. بِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ: الفكرة هنا هي أن داود سيمتلك برًّا يمكّنه من رؤية وجه الله لكي يتمتع بهذه العلاقة بلا إعاقة.
· يمكننا أن نقول من منظور العهد الجديد إن هذا الْبِرّ عطية من الله تُمنح لكل الذين يقبلون شخص يسوع وعمله بالإيمان.
٤. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ: عرف داود أن الانتقال من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى يشبه الاستيقاظ. وعرف أن العالم الآخر أكثر حقيقيةً وأقل شبهًا بالحلم من عالمنا.
· نميل إلى التفكير في السماء وحقائقها على أنها عالم غامض، مضبب كالحلم. وهي في واقع الأمر أكثر حقيقيةً من بيئتنا الحالية التي ستبدو بالمقابلة غامضة ومضببة عندما نستيقظ في حضرة الله.
· “اللحظة قريبة جدًّا عندما نستيقظ ونبدأ بإعلان أنفسنا حمقى لأننا حسبنا الأحلام واقعًا وحقيقة، بينما كنا ناسين الحقائق الأبدية.” ميير (Meyer)
· رغم أن التركيز هنا هو على الأبدية، إلا أن هذه الآية لا تتجاهل اليوم الحالي. إذ هنالك معنى حقيقي يمكن بموجبه أن تكون هذه الحقائق – شركة أوثق مع الله، وبره في حياتنا، وحياة استيقاظ حقيقي، وحياة من التحول أكثر فأكثر إلى شبه يسوع – موجودة الآن في حياتنا بشكل أكبر فأكبر. وينبغي أن نتذكر أن الحياة الأبدية تبدأ الآن.
٥. إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ: لم يكن لدى داود منظور متطور للسماء. ويمكن للمرء أن يقول إنه ما من أحد في العهد القديم كان له منظور متطور حقًّا للسماء. لكن داود عرف أنه عندما يرى وجه الله، عندما يحصل على بره، عندما يستيقظ في واقع السماء وحقيقتها، فإنه سيكون في شبَه الله (بِشَبَهِكَ).
· يبدو أن داود توقّع ما كتب عنه بولس بعد حوالي ألف سنة: “لِأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ.” (رومية ٢٩:٨) إن مَآل شعب الله هو أن يتحولوا إلى شبه الله، كما هو موضَّح في يسوع المسيح ابنِه.
· هذا هو – ربما هذا وحده – هو الذي سيُرضي داود، (أَشْبَعُ). والتضمين هو أنه لن يرضى إلى أن:
ü يرى وجه الله، متمتعًا بشركة معه لا إعاقة فيها.
ü ينال بر الله.
ü يستيقظ في الواقع السماوي ويسكن فيه.
ü يتحول إلى شَبَه الله.
· “سيشبع العقل بحق الله، والقلب بمحبته، والإرادة بسلطانه. ولن نحتاج إلى أي شيء آخر على الإطلاق.” ميير (Meyer)